٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢). احتج أهل الكتاب علينا أن اللّه تعالى إنما بعث محمدا رسولا إلى الأميين خاصة بهذه الآية، وفهموا منها تخصيص الأميين بإرسال الرسول إليهم، فيقتضي نفيه عن غيرهم. ولكن نقول: لا يجب أن يفهم من الآية نفي ما ذكر في ظاهرها، بل يفهم منها ظاهرها دون النفي، والتخصيص بالذكر لا يحتمل على النفي؛ لأنه إذا حمل التخصيص بالذكر على نفي غيره، أدى إلى ما لا يستقيم ولا يحل؛ ألا ترى إلى قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}، حيث لم يفهم أنه لم يخطه بيمينه أن كان خطه بشماله، ولا من قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو}، أنه كان يتلى عليه، ولكن المعنى من ذلك كله واللّه أعلم: أن اللّه بعث رسوله أميًّا في قوم أميين لا يعلمون الحكمة وماهيتها، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته؛ لأنه إذا كان أميًّا لا يكتب ولا يقرأ الكتب، ثم آتاهم الكتاب مؤلفًا منظومًا يوافق كتب أهل الكتاب دل أنه إنما علم ذلك بالوحي، وأنه لم يختلقه من عند نفسه، واللّه أعلم. ثم الدليل على أنه كان رسولا إليهم جميعًا قوله: {كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود " يعني: إلى الإنس والجن، ولأجل أنه لما بعث إلى طائفة ليدعوهم إلى طاعة اللّه تعالى وعبادته، علم أنه رسول إلى غيرهم؛ إذا لم يكن لهم رسول آخر؛ لأن الطائفة الأخرى إذ لم يكن لهم رسول آخر، واحتاجوا إلى معرفة الأمر والنهي وإلى طاعة الرحمن حاجة الطائفة التي بعث إليهم؛ دل أنه رسول إليهم جميعًا، واللّه أعلم. وقوله: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}. معناه: أنه بعث - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوم أميين لا يعرفون عبادة اللّه ولا يقرءون الكتاب، بل كانت عادتهم عبادة الأصنام. وقيل في تأويل الأميين: هم الذين لم يؤمنوا بالكتب، ولكن هذا فاسد؛ لأن اللّه تعالى سمى نبيه - عليه السلام - أميًّا بقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}. وقيل: سماهم: أميين؛ لأنهم لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون على الأعم الأغلب، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ ويكتب، ومن هذا سمي النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أميًّا؛ لأنه كان لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ولم يعلم ذلك؛ قال اللّه تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}، وعلى ذلك روي عن النبي - عليه السلام -: " الشهر هكذا وهكذا " وأشار بأصبعه، وقال: " إنما نحن أمة أمية لا تحسب ولا تكتب ". وقال الزجاج: الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة ولم يتعلم، ويكون على ما سقط من أُمهِ فنسب إلى حال ولادته التي سقط من أمه؛ لأن ذلك إنما يكون بالتعليم دون الحال التي يجري فيها المولود. ثم وجه الحكمة في جعل النبوة في الأمي أن يكون ذلك سبب معرفة نبوته وعلامة رسالته، بحيث يعلم أنه ما اخترع ذلك من لدن نفسه؛ إذ لم يعرف الكتابة والقراءة ولا اختلف إلى أحد؛ ليتعلم منه، ثم أحوج جميع الحكماء إلى حكمته، وجميع أهل الكتاب إلى معرفة كتابه؛ لحسن نظمه وتأليفه؛ ليعلم أنه إنما ناله بالوحي والرسالة، واللّه أعلم. وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}. الآيات: الأعلام، فكأنه يقول: يتلو عليهم في كتابه أعلاما تبين رسالته وتظهر نبوته. أو يجوز أن يكون الآيات: الحلال والحرام وما أشبهه. أو الآيات: الحجج التي يستظهر بها الحق، واللّه أعلم. وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: يصلحهم، يعني: يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون أذكياء أتقياء. ويجوز أن يكون معنى قوله: {وَيُزَكِّيهِمْ} أي: يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأخلاق وخبث الأقوال، واللّه أعلم. وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، اختلفوا فيه: قال الحسن: هذا كلام مثنى؛ الكتاب والحكمة واحد. وقال أبو بكر: الكتاب: ما يتلى من الآيات، والحكمة: هي الفرائض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة: هي السنة؛ لأنه كان يتلو عليهم آياته، ويعلمهم سنته؛ إما بلطف من اللّه تعالى وإلهامه إياه أو بالوحي. ومنهم من قال: الكتاب: ما يتلى من الآيات نصًّا، والحكمة: ما أودع فيها من المعاني؛ واللّه أعلم، أي ذلك كان؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. أي: أنهم كانوا عن الكتاب والحكمة لفي ضلال بين ظاهر؛ لأنهم كانوا مشركين عبدة الأصنام، ليس عندهم كتاب، ولا يعرفون الحكمة. ويحتمل أن يكون معنى قوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: في الشرك وعبادة الأصنام، فدعاهم الرسول إلى توحيده وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام. قال الفقيه - رحمه اللّه - في قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: إن اللّه تعالى قد جعلهم أتقياء أذكياء علماء بعدما كانوا أميين جهالا سفهاء؛ آية ودلالة على حقية دينه - عليه السلام - على سائر الأديان؛ حيث لم يكن أهلها كذلك، ويكون فيه ترغيب للآخرين؛ ليصيروا علماء حكماء. وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ}. يجوز أن يكون هذا تعليمًا من اللّه تعالى؛ فيجعلهم علماء بعدما كانوا سفهاء، وأذكياء بعدما كانوا أنجاسًا وأقذارا عبدة الأوثان، وذلك من لطف اللّه تعالى بهم؛ لأن ما أضيف من هذه الأفعال إلى اللّه تعالى، فهو على حقيقة الوجود، وما أضيف إلى الرسول فهو على الأسباب، وذلك أنه لا يجوز أن يعلم اللّه تعالى أحدا فلا يصير عالما؛ لأن تعليمه خلق العلم في المحل الذي أراد، وما أراد وخلق يكون لا محالة، فأما الرسول فيجوز أن يعلم البشر فلا يتعلم؛ لأن تعليمه بسبب؛ لأنه ليس له قدرة الخلق والإيجاد؛ فثبت أنه على جهة السبب، واللّه الموفق. |
﴿ ٢ ﴾