٣

وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٣) له تأويلان:

أحدهما: ذلك بأنهم آمنوا بلسانهم ثم كفروا بقلوبهم.

والثاني: على حقيقة الإيمان والكفر، وذلك أنهم لما رأوا قلة المسلمين وضعفهم في أنفسهم يوم بدر، ثم رأوهم مع هذه القلة والضعف غلبوا على الكفار مع كثرتهم - آمنوا برسول اللّه ورأوا أنهم لا يغلبون أبدًا، ثم إن المسلمين لما غلبوا يوم أحد وأصابهم الكفار، اضطربوا في إيمانهم وشكوا وكفروا؛ وذلك بمعنى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، فكذلك تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}.

وقوله: {ذَلِكَ} إشارة إلى أن السبب الذي تولد منه نفاقهم وحلفهم.

وقولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه} هو أنهم آمنوا ثم كفروا.

وجائز أنه لم يكن منهم حقيقة إيمان ولا كفر، ولكنهم كانوا أقواما همتهم الدنيا وسعتها، وكانوا يكونون مع من يكون معه الدنيا إن رأوها مع المؤمنين أظهروا من أنفسهم أنهم مؤمنون، وإن رأوها مع الكفار أظهروا أنهم كفار دون أن يكون منهم حقيقة إيمان أو كفر، واللّه المستعان.

وقوله: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}.

الطبع يجوز أن يكون كناية عن ستر وظلمة في قلوبهم؛ فلا يرون بها الحق وحججه.

قال: ويجوز أن يجعل اللّه تعالى الكفر ظلمة في القلب لا يبصرون به الحجج والآيات.

أو يجوز أن يجعل الكفر كنًّا في قلبه؛ ليضيق؛ فلا يرى من بعد ذلك منافعه ومضاره إلا من ذلك الوجه فيكفر، وأيهما كان فذلك معنى الآية، يعني: أن اشتغالهم بالكفر وكسبهم إياه غطى قلوبهم وسترها عن أن يبصروا الحق وحججه، واللّه أعلم.

قال الفقيه - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه} أن المنافقين لم يجيئوا بأجمعهم رسول اللّه، وإنما جاءه بعضهم، وكذلك في قوله: {نَشْهَدُ} أن المعنى من قوله: {نَشْهَدُ} في بعض التأويلات: نقسم، والقسم ليس من فعل الأتباع والسفلة، وإنما ذلك من فعل الأجلة والرؤساء؛ فدل أنه إنما تعاطى هذا الفعل بعض المنافقين، ثم ذكر اللّه تعالى ذلك البعض بصيغة الكل؛ فعلم أنه ليس كل ما خرج في الظاهر مخرج العموم يتناول كل من دخل تحت ذلك الاسم، ولكنه ينظر في معنى اللفظ وحقيقته، فإن كان الدليل يوجب تعميمه أجري على عمومه، وإن كان يوجب

تخصيصه أجري على خصوصه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}.

يحتمل أن يكون معناه، أي: لا يفقهون؛ لأنه طبع على قلوبهم، وإلا لم يعرضوا عن الحق والآيات، وذلك بأنهم كانوا يظنون أنهم كانوا على الحق، فأخبر أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم حتى ظنوا أنهم على الحق، وجعلوا جميع همتهم في المنافع والمضار الدنيوية، وإلا لو فقهوا أن للّه دارا أخرى يجازون فيه بأعمالهم، لعلموا أنه لا بد من دين يدينون به، ولم ينظروا إلى منافعهم ومضارهم، واللّه المستعان.

ويحتمل: أي: لا يفقهون عن اللّه تعالى، وأن تعبدهم وأمرهم بطاعة رسوله واتباعه ويحتمل أي: لا يفقهون أنهم يتعبدون، وأن للّه دارا أخرى يسألهم عما فعلوا، ويجازيهم على جميع ذلك.

ثم قال هاهنا: {لَا يَفْقَهُونَ}، ولم يقل: (لا يعلمون)؛ لأن الفقه إنما هو الذي يعرف به الشيء بالشيء، فأخبر أنهم لا يعرفون الآخرة بالدنيا. وقال ابن الراوندي: الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره.

وعندنا أن الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على غيره كان ذلك نظيرا له أو لم يكن؛ لأن من عرف الخلق بمعناهم دله ذلك على معرفة الصانع، ومن عرف الدنيا دله ذلك على معرفة الآخرة، وليسا بنظيرين.

ثم بين الفقه والعلم فصل من وجه وإن كانا جميعا في الحقيقة يرجعان إلى معنى واحد؛ لأن العلم إنما يجلي الشيء له، وظهوره بنفسه، والفقه يعرف بغيره استدلالا؛ ولذلك جاز أن يقال: اللّه تعالى عالم؛ لتجلي الأشياء له، ولم يجز أن يقال: إن اللّه فقيه؛ لأنه لا يعرف الأشياء بالاستدلال، واللّه الموفق.

والحكمة: وضع الأشياء موضعها، والإيقان: إنما هو يتولد عن ظهور الأسباب؛ ولذلك جاز أن يقال: إن اللّه تعالى حكيم، ولم يجز أن يقال: إنه موقن، واللّه المستعان.

﴿ ٣