سُورَةُ الصَّفِّوهي مدنية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. قال هاهنا: {سَبَّحَ}، وقال في موضع آخر: {يُسَبِّحُ}، ليعلم أنه تسبيح غير منقطع، وأنه يسبح من حين كان، ويسبح إلى أن يكون. وفيه تسفيه أُولَئِكَ الكفرة المتمردة؛ وذلك أن التسبيح والثناء في الشاهد إنما يرجعان إلى المسبح والمثني؛ لأنه لا يثني إلا على من يستحق الثناء، ولا يسبح إلا من يستحقه، فإنما تسبيح المسبح وثناؤه خضوع له وتقرب إليه، وذلك يزيده شرفا ونبلا، فكأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه قد خضع للّه تعالى، واستسلم له، وأتى بما فيه شرف له وزين وتقرب إلى ربه - كلُّ شيء إلا الكفرة؛ فإنهم تركوا التسبيح للّه تعالى مع ما فيه من نبلهم وشرفهم وزينهم، واللّه الموفق. ويجوز أن يكون ذكر سفههم أيضًا من وجه آخر، وهو أنه لو كان للّه تعالى بتسبيح شيء من الخلائق حاجة، لكان في تسبيح من ذكر كفاية وغناء عن تسبيح الكفرة، ولكنهم تركوا التسبيح، واللّه تعالى غني عنهم وعن تسبيحهم؛ فما تركوه إلا لسفههم، واللّه أعلم. وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ}. يدل على أنه عزيز في ذاته، وأن ترك التسبيح من الكفرة إياه لا يذله، بل هو عزيز منيع. وقوله: {الْحَكِيمُ}: يعني: حكيم؛ حيث جعل في الأشياء المتضادة علم ألوهيته، وآية وحدانيته. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية في أهل النفاق في القتال؛ لأنهم تمنوا القتال، فلما أمرهم اللّه تعالى به قالوا: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}، فأنزل اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}، أي: لم تعدون ما لا تفون به؟ ومنهم من قال: إنها في بعض المؤمنين في القتال أيضًا، وإنها على التقديم والتأخير. ووجه ذلك: أنهم أحبوا أن يعملوا بأحب الأعمال إلى اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ. . .} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}. فلما يفوا بما وعدوا؛ فأنزل اللّه تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. ويجوز أن تكون هذه الآية في كل مؤمن؛ لأنه قد اعتقد كل من آمن بإيمانه الوفاء بما وعده من الطاعة للّه تعالى والاستسلام له والخضوع، فإذا لم يف بما وعد، خيف عليه في كل زلة أن يدخل في هذه الآية، وليس أحد من المؤمنين قد وفي بما وعد كله، والواجب عليه أن يتوب من ذلك توبة بليغة. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللّه أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣). المقت: البغض، ومن استوجب مقت اللّه، لزمه العقاب عنه لا محالة، ولكنه يحتمل أن يكون هذا فيمن اعتقد ترك الوفاء بما وعد واستحلال ما نهاه اللّه تعالى عنه؛ فيستوجب مقت اللّه تعالى ونقمته لا محالة. وإن كان فيمن تثبت على اعتقاده، وزل في أفعاله، فالواجب أن يقسم الذنوب؛ فيلزمه الخوف على مراتبها ودرجاتها، واللّه أعلم. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللّه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤). ليس فيه أن اللّه تعالى لا يحب المبارز؛ لأن الجهاد والقتال على المبارز أشد، وذلك أنه إذا كان في الصف أعانه على القتال غيره؛ فكان أمنه على نفسه في الصف أكثر، وأما المبارز فإنه وحده ليس له معين؛ فإن ظفر على صاحبه وإلا هلك، والخوف عليه في ذلك أشد؛ فيجب أن تكون المحنة فيه أكثر. ولكنه يجوز أن يكون اللّه تعالى علمهم بهذه الآية كيفية القتال؛ ليستعين بعضهم ببعض، وليكون كلمتهم واحدة؛ لأنهم إذا تفرقوا اختلفت آراؤهم، فيخشى عليهم الهزيمة والإدبار، وإذا كانت آراؤهم متفقة، وكلمتهم واحدة، وشوكتهم واحدة، فذلك قوة في القتال وزيادة نصرة، واللّه أعلم. ثم قوله: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب هذا المثل للثبات، يعني: إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الذي يكون ثابتا مستقرًّا لا ينتقض بأدنى شيء. ومنهم من قال: ضرب هذا المثل؛ لأن يكون كلمتهم واحدة، ويعين بعضهم بعضًا. ويشبه أن يكون للأمرين جميعًا؛ لأنهم إذا ثبتوا أعان بعضهم بعضًا، وكانت كلمتهم واحدة، وإذا كانت كلمتهم واحدة، كان ذلك أدعى إلى الثبات وأقرب إليه؛ فلذلك قلنا: إنه يجوز أن يكون للأمرين جميعًا، واللّه أعلم. ثم المحبة تحتمل وجهين: أحدهما: عن الخلق. والثاني: الثناء عليهم بما يفعلون. ٥وقوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ}. يحتمل وجهين: أحدهما: تنبيه لهم، وإعلام عن معاملة اعتادوها فيما بينهم من غير أن يعلموا فيها أذى لموسى - عليه السلام - نحو أن قال في حق رسولنا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}؛ فيجوز أن يكونوا لا يعدون تلك المعاملة أذى لموسى - عليه السلام - ولا يعلمونها؛ فأخبرهم أنها تؤذيه؛ لينتهوا عن ذلك. والثاني: أنه يجوز أن يكونوا علموا أن ذلك يؤذيه، ولكنهم عاندوه وكابروه، فيخبرهم عن كيف {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ}، وقد علموا أن حق رسل الملوك التعظيم والتبجيل؛ فكيف رسول رب العالمين؟! فأخبرهم أنه يؤذونه شكاية منهم إليهم. ثم اختلفوا في الأذى: فقَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى - عليه السلام - كان لا يكشف عن نفسه؛ فأذوه بأن قالوا: إن في بدنه آفة ومكروها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى - عليه السلام - ذهب مع هارون - عليه السلام - إلى جبل، فقبض هارون في ذلك الجبل، فآذوه بأن قالوا: قتل موسى أخاه. ومنهم من قال: كانوا يؤذونه بألسنتهم حيث قالوا: {أَرِنَا اللّه جَهْرَةً}، وبقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وبقولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}؛ ولكن الوجه أن لا يشار إلى شيء بعينه. فإن كان التأويل هو الوجه الأول: أنهم آذوه من غير أن يعلموا أن ذلك يؤذيه أن لا يصرف إليه شيء من هذه الأوجه الثلاثة، وإن كان على الوجه الثاني فكذلك، وإن كان على الوجه الثالث جاز أن يصرف إليه أي الوجوه منها، واللّه أعلم. ثم حق هذه في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخرج على وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون بنو إسرائيل آذوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فذكره اللّه تعالى أمر موسى - عليه السلام - وإيذاءهم إياه؛ ليكون فيه تصبير لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتسكين لقلبه. أو يجوز أن يكون هذا تحذيرًا لأصحابه عن أن يرتكبوا ما يخاف أن يكون فيه أذاه - عليه السلام - واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ} له معنيان: أحدهما: أن يقول: {أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ}، يعني: خلق فعل الزيغ في قلوبهم يعني: خذلهم اللّه، ووكلهم إلى أنفسهم. قالت المعتزلة محتجين علينا: إن اللّه تعالى قال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، ذكر أنه إنما يضله بعدما فسق، وأنتم تقولون: إنه يضله وهو يهدي؟ قلنا: إن هذا تمويه علينا، وذلك أنا نقول: إن اللّه تعالى يضله لوقت اختياره الضلال، ويزيغه لوقت اختياره الزيغ، وإذا كان كذلك، لم يلزم ما قالت المعتزلة، مع أنهم يقولون: إن اللّه تعالى يضله بعد ضلالته بنفسه؛ عقوبة له، ويريد له هدى بعد اهتدائه ثوابا له. ولا يستقيم كذلك؛ لأنا قد نراه في الشاهد يكفر بعد إيمان ويؤمن بعد كفره، وإذا كفر بعدما كان مؤمنا، وذلك وقت يريده اللّه تعالى هُدِي؛ ثوابا لإيمانه المتقدم؛ فإذا كفر فكأن هداية اللّه تعالى كانت سببًا لكفره، أو إذا آمن بعدما كان كافرا وقت عقوبته بالكفر؛ فكأن عقوبة اللّه تعالى بالكفر على الكفر المتقدم كان سببا للإيمان، وهذا كلام مستقبح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. يعني: الذين علم اللّه منهم أنهم يختارون الضلال والكفر؛ فلا يتوبون منه ولا ينقلعون؛ فلا يهدي أُولَئِكَ، وأما من علم منهم أنه يتوب ويسلم فإنه يهديه، واللّه أعلم. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦). قوله؛ {مُصَدِّقًا} يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يقول جئت إليكم بالنعت الذي وصفت في التوراة، أو {مُصَدِّقًا} وبالتوراة وبكتب اللّه تعالى؛ ليعلم أن الرسل كان يلزمهم الإيمان بالكتب المتقدمة والرسل جميعا، كما يلزم ذلك أمتهم. أو يقول: {مُصَدِّقًا}، يعني: آمركم بعبادة اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وتوحيده كما أمرتم به في التوراة؛ ليعلم أن الرسل كان دينهم واحدا، وإن كلهم يدعون إلى التوحيد وعبادة الرحمن، وأما الشرائع فقد يجوز اختلافها ولا يدل ذلك على اختلاف في الدِّين؛ لأن الشرائع قد تختلف في رسول واحد ولا يختلف دينه؛ فكذلك الرسل، واللّه الموفق. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. يعني: مبشرا برسول يصدق بالتوراة على مثل تصديقي؛ فكأنه قيل له: ما اسمه؟ فقال: {اسْمُهُ أَحْمَدُ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: الذي جاءهم عيسى، عليه السلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مُحَمَّد، عليه الصلاة والسلام. وقد جاءا جميعًا. وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ}، أي: بالبينات التي تبين أن الذي جاء به إنما جاء من عند اللّه. وقوله: {هَذَا سِحْرٌ}، و (ساحر مبين)، واختلفوا فيمن قيل له هذا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو عيسى، عليه السلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مُحَمَّد، عليه الصلاة والسلام. وقيل: قالوا لهما جميعا. ويحتمل أن يكون هذا قول أكابر الكفرة للضعفاء منهم؛ وذلك أنهم لم يجدوا سببًا للتمويه سوى أن نسبوه للسحر، وهذا يدل أنه جاءهم بالآيات المعجزة؛ حيث نسبوه إلى السحر، وقالوا: {هَذَا سِحْرٌ}، وإنا لا نعلم السحر، ولو كان الذي جاءهم به سحرا كان حجة عليهم؛ لأنهم قد علموا أن الرسل لم يختلفوا إلى السحرة، ولم يتعلموا منهم، وكان لا يتهيأ لهم اختراعه من تلقاء أنفسهم، فلو كان سحرا كان حجة عليهم؛ لأنهم قد علموا ما ذكرنا، ولكن اللّه تعالى برأه ونزهه من السحر، واللّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّه مُتِمُّ نُورِهِ}. نور اللّه يعني: دين اللّه، أو كتاب اللّه، أو رسل اللّه. وقوله: {بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: ليست عندهم حجة ولا معنى يدفعون به هذا النور، سوى أن يقولوا بألسنتهم: هذا سحر. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧). أي: ومن أوحش ظلمًا وأقبح ممن بلغ افتراؤه المبلغ الذي يفتري على اللّه تعالى الكذب؛ لأنهم قد علموا أن ما نالوا من نعمه وكرمه، فإنما نالوه باللّه، ثم كفروا به، وكذبوا على اللّه وعلى رسوله. أو يقول: لا أحد أظلم ممن يفتري على اللّه الكذب؛ وذلك أن قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} كلام استفهام، ومعلوم أن اللّه تعالى لا يستفهم أحدًا، وإذا كان كذلك، كان حق كل ما خرج مخرج الاستفهام أن ينظر إلى جوابه لو كان مستفهمًا؛ فيفهم منه معنى قول رب العالمين، وإنما المفهوم من جواب من يسألهم عن مثل هذا أن يقول: لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه الكذب، واللّه يدعو إلى الإسلام، وهو أن يجعل الأشياء كلها سالمة له، فهو إذ علم أن ما ناله من نعمة فإنما ناله باللّه تعالى، وعلم الأشياء كلها للّه تعالى، فكيف افترى على اللّه تعالى الكذب، وهو يعلم فإنه علم هذا؟! فلا أحد أظلم منه حتى افترى على اللّه الكذب، واللّه الموفق. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه مُتِمُّ نُورِهِ ... (٨). له أوجه: أحدها: بالحجج والبراهين. والثاني: بنصر أهله وغلبته. والثالث: بإظهاره في الأماكن كلها. فإن كان على النصر والغلبة، فقد كان حتى كأن المشركين في خوف والمسلمون في أمن؛ ألا ترى إلى قوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّه}، وإلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين ". وإن كان بالحجج فقد كان أيضًا، لأنهم عجزوا عن أن يأتوا بما يشبه أن يكون مثلا له؛ فضلا من أن يأتوا بمثله؛ فدل أنه قد أتم نوره بالنصر والغلبة والبراهين والحجج. وإن كان المراد منه إظهاره؛ فإنه يرجى أن يظهر؛ على ما روي أنه إذا نزل عيسى - عليه السلام - لم يبق على وجه الأرض دين إلا الإسلام. ثم قوله تعالى {وَاللّه مُتِمُّ نُورِهِ} ليس فيه أنه كان به شيء من الكدر فصفاه؛ ولكن على ما ذكرناه من التأويل؛ فكذلك لا يجب أن يفهم من قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أنه كان ناقصا فأكلمه بالشرائع؛ ولكنه على هذه الوجوه، يعني: أظهر الدِّين بالشرائع التي وصفناها في قوله: {وَاللّه مُتِمُّ نُورِهِ}، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. وقال حين ذكر الإظهار: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} لأن هَؤُلَاءِ كفروا بالرسول والكتاب، وذلك نعم اللّه تعالى؛ فقال: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، وأُولَئِكَ أشركوا به في التوحيد؛ فقال: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، واللّه أعلم. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يعني: بما لو اتبعوه اهتدوا به. وقوله: {وَدِينِ الْحَقِّ} له أوجه ثلاثة: أحدها: أن يجعل الحق كناية عن اللّه تعالى فكأنه قال: ودين اللّه. والثاني: أن يجعل الحق نعتا للدِّين؛ فكأنه قال: والدِّين الذي هو الحق من بين سائر الأديان. والثالث: أن يقول: الذي يحق على كل أحد قبوله والانقياد له، واللّه أعلم. وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} له وجهان: أحدهما: أن يقول {لِيُظْهِرَهُ}، يعني: يظهر رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره بما يحتاج في هذا الدِّين من النوازل؛ فيكون فيه بيان أن ما جاء عنه - عليه السلام - في هذه النوازل إنما هو بالوحي وبما أظهره اللّه تعالى عليه. ويحتمل: بإظهار هذا الدِّين في الأماكن. قال: والدِّين: هو الخضوع والاستسلام للّه تعالى، فحقيقته أن يجعل الأشياء كلها سالمة له. وقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، قال الشيخ - رحمه اللّه -: ويقتضي هذا: ولو كره المعتزلة؛ لأن إتمام نوره كان بالحجج، أو بالنصر والغلبة، أو بإظهاره في الأماكن كلها فإنما يكون ذلك بأفعال العباد، ثم أضاف اللّه تعالى إلى نفسه؛ فثبت أن للّه تعالى في أفعال العباد صنعا وتدبيرا، وإن كان أفعالهم كلها مخلوقة للّه لا تخرج عن تدبيره ومشيئته، واللّه المستعان. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ}. الإيمان باللّه: أن يؤمن بأنه الواحد الأحد، الصمد الفرد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ويؤمن بأن له الخلق والأمر، وأنه قادر لا يعجزه شيء، وعليم لا يخفى عليه شيء، وحكيم لا يخرج خلقه الأشياء المختلفة من السراء والضراء، والظلمة والنور، والمرض والصحة، عن حكمته. وأنه ليس كما قالت الثنوية: إن خالق الظلمة والشر والقبيح غير خالق النور؛ بل يعلمه أنه خالق كل شيء، سواء من ظلمة ونور، وشر وخير، وسقم وصحة. ولا على شبيه ما قالت المجوس: إن اللّه تعالى غفل غفلة فتولد منه الشيطان؛ بل هو لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء. ولا على ما قالت النصارى: حيث شبهوه بالخلق حتى أجازوا أن يكون له ولد. ولا على ما قالت القدرية: إنه لا يقدر شيئا من الشر والسقم والوجع. ولا على ما قالت المعتزلة: إنه ليس له في أفعال العباد صنع وتدبير؛ بل يعلمه عليما بكل شيء، قديرا على كل شيء، متعاليًا عن كل شيء من معاني الخلق، متنزها عن كل آفة وحاجة وعيب، فهذا هو الإيمان باللّه تعالى عندنا، واللّه تعالى أعلم. والإيمان بالرسول: هو أن يؤمن بأن ما جاء به - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفهو حق وصدق. وقوله: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه}. هذا على وجهين: أحدهما: أن يقاتلوا أعداء اللّه تعالى. والثاني: أن يجاهدوا في طاعة اللّه تعالى، وفيما دعا إليه من الأمر بالجهاد ينصرف إلى أنواع أربعة: جهاد في سبيل اللّه بمقاتلة أعدائه، والاستقصاء في طاعته. وجهاد فيما بين الإنسان ونفسه أن يجاهد في قهرها ومنعها عن لذاتها وشهواتها، وعما يعلم أنه يهلكها ويرديها. وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع فيهم، وأن يشفق عليهم ويرحمهم، وألا يرجوهم ولا يخافهم. وجهاد فيما بينه وبين الدنيا وهو أن يتخذها زادا لمعاده، أو مَرمَّة لمعاشه، ولا يأخذ منها ما يضره في عقباه. وكل هذه الأنواع يستقيم أن يسميها جهادا في سبيل اللّه. ثم إن هذه الآية تنتظم مسائل ثلاثًا: إحدها: أن كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؟ والثانية: أن كيف يرجى له النجاة إذا آمن باللّه ورسوله، ولم يجاهد في سبيل اللّه وقد أوجب عليه ذلك؟ والثالثة: أن كيف يخاف عليه العذاب إذا آمن باللّه ورسوله، وجاهد في سبيل اللّه، وأتى بالكبيرة مع قوله: {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ أما الجواب عن المسألة الأولى: أنه يحتمل أن يكون المراد من هذه الآية أهل النفاق؛ فيكون المعنى من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في الظاهر، {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، أي: تصدقون بقلوبكم. ويجوز أن تكون في أهل الكتاب أيضًا فكأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا بالكتب المتقدمة، آمنوا باللّه وبمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبهذا الكتاب. هذا إذا كان في الكفار. فأما إذا كان في المؤمنين يجوز أن يكون أمر بالإيمان من بعد ما آمنوا، بمعنى: الثبات عليه أو الزيادة وبحق التجدد، وأن الإيمان في حادث الأوقات له أسماء ثلاثة: الزيادة، والثبات، والتجدد؛ وذلك أن اللّه تعالى ذكر هذا النوع في كتابه مرة باسم الزيادة؛ حيث قال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}، ومرة باسم الثبات بقوله: {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ومرة بالإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه}. فإن كان على الزيادة والثبات، فذلك لطف من اللّه تعالى؛ وذلك أن الزيادة والثبات هما اسمان يطلقان على فعل دائم، وفعل الإيمان منقضٍ، ولكنه يجوز أن يكون اللّه تعالى بلطفه جعل المنقضي كالدائم؛ فيخرج هذا الفعل مخرج الزيادة والثبات، واللّه أعلم. وإن كان على التجدد في الأوقات الحادثة، فذلك مستقيم؛ وذلك لأن المرء منهي عن الكفر في كل وقت يأتي عليه إذا أتى بالإيمان في ذلك الوقت انتهى عن الكفر؛ فصار لإيمانه حكم التجدد، واللّه أعلم. ١١وجائز أن يكون المراد بقوله: (تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ... (١١) الاعتقاد، وإذا كان المراد منه ذلك، وأتى بما أمر من الاعتقاد بهذه الأمور، ولكنه لم يف بالفعل، فهو في رجاء من النجاة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}. يعني: ذلك الذي أمركم به من الإيمان باللّه تعالى ورسوله والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. عيانا بعلمكم أن ذلك خير لكم. ١٢وقوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢). يعني: يغفر اللّه لكم بتلك النجاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}. يجوز أن يكون رغبهم في هذه الآية بما أمرهم بتركها؛ وذلك أنه أمرهم بمفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد بأنفسهم، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ذلك آتاهم مكان كل ما فات عنهم خيرًا منها: مكان ما فارقوا من المساكن يؤتيهم مساكن طيبة، ومكان ما أنفقوا من أموالهم يؤتيهم النعيم الدائم، ومكان ما أفنوا من حياتهم وأنفسهم يؤتيهم حياة دائمة باقية، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. يعني: ذلك الثواب الدائم هو الفوز العظيم. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣). فكأنه يقول يعطيكم اللّه بتلك التجارة التي دلكم عليها ما ذكر من الثواب في الآجل، وأخرى تحبونها نصر من اللّه على أعدائكم في الدنيا، وفتح البلاد. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، بهما، وقد فعل اللّه تعالى ذلك بهم. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللّه كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (١٤) هذا كلام يورث شبهة في القلب أن كيف قال {كُونُوا أَنْصَارَ اللّه} واللّه تعالى لا يخاف أحدًا حتى يستنصر عليه غيره؟ ولكن السبيل في كشف هذه الغمة عن القلوب هو أن المعنى في هذا وفي قوله: {وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا}، وقد وصفنا في ذلك أن اللّه تعالى جعل ما يصلون به أرحامهم ويتصدقون على فقرائهم كأنهم أقرضوا اللّه؛ كرمًا منه وفضلا ولطفا، فكذلك يحتمل أن يكون جعل ما ينصرون به دينه أو رسوله نصرا له تعالى. وكذلك قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، والمعنى في هذا: إن تنصروا دين اللّه ينصركم، أو إن تنصروا رسول اللّه أو تنصروا الحق، واللّه أعلم أي ذلك كان. ويحتمل أن يكون المراد من ذلك كله، أي: اجعلوا ما تنصرون به دينكم للّه تعالى ولوجهه. وكذلك قوله: {وَأَقْرِضُوا اللّه}، تعالى: اجعلوا ذلك للّه ولوجهه الكريم، ولا بد من أن يكون في هذه الآية إضمار: إما في الابتداء أو في الانتهاء حتى تستقيم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} فكأنه يقول: قل للذين آمنوا: كونوا أنصار اللّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى اللّه؟ أو يكون معناه وإضماره في حق الإجابة، أي: أجيبوا للّه ورسوله وكونوا أنصارا له كما أجاب قوم عيسى بقولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه}. والحواريون: المتبصرون المنقون دينهم عن الشبهة، وهم قوم كانوا خيرة عيسى - عليه السلام - وخاصته حيث دعاهم إلى دينه فأجابوه وآمنوا به، ونقوا دينهم عن كل شبهة وآفة وعيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} هذا يحتمل أن يكون في حياة عيسى - عليه السلام - حين اتبعه الحواريون ثم دعا بعد ذلك قومه إلى دينه فآمنت طائفة وكفرت طائفة، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} بالبراهين والحجج على الطائفة الذين كفروا؛ {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} على أعدائهم بالحجج والبراهين. ويجوز أن يكون بعد وفاة عيسى - عليه السلام - حين اختلفوا في ماهيته: فمنهم من قال: هو اللّه، ومنهم من قال: هو ابن اللّه؛ فكفرت به هذه الطائفة وآمنت به طائفة أخرى، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم حين وقع لهم قتال؛ فنصروا عليهم وظفروا، واللّه أعلم. تمت السورة بحمد اللّه وحسن توفيقه، وصلى اللّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحيه أجمعين. * * * |
﴿ ٠ ﴾