٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤). في هذا بيان أن اللّه تعالى قد كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان، وأنه قد آتاهم العلم؛ لأن حسن البيان لا يكاد يكون إلا عن علم؛ فكأن اللّه تعالى ذكر نعمه التي آتاهم؛ فإنهم لم يشكروا نعمه وأساءوا صحبتها، فكأنه يقول: كيف ترجو منهم حسن الصحبة لك، وإنهم لم يحسنوا صحبة نعمة رب العالمين؟! فيكون له بعض التسلي؛ لما اهتم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سوء صنيعهم به، وإعراضهم عن اتباعه وطاعته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}. يعني: وإن يقولوا تحسب قولهم حقًّا؛ فتسمع لقولهم لتقبله. ويحتمل: تسمع لقولهم لما يعجبك قولهم، أو تسمع لقولهم على ما كانت عادته - عليه السلام - في كل من كلمه أنه لا يغير عليه ولا يقطع عليه كلامه حتى يفرغ منه، ثم قبله إن كان مما يجب قبوله، وغيره على صاحبه ورده إن كان مستحقًّا للتغيير عليه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}. يقول: إنهم فيما يكون من جانبهم وناحيتهم من حسن الصورة والبيان بحيث يعجبك، وفيما يلقى إليهم من الحق والدِّين والحكمة كأنهم خشب مسندة لا ينجع فيهم الحق ولا يقبلونه كالخشب المسندة. ويحتمل هذا تمثيلا بالخشب؛ من حيث إن الخشب المسندة في الظاهر هي الخشب اليابسة التي لا أجواف لها فيوضع فيها شيء، فكذلك المنافقون كأنهم لا أجواف لهم يوضع فيها الحكمة والدِّين والحق، واللّه أعلم. وجائز أن يكون معناه: كأنهم خشب مسندة؛ من حيث إن الخشب المسندة، ليس لها أسماع ولا أبصار ولا قلوب، فكذلك المنافقون كأنهم بكم عمي في ناحية الحق وقبوله، واللّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}، يحتمل وجهين: أحدهما: يحسبون كل صيحة سمعوها كلمة تهتك عليهم سرهم وتفضحهم؛ ألا ترى إلى قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}، فأخبر أنهم كانوا يحسبون فضيحتهم وهتك أستارهم والاطلاع على ما في قلوبهم، فكذلك يحسبون أن من كلم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنما تكلم بما يهتك عليهم أستارهم ويفضحهم، واللّه المستعان. والثاني: يحتمل أن يكون ذلك في الحرب: أنهم كلما سمعوا صيحة في الحرب خافوا أن يكون فيه هلاكهم، وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكل فريق على حدة، وإذا وافقوا هذا الفريق صاروا حربًا للفريق الآخر، وإذا وافقوا الآخر صاروا حربًا لهَؤُلَاءِ، فأخبر اللّه تعالى أنهم يحسبون من كل صيحة سمعوها أن يكون ذلك سببًا لهلاكهم. ويحتمل أن يكون اللّه تعالى عاقبهم بالخوف الدائم؛ لتأميلهم الأمن من وجه لم يؤذنوا فيه؛ وذلك لما وصفنا أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكلٍّ؛ رجاء أمنهم، وكان جميع مقاصد في ذلك تحصيل منافع الدنيا دون الديانة بدين من الأديان، وذلك غير مأذون فيه، فلما آثروا ذلك واختاروه من غير أن يؤذن لهم، عاقبهم بالخوف الدائم إما من الافتضاح والاطلاع على ما في قلوبهم أو من الهلاك، واللّه أعلم. وقوله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، له أوجه من التأويل: أحدها: أن يقول: هم العدو، يعني: أنهم أدنى عدوكم؛ فاحذرهم في جميع أحوالهم في المطعم والمشرب وغيره؛ لأن الحذر عمن قرب من الأعداء ودنا أوجب ممن بعد ونأى. أو احذرهم أن تطلعهم على سر فيما تراه وتضمره من الجهاد والحرب؛ فيحتالون به على هلاكك، أو يطلعون الكفرة على سرك. أو احذرهم أن تقبل منهم قولا يقولونه عن أصحابك؛ لأنهم يغرون أصحابك عليك، فاحذرهم أن تقبل قولهم على أصحابك. وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللّه} يعني: لعنهم. وقوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، له تأويلان: أحدهما: أن يقول: أي سبب يمنعهم عن الإيمان بك وطاعتك، وقد أتيتهم بالآيات والحجج في اطلاعك على سرائرهم، وذلك لا يكون إلا عن الوحي. أو يقول: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يعني: أنى يكذبون؛ تقليدا لأُولَئِكَ الكفرة من غير أن يظهر لهم في ذلك آية وحجة، ولا يقلدون البرهان والحجة فيتبعونك، واللّه أعلم. |
﴿ ٤ ﴾