سُورَةُ التَّغَابُنِمدنية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُسَبِّحُ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية. والتسبيح يحتمل أوجهًا ثلاثة، وقد سبق ذكره. وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} يحتمل وجهين: أحدهما: يحتمل الملك: الولاية والسلطان. والثاني: يقول: {لَهُ الْمُلْكُ} يعني: ملك كل الملوك، كما قال في آيات أخرى: {قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ. . .} الآية، فأخبر أن ملك الملوك كلها له، وأن من استفاد الملك إنما يستفيده باللّه تعالى، وبامتنانه عليه، واللّه أعلم. وقوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ}. يحتمل أوجها ثلاثة من التأويل: أحدها: أن يقول: {وَلَهُ الْحَمْدُ} يعني: له الثناء الحسن بصفاته العلا وأسمائه الحسنى. والوجه الثاني: أن يقول: {وَلَهُ الْحَمْدُ} يعني: حمد كل من يحمد، فحقيقة ذلك الحمد له بما أحسن إلى عباده وأنعم عليهم، وذلك معنى قوله: {الْحَمْدُ للّه}، أي: الحمد والثناء الحسن للّه تعالى على إحسانه إلينا وإنعامه علينا. والثالث: أن يجعل معنى الحمد معنى الشكر؛ لأن الحمد قد يستعمل في موضع الشكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يحتمل أن يكون معناه: وهو على كل شيء أراده قدير، وهو حجة على المعتزلة؛ لأن اللّه - تعالى - لا يزال يمدح نفسه بأنه بصير عليم وأنه على كل شيء قدير، وأقرت المعتزلة بأنه بصير عليم، وأبت عن الإقرار بأنه قدير على أفعال العباد، أو على إصلاح أحد من العباد، وهذا خلاف ما مدح اللّه أتعالى نفسه به، واللّه الموفق. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) يحتمل أن يكون تأويله: فمنكم من يدين بدين الكفر، ومنكم من يدين بدين الإسلام، ودل هذا على أن المعصية والطاعة يجتمعان في دين واحد، وأن المعصية لا تخرجه من دينه؛ لأن المعصية، لم يرتكبها تدينا بها، ولكن لغلبة شهوة أو غضب عليه، وأما الكفر والإيمان فإنه يأتي بهما المرء اختيارا ويتدين بالكفر والإيمان؛ لما عنده أنه حق، وفي هذه الآية دلالة أنه ليس بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، وليس كما قالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة بين منزلتين بين الكفر والإيمان، واللّه تعالى قسم الناس صنفين: فمنهم من خلقه كافرا، ومنهم من خلقه مؤمنا، ولم يجعل فيما بينهما منزلة ثالثة، فلا يجب أن نجعل، واللّه الموفق. وفيه أيضًا وجه لطيف سوى ما ذكرنا، وهو أن كل أحد في الدنيا مؤمن وكافر في الحقيقة؛ لأن من كان مؤمنا باللّه فهو كافر بالطاغوت، ومن كان كافرا باللّه فهو مؤمن بالطاغوت، وإذا كان كذلك، وجب أن يبحث عن معنى قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ومعناه عندنا: أن الحقيقة وإن كانت كذلك فالإيمان إذا ذكر مطلقا لم يفهم منه إلا الإيمان باللّه تعالى، والكفر إذا أطلق أيضًا لم يفهم منه إلا الكفر باللّه تعالى، وإذا كان كذلك، جاز أن يكون لفظ الكتاب خارجا على ما عليه المعهود من المتعارف المعتاد، واللّه أعلم. وقوله: {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} في الأزل بما يعمله العباد، وأنه ليس كما قال بعض الناس: ألا يعلم فعل العبد إلا وقت فعله، واحتجوا في ذلك أنا لو قلنا إن اللّه تعالى بصير في الأزل بما نفعله، لكان قولا بما لا يستقيم في المعقول؛ ألا ترى أنا لا نرى في الشاهد من يبني بناء يعلم أنه يضره أو يشتري عبدا يعلم أنه يعاديه، فكذا لا يستقيم أن يقال إن اللّه تعالى خلق عبدًا قد كان يعلم من قبل أنه إذا خلقه عاداه. والجواب عن هذا: أن هذا الذي وصفه غير مستقيم في الشاهد؛ لأن منافع ما يفعله العباد ومضاره ترجع إلى أنفسهم، وليس من العقل أن يفعل المرء فعلا يعلم أنه يضره، وأما رب العالمين فإنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه؛ فجاز أن يخلق خلقا يعلم أنه يختار عداوته؛ ليظهر عند الخلق أنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه بعد أن يكون في الحكمة ذلك، واللّه أعلم. ثم في قوله: {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} و {عَلِيم}، و {وَكِيل}، و {حَفِيظ}، إلزام المراقبة والتحفظ والتيقظ وبيان الترغيب والترهيب؛ لأنه إذا علم المرء أن عليه في كل ما يفعله رقيبًا يتيقظ، ولم يفعل إلا ما يُرضي به ربه، واللّه المستعان. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣). قد وصفنا أن الحق إذا جرى ذكره يصرف في كل شيء إلى ما هو أليق به؛ فإذا ذكر في الأخبار أريد به: الصدق، وإذا ذكر في الأحكام أريد به: العدل، وإذا ذكر في الأقوال أريد به: الإصابة، فلما قال: {بِالْحَقِّ} هاهنا أفكأنه، أراد به: الحكمة، كأنه يقول: خلق السماوات والأرض بالحكمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بِالْحَقِّ} يعني: للحق، وهو البعث، فكأنهم عنوا به: أن اللّه تعالى لم يخلقهما عبثًا بل خلقهما للعبادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} يحتمل هذا وجهين: أحدهما: {فَأَحْسَنَ}، أي: أتقن، وأحكم، ومعنى ذلك: أن اللّه تعالى خص صور بني آدم في الاستدلال بوحدانيته وربوبيته في أن جعل في أنفسهم حقيقة المعرفة والاستدلال بأنفسهم على وحدانية اللّه تعالى، وأما غيرهم من الصور فإنما يقع الاستدلال لغيرها بما ليس لنفس تلك الصور حقيقة المعرفة والاستدلال بوحدانية اللّه تعالى؛ ولذلك كان خلق صور بني آدم أتقن وأحكم، واللّه أعلم. والثاني: أن يصرف الحسن إلى حسن المنظر، ومعنى ذلك: أن اللّه تعالى خلق بني آدم على صورة لا يودون أن يكون صورتهم مثل صورة غيرهم من الخلائق، فثبت أن صورتهم في المنظر أحسن صورة، فذلك معنى قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، واللّه أعلم. وقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} يعني: البعث، وأضاف ذلك إلى نفسه؛ لأنه هو النهاية والمقصود في خلقهم، ولما لم يفهم أحد من قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} معنى الانتقال والتحول من مكان إلى مكان من حيث إنه يضاف إلى اللّه تعالى؛ لأن هذا فعل يكون باثنين، فإن من صار إلى شيء صار ذلك إليه، مثل الملاقاة والإتيان ونحو ذلك، فلما لم يفهم منه الانتقال لم ينبغ أن يفهم من قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، معنى الانتقال، واللّه أعلم. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤). في إخباره عن علمه بذلك كله إيجاب المراقبة والتيقظ والتبصر، والمحافظة على ما أمره اللّه تعالى ونهاه، وفي هذا إخبار أن اللّه تعالى مطلع على ما يضمرون، محصٍ عليكم جميع ما تظهرون، فاحذروا أن ترتكبوا ما فيه سخطه في الحالين جميعًا، واللّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِذَاتِ الصُّدُورِ} قال أهل التفسير: أي: بما في الصدور. ويحتمل أن يكون المراد منه بالأنفس التي لها أن صدور، وكل من كان ذا فكرة وتدبير فإنه يسمى: ذات الصدور، ومعناه: أن التدبير إنما يصدر عن ذلك الموضع، ويرجع إليه، وكل بنو آدم خصوا بهذا المعنى؛ فلذلك ذكر هذا فيهم، واللّه أعلم. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥). فتأويله عندنا - واللّه أعلم - أي: قد أتاكم نبأ الذين كفروا من قبل، وماذا نزل بهم حين كفروا وعاندوا، ومعنى ذلك أن اللّه تعالى قد حذرهم بما يكون في الآخرة من ألوان العذاب، فلم يتعظوا، لما لم يكونوا يؤمنون بالبعث، فلما لم ينجع فيهم ذلك، حذرهم بعقوبات تنزل بهم لو لم ينتهوا عما هم فيه من الطغيان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ}، أي: شدة أمرهم، ويحتمل أن يكون عاقبة أمرهم. وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فيه إخبار أن ما نزل بهم من العذاب في الدنيا، لم يكفر عنهم الذنب، أعني: ذنب الكفر، وأن عذاب الدنيا إنما كان جزاء شرهم في الكفر، وأنه يعذبهم في الآخرة عذاب الكفر والشرك، واللّه أعلم. ٦وقوله - تعالى -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللّه وَاللّه غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦). فكأنه يريد بقوله: {ذَلِكَ} أي: تلك العقوبات التي نزلت بالأمم الماضية، إنما كان سببها: أن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}، وكان قولهم: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} تلقين إبليس؛ حيث لقنهم مخالفة الرسول وتكذيبه، وأنكم لو احتجتم إلى طاعته ففيكم من هو أعظم منه درجة وأكثر منزلة، فإذا لم تطيعوه فكيف تطيعون بشرًا مثلكم؟! وهذا كله عناد وخطأ، وذلك أنهم قد كانوا يعبدون الأصنام؛ تقليدا منهم لبشر؛ ألا ترى إلى قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، ومعلوم أن جعل الأصنام معبودا يعبدونه بقول البشر؛ تقليدا له - أكثر وأعظم من تصديق البشر: أنه رسول من عند اللّه - تعالى - عند قيام الدليل المعجز، فإذا استجازوا تقليد البشر في ذلك، فكيف لا استجازوا تصديق الرسول فيما يدعوهم إلى توحيد اللّه وطاعته فيما يرجع إليهم من المنافع والمضار، ولكنهم كانوا قوما سفهاء، فاتبعوا سفههم وعنادهم، واللّه أعلم. وكذلك قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وكيف يكون سحرًا، وقد أتاهم بآيات أعجزتهم وأعجزت السحرة أن يأتوا بمثلها؟! ولكنهم عاندوا، ولم يجدوا حيلة سوى أن قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللّه}. أي: كفروا بالرسل {وَتَوَلَّوْا}: أعرضوا عن طاعته، وطاعة رسوله. وقوله: {وَاسْتَغْنَى اللّه} لم يسمع من أحد من المتكلمين يقول: {وَاسْتَغْنَى اللّه} على الابتداء إلا ما ذكر في ظاهر هذه الآية، والقول في الاستغناء فيما يريد به الإخبار جائز؛ نحو قولك: اللّه مستغن، فأما أن تبتدئ، فتقول: اللّه مستغن، فيما فيه شك وريب، فإنه لا يجوز البداية به. وقد غلط بعض المفسرين حيث قالوا: استغنى اللّه: بطاعة من أطاعه عن معصية من عصاه؛ لأن اللّه تعالى لم يمتحن عباده بالطاعة والمعصية لمنافع يأملها أو مضرة يخشاها ويخافها، بل هو مستغنٍ بذاته عن ذلك في الأزل، واللّه أعلم. ويجوز أن يكون في هذا إضمار، يعني: واستغنى الرسول عن طاعتهم باللّه تعالى، أو يصرف الاستغناء إلى الإخبار عن ذاته: أنه مستغنٍ بذاته في الأزل، لا تمسه حاجة، وأنه لا يضره كفر من كفر، ولا ينفعه إيمان من آمن، بل إنما يحصل ذلك كله للممتحن بهما، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. قد وصفنا معنى الغني، وأما الحميد يحتمل وجهين: أحدهما: يعني: المحمود، أي: المستحق للحمد بذاته؛ إذ يستحق من كل أحد الحمد على ما يحسن إليه، أو يحمل معنى الحميد على معنى الحامد، ووجه ذلك أن اللّه تعالى يحمد محاسن الخلق وآثار أفعالهم، وأن حقيقة تلك الأفعال من جهة التوفيق والتسديد إنما كانت به، وذلك غاية الكرم. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ (٧). قوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون هذا تعليما لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعلمه القسم تأكيدا؛ لما كان يخبر عن البعث، وكذلك جميع ما ذكر من القسم في القرآن يجوز أن يكون على هذا المعنى؛ لأن القسم إنما هو لنفي تهمة تمكنت، واللّه تعالى لا يتهم في خبره، والرسول هو الذي كانوا يتهمونه فيما يخبر؛ لما لم يثبت عندهم رسالته لعدم تأملهم في دلائله، فعلمه القسم؛ تأكيدا لما يخبر ونفيا للتهمة عما يقوله، واللّه أعلم. ويجوز أن يكون هذا قسمًا مقابلا لما أقسم به الكفرة في أمر البعث؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن أمر البعث على اللّه يسير هين لأنهم أنكروا البعث بعدما صاروا ترابا؛ فأخبر أن بعثهم وإعادتهم أهون في عقولهم من إنشائهم، ولم يكونوا شيئًا؛ فكيف أنكروا قدرته على إعادتهم بعد أن صاروا ترابا، فأخبر - جل وعلا - أن ذلك على اللّه يسير. والوجه الثاني من التأويل: أن يذكر ما عملوا من خير أو شر أحصاه عليهم كل سر وعلانية وكل صغير وكبير؛ ليعاينوا ذلك في كتبهم، ويعلموا تحقيقًا: أنها على اللّه يسير. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨). يجوز أن يكون هذا صلة ما تقدم، وذلك أن اللّه تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وأن ذلك إنما نزل بهم؛ لكفرهم باللّه تعالى، وتكذيبهم الرسل، فآمنوا أنتم باللّه ورسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من البأس والعقوبة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} النور: هو القرآن، ويجوز أن يكون سماه: نورًا؛ لأنه يبصر به حقيقة المذاهب في الطاعة والمعصية والإحسان والإساءة والإيمان والكفر كما يبصر بنور النهار حقيقة الأشياء من جيدها ورديئها، كذلك يبصر بهذا منافع الطاعة ومضار المعصية، فسمي: نورًا من هذا الوجه، واللّه أعلم. وقوله: {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. أي: أن اللّه خبير بما تسرون وما تعلنون، فراقبوه وحافظوه في الحالين جميعًا، وفي هذا بيان أن اللّه تعالى عالم بما يعمله العباد في الأزل، وبما يكون منهم، وأنه ليس كما وصفه بعض الجهال، واللّه المستعان. ٩وقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩). ذلك اليوم في الحقيقة يوم جمع وتفريق، وهو أيضًا في الحقيقة يوم تغابن وترابح، وإن ذكر أحدهما؛ دليل ذلك ما ذكر في غيرها من الآيات؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، وإلى ما ذكر في عقيب قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} من قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وهذا هو معنى الترابح، ولكنه - جل ثناؤه - يجوز أن يكون اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. ثم الغبن يذكر في التجارات، والأصل في ذلك عندنا أن كل سليم طبعه لا يخلو من عمل، وعمله لا يخلو من إحدى ثلاثة أوجه: إما أن يكون في مباح أو أمر أو نهي، ومعلوم أن من استعمل المباح فهو يستعين به في إقامة الأمر، إذ لا بد من البقاء لإقامة الأمر؛ وذلك باستعمال المباح والاشتغال بأسبابه، فكأنه في إقامة ذلك الأمر؛ فحقيقته ترجع إلى أن الأعمال في الحقيقة تنصرف إلى نوعين: إلى أمر ونهي، ومعلوم أن من كان في أمر، فهو تارك لما نُهِي عنه، ومن كان في نهي فهو تارك لما أمر به، والتجارة في الحقيقة هو أن يأخذ شيئًا ويترك شيئًا آخر، وإذا تحقق معنى التجارة في أعمال بني آدم، أطلق لها لفظ: التجارة. قال: والدنيا لها ثلاثة أسماء: المتجر، والمزرع، والمسلك، وقد وصفنا معنى التجارة، وأما معنى المزرع؛ فلأجل أن كل من يعمل في الدنيا فإنما يعمل لعاقبة، ولا بد أن تكون عاقبته خيرا أو شرًّا، فكل من كانت عاقبته الخير فهو زارع للخير، ومن كانت عاقبته الشر، فهو زارع للشر، واللّه أعلم. وأما معنى المسلك والطريق، فلأجل أن الخلق لم يخلقوا في هذه الدنيا ليقروا فيها، وإنما خلقوا لأحد أمرين: إما للثواب أو للعقاب، فكل من عمل عملا يفضي به إلى الثواب والجنة فكأنه يسلك طريق الجنة، وكل من عمل عملا يفضي به إلى النار؛ فكأنه يسلك طريق النار؛ فلذلك سمي: مسلكا وطريقا، واللّه أعلم. ثم التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه: أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في الدار الآخرة؛ لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة، فإذا لم يجدوا وصاروا يلعن بعضهم بعضا، غبنوا ما كانوا يأملونه منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن لكل كافر في الجنة قصرا وبيتا وأهلا، فإذا صاروا إلى النار، ورث المؤمن أهله وقصره الذي كان له في الجنة؛ فهذا هو التغابن، ولكن هذا غير صحيح عندنا؛ لأنه لا يحتمل أن يبني اللّه تعالى للكافر في الجنة بيتا مع علمه أنه لا يأتيه؛ لأن هذا فعل من لا يعلم العواقب ومن هو عابث في فعله، جل اللّه تعالى عن مثل هذا الوصف، إلا أن يحمل على الوعد إن ثبت الخبر، أي: إن أسلم الكافر كان له ذلك المنزل في الجنة، وإن ارتد المسلم عن الإسلام، كان له ذلك المنزل في النار، وهو عالم أن عاقبة أمره ماذا: الكفر أو الإسلام؟ وأن مأواه النار أو الجنة وحكمه على ما علم وأراد، ولكن اللّه تعالى عالم بما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون، فأخبر على ذلك، وإلا لم يصح، لما ذكرنا من المعنى، واللّه الموفق. ويحتمل: أنه إنما سماه: يوم التغابن؛ لأن الدنيا جعلت أسواقا، والأحوال التي تكون لهم رءوس الأموال، والأعمال التي يعملون فيها ويكتسبون تجارة؛ قال اللّه تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، ثم قال: {تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه. . .} الآية، وقال في آية أخرى: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .} الآية، وقال {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}، فإذا كانت الدنيا متجرًا فالآخرة هي التي يقسم فيها الأرباح، وفي ذلك يقع الربح والخسران، ويظهر الغبن والفضل أو النقصان والزيادة، واللّه أعلم. أو سماه: يوم التغابن؛ لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا أو ربحوا، ولا يظهر لهم ذلك في الدنيا، ثم بين العمل الذي يربح عليه، والعمل الذي يخسر به، والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح، والتي يلحق بها الخسران، وهو ما قال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .} الآية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. . .} الآية. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحًا}. يعني: ومن يؤمن باللّه على ما جاءت به الرسل جملة، وأن له الخلق والأمر، ويؤمن بالرسل والبعث - فذلك هو الإيمان باللّه تعالى. وقوله: {وَيَعْمَلْ صَالِحًا}. يعني: ومن يؤمن باللّه ويعمل، في إيمانه صالحا إلى أن يموت. ١٠وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠). يعني: كفروا بوحدانية اللّه تعالى وبقدرته، وكذبوا بآياته، أي: بحججه، أو كذبوا بالبعث {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {بِإِذْنِ اللّه} يعني: بأمر اللّه، وهو قول الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بِإِذْنِ اللّه} يعني: بعلم اللّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بِإِذْنِ اللّه} يعني: بمشيئة اللّه. ولكل من ذلك وجه: فأما من قال: بأمر اللّه، فمعناه وحجته: أن هذه المصائب كلها عقوبات؛ ألا ترى إلى قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. ومعلوم أن جزاء ما كسبت يده عقوبة له، والتعذيب والعقوبة إنما يكون بأمر اللّه؛ فلذلك قال: معنى قوله: {بِإِذْنِ اللّه} أي: بأمر اللّه. لكن عندنا هذا يرجع إلى ما يصيبهم من أيدي الخلق، كقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ}، وقوله: {هَلْ تَرَبَّصُونَ. . .} إلى قوله: {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}، ونحو ذلك، وهذه المصائب لا تحتمل تأويلاً للأمر من اللّه تعالى. ومن قال: بعلم اللّه، فوجه ذلك: أن هذه المصائب فيها إهلاك العبيد، وفي الشاهد أنه لا يحب أحدًا أن يعلم بما فيه هلاك عبيده وخدمه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن هذه المصائب وإن كان فيها هلاك عبيده فإنما يكون ذلك بعلمه، وأن هلاكهم لا يضره، ولا ينقص من ملكه؛ لأن اللّه - سبحانه وتعالى - أنشأ ما أنشأ من الخلائق لحاجة لهم، ولمنفعة ترجع إليهم ومضرة تلحقهم؛ فحلول ما يحل بهم من المصائب لا يضره ولا ينفعه لذلك كان علمها ما ذكر. ومن قال: بمشيئة اللّه وإرادته فوجه ذلك: أن اللّه تعالى وعد وأوعد، ولا محالة يريد من عبيده ما يكون بوعيده عادلا وأن يضع وعده موضعه، وإذا كان كذلك ثبت أنه يريد من كل أحد ما يعلم أنه يكون منه؛ لأنه إذا خلق النار، وأوعد عليها، فلو أراد من كل منهم الطاعة، لكان إذا أحرق بالنار أحرق من أراد منه الطاعة فدخل في حد الجور، ولو كان يريد من كل منهم المعصية، لكان إذا أنجز وعده، وأدخله الجنة كان يضع ثوابه غير موضعه ويخرج عن حد الحكمة، وإذا كان كذلك، ثبت أنه أراد من كل ما علم أنه يختاره، ويكون منه ليخرج فعله على الحكمة، واللّه الموفق. ونحن نقول: قد ذكر اللّه تعالى الإذن في مواضع مختلفة، ولكل من ذلك وجه غير وجه صاحبه، فالواجب أن يصرف معناه في كل موضع إلى ما يليق به، واللّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه يَهْدِ قَلْبَهُ}. قال أبو بكر: أي: من آمن بما شاهد من التدبير، يهديه اللّه تعالى؛ ليعلم أن من دبر هذا التدبير هو الذي ابتلاه بهذه المصيبة. ويجوز أن يكون تأويله على وجه آخر، وهو أن يقول: من يؤمن باللّه أن له الخلق والأمر - يهدِ قلبه؛ ليسكن، ويعلم أن اللّه أولى به؛ فيسترجع عند ذلك، وذلك تأويل من قرأ (يهدأ قلبُه) أي: يسكن؛ من الهدوء وهو السكون، واللّه أعلم. والثاني: يحتمل أن تكون هذه الهداية وإن خرجت على لفظ الإحداث، فليس على الإحداث ولكن معناه: أن إيمانه باللّه تعالى إنما كان بهدايته منه؛ لأنه لا يجوز أن يكون الإيمان متقدما والهداية متأخرة، ولكن حين هداه، آمن بما هداه؛ وهذا على ما قال اللّه تعالى: {اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فهذا خرج في الظاهر على لفظ الإحداث، ولكنه في الحقيقة ليس عليه ولكن على معنى أنهم لما آمنوا، أخرجهم بالإيمان من الظلمات إلى النور بعد الإيمان، فكذلك الأول، واللّه أعلم. ويجوز أن يكون تأويله: أن اللّه يهدي قلبه، أي: يتوب عليه من الزلات عند الموت؛ على ما قال اللّه تعالى: {وَيَتُوبَ اللّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}. وقيل: فيه لغات أربع {يَهْدِ قَلْبَهُ} بنصب الياء والباء جميعًا، و {يُهْدَ قَلْبُهُ} برفع الياء والباء جميعًا، و {يَهْدَ قلبُه} بفتح الياء وضم الباء، أي: يهتدي، و {يَهْدِ قَلْبَهُ} من السكون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. الأصل في الأسماء المشتركة إذا أضيف شيء منها إلى اللّه تعالى، فحق التخصيص في الإضافة إليه أن يضاف بحق الكليات ليكون فرقا بينه وبين العباد فيقال: {وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، ويقال في الخلق: فلان عليم بكذا على الخصوص، وليعلموا أن العبيد إنما يعملون ما يعملون بعلمه، وكذلك هذا في قوله: {وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وهذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ليس بقادر على كثير من الأشياء فكأنهم أشركوا في اسم القدرة غيره؛ لأنه لا أحد من الخلق إلا وله جزء من القدرة، فلو قلنا: إن اللّه تعالى يقدر على بعض ولا يقدر على بعض لسوينا بينه وبين خلقه، وشبهناه بهم، جل اللّه - سبحانه وتعالى - عن مثل هذا الوصف، واللّه المستعان. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... (١٢). يعني: أطيعوا اللّه فيما تعبدكم به، وأطيعوا الرسول فيما أخبر عنه. أو أطيعوا اللّه فيما أمركم وأطيعوا الرسول فيما دعاكم إليه، وهذا كله واحد إلا التعبد؛ فإنه لا يجوز أن يضاف إلى الرسول، وما سواه من الألفاظ من الأمر والدعاء والإخبار، فهو جائز أن يضاف إلى اللّه تعالى وإلى الرسول - عليه السلام -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}. يعني: توليتم عن إجابة الرسول إلى ما دعاكم إليه وعن طاعته. وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. فيه بيان: أن توليهم عن إجابته وكفرهم به، لا يوجب تقصيرا في التبليغ. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣). يجوز أن يكون هذا صلة ما تقدم من الآيات من قوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، و {عَلِيمٌ} و {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، ثم قال اللّه الذي له الأوصاف التي تقدمت هو الذي لا إله إلا هو، أي: لا معبود إلا هو، وأن معبودهم ليس يجوز أن يكون معبودا؛ لتعريه عن هذه الأوصاف التي تقدم ذكرها، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. فيه بيان: أن معتمد المؤمنين على اللّه تعالى، وإن قلت أعوانهم وأنصارهم، وأنهم ليسوا كالمنافقين والكفرة؛ حيث تركوا اتباع المؤمنين لما رأوا من قلة الأتباع والأعوان لهم وأخبر أن المؤمنين بخلاف تلك الصفة، وأن ثقتهم واعتمادهم على اللّه تعالى ليس على كثرة الأنصار، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}. يحتمل أن يكون على تحقيق العداوة، ويحتمل أن يكون على فعل العداوة؛ فإن كان على تحقيق العداوة فهو يحتمل وجهين: أحدهما: عداوة ظاهرة، وهي عداوة الكفر والشرك؛ وذلك أنه كان في ذلك الزمان يسلم الرجل ويبقى ولده وزوجته على الكفر، فعلمهم اللّه تعالى صحبة الأولاد والزوجات: أنه إذا دعوكم إلى الكفر والشرك، فاحذروهم أن تطيعوهم وأن تعفوا عن عقوبتهم على ما دعوكم إليه، وتغفروا؛ فإن اللّه غفور رحيم. ثم ذكر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في صحبة الأولاد والزوجات إذا كانوا كفارا - العفو والصفح، ولم يذكر ذلك في الوالدين المشركين، ولكنه أمره أن يصاحبهما في الدنيا معروفا لقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، فوجه ذلك - عندنا واللّه أعلم -: أن يجري سلطانه وغلبته وقهره على زوجته وولده، فأمره هاهنا بالعفو والصفح، وأما في الوالدين فليس يجري له عليهما السلطان والقهر والغلبة؛ فلا معنى للعفو والصفح عنهما، لكنه أمر أن يصاحبهما في الدنيا معروفا وألا يطيعهما فيما أمراه من المنكر، واللّه أعلم. ويحتمل أن تكون هذه العداوة عداوة مستورة، وهي عداوة النفاق، فكأنه قال: إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم وأنتم لا تشعرون، وإن تعفوا عن جنايتهم ولم تؤذوهم عليها وتصفحوا وتغفروا؛ فإن اللّه غفور رحيم؛ ألا ترى إلى ما حذر اللّه المؤمنين من أهل النفاق مع أنهم من الضعف والفشل؛ كما أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم بقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} فكذلك الأزواج والأولاد وإن كانوا تحت قهره وغلبته، أمره بالحذر عنهم، واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون على فعل العداوة، ليس أنهم أعداء في الحقيقة، وذلك أنهم في المتعارف والمعتاد يدعون الآباء إلى البخل والمنع عن الإنفاق على غيرهم، ويشتد عليهم صنع أبيهم من الإحسان والبر في حق الناس، ويكرهون ذلك، وهذا في الظاهر فعل العدو؛ فيجوز أن يكون اللّه تعالى علم صحبة هَؤُلَاءِ أن من أزواجكم وأولادكم من يظهر فعل العداوة فاحذروهم أن تمتنعوا عن وجوه الإحسان إليهم والتبرع بقولهم، وإن تعفوا عن صنيعهم بكم وتغفروا {فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥). المفتون: هو المولع بالشيء العاشق له، فكأنه قال: إنما أموالكم وأولادكم معشوقكم؛ فلا يحملكم حبهم على أن تتركوا ابتغاء الأجر العظيم عند اللّه تعالى. ويحتمل أن يكون معناه: أن اللّه تعالى لم يخلق الأزواج والأولاد لكم مجانا، وإنما خلقهم ليبتليكم، ويمتحنكم: أن كيف تعاملون اللّه تعالى فيما أمركم به ونهاكم عن حبهم، ثم أخبر أن اللّه عنده أجر عظيم؛ ليتحملوا المؤنة العظيمة في أوامره ونواهيه عن حبهم الأولاد والأموال، وهذا معنى ما قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الأزواج والأولاد كانوا يتعلقون بهم، ويقولون: ننشدك باللّه أن لا تذرنا وتضيعنا، إذا أراد الرجل أن يهاجر إلى المدينة. والأشبه ألا يكون هذا؛ لأن هذه الآية نزلت بالمدينة وأفعالهم هذه إنما كانت بمكة، إلا أن يكونوا كتبوا إليهم بها، واللّه أعلم. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦). قَالَ بَعْضُهُمْ: نسخت هذه الآية قوله تعالى: {اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ}، حيث أمر هاهنا بالاتقاء على قدر الاستطاعة، وثم بخلافه، ولكن هذا لا يستقيم؛ لأن قوله: {اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ} لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لا فوق الطاقة والاستطاعة، لكنه إن كان فوجهه: أن {اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ}، وإن هلكت فيه طاقتكم؛ لأنهم أمروا بتقوى تهلك به طاقتهم على ما قال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ}، ولو كتب عليهم أن يقتلوا أنفسهم جاز ولكنه تهلك طاقتهم فيه، فكذلك الأول، ثم قال: {فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ} تخفيفا عليهم وتيسيرا واللّه أعلم. ولكن الكلام في أن كيف قال: {فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ} ولم نكن نتقي لولا هذه الآية إلا ما استطعنا، ولكن معناه - واللّه أعلم -: على جهة البشارة: أنكم إذا قصدتم قصد التقوى، آتاكم اللّه - تعالى - الاستطاعة في تقواه، وهو كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى). وهذه الآية على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الاستطاعة تتقدم الفعل، وهي تزول عن الفاعل وتقدم عند الفعل، ولو كان كذلك كان يجعل قوله: {فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ} واستطاعة زالت عنهم، وكذلك قوله: {فَخُذهَا بِقُوَّةٍ}، وكذلك قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، زالت عنهم هذا مستحيل، والذي يؤيد قولنا قول اللّه جل ثناؤه: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}، والحاجة إلى هذه الاستطاعة تقع عند أداء البدل عن الأصل، فأما قبل ذلك إن كان مستطيعا أو غير مستطيع فهو سواء. قوله تعالى: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}. أي: اسمعوا إلى ما أمركم اللّه تعالى به ورسوله. أو يكون قوله: {وَاسْمَعُوا} بمعنى: أجيبوا لما أمركم اللّه به، وإلى ما دعاكم اللّه ورسوله؛ كقوله: " سمع اللّه لمن حمده "، أي أجابه. وقوله - تعالى -: {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}. أي: وأنفقوا مما رزقناكم خيرا لكم من أن تدعوا الإجابة لما أمركم والإنفاق مما رزقكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}. قال سفيان بن عيينة: أي: ومن يوق ظلم نفسه، والشح: الظلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشح: البخل، الذي فيه الحرص. قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أضاف الوقاية إلى نفسه؛ ليعلم أن من اتقاه فإنما اتقاه بما وقاه اللّه تعالى بلطفه وكرمه، ألا ترى إلى قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، كيف علمهم ذلك التقوى بقوله: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أن قولوا: وقنا عذاب النار؛ ليعلم أن جميع أفعال العباد إنما تقوم وتصح بتدبير اللّه - تعالى - وتوفيقه وتسديده وتقديره، واللّه أعلم. ثم قوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه أوجه من الدلالة: أحدها: أن قوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} لم يبين فاعله، ففيه بيان أن في سلطان اللّه وملكه ما يقي به شح عبده، وأنه إذا وقاه شح نفسه أفلح، وكذلك في قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}، إخبار أن من ينصره اللّه فلا يغلب، وقد يرى في الشاهد من لا يوق شح نفسه ألبتَّة، ومن قد يوق شح نفسه ولا يفلح، وقد نرى من يجاهد أعداءه فيغلب، مع ما وعده وأخبر أنه هو الغالب وأنه لا يغلب، فلا بد في ذلك من أحد وجهين: إما أن لم يكن للّه تعالى النصرة في ملكه وسلطانه كما ادعى، فهو كاذب فيما ادعى، وإما أن آتاه من القوة ما يقي به شح نفسه فلم يفلح؛ فصار كاذبا في خبره. فأما المعتزلة فإنهم زعموا أن اللّه تعالى قد آتى عبده جميع ما يقي به شح نفسه حتى لم يبق في خزانته شيء يؤتيه ليقي به شح نفسه - كذبة، وإذا لم يكن بد من نسبة الكذب إلى اللّه تعالى أو إلى المعتزلة، كانت المعتزلة أولى أن ينسبوا إلى الكذب من رب العالمين فيما أخبروا هم، وأن اللّه تعالى فيما أخبر صادق، وأن في ملكه وسلطانه ما لم يؤت عبده ليقي به شح نفسه، واللّه المستعان. وفيه دلالة على إبطال قول من قال: إن على الكفرة أداء هذه العبادات، والحقوق واجبة، وذلك أن اللّه تعالى وعد في هذه الآية أن من وقي شح نفسه، وأدى ما وجب عليه من هذه الحقوق فقد أفلح، وقد ترى الكافر في الشاهد يوقى شح نفسه، ويؤدي حقوق أمواله ويسخو بماله على الناس، ولا يفلح ولو كان عليه هذه الحقوق واجبة، لكان يحصل له الفلاح، ثبت أنه ليس عليه أداءها وإنما عليه قبولها، واللّه أعلم. وفيه أن صاحب الكبيرة قد يرجى له الفلاح وإن لم يتب عن الكبيرة حتى مات؛ لأنا قد نرى صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه، وقد وعد اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن من وقي شح نفسه، فهو من المفلحين، فإذا كان صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه؛ فقد ثبت أنه يرجى له الفلاح، واللّه أعلم. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تُقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) تولد من هذه الآيات ظنون فاسدة: أحدها: ظن اليهود، حيث قالوا: إن اللّه فقير ونحن أغنياء؛ وذلك أنهم لما سمعوا أن اللّه تعالى يقول: {إِنْ تُقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا} والاستقراض في الشاهد يدل على الحاجة إلى ما يستقرض، وكذلك قوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، والشراء يدل على حاجة في المشتري، وحيث استعمل عبيده في الأعمال، ثم قال: {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، ورأوا أن من يستعمل آخر فإنما يستعمله في عمل ترجع منفعته عليه ويحتاج إلى عمله، ظنوا بذلك أن اللّه فقير وأنه محتاج. وظنت المعتزلة أن أنفس العبيد وأملاكهم ملك لهم حقيقة ليس للّه - تعالى - في شيء من ذلك ملك ولا تدبير، قالوا: وذلك أن اللّه تعالى استقرض من عبيده، والمرء في الشاهد لا يستقرض ملك نفسه، فلما استقرض واستباع دل أن هذه الأشياء كانت ملكا لهم حقيقة. والذي يدل على أن قول المعتزلة على ما وصفنا: أن من قولهم: إن ليس للّه تعالى أن يمرض أحدًا ولا يؤلم ذاته إلا بعوض، ومن لم يملك فعل شيء إلا بعوض أو بدل تبين أنه لا يملكه؛ فثبت على أن عندهم أنه لا يملك حقيقة، وأن حقيقة الملك فيه للعبيد. ويشبه أن يكون ظن اليهود والمعتزلة، جميعًا إنما تولد من قولهم: إن ليس للّه تعالى أن يفعل بعبيده إلا ما هو أصلح لهم في دينهم، فذهبت اليهود إلى أن هذا لما كان حقًّا على اللّه أن يفعله لا محالة حتى إذا لم يفعله يكون جائرا، ومن كان مأخوذا بحق أو بشيء يفعله، ففيه بيان أن حقيقة ذلك الفعل لغيره حتى أخذ به لا محالة؛ لذلك قلنا: إن ظنونهم تولدت عن القول بالأصلح، واللّه المستعان. وأما الحكماء وأهل العقل ومن انتفع بعقله، حمل هذه الآيات من اللّه تعالى على نهاية الكرم وغاية الغناء؛ لأن اللّه تعالى أعطى عبده، ثم استقرض منه ذلك الذي أعطاه؛ ليصير ذلك العطاء دائما ببدله الدائم، وهو النعيم في الآخرة، ومعلوم أن من أراد دوام عطاء من أعطاه فهو في غاية الكرم، وكذلك اشترى منه حياة فانية؛ ليعطي له حياة دائمة، وهذا من غاية الجود، ومن استعمل عبده في عمل يوصف بأنه جواد سخي ويشرف به، ويكرم ثم وعد له على ما فيه شرفه أجزا دائمًا، دل على غناه، فثبت أنه أراد بهذه الآيات أن يعلمنا غاية كرمه وغاية جوده ونهاية غناه، وأن جوده وكرمه مما لا تدركه عقولنا، واللّه المستعان. والذي يدل على غاية كرمه وغاية جوده: أن جعل ما نتصدق به على فقرائنا وما نصل به أرحامنا قرضا حسنا على نفسه، ووعد الأجر بعمل يعمله العبد لنفسه، وعلى عمل على العبد فعله لا محالة، ولا شك أن ذلك من غاية الجود والكرم، واللّه المستعان. ثم قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: القرض: هو القطع، كأنه قال: اقطعوا شيئًا من أموالكم للّه تعالى قطعا حسنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اقرضوا، أي: اجعلوا ما تتصدقون به مما فضل عن حاجاتكم على فقرائكم قرضا حسنا على اللّه تعالى يؤتكم أجره عند حاجتكم إليه. وقوله: {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ}. يعني: يضاعف ما يعطيكم في الآخرة من الثواب الذي تكرمون به، بما شرفتم به، وتزينتم في الدنيا بالتصدق. وقوله: {وَاللّه شَكُورٌ حَلِيمٌ}. يعني: شكور؛ حيث شكر لكم على ما أعطيتموه شيئًا هو أعطاكم إياه. وقوله: {حَلِيمٌ}. وصف نفسه بالحلم، وعلى قول المعتزلة لا يتحقق هذا الوصف؛ لأنهم يقولون: إنه إذا وجبت العقوبة، فليس للّه تعالى أن يؤخرها كرمًا منه، وأنه فيما أخرها كان ذلك حقًّا عليه؛ حيث رأى الأصلح في تأخيرها، ومعلوم أن من أدى حقًّا عليه لم يوصف بالحلم، ولكنه يقال: إنه ينفي الجور، والحليم من يحلم عن عقوبة لزمت فيؤخرها ويتركها ويعفو صاحبها عنها؛ فيوصف بالحلم عند ذلك، وأما أن يكون عليه تأخيرها، فلا يوصف بالحلم في هذا الموضع، واللّه أعلم. ١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ... (١٨). يعني: عالم ما غاب من أفعال الخلق عن الملائكة، وعالم بما شهدوا من أفعالهم، وعالم بما غاب عن العباد، وبما شهده العباد. وقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. العزيز: الذي لا يعجزه شيء، والحكيم: الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره، ثم المعتاد في القرآن أنه يذكر العزيز الحكيم بعد ذكره خلق الكفرة؛ ليعلم أن فسادهم لا يوجب وهْنًا في حكمته وتدبيره، ولا يبطل عزه وسلطانه؛ لأن من صنع إلى آخر شيئًا يعلم أنه يفسد؛ دل ذلك على جهله بالتدبير وإذا استعمل عبده بما يهلكه؛ دل على ذله فأخبر بعد خلق الكفرة: أنه عزيز ليعلم أن كفرهم لا يوجب نقصا في عزه، ولا يدخل ذلا عليه، وأن فسادهم لا يخرجه عن الحكمة والتدبير، واللّه أعلم بالصواب. * * * |
﴿ ٠ ﴾