سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ

مدنية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه}.

اختلفوا في تأويل قوله تعالى: {نَشْهَدُ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {نَشْهَدُ} بمعنى: نقسم ونحلف.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {نَشْهَدُ} على ابتداء الشهادة.

فمن حمله على القسم قرأه {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني: حلفهم، ومن حمله على الشهادة ابتداء قرأ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} يعني: تصديقهم، ليس أنها قراءة واحدة فقرئت بلفظين، ولكنهما كانا جميعا فقرئت بالمعنيين جميعًا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.

والإشكال أن كيف قال اللّه تعالى: {وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، وهم إنما قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه}، ومعلوم أن هذا القول منهم صدق، ولكن المعنى من هذا - واللّه أعلم - أنهم طعنوا فيما أظهروا من الخلاف والتكذيب عند غير رسول اللّه، فحسبوا أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اطلع على صنيعهم فأتوا رسول اللّه يعتذرون إليه، ويقولون: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه} وأن ما بلغك منا من القول كذب وما قلناه، فأخبر اللّه تعالى أنهم لكاذبون فيما أخبروا أنهم ما قالوه، ألا ترى إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}.

ويحتمل أن يكون معناه: إنا نشهد أن في قلوبنا إنك لرسول اللّه كما نظهره بألسنتنا،

فأخبر تعالى أن المنافقين لكاذبون فيما يشهدون بالإيمان في قلوبهم، ويعلم أن يكون المعنى من قوله: {نَشْهَدُ} أي: نعلم برسالتك في قلوبنا، واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما أخبروا أنهم يعلمون رسالته في قلوبهم، وقد كان ألزمهم برسالته من جهة الآيات والحجج، ولكن تعاموا عن ذلك العلم استخفافا منهم وتعنتا؛ فصار ذلك العلم كالجهل الحقيقي، ثم أخبروا هم عن أنفسهم وضمائرهم أنهم يعلمون، وأخبر اللّه أنهم لكاذبون أنهم يعلمون برسالته، واللّه أعلم.

ثم الواجب أن يعلم ما الذي أحوجهم إلى أن قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه}، وقد كان كثير من المؤمنين يلقون رسول اللّه ولا يقولون ذلك، فكيف قال المنافقون ذلك؟! فمعناه عندنا - واللّه أعلم -: أنهم حيث اعتادوا مخادعة اللّه ورسوله امتحنهم اللّه تعالى بهذه المقالة. ويحتمل أن يكونوا جروا على عادتهم أنهم إذا لقوا المسلمين قالوا: بمثل ما آمنتم، وإذا لقوا المشركين قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، فإذا لقوا رسول اللّه قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه} على عادتهم في كل جنس بما يليق به وبمذهبه، واللّه أعلم.

ويجوز أن يكونوا يخافون أن قد بلغ رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خلافهم وتكذيبهم؛ فكانوا إذا لقوه قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه}، اعتذارا عن ذلك الخلاف لو بلغه؛ ألا ترى إلى قوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وكانوا يحسبون من سوء ما يضمرون في قلوبهم من النفاق أن كل من كلم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنما كلمه بسببهم، فكذلك الأول، واللّه أعلم.

ثم قال هاهنا: {نَشْهَدُ} ولم يقل (نشهد باللّه)؛ لأن المعنى من هذا الحلفُ، والحلف من المؤمنين في المتعارف إنما يكون باللّه تعالى؛ فلذلك أجزئ بقوله: {نَشْهَدُ} وعن قوله: (باللّه) فيكون هذا دليلا لقول أصحابنا: إن قوله: {نَشْهَدُ} يكون يمينا حيث ذكر هاهنا بطريق القسم، والمعنى ما أشير إليه، واللّه أعلم.

﴿ ١