٢وقوله - تعالى -: (قَدْ فَرَضَ اللّه لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللّه مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢). فمنهم من يحمل هذا على ابتداء الخطاب، ويصرف المراد إلى غير رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ بحكم وعد اللّه - تعالى - فلم يكن يحتاج إلى التكفير، لإزالة المأثم. ولكن نحن نقول: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن كان هذا محله، فهو وأمته في أحكام الشرائع مأخوذون، ويكون على هذا مغفرة زلاته: ما تقدم وما تأخر بمباشرة أسبابها من التوبة والكفارة، ونحو ذلك؛ فيكون قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللّه لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} منصرفا إلى النبي - عليه السلام - وأمته. ثم يجوز أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قصد إلى التحريم أعني: منع نفسه عن الانتفاع بها مع اعتقاد الحل لا إلى اليمين؛ فجعل اللّه تعالى ذلك منه يمينا؛ فيكون فيه دلالة على أن التحريم يمين؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم اللّه -: إن من قال لامرأته: " أنت عليَّ حرام "، ولا نية له، فهو يمين. وجائز أن يكون أفصح بالحلف؛ فكنى عنه باليمين. ثم قوله: {قَدْ فَرَضَ اللّه لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} على قراءة العامة، وفي بعض القراءات: (قد فرض اللّه لكم كفارة أيمانكم). ووجه الفرض فيه: أن الأمم من قبل، لم تكن يؤذن لهم بالحنث في اليمين، ولا أن يحلوا منها بالكفارة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}، فلم يأذن له بالحنث وأباح له الضرب، ثم أباح لهذه الأمة حل اليمين بالحنث والكفارة، فنسب الحل إلى الكفارة، ومرة إلى انحلالها بنفسها من جهة الحنث. ثم قوله: {قَدْ فَرَضَ اللّه لَكُمْ} أي: وسع عليكم، وأحل لكم تحلة اليمين؛ ففي هذا أن كل ما ذكر فيه (كتب لكم)، أو: (فرض لكم)، فهو في موضع الإباحة والتوسيع، وما ذكر فيه {عَلَيْكُمُ} فهو على الإيجاب والإلزام؛ قال اللّه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، وذلك كله في موضع الوجوب، وقال اللّه تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّه لَكُمْ}، معناه: أباح لكم الدخول فيها. وقوله تعالى: {وَاللّه مَوْلَاكُمْ}. أي: أولى بكم فيما امتحنكم من الكفارة وغيرها. أو {وَاللّه مَوْلَاكُمْ}، أي: أولى بكم في نصركم والدفع عنكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. أي: {الْعَلِيمُ} بمصالحكم أو مقاصدكم، أو بما تسرون وما تعلنون، أو بما كان ويكون، {الْحَكِيمُ}: هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، أو حكيم بما حكم عليكم من تحلة الأيمان، واللّه أعلم. ثم في قوله: {الْعَلِيمُ} إلزام المراقبة والمحافظة، ودعاء إلى التبصر والتيقظ في كل ما يتعاطاه المرء من الأفعال، ويأتي به من الأقوال. وفي قوله: {الْحَكِيمُ} دعاء إلى التسليم بحكم اللّه تعالى؛ إذ الحكيم لا يحكم على أحد إلا بما فيه حكمة وفائدة؛ فلزمه تسليم النفس لحكمه على وجه الحكمة فيه أو جهله. ثم الأصل بعد هذا: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبيح له نكاح التسع، وأمر بأن يحسن صحبتهن ويبتغي مرضاتهن، والمرء يعسر عليه صحبة الأربع بحسن العشرة، ويتعذر عليه القسم والقيام بمرضاتهن جميعًا، فكيف إذا امتحن بصحبة التسع؟! فكانت المحنة على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر النساء أعسر منه على غيره، وأمر مع هذا أيضًا بمعاملة الخلق مع اختلاف هممهم وأطوارهم بأحسن المعاملة، ولكن اللّه تعالى لما امتحنه بما ذكرنا آتاه من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية ما خف بها عليه هذه المحنة، وسهل عليه المعاملة مع الجملة، وآتاه من القوة ما ملك بها حفظ حقوقهن وإرضاء جملتهن، حتى بلغ في حسن العشرة وابتغاء المرضاة ما عوتب عليه، وبلغ من جهده في الإسلام إلى أن قيل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، وبلغ في الشفقة والرحمة على الأمة إلى أن قيل له: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وكان من عظيم خلقه ما جاوز خلقه قوة نفسه، فكادت نفسه تهلك فيه. ثم في قيامه - عليه السلام - بما يوفي حقوق التسع ويرضيهن دلالةُ نبوته ورسالته؛ لأن الناس إنما يقوون على الجماع بما يصيبون من فضل الأطعمة والأغذية، ثم هم مع أصابتهم فضول الأطعمة والأشياء اللذيذة يفْتُرون عن إيفاء حقوق الأربع، وقد كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آثر الزهدَ في الدنيا، وقلت رغبته في مطاعمها ومشاربها، وكان مع ذلك يفي بحقوقهن، فعلم بهذا أنه إنما وصل إلى ما ذكرنا بما قواه اللّه - تعالى - عليه وأقدره، لا بالحيل والأسباب، ثم أزواج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - امتُحِنَ بالقيام بوفاء حق رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأن ينظرن إليه بعين التبجيل والتعظيم، فكانت المحنة عليهن أشد من المحنة على غيرهن من النساء مع أزواجهن؛ لأن المرأة قلما تسلم عن رفع [صوتها] على صوت زوجها، إذا لم يكن له امرأة سواها، فكيف إذا كانت معها أخرى، ثم هن لو رفعن أصواتهن على صوت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب ذلك إحباط عملهن؛ على ما قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}؛ فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح اللّه تعالى صدورهن ويفسح قلوبهن؛ لاحتمال ذلك. ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما؛ لأنا امتحنا بمعرفة ما ضمنته هذه الآية والاعتقاد بذلك وهي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ} فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر إلى وجه لا يلحق رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - به ثَمَّ بنقص؛ فيسلم من المؤاخذة؛ فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر. وجائز أن يكون العتاب؛ لمكان مارية، إن كانت قصة التحريم من أجلها؛ لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما أذن له بإمساك مارية، ولم يندب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج، فإنما تتوصل إلى قضاء شهوتها برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم هو بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق، إذ الأمة لا حظ لها في القسم؛ فيلحقه العتاب من هذه الجهة، ولكن لما كان لها فيه مطمع، وهو بالتحريم قطع طمعها، فقيل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ} قضاء تلك الشهوة، أي: لم تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباحها اللّه تعالى لها، فيكون في العتاب دعاء له إلى أن يعمل بأحد الوجهين: أحدهما: وهو أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه، وإن لم يكن لها فيما طمعت حق، واللّه أعلم. والمحنة الثانية علينا: ألا ننسب إلى أزواج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات؛ لأن لأزواجه علينا حق الأمهات، فإن أمكنا أن نخرج من أمرهن وجهًا يسلم عن تنقصهن فعلنا، وإلا أمسكنا عن ذكره؛ خشية التنقص، وترك التبجيل والتعظيم؛ ألا ترى إلى قول اللّه تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهن إلا خيرًا، وألا ينظر إليهن إلا بعين التعظيم، وقال أيضًا: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}، وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن كانت كيت وكيت؛ لما يتوهم أن يكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا فنكون قد أعظمنا القول فيهن؛ فيصيبنا من ذلك عذاب عظيم؛ كما قال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ولقائل أن يقول في قوله: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}: من أي وجه صار بهتانا عظيما، ونساء رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن معصومات، بل كان يتوهم منهن الصنع الذي رمين به؟! فجوابه: أن أزواجه كن بالمحل الذي إذا ابتلين بزلة: سرًّا، أو جهرًا أطلع اللّه تعالى ذلك نبيه - عليه السلام - ألا ترى أن إحداهن لما أفشت سر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أخرى أطلع اللّه - تعالى - نبيه على ذلك، فإذا كان لا يستر عليهن هذا القدر من الزلة، فكيف يستر عليهن فعل الزنى منهن؟! ولو وجد من التي رميت فعل الزنى، لكان يسبق الاطلاع من اللّه تعالى لرسوله - عليه السلام - قبل أن يجري به التحدث على ألسن الخلق، فإذا لم يسبق أوجب ذلك المعنى براءة ساحتها عما رميت به، وصار الرامي لها به قائلا بالبهتان والزور. وفي هذه الآية دلالة جواز العمل بالاجتهاد لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا بإذن سبق من اللّه تعالى؛ إذ لو كان الإذن سابقًا، لما عوتب عليه؛ لما ذكرنا: أنه لم يعاتب لزلة ارتكبها حتى يكون فيه منع عن العمل بالاجتهاد، وإنما عوتب لمكان ما حمل على نفسه من فضل المؤنة في العشرة. ثم الأصل: أن الإماء لا حظ لهن في القسم، ولسن لهن من الأيام ما يكون مثله للحرائر حتى كان يقسم لها فيؤدي فيه حقها، وقد أذن له في إمساكها وألا يزوجها؛ فلا يجوز ألا يؤمر بتزويجها، ثم هو لا يسكن شهوتها، ثم هو إنما يصل إلى قضاء وطرها وتسكين شهوتها في يوم ذلك اليومُ لزوجة من زوجاته، فجائز أن يكون اللّه تعالى أكرمه أن يسكن شهوتها ويأتيها من حيث لا يعلم أزواجه بذلك، ثم أطلع بعض نسائه على فعله ليعلمن أن المحنة عليهن بعد العلم وقبل العلم واحدة، وأن عليهن أن يعظمن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وألا يحملهن الغيرة على الاستقبال له بالمكروه والنظر إليه بالتنقص؛ إذ لم يكن عليهن فيما يأتي تلك الأمة في أيامهن تقصير في حقهن؛ إذ كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعطي من القوة في الجماع ما يطوف على جميع نسائه في ليلة واحدة. وأما ما ذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان كف نفسه عن شرب العسل، فذلك يحتمل أيضًا، ولكن ما ذكر من تحريم مارية أمكن؛ لأنه لا يحتمل أن يكون لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في شرب العسل من الرغبة ما يدخل على نسائه المكروه لأجله، وجائز أن يلحقهن في استمتاعه بأمته مكروه فيحملهن ذلك على ما ذكر. |
﴿ ٢ ﴾