سورة {ن والقلم}

وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ن)، اختلف في تأويل نون:

فمنهم من يقول: هو الحوت؛ كقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}، فنسبه إلى النون وهو الحوت؛ ألا ترى إلى قوله: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}.

ومنهم من يقول: " النون " هو الدواة، فتأويل هذا على جهة الموافقة؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر به، فلم يبق هاهنا سوى الدواة؛ فحمله على الدواة؛ لأجل الموافقة، لا أن يكون فيه معنى يدل على إرادة الدواة منه، واللّه أعلم.

ومنهم من يقول: هي فارسية معربة " أنون كن "، أي: اصنع ما شئت، يقال هذا عند الإياس: أن المرء إذا أيس عن آخر قال له: اصنع ما شئت إذن. ومنهم من يقول: هو من الحروف المقطعة، ويشبه أن يكون كذلك؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر على أثره، وإنما يكتب بالقلم ويسطر الحروف المعجمة، فأخبر - تعالى - عظيم صنيعه ولطفه بإنشائه هذه الحروف وخلقه القلم وما يسطر عليه؛ حيث يوصل بها إلى معرفة الحكمة وكل ما يكون به المصلحة من الدِّين والدنيا، بل جعل قوام الدِّين والدنيا بها.

ومنهم من يجعل كل حرف من الحروف المعجمة اسما من أسماء اللّه تعالى، أو افتتاح اسم من أسمائه، وكذلك يُروى عن بعض الصحابة - رضي اللّه عنهم - أنه قال

ذلك.

فإن كان النون اسما من أسماء اللّه تعالى، فالقسم به قسم باللّه تعالى، وإن كان على غيره من الوجوه التي ذكرناها، فالقسم جار بما به قوام سائر الخلق ومصالحهم، وقد ذكرنا أن القسم لتأكيد ما يقصد من الأمر، واللّه أعلم.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢).

فموضع القسم هذا أقسم بما ذكر {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}: ما أنت بما أنعم اللّه عليك بمجنون؛ وهذا يحتمل أوجهًا:

أحدها: أي: نعمة ربك حفظتك عن الجنون؛ فنفى عنه الجنون بقوله: ما أنت بما أنعم اللّه عليك بمجنون، وهذا كما يقال: ما أنت بحمد اللّه بمجنون، يراد به نفي الجنون.

والثاني: أنك لست ممن خدعته النعمة واغتر بها حتى شغلته عن العمل بما له وعليه، والمجنون في النعمة هو الذي غرته النعم وألهته عن التزود للمعاد.

أو ما أنت بغافل عن نعمة السيد، وهو الرب - جل جلاله - بل تذكرها وتشكر اللّه تعالى عليها، والمجنون من غفل عن النعمة وأعرض عن شكرها.

ثم الكفرة كانوا ينسبونه إلى الجنون: إما لما كان يغشى؛ لثقل الوحي، فكانوا ينسبونه لهذا، وإما لما رأوا أنه خاطر بنفسه وروحه حيث خالف أهل الأرض، وفيها الجبابرة والفراعنة، وانتصب لمعاداتهم، ومن قام بخلاف من لا طاقة له معه وانتصب لمعاداته، فذلك منه في الشاهد جنون، فأجاب اللّه تعالى للفريقين جميعًا: أما للأول بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}.

أي: كيف تنسبونه إلى الجنون وعند الإفاقة من تلك الغشية يأتيهم بحكمة وموعظة يعجز حكماء الجن والإنس عن إتيان مثله، وليس ذلك من علم المجانين، ولا مما يمكن تحصيله في حال الجنون؛ لأن المجنون إذا أفاق من غشيته، تكلم بكلام لا يعبأ بمثله، ولا يكترث له.

وأجاب لمن كان نسبه إلى الجنون؛ لما خاطر بروحه ونفسه بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، فأخبر أن الذي حمله على المخاطرة بروحه وجسده هو أنه مأمور بالتبليغ والنذارة، فهو يقوم بما أمر، وإن أدى ذلك إلى إتلاف النفس، ثم - بحمد اللّه تعالى - لم يتهيأ للفراعنة أن يقتلوه ولا تمكنوا من المكر به، بل أظفره اللّه تعالى عليهم حتى قتلهم ورد كيدهم في نحورهم؛ فصار الوجه الذي استدلوا به على جنونه آية رسالته ودلالة نبوته، واللّه الهادي.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣).

قال الحسن: أي: لا يمن عليك المنة التي تؤذيك، ولكن يمن عليك منة رحمة وكرامة، والمن المؤذي كما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، فليس لأحد عليك منة تؤذيك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: غير مقطوع، أي: إن أجرك غير مقدر بالأعمال حتى يجري بقدر الأعمال، فإذا انقطعت الأعمال انقطع الأجر وانقرض، بل يتتابع عليك ويدر، يقال في الكلام: مننت الحبل، أي: قطعته.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: غير محسوب، أي: لا نحسب عليك النعم؛ فتفنى بفناء الحساب.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤).

خلقه العظيم: هو القرآن، ومعناه ما أدبه القرآن؛ وذلك كقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}؛ وكقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}؛ وكقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}، فأخذه بالعفو وأمره بالعرف، وإعراضه عن الجاهلين، ودفعه السيئة بالتي هي أحسن، وخفضه الجناح للمؤمنين - من أعظم الخُلُق. وتخلق بهذا كله بما أدبه القرآن، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخلق العظيم: هو الإسلام، والإسلام هو الاستسلام والانقياد لأمر اللّه تعالى، وقد استسلم لذلك، وسلم الناس من لسانه ويده، ومن كل أنواع الأذى، وذلك من أعظم الخلق.

والأصل أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كلف معاملة أعداء اللّه تعالى ومعاملة أولياء اللّه وأنصاره، وكلف أن يرفض الدنيا ويتزهد فيها، وكلف معاملة الصغير والكبير والعالم والجاهل والجن والإنس، وكلف معاملة نسائه، ومن كلف المعاملة مع هَؤُلَاءِ، لم يقم بها إلا بخلق عظيم، ورزقه اللّه تعالى خلقًا عظيمًا حتى احتمل المعاملة، وقام معهم بحسن العشرة، وحتى عوتب على عظيم خلقه بقوله: {عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، وبقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}،

وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}، وقال {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، فالذي حمله على هذه المشقة والكلفة العظيمة حسن خلقه وفضل شفقته ورحمته، فعظم خلقه أن خلقه جاوز قوى نفسه حتى ضعفت نفسه عن احتماله وكادت تهلك فيه، وغيره من الخلائق تقصر أخلاقهم عن قوى أنفسهم، وأنفسهم: تحتمل أضعاف ما هم عليه من الخلق وتضيق أخلاقهم عن ذلك، فهذا الذي ذكرنا هو النهاية في العظم، وباللّه التوفيق.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦).

قال جعفر بن حرب: {الْمَفْتُونُ} في هذا الموضع هو المفتون بضلالته، المعجب بخطئه المشغوف بجهله.

وقال الحسن: {الْمَفْتُونُ} هو الذي معه الشيطان.

وقيل: {الْمَفْتُونُ} من به الفتنة كما يقال: فلان لا معقول له، أي: ليس له عقل.

وقيل: {الْمَفْتُونُ}: المعذب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}، أي: يعذبون؛ فكأنه يقول: ستعلمون أيكم المعذب؟ وأيكم الضال؟ إن حمل على ما ذكر الحسن، وأيكم المغتر إن كان معناه على ما ذكروا أن المفتون من الفتنة.

وجائز أن يكون نسبوه إلى الاغترار فيما كان يدعي من الرسالة، ويزعمون أنه مغتر بها، ويغر بهما غيره كما قال المنافقون: {مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، فحق هذا عندنا ألا يتكلف تفسيره؛ لأنه قال: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)، فذكر هذا جوابا عما وقعت فيه الخصومة، فكانوا يزعمون أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المفتون، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يذكر أنهم هم المفتونون، فخرج هذا جوابا عن تلك الخصومة: أنهم وأنت ستبصرون، وقد وقعت الخصومات من أوجه:

فمرة كانوا يدعون أنه ساحر، ومرة كانوا يدعون أنه مجنون، ومرة بأنه ضال، ومرة أنه مفترٍ وغيرها من الوجوه، فإذا ثبت أن الآية نزلت في حق الجواب فما لم يعلم بأن الخصومة فيم كانت، لم يعلم إلى ماذا يصرف الجواب، واللّه أعلم.

ويشبه أن تكون الخصومة الواقعة في الضلال والهدى، فكانوا يدعون أنهم على الهدى، وأنهم باللّه أحق وإليه أقرب من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يدعي أنهم على الضلال، وأنه على دين الحق والهدى، يدل على ذلك ذكر الضلال والهدى بعد ذكر المفتون، وهو

٧

 قوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧).

ثم هذه الآيات كأنها نزلت جوابا من اللّه تعالى عما كان يحق لمثله الجواب عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن اللّه تعالى لما امتحن رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالعفو والإعراض عن المكافأة في الجواب، تولى اللّه تعالى الجواب عنه بقوله - تعالى -: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ}، أي: قد تعلمون أن ربكم أعلم، {بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، وسنبين لكم ذلك.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وقال في موضع آخر: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، ليس في قوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أمر من اللّه تعالى بأن يطيع المصدقين؛ لأن من صدقه وآمن به لا يجوز له أن يتقدم بين يديه فيأمره أو ينهاه عن

أمر، ويدعوه إلى الطاعة، بل ينظر إلى أمر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونهيه؛ فيأتمر بأمره، ويطيعه فيما يدعوه إليه، وأما من كذبه، فقد يدعوه إلى طاعته؛ فخص ذكر المكذب عندما نهاه عن طاعته؛ لأن الدعاء إلى الطاعة لا يوجد من المصدق دون أن يتضمن قوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أمرا بطاعة المصدق؛ وهو كقوله - تعالى -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}، فليس فيه أنه إذا لم يخش الإملاق يسعه قتله، ولكنه خص تلك الحالة؛ لأن تلك الحالة هي التي كانت تحملهم على القتل، ولم يكونوا يقدمون على القتل عند الأمن من الإملاق، وفي هذا دلالة إبطال قول من قال بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما غايره بخلافه، واللّه أعلم.

وقوله: {الْمُكَذِّبِينَ} هم المكذبون بآيات اللّه تعالى أو بوحدانيته أو برسله أو بالبعث.

ثم يجوز أن يكون هذا الأمر منهم في أول الأحوال؛ فكانوا يطمعون من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الإجابة لهم فيما يدعونه إليه؛ إذ كانوا يرجون منه الموافقة لهم بما يبذلون له من المال؛ فيكون النهي راجعًا إلى ذلك الوقت، فأما بعدما ظهرت منه الصلابة في الدِّين والتشمير لأمر اللّه تعالى فلا يحتمل أن يطيعهم أو يخاف منهم ذلك فينهى عنه.

وجائز أن يكون دعاؤهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ذكر من قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} والمداهنة هي الملاطفة والملاينة في القول.

ثم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يذكر آلهتهم بالسوء ويسفههم بعبادتهم إياها ويسفه أحلامهم ويجهلهم، وهم لم يكونوا يجدون في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -مطعنا؛ فكانوا ينسبونه إلى الكذب مرة وإلى الجنون ثانيا وإلى السحر ثالثا، وكانوا يتخذونه هزوا إذا رأوه، وكانوا يطعنون فيه من هذه الأوجه بإزاء ما كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يسفههم ويذكر آلهتهم بسوء، مع علمهم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}، فأخبر - تعالى - أنهم ليسوا يكذبونه لما وقفوا منه على الكذب، بل قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق، ولم يكونوا وقفوا منه على كذب قط، وإنما الذي حملهم على التكذيب واتخاذهم إياه هزوا ذكر آلهتهم بسوء، وكذلك قال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}، فكانت معاملتهم هذه مجازاة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩).

يخرج على هذا - إن شاء اللّه تعالى -: هو أنك لو تركت ذكر آلهتهم بسوء، ولم تسفه أحلامهم؛ لامتنعوا هم أيضًا عما هم عليه من نسبتهم إياك إلى الجنون والسحر والكذب وغير ذلك، ولكنه كان يذكرهم بما يذكرهم وهو في ذلك محق، وهم كانوا يذكرونه بما قالوا بالباطل والزور؛ فيكون قوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} فيما يدعونك إلى المداهنة، ثم هم لو داهنوا كانوا في مداهنتهم محقين، فإذا تركوا ذلك فقد تركوا الحق الذي كان عليهم، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لو داهنهم، لم يكن في مداهنتهم محقًّا؛ فلذلك نهِي عن المداهنة.

وقال بعض أهل التفسير: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، أي: لو ترفض ما أنت عليه من الدِّين؛ فيرفضون ما هم عليه من الدِّين؛ وهذا لا يستقيم؛ لأنه إذا رفض ما هو عليه من الدِّين كفر، وهم لو تركوا ما هم عليه، صاروا مسلمين، فيبقى بينهم الاختلاف الذي لأجله دعوا إلى المداهنة وودوها.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠).

قيل: إن هذه الآيات نزلت في واحد يشار إليه، وهو الوليد بن المغيرة المخزومي، وفيما يشار إلى واحد لا يطلق فيه لفظة " كل " فيقال: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}، والحلاف المهين ليس إلا واحدًا، ولكن معناه: ولا تطع هذا ولا كل من يوجد فيه هذه الصفة، ثم ذكر المرء بقوله: (حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) يخرج مخرج الهجاء والشتم في الشاهد؛ لأن ذكر المرء بما هو عليه من ارتكاب الفواحش والمساوئ تهجينٌ له وشتم، وجل اللّه ورسوله أن يقصدوا إلى شتم إنسان، فالآية ليست في تثبيت فواحشه، وإنما هي في موضع التوبيخ والزجر عن اتباع مثله، وذلك أنه كان من رؤساء الكفرة، وممن بسطت عليه الدنيا؛ فكان القوم يتبعونه وينقادون له فيما يدعوهم إلى الصد عن سبيل اللّه، فذكر اللّه تعالى فيه هذه الأشياء، وأظهرها للخلق؛ ليزهدهم عن اتباعه؛ إذ كل من كانت فيه هذه الأحوال، لم تسْخُ نفس عاقل باتباعه، ولا احتمل طبعه طاعة مثله؛ فلا يتمكن من صد الناس عن سبيل اللّه تعالى،

فكان في ذكره بالعيوب التي هي فيه زجر الناس عن طاعته؛ فذكرها لإثبات هذا الوجه، لا أن يكون فائدتها تحصيل الشتم والهجاء؛ وكذلك ذكر أبا لهب بالتب والخسار وما هو عليه من الفواحش؛ ليزجر الناس عن اتباعه.

وفي هذه الآيات دلالة نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الوجه الذي نذكره في سورة " تبت " إن شاء اللّه تعالى.

ثم قيل: المهين من المهانة، ومن المهنة، ومن الوهن، وهو الضعف.

١١

ثم قوله: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) جائز أن يكون استوجب المهانة؛ لكونه همازا مشاء بالنميم وبمنعه الخير واعتدائه؛ فيكون هذا كله تفسير {مَهِينٍ}، فإن كان هكذا فقوله: {مَهِينٍ} من المهانة هاهنا.

ثم لا يجوز أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخشى عليه طاعة من هذا وصفه، وأن يميل قلبه إليه، ولكن النهي لمكان غيره وإن كان هو المشار إليه بالذكر.

وجائز أن يكون قوله: {كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} تمام الكلام، ويكون قوله: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} على الابتداء؛ فكأنه يقول: لا تطع كل حلاف مهين، وكل هماز مشاء بنميم، وكل معتد أثيم، وكل عتل زنيم.

وتفسير الهمز يذكر في تفسير سورة الهُمَزَة، إن شاء اللّه تعالى.

والمشاء بالنميم: هو الذي يسعى في الفرقة بين الإخوان، ويقوم فيما بينهم بالقطيعة.

١٢

والمناع للخير:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان يمنع أهل الآفاق مَنْ كان بحضرته عن اتباع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويقول: إنه ضال مضل، فقيل: مناع للخير؛ لهذا.

ومنهم من ذكر: أنه كان يمنع ولده من الاختلاف إلى مجلس رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وجائز أن يكون منعه للخير هو امتناعه عن أداء الحقوق التي للّه تعالى الواجبة في ماله.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُعْتَدٍ}.

أي: معتد حدود اللّه تعالى، أو ظالم لنفسه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَثِيمٍ}.

الأثيم: هو المرتكب لما يأثم به.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣).

العتل: الفظ الغليظ، والشديد الظلوم.

وقيل: هو الفاحش اللئيم الضريبة.

وقال مجاهد: العتل: الشديد الأشر، أي: الخلق، وقد روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم "، فقال رجل من المسلمين: يا رسول اللّه، وما الجواظ، والجعظري والعتل الزنيم؟ فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أما الجواظ فالذي جمع ومنع تدعوه لظى نزاعة للشوى، وأما الجعظري: فالفظ الغليظ؛ قال اللّه تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، وأما العتل الزنيم: هو الشديد الخلق، الرحيب الجوف المصحَّح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس "، وأما الزنيم: هو الدعي الملصق بالقوم الملحق في النسب.

واستدلوا على ذلك بقول الساعر:

زَنِيمٌ ليس يُعْرَفُ مَنْ أبوه؟ ... بَغِيُّ الأمِّ ذو حسب لئيم

ويقول آخر:

زَنِيمٌ تَداعاه الرجال زِيادَة ... كَمَا زِيدَ في عرْض الأدِيم الأكَارعُ

ومنهم من قال: إنه كانت به زنمة في أصل أذنه يعرف بها.

ومنهم من يقول: الزنيم: هو العلَم في الشر.

ولقائل أن يقول: إذا كان تأويل العتل ما ذكر في الخبر، ومعنى الزنيم: الدعيّ أو ما

ذكر من العلامة، فكيف عير بهذه الأشياء، ولم يكن له في ذلك صنع، والمرء إنما يعير بماله فيه صنع لا بما لا صنع له فيه؟!

فيجاب عن هذا من وجهين:

أحدهما: ما ذكرنا: أن ذكره بما فيه من العيوب ليس لمكان المذكور نفسه، ولكن لزجر الناس عن اتباعه؛ لأن من اشتمل على العيوب التي ذكرها، وكان مع ذلك عتلا زنيما، فأنفس الخلق تأبى عن اتباعه، ففائدة تعييره بما أنشئ عليها ما ذكرنا من الحكمة لا تعييره.

والثاني: أن ذكر أصله كناية عن سوء فعله؛ ليعلم أن خبث الأصل يدعو الإنسان إلى تعاطي الأفعال الذميمة، وصحة الأصل وحسنه ونقاوته يدعو صاحبه إلى محاسن الأخلاق وإلى الأفعال المرضية.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤).

فيخبر أن من يتبعه، يتبعه لكثرة أمواله وبنيه؛ وذلك لأن كثرة المال للإنسان مِن أحد ما يستدعي قلوب الخلق إلى تعظيمه، فذكر ما فيه من العيوب والمساوئ؛ لئلا يستميل قلوب الضعفة إلى نفسه بماله، فيقول: كيف تتبعونه وهو بهذا الوصف الذي وصفه اللّه تعالى؟!

١٥

ثم أخبر عن معاملته رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) ثم قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، وإن كان عامًّا بظاهره، لكن لم يرد به العموم؛ لأن قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، ليس في كل الآيات، وإنما هو في الآيات التي هي في حق الإخبار عن الأمم السالفة، وأما إذا تليت عليه الآيات التي فيها دلالة إثبات الرسالة ودلالة التوحيد ودلالة البعث، فقوله فيها ما قال في سورة المدثر: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، وهذا دليل على أنه لا يجب اعتقاد ظاهر العموم ما لم يعلم بيقين، واللّه أعلم.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦).

قيل: شَيْنًا لا يفارقه، فجائز أن يكون جعل هذا في الدنيا؛ لكي يعلمه ويذكره من رآه فيجتنب صحبته؛ فهو يصير شَيْنًا من هذا الوجه؛ فيخرج هذا مخرج العقوبة لشدة تعنته

على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعظيم أذاه له.

وجائز أن يكون هذا في الآخرة، فيجعل اللّه تعالى في أنفه علما يتبين به، ويمتاز من غيره يوم القيامة؛ زيادة له في العقوبة، كما جعل لآكلي الربا يوم القيامة علما يعرفون به، وذلك قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.

وجائز أن يكون: نسم خرطومه خصوصا له من بمن الكفرة، فيحشره ولا أنف له؛ لأنه ذكر أن سائر الكفرة يحشرون يوم القيامة عميا وبكما، وصما، ولم يذكر في أنوفهم شيئا، فجائز أن يكون يحشر ولا أنف له، وذلك هو النهاية في القبح، واللّه أعلم.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}، فهو يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون أهل مكة ابتلوا بالإحسان إلى أتباع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما ابتُلي أصحاب الجنة بالإحسان إلى المساكين ثم أخبر أن أُولَئِكَ امتنعوا عن الإحسان إلى المساكين فحل بهم من البلاء ما ذكر؛ لامتناعهم عن الائتمار، فيذكر أهل مكة: أنهم إن امتنعوا عن الإحسان إلى أتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، حل بهم ما حل بأُولَئِكَ، وقد وجد منهم الامتناع فابتلوا بسنين كسني يوسف - عليه السلام - حتى اضطروا إلى أكل الجيف والأقذار.

ثم إن أصحاب الجنة لما مسهم العذاب، وأيقنوا به أنابوا إلى اللّه تعالى، وانقلعوا عن مساويهم، فتاب اللّه عليهم ورفع البلاء عنهم، وأهل مكة تمادوا في غيهم ولم يتوبوا فانتقم اللّه منهم بالقتل يوم بدر في الدنيا، وسيردهم إلى العذاب في الآخرة.

وجائز أن يكون اللّه تعالى لما أعزهم وشرفهم وصرف وجوه الخلق إليهم، امتحنهم

في الدنيا بتبجيل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتعظيمه، فلما أساءوا صحبته عاقبهم بما ذكرنا، ووسع على أصحاب الجنة فامتحنهم بما وسع عليهم بأن يوسعوا على غيرهم، فلما امتنعوا عن ذلك عوقبوا بزوال النعمة عنهم، وعوقب هَؤُلَاءِ بزوال العز عنهم، وأذاقهم اللّه لباس الجوع والخوف، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}.

فقوله: {مُصْبِحِينَ} أي: لأول وقت ينسب إلى الصباح، وذلك يكون في آخر الليل، كما يقال: مُمْسِين، لأول وقت ينسب إلى المساء، وإذا كان كذلك فالانصرام يقع بالليل؛ ألا ترى إلى قوله: {لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}، وهم لا يملكون بعد مضي الليل منع المساكين عن الدخول.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨).

قيل: أي: لا يقولون: إن شاء اللّه، وقيل: لا يقولون: سُبْحَانَ اللّه، فإن كان على هذا، ففيه أن التسبيح كان مستعملا في موضع الاستثناء، وقد يجوز أن يؤدي معنى الاستثناء؛ لأن في التسبيح تنزيه الرب تعالى، وفي الاستثناء معنى التنزيه؛ لأن فيه إقرارا أن اللّه تعالى هو المغير للأشياء والمبدل لها.

ثم أصحاب الجنة بقسمهم قصدوا قصدا يلحقهم العصيان فيه، وكان عهدهم الذي عاهدوا عليه معصية وعوتبوا بتركهم الاستثناء، ففيه دلالة أن اللّه تعالى يوصف بالمشيئة، لفعل المعاصي ممن يعلم أنه يختارها؛ لأنه لو لم يوصف به، لم يكن لمعاتبته إياهم بتركهم الاستثناء معنى؛ إذ لا يجوز استعمال الاستثناء فيما لا يجوز أن يوصف به الرب جل وعز، ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقال: إن شاء اللّه جار وإن لم يشأ لم يجر، وإن شاء ضل وإن شاء لم يضل، وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، فلو لم يوصف أيضًا بإضلال من يعلم منه أنه يؤثر الضلالة، لم يجز أن يلاموا على ترك الاستثناء، ولا مدخل للاستثناء فيه، والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله: {مَنْ يَشَإِ اللّه يُضْللّه وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ فتبين أنه يشاء إضلال من ذكرنا.

وفيه دلالة أن خلق الشيء غير ذلك الشيء؛ لأنه يستقيم أن يوصف اللّه تعالى بالإضلال، ولا يجوز أن يوصف بالضلال وإن كان الإضلال خلقًا له، ويوصف أنه

المحيي والمميت، ولا يستقيم أن يقال: إن شاء حيا وإن شاء مات، وإن كان هو الذي خلقهما.

ثم ليس في قوله: {إِذْ أَقْسَمُوا}: إبانة أن قسمهم كان بماذا: فإن كان بغير اللّه تعالى، ففيه إبانة أن القسم قد يكون بغير اللّه تعالى، وإن كان قسمهم باللّه تعالى، ففيه حجة لأبي يوسف على أبي حنيفة - رحمهما اللّه - أن اليمين إذا كانت مؤقتة فإن هلاك الشيء المحلوف بها قبل مضي وقتها لا يسقط اليمين، بل تبقى بحالها، ويلزم على صاحبها حكم الحنث إذا مضى وقتها؛ لأن الثمر الذي حلفوا على صرمه قد هلك قبل الوقت الذي أوجب فيه الصرم، فلو كانت اليمين تسقط عنهم بهلاك الثمر، لم يكونوا يحتاجون إلى الاستثناء؛ لأن الحاجة إلى الاستثناء لإسقاط المؤنة التي تلزمهم بالحنث في اليمين، فلو كان هلاك الثمر مسقطا لليمين ومؤنة الحنث لاستغنوا عن الاستثناء، فلما لحقتهم اللائمة؛ لتركهم الاستثناء، دل أن المؤنة تبقى عليهم إذا عَرِيَتْ عن الاستثناء وإن كانت مؤقتة.

ولكن أبو حنيفة - رحمه اللّه - يسقِط عنه اليمينَ بهلاك الشيء المحلوف عليه إذا كانت يمينه باللّه تعالى، ولا يسقطها إذا كانت بشيء من القرب والطاعات -أعني: الندب-، وليس في الآية إبانة أن يمينهم كانت باللّه تعالى؛ فجائز أن يكون يمينهم بشيء من القرب؛ فبقيت عليهم؛ ولأنه عاتبهم على ترك الاستثناء؛ لعزمهم على المعصية، والاستثناء يسقط العزيمة؛ لأن من عزم على المعصية، وقال فيه: إن شاء اللّه - لم يصر آثما بمقالته، ولا صار عازما على المعصية، وأبو حنيفة - رحمه اللّه - ليس يخرجه عن المعصية في اليمين المؤقتة إذا عقدت على أمر من أمور المعصية.

والذي يدل على أن العتاب في ترك الاستثناء؛ للوجه الذي ذكرنا: أنه لم يذكر في شيء من الأخبار، ولا ذكر في الكتاب أن أحدا منهم أمر بالتكفير، ولو كان الحنث لازما، لكانوا يلامون على ترك التكفير أيضًا، كما لحقتهم اللائمة بترك الاستثناء، واللّه أعلم.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩).

طائف من ربك: قيل: عذاب ربك، وسمي: طائفا لأنه أتاهم بالليل، وكل آت بالليل فهو طائف.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠).

قيل: أي: الجنة كأنها صرمت، وهم أصبحوا ليصرموها.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣).

قيل: يتسارُّون فيما بينهم؛ فيجوز أن تكون مسارتهم كانت في الأمر بالإسراع في المشي؛ لئلا يشعر بهم أحد من المساكين.

أو يتعجلوا في الخروج والمشي قبل الوقت الذي يصبح فيه المساكين.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥).

فمنهم من ذكر أن اسم جنتهم كان حردا.

وقيل: غدوا على أمر قد استثنوه فيما بينهم.

وقال الزجاج: الحرد له أوجه ثلاثة:

أحدها: القصد، واستدل عليه بقول الشاعر:

أقبلَ سيلٌ كان من أمر اللّه ... يحرد حردَ الحيةِ الْمُغِلَّهْ

أي: بقصد قصدها.

والثاني: هو المنع، يقال: أحردت السنة؛ إذا قحطت وذهبت بركتها.

والثالث: الغضب، فغدوا على حرد قادرين، أي: على غضب على الفقراء.

وقوله: {قَادِرِينَ}.

أي: قادرون عليها في أنفسهم.

ولقائل أن يقول بأن في هذه الآية دلالة تقدم القدرة على الفعل؛ لأنه أثبت لهم القدرة قبل الفعل، ولكن هذه القدرة ليست هذه قدرة الأفعال، وإنَّمَا هي قدرة الأسباب والأحوال.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦).

أي: قد ضللنا الطريق، فكان عندهم أنهم قد ضلوا الطريق لذلك لم يتوصلوا إلى ثمارها ثم ظهر لهم أنهم لم يضلوا الطريق، بل حرموا بركة الثمار بجنايتهم التي جنوها، فتذكروا صنيعهم، وندموا على ذلك، فأقبلوا بالاستكانة والتضرع إلى اللّه تعالى، فتاب عليهم، فلعل الذي قال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} يخرج على هذا، وهو أنا بلونا أصحاب الجنة، فتذكروا؛ فرفع عنهم العذاب، ولم يتذكر أهل مكة فحل بهم العذاب يوم بدر، كما قال: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}.

٢٨

وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ ... (٢٨).

أي: أعدلهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}.

جائز أن يكون معناه: لولا تصلون الفجر، ثم تخرجون.

وجائز أن يكون معناه: لولا تستثنون.

وقد ذكرنا أن في الاستثناء معنى التسبيح؛ لأن فيه إقرارا بأن الأمور كلها تنفذ بمشيئة اللّه تعالى، وأنه هو المغير والمبدل دون أحد سواه.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا ... (٢٩).

فهذا منهم توحيد وتنزيه.

وفي قوله: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} اعتراف بما ارتكبوا من الذنوب وإنابة إلى اللّه تعالى،

٣٠

وتمام التوبة منهم في قوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١).

فذكر المفسرون في قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}، أي: أقبل بعضهم على بعض باللوم يقول: أنت أمرتنا أن نصرمها ليلًا، وقال هذا لهذا: بل هو عملك أنت. وهذا لا معنى له؛ لأن هذا يوجب تبرئة كل واحد منهم عن ارتكاب الذنوب، وقد سبق منهم الإقرار بالذنب بقولهم: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}،

٣١

وبقولهم {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}، فكيف يبرئون أنفسهم عن الذنوب وقد اعترفوا بها؟! فهذا تأويل لا معنى له، بل معناه - واللّه أعلم - فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون على إدخال كل منهم نفسه في ذلك القول، فأقبل كل واحد منهم باللائمة على نفسه حتى يكون هذا موافقا لقوله:

{إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}.

ففي هذا إتمام التوبة، ففيه أنهم أظهروا الندامة على ما سبق منهم من أوجه ثلاثة:

مرة بما وصفوا أنفسهم بالظلم.

ومرة بما لاموا أنفسهم.

ومرة بما وصفوا أنفسهم بالطغيان.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢).

أي: يبدلنا خيرا منها إذا تبنا، وأنبنا إلى ربنا؛ لأنه لا يجوز أن يتوقعوا خيرًا منها وهم مصرون على ذنوبهم؛ إذ قد عرفوا أنهم إنما حرموا بركة الثمار بما ارتكبوا من الذنوب؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا.

ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة يقولون: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} في الآخرة إذا تبنا وأنبنا إليه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}.

إلى ما عند ربنا من العطايا والمنن لراغبون.

أو إلى ما وعد ربنا للتائبين من الذنوب لراغبون.

٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣).

كانه يخاطب أهل مكة أن كذلك العذاب في الدنيا في أن يأخذ أهله آمن ما كانوا، أو أغفل ما كانوا، كما أخذ أصحاب الجنة عند الأمن؛ إذ كان عندهم أنهم يقدرون على صرم تلك الثمار ولا يأخذهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

ففي هذا إيجاب العذاب على من لم يعلم بالعذاب ولم يؤمن به؛ لأنهم لم يؤمنوا بعذاب الآخرة ولا علموا به، ثم أوجب لهم العذاب وإن لم يعلموا ولم يعذروا بالجهل؛ لأنهم قد وقفوا على السبب الذي لو تفكروا لعلموا بالعذاب ولأيقنوا به، وفي هذا حجة لأن لا عذر لمن تخلف عن التوحيد والإيمان باللّه تعالى وإن جهل، إلا أن يكون جهله جهل خلقة؛ لأن الذي أفضى به إلى الجهل هو التقصير في الطلب، وإلا لو لم

يقصر في الطلب لوجد من يدله على معرفة الصانع ووحدانية الرب - تعالى -.

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.

فيه ترغيب لمن لزم التقوى، وهو الإسلام.

٣٥

وقوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥).

أي: أفنجعل من جعل كل شيء سوى اللّه تعالى للّه سالمًا لا يشرك فيه أحدا، كالذي أجرم فجعل في كل شيء سالمٍ للّه شركاء في العبادة والتسمية.

أو بين اللّه تعالى أنه ولي المؤمنين وعدو المجرمين، فيقول: أفيزعم أعدائي أن أسوي بينهم وبين الأخيار، والجمع بينهم، لا يفعل ذلك؛ لأن فيه تضييع الحكمة؛ لأن الحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي، وفي الجمع بينهما تضييعها.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦).

في أن أجعل عدوي بمنزلة وليي أو وليي بمنزلة عدوي، أو أي شيء حملكم على حكمكم هذا ولم يأتكم بهذا الحكم كتاب ولا معقول يوجب ذلك، فكيف تطمعون ذلك.

أو كيف تحكمون بالجور على ربكم؛ لأن من الجور أن يجمع بين الولي والعدو في دار الكرامة.

ثم قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}.

يستقيم أن يجعل هذا جوابا للفريقين: لمن ينكر البعث، ولمن يزعم أنه شريك أهل الإسلام في الدار الآخرة فيما يكرمون من النعيم.

فمن أنكر البعث، فالاحتجاج عليه بهذه الآية هو أن العقل يوجب التفرقة بين الولي

وبين العدو والكفور والشكور، فأنتم إذا أنكرتم البعث، فقد زعمتم على اللّه تعالى أنه يجعل المسلمين كالمجرمين والكفور كالشكور والعدو كالولي، ومن فعل هذا فهو سفيه لا يصلح أن يكون حكيما، ففي إنكار البعث تحقيق السفه وإثبات الجور؛ لأن من الجور أن يجمع بين الولي وبين العدو في الجزاء.

ومن ادعى الوجه الآخر، وهو التسوية بين الفريقين؛ لما تساويا في منافع الدنيا ومضارها وفي لذاتها وشدائدها وبلياتها، فعلى ذلك يكون أمرهم في الآخرة.

فجوابهم في ذلك أن الدنيا هي دار يظهر فيها العدو من الولي والشكور من الكفور، والآخرة دار جزاء العداوة والولاية.

فجائز أن يقع فيما فيه ظهور الولاية والعداوة اتفاق، ولا يجوز وقوع الاتفاق فيما فيه الجزاء؛ لأن الجزاء لعداوة سبقت ولولاية سبقت، والحكمة توجب التفرقة بين الجزاءين؛ فلا يجوز أن يجعل المسلم فيه كالمجرم؛ لما فيه من تضييع الحكمة، وليس قبل المحنة معنى يوجب التفرقة بينهما في المحنة فجاز أن يقع بينهما الاتفاق في ذلك، ولأنه لو كان يفرق بينهما في الدنيا، لكانت المحنة تخرج عن حدها، والدنيا هي دار المحنة، وإنَّمَا قلنا: إن فيه إخراج المحنة عن حدها؛ لأن المحنة تكون على الرجاء والخوف، والرغبة والرهبة، فلو فرق بين العدو والولي في الدنيا؛ فوسع على الأولياء، وضيق على الأعداء لوقع اختيار وجه الولاية على الضرورة؛ لأن من علم أنه يضيق عليه إذا اختار وجه العداوة، ويتعجل عليه العذاب، ترك ذلك الوجه، ومال إلى الولاية؛ فيرتفع وجه المحنة؛ فلذلك جاز أن يجمع بين الولي والعدو في دار المحنة؛ ليبقى وجه المحنة بحاله، ولم يجز أن يجمع بينهما في الآخرة؛ لأنها دار جزاء، والعقل يوجب تفرقة جزائهما، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، في أحكم الحكماء بالسفه؛ حيث تزعمون أنه يجمع بين الولي والعدو في الجزاء، وذلك من أعلام السفه.

أو كيف تحكمون في أحكم الحاكمين وأعدل العادلين بالجور؛ إذ تزعمون أنه يجمع

بين الفريقين في دار الكرامة، ومن الجور أن يجمع بينهما، وهم كانوا يقرون أن اللّه - تعالى - أحكم الحاكمين.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧).

فحاجهم أولًا بما توجبه الحكمة، وهو أنكم تعلمون أن الحكمة توجب التفرقة بينهما، فإن كنتم تدعون الجمع فيما بينهما بالحكمة، فأنتم تعلمون أن الحكمة توجب التفرقة بينهما، وإن كنتم تدعون ذلك من كتاب اللّه - تعالى - فأي كتاب من عند اللّه جاءكم فيوجب التسوية بينكم وبين الأولياء؟! وأي رسول أخبركم أنكم تساوون الأولياء في نعيم الآخرة؟!.

ثم وجه المحاجة بالكتاب هو أن مشركي العرب لم يكونوا يؤمنون بالكتاب ولا بالرسل، ولو كانوا يؤمنون بهما، لكانوا يقدرون أن يقولوا: إن لنا كتابًا درسناه، فوجدنا فيه ما نذكر وندعي، ورسول - صلى اللّه عليه وسلم - قد أخبرنا بذلك، ولكنهم إذا كانوا لا يؤمنون بهما صار هذا الوجه الذي ذكره اللّه - تعالى - نفي حجة لازمة عليهم، واللّه أعلم.

٣٨

وقوله: (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨).

أي: وفي ذلك الكتاب تجدون أن لكم فيه لما تخيرون.

٣٩

وقوله: (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩).

وهذا أيضًا صلة الأول، أي: هل شهدتم اللّه تعالى أقسم لكم أنه هكذا كما تحكمون؛ وهذا كقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}،

وقوله: {إِذْ وَصَّاكُمُ اللّه بِهَذَا}، فأخذهم بالمقايسة أولًا؛ وهو كقوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}، فلما لم يتهيأ لهم تثبيت ذلك بالقياس والمعقول، احتج عليهم بقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللّه بِهَذَا}، وقد عرفوا أنهم لم يشهدوا، وما ادعوه لا ثبات له إلا من الوجوه التي ذكرها، وإذا لم يثبتوا بشيء من ذلك تبين عندهم فساد دعواهم، فهذا أيضًا مثله، وهو أنه سألهم عن إيراد الحجة: إما من جهة الحكمة، أو من جهة الكتاب، أو من جهة الشهادة، فإذا لم يثبت لهم واحد من هذه الأوجه فبأي وجه يشهدون على اللّه تعالى أنه يفعل ذلك.

وقوله: {بَالِغَةٌ} أي: [وكيدة]، أو بلغت إليكم عن اللّه تعالى.

٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠).

يقول: فإن هم تعنتوا مع هذا كله في أن يدوموا على دعواهم من غير حجة تشهد لهم، فسلهم -أي: اطلبهم- بالزعيم، أي: من يكفل لهم أن الأمر كما يزعمون.

٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٤١).

أي: شركاء يشفعون لهم يوم القيامة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أم لهم شهداء ممن عندهم كتاب يشهدون لهم بما يذكرون.

٤٢

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ... (٤٢).

أي: يكشف عن موضع الوعيد بالشدائد والأهوال، والساق: الشدة، وسمي الساق: ساقًا لهذا؛ لأن الناس شدتهم في سوقهم؛ إذ بها يحملون الأحمال؛ فكنى بالساق عن الشدة.

وقيل - أيضًا - بأنهم كانوا إذا ابتلوا بشدة وبلاء كشفوا عن أسوقهم، فكنى بذكره عن الشدة، لا أن يراد بذكر الساق تحقيق الساق، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}.

يحتمل أن يكون هذا على دعاء الحال، ويحتمل أن يكون على دعاء الأمر:

فأما دعاء الحال فهو أن من عادات الخلق أنه إذا اشتد بهم الأمر وضاق فزعوا إلى السجود، فجائز أن يكون ما حل بهم من الأهوال والشدائد يدعوهم إلى السجود، فيهمون بذلك فلا يستطيعون؛ فيكون قوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ}، أي: تدعوهم الحالة إلى السجود؛ فهذا دعاء الحال، وجائز أن يؤمروا بالسجود، ويمتحنوا به.

ثم إن كان التأويل على الأمر فيحتمل أن يكون ذلك يوم القيامة، وجائز أن يكون وقت الموت.

وإن كان على دعاء الحال فذلك يكون عند الموت.

ثم الأمر بالسجود يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون على حقيقة الفعل، ويحتمل أن يكون على الاستسلام والخضوع؛ إذ السجود في الحقيقة هو الخضوع والاستسلام، وكل سجود ذكر في القرآن وأريد به عين السجود، فليس يجب بتلاوته السجود. وكل ما أريد منه الاستسلام والخضوع فهو الذي

يجب بتلاوته السجود.

ثم إن ذكر في أهل الكفر فإنما يراد منهم الاستسلام بالاعتقاد ليس بعين الفعل، وأهل الإسلام قد وجد منهم الاستسلام بالاعتقاد، فيلزمهم أن يستسلموا من جهة الفعل، فجائز أن يكون هذا لما عاين الشدائد والأفزاع، استسلم للّه - تعالى - وخضع له؛ فلم يقبل ذلك منه؛ لأن تلك الدار دار جزاء، وليست بدار محنة.

والثاني: أن السجود هو بذل النفس لما طلب منه طائعًا، وإذا أشرف المرء على الموت طلب منه في ذلك الوقت بذل روحه لا بذل نفسه، فإذا كان كافرًا باللّه - تعالى - اشتد عليه بذل روحه؛ لما يعلم أن مصيره إذا قبض إلى العذاب، وكره ذلك أشد الكراهة، كما قال - عليه السلام - " من كره لقاء اللّه، كره اللّه لقاءه، ومن أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه "، فسئل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " ذلك عند الموت "؛ فهو لما يرى من المكروه يحل به بعد الموت يكره قبض روحه، فيكون قوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} إن كان المراد من قوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} عند الموت على ذلك، والمؤمن إذا رأى ما أعدّ له من الكرامات ود أن يقبض روحه سريعًا ليصل إلى الكرامات، وإن كان هذا بعد البعث، وأريد من السجود تحقيقه، ففيه تذكير لهم أنهم لم يكونوا يمتحنون في الدنيا بالسجود؛ لمنفعة تصل إلى اللّه تعالى أو لحاجة له إلى ذلك، وإنما امتحنوا بالسجود؛ لمكان أنفسهم، إذ لو كان الامتحان، لمنفعة تنال اللّه تعالى، لما كانوا يمنعون عنه في القيامة، واللّه أعلم.

وقال كثير من أهل الكلام: لا يجوز أن يمتحنهم اللّه تعالى بعد البعث بالسجود؛ إذ تلك الدار ليست بدار محنة، وإنَّمَا الأمر بالسجود يخرج مخرج التوبيخ؛ وكذلك زعم جعفر بن حرب أن هذا على التوبيخ، يقال للرجل إذا كان مكثرًا فذهب ماله ولم يؤد الزكاة، ولا حج في حال يسره -يراد به التوبيخ-: حج الآن وزَكِّ الآن، ليس يراد به إيجاد الفعل، ولكن يريد به تذكيره وتوبيخه؛ فهذا الذي قالوه يحتمل.

ويحتمل أن يمتحنوا بالسجود للوجوه التي ذكرنا، وهو أن يظهر عند الممتحنين أن منافع سجودهم راجعة إليهم لا إلى اللّه - تعالى -.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} فجائز أن يكون هذا على نفي استطاعة الأحوال والأسباب أو لا يستطيعون للأشغال التي حلت بهم والأفزاع التي ابتلوا بها.

٤٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣).

ففيه أن الفرائض إنما تجب عند سلامة الأسباب، واللّه أعلم.

٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}.

فجائز أن يكون الحديث هو القرآن، وجائز أن يكون أريد البعث، وهو الغالب أن يكون هو المراد.

وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} قَالَ الْقُتَبِيُّ: الاستدراج هو الاستدناء من المهلكة درجة فدرجة حتى يهلك.

وقيل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} أي ننعم عليهم وننسيهم شكرها بالإملاء، وينزل بهم العذاب والهلاك أينما كانوا.

٤٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥).

فالأصل أن الكيد والمكر والاستدراج يقتضي معنى واحدًا، وهو أن يأخذه من وجه أمنه ويراقب وجوه هلاكه، وهو يستعمل في الخلق على وجه يذم أهله، فهو - أيضًا - يضاف إلى اللّه تعالى، ليس على جعل ذلك اسمًا له؛ إذ لا يجوز أن يسمى ماكرًا كائدًا مستدرجًا، وإنما يضاف إليه في حق الجزاء، وذلك الجزاء في الحقيقة، ليس بكيد؛ ولكن قد يجوز أن يسمى الجزاء باسم ما له الجزاء؛ كما يسمى جزاء السيئة، سيئة وإن

لم يكن الجزاء سيئة، كما سمى جزاء الاعتداء اعتداء، فكذلك سمي جزاء الكيد كيدًا على هذا المعنى، لا أن يكون ذلك منه كيدًا في الحقيقة.

أو نقول بأن الذم إنما يلحق الماكر والكائد إذا استعمله في وليه وصفيه، فأما إذا مكر بعدوه وكاد به، فذلك مما لا بأس به، ولا يذم عليه فاعله، وما أضيف من الكيد إلى اللّه تعالى؛ فذلك حالٌّ بأعدائه ليس بأوليائه؛ فلم يكن فيه إلحاق معنى مكروه باللّه تعالى.

ثم الأصل أن ينظر في الفعل لماذا أضيف إلى اللّه تعالى بحقيقة أم بمجاز؟ فإن كانت الإضافة بحكم المجاز، فلا يجعل ذلك اسمًا له؛ لأنه لا يجوز أن يقال: هو كاتب، نافخ روح، ولا كائد، ولا ماكر؛ إذ لا يتحقق ذلك منه، وما كانت إضافته لأجل التحقيق فإنه يستقيم أن يسمى به؛ لأنه يستقيم أن نسميه: منعما مفضلًا خالقًا، رحمانًا؛ إذ الإنعام والإفضال والخلق موجود منه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَتِينٌ} أي: قوي ثابت، فقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: كيدي لأوليائي على أعدائي ثابت، ليس ككيد الأعداء؛ لأن كيد الأعداء بكيد الشيطان، وكيد الشيطان ضعيف، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.

والأصل أن الكيد الذي أضيف إلى اللّه تعالى حق، والحق قوي ثابت لا مدفع له، وكيد الشيطان باطل، وليس للباطل قرار، بل هو كما قال اللّه تعالى: {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.

٤٦

وقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦).

الأصل أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا يدعون الخلق إلى ما يستثقله عقل أو طبع، بل كانوا يدعونهم إلى ما يخف ويسهل على الطبع والعقل؛ ليكون أقرب إلى الإجابة له؛ لأنهم كانوا يدعونهم إلى التوحيد، وهم كانوا يعبدون غير واحد من الآلهة، وعبادة الواحد أيسر من عبادة عدد، وكانوا يدعونهم إلى الصدق وإلى مكارم الأخلاق، والإجابة بمثله أمر يسير؛ فيقول: أحملت عليهم أجرًا فثقل عليهم ذلك حتى تركوا الإجابة لك مع تيسيره عليهم، فيخرج ذكر هذا مخرج تسفيه أحلامهم.

٤٧

وقوله - تعالى -: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧).

فهذا يحتمل أوجهًا:

أحدها: أن عندهم علم الغيب، فهم يكتبون، فهذا بالذي ادعوا أنا نجعل المسلمين

كالمجرمين، وذلك مكتوب عندهم، أو عند سلفهم علم الغيب، فوجدوه في كتبهم، ويعلم به خلفهم ليخاصموك به، ثم هم قوم لم يكونوا يؤمنون بالكتب ولا بالرسل، فكيف يخاصمونك ويكذبونك فيما تخبرهم؟ وإنما يوصل إلى التكذيب بما ثبت من العلم بخلافه ويتأيد بأحد الوجهين اللذين ذكرناهما.

أو يكون هذا في موضع الاحتجاج عليهم حين زعموا أنا نعبد الأصنام؛ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللّه زلفى، ويكونوا لنا شفعاء، فما الذي حملهم على هذه الدعوى أم عندهم علم الغيب فهم يكتبون؟!

أو أن يكون القوم قد ألزموا أنفسهم الدِّينونة بدين اللّه - تعالى - وأقروا له بالألوهية، وذلك يلزمهم العمل بما فيه تبجيل اللّه تعالى، وما به يشكر الخلائق، وذلك لا يعرف إلا بالرسل - عليهم السلام - فقد عرفوا حاجة أنفسهم إلى من يعلمهم علم الغيب، فما لهم امتنعوا عن الإجابة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، مع حاجتهم إليه، أي: ما عندهم علم الغيب؛ فيستغنون به عن الرسول، عليه السلام.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨).

إن حكم اللّه تعالى في الرسل ثلاث:

أحدها: ألا يدعوا على قومهم بالهلاك، وإن اشتد أذاهم من ناحيتهم حتى يؤذن لهم.

والثاني: ألا يفارقوا قومهم وإن اشتد بهم البلاء إلا بإذن اللّه تعالى.

والثالث: ألا يقصروا في التبليغ وإن خافوا على أنفسهم.

ثم من وراء هذا عليهم أمران:

أحدهما: أنهم أمروا ألا يغضبوا إلا للّه تعالى.

والثاني: ألا يحزنوا لمكان أنفسهم إذا آذاهم قومهم، بل يحزنوا لمكان أُولَئِكَ القوم إشفاقًا عليهم منه ورحمة بما يحل عليهم من العذاب بتكذيبهم الرسل، فهذا هو حكم ربه.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: لا تجازهم بصنيعهم ولا تستعجل عليهم، بل اصبر لحكم ربك بما حكم عليهم من العذاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}.

قيل: نادى على قومه بالدعاء عليهم بالهلاك، لكنه لم يظهر دعاؤه على قومه عندنا، وإنما ظهرت منه المفارقة والمغاضبة على قومه بقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}، ولم يكن له أن يفارقهم، فيقول: اصبر بما حكم عليك ربك من ترك المفارقة عن قومك، ولا تكن كصاحب الحوت الذي فارق قومه قبل مجيء الإذن له من اللّه تعالى.

والثاني: أن يونس - عليه السلام - لم يصبر على أذى قومه، بل فارقهم حتى ابتلي ببطن الحوت، ثم فزع بالدعاء إلى اللّه تعالى؛ ليخلصه من بطنه، فيقول: عليك بالصبر مع قومك، ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر مع قومه؛ فابتلي بما ذكر حتى احتاج إلى أن ينادى في الظلمات: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فتبتلى أنت أيضًا بمثل ما ابتلي هو به، ثم لا يجوز أن يلحقه اللائمة ويعاتب على ما دعا في بطن الحوت؛ لأن ذلك عذاب ابتلي به، ولا ينبغي للمرء أن يصبر على العذاب، بل عليه أن يبتهل إلى اللّه تعالى؛ ليكشف عنه، وإنَّمَا لحقه اللائمة بمفارقة قومه وتركه الصبر معهم.

٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩).

نعمة ربه: هو ما وفقه للتوبة والإنابة، وما قبل منه توبته، وكان له ألا يقبلها؛ إذ هو إنما أتى بالتوبة بعد أن صار إلى تلك المضايق، وابتلي بالشدائد وجاءه بأس اللّه تعالى، ومن حكمه أنه لا يقبل التوبة بعد نزول العذاب والشدة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ} إلى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}، فإذا قبل توبته، كان فيه عظيم نعمة من اللّه تعالى عليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ}.

وهو المكان الخالي، ولو لم يتب اللّه تعالى عليه، لكان يلبث في بطنه إلى يوم يبعثون، ثم ينبذ بعد ذلك بالعراء وهو مذموم، لكن اللّه تعالى تفضل عليه بقبول توبته؛ فنبذه بالعراء، وهو سقيم أي: محموم؛ فقوله: {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}، لو عاقبه بالنبذ، ولكن إنما نبذ بالعراء بعد قبول التوبة؛ فلم يصر مذمومًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.

فنعمته عليه كانت من ثلاثة أوجه:

أحدها: في تذكير الزلة، وذلك كان بالتقام الحوت إياه، وكان عنده أن مفارقته قومه لم تكن زلة؛ لأنه إنما فارقهم لأن قومه كانوا له أعداء في الدِّين، ففارقهم لينجو منهم، وليسلم له دينه ولا يسمع المكروه منهم في اللّه تعالى.

والثاني: أن في مفارقته إياهم تخويفًا منه لهم وتهويلاً؛ لأن القوم كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا عندما يريد أن ينزل بهم العذاب، وذلك مما يدعوهم إلى الإقلاع عما هم فيه ويدعوهم إلى الفزع إلى اللّه تعالى، ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى كان محمودًا مصيبًا؛ ولأن مفارقته إياهم هي التي دعتهم إلى الإسلام، فأسلموا لقوله: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، ومن كانت مفارقته لهذه الأوجه التي ذكرناها، لم تعد مفارقته زلة، بل عدت من أفضل شمائله، ولكن لحقته اللائمة مع هذا كله؛ لما ذكرنا أن الرسل لا يسعهم أن يفارقوا قومهم وإن اشتد عليهم الأذى من جهتهم إلا بعد وجود الإذن من اللّه تعالى، وكانت مفارقته تلك بغير إذن، واللّه أعلم.

ثم كان في ظنه أنه ليست تلك المفارقة زلة، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}، قيل في التأويل: أي: لن نضيق عليه.

وقيل: أي: لن نعاقبه، فلولا أن عنده أن تلك المفارقة ليست بزلة وإلا كان لا يظن هذا؛ فتبين عنده بالتقام الحوت إياه وبما أفضى إليه من الشدائد أن تلك زلة منه، وتذكير الزلة من إحدى النعم.

والنعمة الثالثة: ما ذكرناها من توفيق اللّه تعالى إياه بالتوبة، وإكرامه عليه بقبولها، ومن حكمه ألا يقبل التوبة ممن جاءه بأس اللّه، وأحاط به العذاب، وهو إنما فزع إلى التوبة بعدما عاين العذاب، وجاءه بأس اللّه تعالى.

وجائز أن يكون حكمه هذا في الكفرة، ليس في المؤمنين؛ لأنه قال في آية أخري: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، ففيه إشارة إلى أن من سبق منه الإيمان قبل أن يأتيه آيات ربه أو سبق منه كسب الخير من بعد الإيمان؛ فإن إيمانه في ذلك الوقت ينفعه، وقال في أهل الكفر: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ)، فهذا حكمه في أهل الشرك،

وقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}، وقال في المؤمنين: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، فثبت أن ما ذكرنا من الحكم هو حكمه في أهل الكفر، ليس في أهل الإيمان، والعقل يدل على هذا، وذلك أن المؤمن قد علم أن الذي سبق منه زلة وارتكاب معصية؛ فهو ليس يحتاج إلى إثبات آيات فتنبهه على أن الذي فعله زلة، فجائز أن تقبل منه التوبة في ذلك الوقت كما تقبل منه قبل تلك الحالة، وأما الكافر فعنده أن ما سبق منه لم يكن زلة ومعصية؛ فيحتاج إلى آيات تنبهه على غفلته، وتذكره بأن الذي فعله معصية، فإذا نزل به البأساء والشدة، فذلك يمنعه عن النظر والتدبر؛ فلا يكون إيمانه عن تحقيق ويقين فلا ينفعه.

والثاني: أنه يفزع إلى التوبة والإيمان؛ ليدفع عن نفسه البأساء؛ لا ليدوم عليه لو كشف عنه العذاب؛ كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا}، فهذا لا ينفعه إيمانه.

فَإِنْ قِيلَ: إن قوم يونس - عليه السلام - قد نفعهم إيمانهم وهم آمنوا بعدما أيقنوا بالعذاب؟

فجوابه من وجهين:

أحدهما: أنه يجوز أن يكون عذابهم موعودًا ولم يكن مشاهدًا قريبًا.

وجائز أن يكون اللّه علم صدقهم في إيمانهم لو مكثوا فكشف عنهم العذاب لما كانوا متحققين، وغيرهم كان يفزع إلى الإيمان؛ ليكشف عنه العذاب، ثم يعود إلى كفره؛ فلم يقبل منه.

وجائز أن يكون من حكم اللّه تعالى ألا يقبل من أحد التوبة إذا حل به العذاب، ولكنه يقبلها من المؤمنين؛ إفضالا وإنعامًا، ولا يتفضل على الكافرين الذين آثروا الدنيا على الآخرة، وعلى قول المعتزلة: ليست للّه تعالى عليه نعمة ولا على أحد من أهل الإسلام؛ لأن من قولهم: إن اللّه تعالى إذا علم من كافر أنه يسلم يومًا من الدهر وإن كان بعد ألف سنة، فليس له أن يميته قبل أن يسلم، وعليه أن يوفقه للتوبة، وعليه أن يقبل منه التوبة، فإذا كان هذا كله حقًّا عليه للعبد، لم يكن له موضع نعمة عليه في قبول التوبة؛ لأن من قضى حقًّا عليه وأوصله إلى مستحقه لم يعد ذلك منه إنعامًا؛ فلا يكون لقوله: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} معنى، وقد قال اللّه تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}، ولو كانت الهداية واجبة عليه، لم يكن له عليهم موضع امتنان.

٥٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ... (٥٠).

أي: اختاره واصطفاه للرسالة؛ ألا ترى إلى قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.

وقوله: {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.

فهذا وصف كل نبي في الآخرة.

٥١

وقوله - تعالى -: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١).

منهم من يقول: هذا على التحقيق، وصرف ذلك إلى قوم بأعيانهم قد عرفوا بخبث الأعين وحلول الآفات بمن يعينونه من أهل الشرف والتبجيل، ثم اللّه - تعالى - بفضله عصم رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلم يتهيأ لهم أن يعينوه، فكان فيه تقرير رسالته وآية نبوته عند أُولَئِكَ الكفرة.

فإن قال قائل: إنهم كانوا يعدون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من المجانين، ويقولون: إنه لمجنون، والمجنون لا يعان، وإنما يعان أهل الشرف والحجا وذوو الأحلام والنُّهى، فما أنكرت أنه سلم من الآفة حتى يقصد إليه بالعينة.

فجوابه أنهم وإن كانوا يعدونه من جملة المجانين، فإنهم سمعوا منه ذكرًا عجبًا وهو القرآن، ومن أعطي مثل ذلك الذكر والشرف، فهو مما يقصد إليه بالحسد، فكانوا يعينونه لذلك المعنى، ثم لم يضره كيدهم، ولا نفذت فيه حيلهم؛ فأوجب ذلك تنبيههم أنه رسول من اللّه تعالى.

ومنهم من حمله على التمثيل ليس على التحقيق، فيقول: وإن يكاد الذين كفروا لشدة بغضهم وعداوتهم إياك، ليزلقونك بأبصارهم، كما يقال: نظر إلى فلان نظرًا كاد أن يقتلني، فيقوله على التمثيل.

ثم قوله: {لَيُزْلِقُونَكَ} أي: يسقطونك ويصرعونك.

وقوله: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} وهو القرآن.

وقوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}.

قد وصفنا أنهم لأي معنى كانوا ينسبونه إلى الجنون، وذكرنا ما يرد عليهم مقالتهم، وينفي عنهم الريب والإشكال.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٥٢).

فجائز أن يكون الذكر هو القرآن، وجائز أن يكون أريد به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ قد تقدم ذكرهما جميعًا؛ إذ كل واحد منهما ذكر، يذكر ما للخلق، وما على الخلق، وما ينتهي إليه عواقبهم، ويذكر ما يؤتى وما يتقى، واللّه أعلم بالصواب.

* * *

﴿ ٠