سُورَةُ التَّحْرِيمِ

وهي مدنية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}.

هذا في الظاهر فظيع بأن يحرم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما أحل اللّه له، ومن قال بأنه حرم ما أحل اللّه، فقد قال قولا منكرًا، ولو اعتقد ذلك كان كفرا منه؛ إذ من حرم ما أحل اللّه تعالى كان كافرا، ومن كان اعتقاده في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذا، فهو كافر.

وقال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أن ليس لأحد أن يحرم ما أحله اللّه تعالى؛ لأن اللّه تعالى منع رسوله عن ذلك.

لكن الأمر عندنا ليس على ما ظنه أبو بكر، ولا على ما سبق إليه ظن بعض الجهال: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حرم شيئًا أحله اللّه تعالى، ومن توهم هذا في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقد حكم على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكفر.

وتأويله عندنا - واللّه أعلم -: على وجهين:

أحدهما: أن تحريم ما أحل تعالى هو أن يعتقد تحريم المحلل، وتحليل المحرم فيما حرم اللّه تعالى مطلقًا، فمن اعتقد تحريمه حكم عليه بالكفر، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعتقد تحريم ما أحل اللّه تعالى؛ إذ لم ير جماعها عليه محرما، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين، والحرمة التي ثبتت بسبب اليمين، لم تكن من فعل الآدمي، وإن ثبتت بمباشرة السبب منه؛ كالتحريم بالطلاق وبغيره من الأسباب، وإنَّمَا تثبت من اللّه تعالى عقيب مباشرة الأسباب من العباد، كسائر الأحكام، كيف وأنه باليمين لا تثبت حرمة نفس

الفعل، وإنما المحرم ترك تعظيم اللّه تعالى الواجب بسبب اليمين، وهذا لا يعد تحريم الحلال وتحليل الحرام.

أو أريد بالتحريم منع النفس عن ذلك مع اعتقاده بكونه حلالا، لا أن يكون قصد به قصد تحريم عينه، وقد يمتنع المرء عن تناول الحلال؛ لغرض له في ذلك؛ وهو كقوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، ولم يرد به تحريم عينه، ولا التحريم الشرعي؛ إذ الصبي ليس من أهله، وإنما أريد به امتناعه من الارتضاع إلا من ثدي أمه، فعلى ذلك هاهنا، واللّه أعلم.

والثاني: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه، وإلى الشفقة عليهن، والرحمة بهن، فبلغ في حسن العشرة والصحبة معهن مبلغا امتنع عن الانتفاع بما أحل اللّه له، وأباح له التلذذ به؛ يبتغي به حسن عشرتهن، ويطلب به مرضاتهن، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}، أي: لا يبلغنَّ بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا تمتنع عن الانتفاع بما أحل اللّه لك؛ فيخرج هذا مخرج تخفيف المؤنة على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حسن العشرة معهن، لا مخرج النهي والعتاب عن الزلة؛ وهو كقوله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، تخفيفًا للأمر عليه، وكذلك قال: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، ليس في الحقيقة نهيًا عن السخاء على النهاية، لكن تخفيفًا للأمر عليه: أن ليس عليك الإسراف في السخاء والنهاية في ذلك؛ بحيث لم تُبق لنفسك وعيالك شيئًا وتؤثر غيرك؛ فعلى ذلك قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ} خارج مخرج تخفيف المؤنة عليه في حسن العشرة، لا مخرج النهي، واللّه أعلم.

ثم اختلف أهل التأويل في سبب التحريم:

فمنهم من ذكر أن حفصة - رضي اللّه عنها - زارت أهلها، والنبي - عليه السلام - في بيت حفصة، فجاءت أم إبراهيم مارية القبطية حتى دخلت على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فواقعها، فجاءت حفصة، وهما نائمان فرجعت إلى بيت أهلها، فمكثت عامة الليل ... القصة، وقالت حفصة في آخر هذا الخبر: ما رأيت لي حرمة، وما عرفت لي حقًّا، فقال لها النبي - عليه السلام -: " اكتمي عليَّ، وهي علَيَّ حرام "، فنزلت هذه الآية.

ومنهم من يذكر: أن ذلك اليوم كان يوم عائشة - رضي اللّه عنها - فاطلعت حفصة على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجاريته مارية، فأمرها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن تكتم عليه، فأخبرت حفصةُ بما رأت عائشةَ - رضي اللّه عنها - فغضبت عائشة، فلم تزل بنبي اللّه حتى حرمها، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال عكرمة: نزلت الآية في امرأة يقال لها: أم شريك وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فلم يقبلها النبي - عليه السلام - طلبا مرضاة أزواجه؛ فنزلت الآية، واللّه أعلم.

ومنهم من قال: إن الذي حرمه النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عسلا، كان رسول اللّه - عليه السلام - شربه عند بعض نسائه، فقالت امرأة من نسائه لصاحبتها: إذا جاءك النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقولي له: ما ريح المغافير فيك؟ فقالت للنبي؛ فحرمه النبي - عليه السلام - فنزلت هذه الآية.

وليس لنا إلى تعرف السبب الذي وقع التحريم به، ولا إلى تعيين الشيء الذي حرمه النبي - عليه السلام - حاجة، ولكنا نعلم أن الأمر الذي كان فهو جرى بينه وبين زوجاته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

أي: غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر لو كان.

أو يكون رحيما؛ حيث لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين؛ لا بإذن سبق من اللّه تعالى لك فيه.

أو غفور رحيم عليك وعلى زوجتيك إن تابتا ولم تعودا إلى صنيعهما.

أو غفور رحيم بما خفف عليك من مؤنة العشرة، ولم يحمل عليك ما حملت على نفسك.

﴿ ١