سُورَةُ الْمَعَارِجِبِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ) قرئ بتسكين الألف، ومعناه: سَالَ واد بعذاب واقع للكافرين، أي: جرى واد بعذاب واجب. والقراءة العامة بالهمزة من السؤال، وتأويله على سؤال القوم العذاب بقولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وقولهم: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا}. وقيل: هو النضر بن الحارث، سأل ذلك، فقتل يوم بدر بعدما أسر؛ هكذا قال بعض أهل التأويل. ولكن عندنا أن هذا وإن كان في الظاهر خارجًا مخرج السؤال، لكن لم يكن سؤاله هذا لينزل به العذاب في التحقيق، وإنَّمَا هذا منه على جهة الاستبعاد بالعذاب والاستهزاء برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والذي حملهم على الاستبعاد والإنكار هو أنه كان عند أهل مكة: أنه لو كان فيهم نبي، لكانوا هم أحق بالنبوة من رسول اللّه - عليه السلام - لأنهم هم الذي بسطت لهم الدّنيا، وهم الذين لهم نفاذ الكلام في البلاد، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم تبسط له الدنيا، ولا كان لكلامه فيما بينهم نفاذ، فيظنون بهذا أنهم أقرب منزلة عند اللّه - تعالى - من النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يستقيم في العقل أن يصل الولي إلى عدوه، ويحسن إليه ويدع صلة وليه ويجفوه، فهذا الظن الذي ذكرنا هو الذي حملهم على تكذيب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبرهم من حلول العذاب بالتكذيب، وعلى الاستهزاء به، فكان سؤال السائل على جهة الاستبعاد والإنكار للعذاب، لا أن كانوا مقرين به ثمّ استعجلوه. وذكر أن أبا جهل قال يوم بدر: اللّهم انصر أبرنا قسمًا، وأوصلنا رحمًا، وأقرانا للضيف؛ فكان يدعو بهذا لما عنده: أنه أشرف حالًا وأعلى منزلة عند اللّه - تعالى - من مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأتباعه، ومن كان هذا شأنه، فهو أولى أن ينصر؛ قال اللّه - تعالى -: {وَإِذْ قَالُوا اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}، ولو لم يكن عندهم أنهم أقرب منزلة وأحق أن يكونوا أولياء، وإلا لم يكونوا يجترئون أن يسألوا بهذا، فهذه الشبهة التي ذكرناها هي التي أورثت لهم ما ذكرناها من الظن، حتى زعموا أنهم أحق بالرسالة، وظنهم هذا يتولد من ظن إبليس، وذلك أن إبليس قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}؛ فظن أن أمر الفاضل للمفضول بالسجود في الخضوع له خارج عن حد الحكمة؛ فصار إلى ما صار إليه من الخزي واللعن، فكذلك هَؤُلَاءِ لما رأوا من نفاذ كلمتهم وسعتهم في الدنيا ظنوا أنهم أقرب إلى اللّه - تعالى - إذ التوسع عندهم دلالة الولاية والقرب. ثم سفههم هو الذي حملهم على التكبر على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وترك الخضوع، وإلا لو أعطوا النصفة من أنفسهم، لكان يجب أن يكونوا هم أطوع خلق اللّه - تعالى - لأن الواجب على من كثرت عليه النعم من آخر أن يكون هو أشكر للنعم، وأطوع له فيما يدعوه إليه من الذي قلَّت نعمه عليه، فإذا كانوا مقرين أن نعم اللّه عليهم أكثر، وإحسانه إليهم أوفر، أوجب ما ذكروا أن يكونوا هم ألزم لطاعته، وآخذ لما يأمرهم به، وكذلك إبليس اللعين إذا رأى لنفسه فضلا، وإنما استوجب ذلك بما أنعم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عليه، كان الحق عليه أن يتسارع إلى طاعته وينقاد لما أمر به، لا أن يظهر الخلاف من نفسه وترك الائتمار بأمره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي: هو واقع بهم لا محالة في علم اللّه تعالى. أو {وَاقِعٍ} بمعنى: سيقع، كما يقال: قابل: أي: سيقبل. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) فإن كان قوله: {لِلْكَافِرِينَ} صلة قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، فحقه أن يقول: على الكافرين، ولكن اللام من حروف الإضافة والخفض، وحروف الإضافة مما يستبدل بعضها ببعض؛ فجعل اللام بدلا عن " على ". وإن كان قوله: {لِلْكَافِرِينَ} صلة قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} فمعناه: أن ليس على الكافرين دافع لعذاب اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بل واقع بهم لا محالة، فأبدلت اللام مكان " عن "؛ لأنهما جميعًا من حروف الخفض. وقد يدفع العذاب عن المسلمين من وجوه: إما برحمة اللّه - تعالى - أو بشفاعة الرسل والأخيار، وإما بحسنات سبقت منهم، توجب تكفير سيئاتهم. فأما الكفار فلا تنالهم رحمته، ولا شفاعة أحد من الخلائق، وليست لهم حسنات تكفر سيئاتهم، فليس لهم ما يدفع عنهم العذاب. وجائز أن يكون معناه: أن الذين ظنوا أنه ينصرهم عند النوائب وحلول الشدائد، لا يقوم بنصرهم، ولا يشفع لهم؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون الملائكة على رجاء أن يشفعوا لهم، ويقربوهم إلى اللّه تعالى. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنَ اللّه ذِي الْمَعَارِجِ (٣) أي: ذلك العذاب لهم من اللّه - تعالى - ذي المعارج؛ أي: من له المعارج؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}، أي: الذي له العرش. واختلفوا في المعارج: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي المصاعد، وهي السماوات، وسمَّاهن مصاعد؛ لأن بعضها أصعد من بعض وأرفع، ولو قال: ذي المسافل، كان مستقيمًا، واقتضى ما يقتضي قوله: ذي المعارج؛ لأن بعضها إذا كان أصعد من بعض؛ فالذي تحتها أهبط وأسفل، ولكن ذكر المصاعد؛ لأن هذا أعلى في الوصف. ثم في ذكر هذا عظيم نعمه وإحسانه إلى خلقه؛ حيث خلق السماوات والأرض مسكنًا لأهلها، وبسط الأرض مسكنًا لأهلها، حتى إذا عرفوا هذا عرفوا أن له أن يفضل بعضًا على بعض، وله أن يصطفي من يشاء من الناس للرسالة ويختص بها. وذكرهم - أيضًا - حكمته وعلمه وقدرته وسلطانه حيث وضع سماء على سماء، وخلقهن طباقًا من غير عمد تحتها تمسكها، أو علائق من فوقها تربطها، فتبين أنه يمسكها بحكمته وقدرته وسلطانه؛ فيكون في ذكر كل وجه مما ذكرنا إزالة الشبهة التي اعترضت لهم في أمر البعث والرسالة وإيضاح بأن من قدر على ما ذكرنا لقادر على الإعادة بعد الإفناء. وقيل: المعارج: المعالي، أي: الذي له العلو والرفعة، كما قلنا في قوله: الحمد للّه، أي: لا أحد يستحق الحمد في الحقيقة، وما حمد أحد إلا وذلك في الحقيقة للّه - تعالى - لأنه به استفاده، فعلى ذلك قولنا: له العلو والرفعة، أي: ليس أحد يستفيد العلو والكرامة إلا وحقيقة ذلك للّه - تعالى - لأنه استفاده به. والثاني: أي: هو الموصوف بالعلو والجلال عما يقع عليه أوهام الخلق. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) يحتمل أن يكون معنى قوله: {تَعْرُجُ} ليس عن هبوط يصعد ويعرج، لكن أنشأهم كذلك معروجين؛ كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ}، أي: أنشأهم كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}، ليس أنها كانت في موضع منحط فرفعها، لكنه كذلك خلقها مرفوعة؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ}، أي: أنشأهم كذلك ليستعملهم {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. ووجه آخر -وهو الأشبه بالآية-: وهو ما قالوا: إن الملائكة تعرج إليه؛ أي: إلى الموضع الذي منه أرسلهم إلى أنواع الأمور في يوم لو قدر ذلك العروج بعروج البشر وسيرهم، لكان مقدار خمسين ألف سنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}، وقال في موضع آخر: {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}، فيحتمل أن يكون هذا الوقت وقت تقدير عروج الملائكة وصعودهم، وهو أن البعض ينزل منهم، ثم يعرج في يوم واحد، مقدار ذلك المسير ألف عام، والبعض منهم ينزل ويعرج في يوم واحد مسيرة خمسين ألف سنة؛ فيكون في هذا إبانة أن ليس أهل سماء أحق أن يدور عليهم تدبير أهل الأرض من أهل سماء؛ بل ينزل أهل سماء إلى أهل الأرض مرة؛ لما يراد من تدبير، وينزل أهل سماء أخرى بتدبير آخر، ثم من أي سماء يرسل، فهو يصعد إلى تلك السماء في يوم واحد، إن أرسل من السماء السابعة أو السادسة أو الأولى، فهو يصعد إليها في ذلك اليوم، فيكون في هذا تبيين قوة بعض الملائكة على بعض: أن فيهم من يسير مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد، وفيهم من يسير مسيرة ألف سنة، ومن قدر على أن يخلق في خلق من خلائقه من القوة ما يقطع هذه المسافة في يوم واحد، لا يحتمل أن يعجزه شيء؛ فيكون في ذكر هذا تحقيق كون ما به هول أمر القيامة والبعث. وجائز أن يكون قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} راجعا إلى يوم القيامة، فذكر في موضع أن مقداره ألف سنة، وذكر هاهنا أن مقداره خمسين ألف سنة، والأصل أن ذلك اليوم ليس بذي حد ولا له غاية ينتهى إليها، فما يخبر من الحد فيه، فهو يخرج مخرج تعظيم ذلك اليوم؛ ليقع به التهويل والتقريع، فبأي شيء يعظم ذكره في القلوب يذكره؛ فمرة ذكره بالخلود، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}، ومرة قال: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}، ومرة قال: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}، ومرة قال: {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}، إذ هذه الأشياء مما يعظم ذكرها في القلوب، وكذلك الألف هي عظيمة في القلوب، فإذا كانت هذه الأشياء يعظم ذكرها في القلوب فذكر الشيء الواحد من الجملة أو ذكر الأشياء يقتضي معنى واحدا. ومنهم من يصرف الألف إلى تقدير عروج الخلائق إلى السماء في ذلك اليوم، ويصرف قوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} إلى تقدير المقام للحساب قبل أن يدخلوا النار. وجائز أن يكون تأويله على ما ذكره بعض أهل التفسير، وهو أن اللّه تعالى لو جعل حساب الخلق يومئذ إلى الخلق، فتكلفوا أن يفرغوا من حسابهم، لن يفرغوا منه إلا في مقدار خمسين ألف سنة، لكن اللّه تعالى بلطفه يحاسبهم حسابا يفرغون منه في أدنى في وقت حتى يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار في النار؛ على ما جاء في الأخبار، وذلك قوله: {وَاللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ}. فَإِنْ قِيلَ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}، أن كيف قدر ذلك بصعودنا، ونحن لم يمكن لنا من الصعود، ولم ننشأ على ما في طبعنا إنشاء الصعود حتى ننظر: أنه ألف سنة أو أقل أو أكثر. وجوابه أن يقال: إن تأويله - واللّه أعلم -: أنه لو بسط ما بين السماء والأرض، وصار بحيث يمكن السير عليه، لم يقطع ذلك المسير إذا احتجنا إلى قطعه إلا بألف سنة مما تعدون. وجائز أن يكون تأويله: أن لو جُعل لنا إلى السماء بابٌ، وفتح، وظللنا نعرج إليها لم نتوصل إليها إلا في ألف عام. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥) قيل: الصبر الجميل هو صبر لا جزع فيه، والصبر الذي لا جزع فيه هو أن يصبر صبرا لا يرى عليه أثر الصبر، بألا يظهر في وجهه كراهة، ولا عبوسة، وهو أن ينظر إلى من آذاه بعين الرضا والشفقة، ليس بعين السخط والكراهة. أو الصبر الجميل ألا يكافئهم، ولا يدع شفقته ورحمته عليهم بما يؤذونه، وقد كان - عليه السلام - كذلك مشفقا بهم رحيما، حتى بلغت شفقته ورحمته وحزنه على كفار قومه مبلغا كادت نفسه تهلك فيها، كما قال اللّه، تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}، فالرسل - عليهم السلام - كانوا إذا أوذوا لم يكونوا يحزنون لمكان أنفسهم بما أوذوا، بل كانوا يحزنون لمكان من يؤذيهم خوفا من أن يحل بهم الهلاك والبوار بإيذائهم رسل اللّه تعالى، وإشفاقهم على قومهم هو الذي كان يحزنهم؛ ليس سوء صنيعهم ومعاملتهم معهم. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) أي: بعيدا أن يكون، فيكون على النفي والإنكار، وقد يستعمل هذا الحرف في موضع النفي؛ يقول الرجل في المناظرة لصاحبه: أبعدت في القول؛ إذا أجاب بشيء لا ثبات له ولا صحة، فيريد بقوله: " أبعدت ": النفي؛ أي: ليس كما تقول، وقال اللّه تعالى: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}، ومعناه على نفي النداء؛ أي: لا ينادون. أو أن يكون قوله: {بَعِيدًا} أي: مستبعدا كونه، فبعد عن أوهامهم حتى أنكروه. ٧(وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧) أي: قريبا كونه، إن كان معنى قوله: {بَعِيدًا} أي: بعيدا كونه. أو {وَنَرَاهُ قَرِيبًا}، أي: كائنا، وقد قرب وقت وقوع ذلك بهم، وكل ما هو كائن فهو قريب. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨) فكأنهم سألوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الوقت الذي وعدوا أن يقع بهم العذاب متى وقته؟ فنزلت هذه الآية: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}. وقيل: المهل: عكر الزيت، وهو درديُّه؛ فجائز أن يكون هذا على التحقيق، وهو أنها تتغير في ذلك اليوم من لون إلى لون، فتحمر مرة، وتصفر أخرى؛ لشدة هول ذلك اليوم، فتكون كدردي الزيت لينا ولونا متغيرا من حال إلى حال. وجائز ألا يحل بها التغير، ولكن شدة ما ينزل بالمرء من الهول والفزع يضعف بصره حتى يرى السماء على خلاف اللون الذي هي عليه، وهو كما يرى المرء إذا حل به الضعف والمرض في الشاهد، ووجد طعم الأشياء على خلاف ما هي عليها؛ فيكون في ذكر هذا تهويل وتفزيع أن هول ذلك اليوم شديد لا تقوم لهوله السماوات والأرضون مع صلابتها وغلظها في نفسها، فكيف يقوم لهولها الآدمي الموصوف بالضعف واللين. وجائز أن تكون على ما ذكرنا أنها تصير شبيهة بالمهل؛ للينها ورخاوتها، وهو أنها تلين وترخو من هول ذلك اليوم حتى تصير السماء كالمهل، والجبال كالعهن؛ فيكون في هذا - أيضا - تهويل؛ ليرجعوا عما هم عليه ويقبلوا على عبادة اللّه تعالى، ويتسارعوا إلى طاعته. وتأويل العهن، ووجه تشبيه الجبال بها يذكر بعد هذا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) قرئ برفع الياء ونصبها، فمن رفع الياء فتأويله: أي: لا يطلب حميم من حميم، ولا يؤخذ بمكانه كما يفعل مثله في الدنيا؛ لأن ذلك اليوم هو يوم العدل، وليس من العدل أن يؤخذ الغير بذنب الغير. ومن قرأه بالنصب فتأويله: ألا يسأل حميم حميما من شدة ذلك اليوم وهوله النصرة والشفاعة. أو لا يسأل عن حاله بما حل به من الشغل في نفسه. ١١-١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) يحتمل أن يُعَرَّف بعضهم عن بعض أن هذا أبوك وابنك وحميمك؛ إذ لا يعرفه إلا بالتعريف؛ لما حل به من شدة الهول والفزع، ثم إذا عرفوا لا يسألونهم؛ بل يفر بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}. الآية. أو يكون معناه: أن يبصروا ما سبق منهم من الذنوب والأجرام، فيعرفونها، وتصير لهم حاضرة. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... (١٤) ففي هذا أنه يستقبلهم في ذلك هول وفزع لم يكن لهم بمثله عهد في الدنيا، ولا كان خطر ببالهم ذلك؛ لأن المرء لا يبلغ به الهول في الدنيا مبلغا يود أن يفتدي به ببنيه وصاحبته، وأخيه، وأقربائه، وجميع من في الأرض؛ فيكون فيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم؛ ليحمل الناس على الإنابة إلى اللّه تعالى والانتهاء عما نهاهم عنه. ثم بدأ بذكر البنين والأقربين وأنهاه بالأبعدين، وحق هذا أن يبدأ بالأبعدين، ثم يختم بذكر الأقربين؛ لأن المرء قد تسخو نفسه بفداء الأبعدين، ويضن ببذل الأقربين فداء، فإذا سخت أنفسهم في ذلك اليوم بفداء البنين والأقربين فلأن تسخو بفداء الأبعدين أحق، وإذا كان كذلك فغاية التهويل والتفزيع أن يبدأ بذكر الأباعد، ويختم بذكر الأقارب، فكيف ابتدأ بذكر الأقربين؟ فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه إنما يتوصل إلى فداء أهل الأرض إذا كان له عليهم ملك وكانوا بأجمعهم له، وإذا كانوا جميعا له ملكا؛ كانت شفقته على ملكه وأولاده واحدة أو أكثر، فكما يضن ببذل أولاده، وأن يكونوا عنه فداء، فكذلك يضن بالأباعد إذا كانوا جميعا ملكا له؛ فلذلك استقام أن يبدأ بذكر الأقربين قبل الأبعدين، إذ كل ذلك يستوي في التهويل والتفزيع، واللّه أعلم. وجائز أن يكون ذكر الأقربين وذكر أهل الأرض ليس على جهة الأولى، ولكنه ذكر الآحاد أولا، ثم ذكر الجماعة ثم ذكر جماعة الجماعة؛ ليعلموا ألا ينفعهم الفداء في ذلك اليوم، وأن الذين ودوا الفداء؛ ليتخلصوا من عذاب اللّه تعالى لا يشتد عليهم ما فدوا، وإن كان ذلك ملء الأرض، واللّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: {ثُمَّ يُنْجِيهِ} رد وتنبيه ألا ينجيه ذلك اليوم. ١٥-١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (١٦) الآية، فاللظى: اسم من أسماء النار، والشوى: قيل: هي مكارم خلقه. وقيل: هي القوائم والأطراف. وقيل: هي الجلود. والأصل أن نار جهنم تعمل على أصحابها كل قبيح وكل مستشنع مستفظع، فإن شئت صرفت ذلك إلى الأرجل، وإن شئت إلى الجلود، وإن شئت إلى مكارم خلقه الأخلاق؛ لأن التقبيح في كل ذلك موجود، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، فقيل في تأويل المطهرة وجوه. إحداها: أنهن مطهرات من العيوب والآفات، وجملته: أنه ما من شيء يستحسن ويستقبح من خلق أو نفس أو معاملة إلا وهن مطهرات من ذلك، وما من شيء يستشنع ويستفظع إلا وذلك في أهل النار موجود. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) فجائز أن يكون الدعاء منها على التحقيق، وهو أن يجعل اللّه تعالى لها باللطف لسانا تدعو به، أو يخلق فيها الكلام من غير لسان، فتقول: إليَّ، إليَّ. وجائز أن يكون هذا على التمثيل، وهو أنها لا تدع أحدا يفر منها، ويتخلص من عذابها، فكأنها دعته إلى نفسها. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} وجائز أن يكون قوله: {مَنْ أَدْبَرَ}، أي: من كان أدبر في الدنيا عن طاعة اللّه تعالى، وتولى عن الإجابة لرسله؛ كقوله تعالى: {تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا}، أي: أعرض. أو أدبر عن توحيده، وتولى عن النظر في حجته، وفيما جاء من عنده. ويحتمل قوله: {أَدْبَرَ}، أي: أدبر عن طاعة اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -، {وَتَوَلَّى} أي: تولى الشيطان، من الولاية. وجائز أن يكون أدبر في جهنم، فيدبر رجاء أن يفر عنها، ويتولى؛ فلا تدعه النار ليفر؛ بل تغشاه عن الإعراض، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}، ولكن هذا قريب من الأول؛ لأن من تولى عن ذكر اللّه فقد تولى الشيطان. ١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨) يخير بقوله: {وَجَمَعَ} عمَّا جبل عليه من شدة الحرص على الدنيا؛ فيكون الجمع كناية عن الحرص، فبلغ به هذا الحرص مبلغا أنساه ذكر الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَوْعَى} فيه بيان صفته فيما عليه من النهاية في البخل، فيكون الإيعاء كناية عن البخل حتى لم يؤد حق اللّه تعالى في ماله، أو لم يقم بشكر ما للّه تعالى من النعم، أو بلغ به البخل مبلغا منعه ذلك عن قبول حق اللّه تعالى في ماله. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} اختلف في تأويل الهلوع من وجوه، كل يرجع إلى معنى واحد: فقَالَ بَعْضُهُمْ: الطامع في اللذات، الطالب لها، والكاره للأثقال، الهارب منها. وقيل: {خُلِقَ هَلُوعًا}، أي: على حب ما يتلذذ به، والقيام بطلبه وبغض ما يتألم به، والهرب عنه. ومنهم من يقول: الهلوع: الضجور؛ وهو موافق للتأويل الأول؛ لأن الذي يحمله على الضجر هو ما يصيبه من الألم؛ فيضجر لذلك أو يضجر عن حق اللّه تعالى. ٢٠-٢١ومنهم من يقول: تفسيره ما ذكر على أثره من قوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) وهذا - أيضا - مثل الأول؛ لأن الذي حمله على المنع شدة حبه إياه، والذي حمله على الجزع ما مسه من الضر والشر، فجزعت نفسه لذلك؛ لأنها أنشئت نافرة عن الضر ومبغضة له، وقال اللّه تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}، وقال في موضع آخر: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}، أي: لا يسخو على إخراج ما في يديه. ففي هذه الآيات إنباء أن الإنسان خلق على هذه الأحوال: قتورا عجولا، هلوعا، فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه ويتألم به، علم أنه خلق على هذه الأحوال؛ للمحنة، فمن تذكر فيما وعد اللّه تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به، حمله ذلك على التسارع في الخيرات وترك ما يحبه في الدنيا؛ لينال الموعود في الآخرة؛ إذ هو في الأصل أنشئ محبًّا لما يتلذذ به، ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي اللّه تعالى، وبما يمنع من حقوق اللّه تعالى الواجبة في ماله، سهل عليه ترك الشهوات، وخف عليه بذل ما طلب منه؛ لئلا يحل به ما ينغص بعيشه من الآلام والأوجاع والمكاره. والأصل أن الإنسان وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل، والإقتار، والعجلة، وجبل عليها، فقد ملك رياضة نفسه، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة، والشمائل المرضية؛ فلزمه القيام بذلك؛ ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد، حتى تصير منقادة للخلق، ذليلة لهم، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها، فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يستخرجها عن خلقها؛ فتصير مطيعة له، ويخف عليها بذل ما يطلب منها، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها. ثم الأصل: أن المرء، وإن جبل على حب ما يتلذذ به، وبغض ما يتألم ويتوجع منه، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة؛ للذة هي أعظم منها، وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه؛ ليتخلص عما هو أعظم من ذلك المكروه والألم، وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة، وأقرب اللذتين بأبعدهما، فرأى لذة الآخرة أعظم وأبقى، خف عليه ترك أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما، وإذا قابل مكروه الدنيا بمكروه الآخرة، وعذابها بعذاب الآخرة، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا؛ فهذا السبب الذي ذكرنا ما يتوصل به إلى رياضة النفس. والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة؛ لما يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض، وقطع الأسفار، وتحمل المؤن، وركوب الأهوال والفظائع، والانقطاع عن اللذات؛ كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية؛ لما يرجو من النفع والربح في ذلك، فتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن، لما يطمع من نيل اللذات التي هي أعظم من اللذات التي تركها؛ فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة، وتفكر في عقابها، سهل عليه ترك اللذات الحاضرة، وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا. ووجه آخر: أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا، فيكون شغله أبدا فيما يوصله إلى نعيم الآجل، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة، فيجتهد فيما فيه التخلص والنجاة عن تلك الآلام، واللّه أعلم. ٢٢-٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣) معناه - واللّه أعلم -: لأن المصلين يقومون برياضة أنفسهم حتى يصرفوها عن خلقتها التي أنشئت عليها، ثم بين أن الذين يقومون برياضة أنفسهم هم الذين يقومون على صلواتهم دون الذين يقومون إلى الصلاة كسالى ولا يدومون عليها، ولا ينفقون من أموالهم إلا عن كراهة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} دوامهم عليها في لزوم ما عرفوها، وهو أن يقيموها في أوقاتها، ويحافظوا عليها دون أن يكون دوامهم أن يكونوا فيها أبدا؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أحب الأعمال إلى اللّه أدومها وإن قلَّ " وأراد بقوله: " أدومها ": لزومها في الوقت الذي أوجبوا فعل ذلك على أنفسهم، لا أن يكونوا أبدًا فيها؛ لأنهم إذا بقوا فيها أبدًا، كثر ذلك منهم، قلا يكون لقوله: " وإن قلَّ " معنى، فثبت أن معنى الدوام ما وصفنا، واللّه أعلم. وجائز أن يكون المراد من المداومة هو أن يدوم على الأحوال التي تليق بالصلاة عند كونه فيها من الإقبال على المناجاة، وترك الالتفات، وتفريغ القلب عن الأشغال والوساوس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}: هو التطوع، و {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}: الفريضة. قالوا: وتصديقه أن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا صلوا صلاة داموا عليها، وكانوا يقولون: " خير العمل، أدومه وإن قلَّ ". وأصله: أن اللّه تعالى قال: {وَأَقَامُوا}، والإقامة على الشيء هي الدوام عليه؛ لأنه إذا فعل الشيء مرة ثم تركه، لم يوصف بالإقامة عليه؛ فقوله: {دَائِمُونَ} و {ويُقِيمُونَ}، يقتضي معنى واحدا؛ فيكون فيه إبانة أن الصلاة يلزم فعلها مرة يعد مرة، وليست كالفرائض التي إذا أديت مرة، سقطت؛ من نحو الجهاد، والحج. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) قيل: هو الزكاة، ذكر ذلك عن قتادة وغيره. وقال أبو بكر: هذا غير محتمل؛ لأن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة عليهم بعد هجرتهم إلى المدينة. ولكن ليس فيما ذكره دفع لهذا التأويل؛ لأنه يجوز أن تكون الزكاة لم تفرض عليهم؛ لما لم يكونوا أصحاب أموال؛ لأن الزكاة لم تكن مفروضة في الجملة، وبين الوجوب إذا استفادوا الأموال؛ ألا ترى أن الفقير قد يعلم إيتاء الزكاة من المال وإن لم يكن له مال؛ ليقوم بأدائها إذا صار من أهلها؛ فقوله: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} أي: أعلمه اللّه تعالى في أموالهم، فلزمهم إخراجه، ثم بين أن خروجهم مما لزمهم من حق اللّه تعالى في أموالهم بالدفع إلى السائل والمحروم. وجائز أن يكون ذلك الحق المعلوم هو حق القرابة وغيره. ومن ذكر أن هذا الحق غير الزكاة، قالوا: إنهم كانوا أُعْلِموا في أموالهم حقًّا، فجعلوا طائفة منها للسائل، وطائفة للمحروم؛ لذلك سماه: حقا معلوما. ويحتمل أن يكون في ذلك الوقت شيئا معلوما مفروضا عليهم في أموالهم نسخته آية الزكاة، ولم يذكر لنا ذلك؛ لعدم حاجتنا إليه. ثم السائل معروف، وهو الذي يسأل. وأما المحروم فقد روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن المحروم، فقال: " المحروم هو الذي لا يثمر نخله، ويثمر نخل الناس، ولا يزكو زرعه، ويزكو زرع الناس، ولا تلبن شاته وتلبن شاة الناس " فعنوا بالمحروم هذا: أنه حرم بركة ماله. وفي هذا الخبر دليل على أن المرء لا يصير غنيًّا بملك النخيل والأرض. وجائز أن يكون المحروم هو الذي حيل بينه وبين وجوه المكاسب، فمن كان حاله هكذا كان علينا أن نتعاهده ونقوم بكفايته. وقال الحسن: المحروم هو الذي يتعفف عن السؤال وإن هلك، واللّه أعلم. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) فيوم الدِّين هو يوم الجزاء ويوم الحساب، فكل من عرف الجزاء وآمن به لم يجزع بما يصيبه، ولا منع الحق الذي طلب منه، ولم يوصف بأنه هلوع، وإنما الهلوع هو الذي يكذب بيوم الدِّين، كما قال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}، فأخبر أن الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين هو الذي لا يؤمن بالآخرة. ٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) أي: خائفون، وجلون، وهم الذين قال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. وسئل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقيل له: أهم الذين يسرقون ويزنون ويعملون بالمعاصي؟ فقال: " لا، بل هم الذين يصومون ويصلون ويؤتون الزكاة "، أو كما قال بلفظه عليه السلام. ووجلهم هو أنهم يخافون ألا يقبل منهم حسناتهم. أو يخافون أن يكونوا قصروا عن الوفاء بشكر النعم، أو غفلوا عن شكر كثير منها. ٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) فهذا هو الحق ألا يأمن أحد من عذابه وإن دأب في عبادته واجتهد في طاعته؛ لما لا يدري على ماذا يختم أمره؟ أو يخاف ألا يقبل منه ويرد عليه، أو يخاف أن يكون قد قصر عن شكر كثير من النعم، وغفل عنها. والأصل أنه ما من أحد ينظر في أمره وحاله إلا وهو يرى على نفسه من اللّه تعالى نعما لو أجهد نفسه ليقوم بشكر واحد منها لقصر عن ذلك، ولم يتهيأ له القيام بوفائها، فمن كان هذا وصفه، فأنى يقع له الأمن من عذابه، ويوجد منه الوفاء بالأسباب التي يؤمن بها إلا أن يكون من الخاسرين. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) ذكر حفظ الفرج، ولم يذكر بم يحفظ؟ وحفظه يكون بخصال: أحدها: أن يسكن في قلبه جلال اللّه وهيبته، ويخشى عقابه في المعاد. والثاني: بما جعله اللّه سببا للتعفف، من النكاح وملك اليمين؛ فيمنعه ذلك عن الزنى ويحفظ الفرج. والثالث: يجيع بطنه بالصيام كما قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من لم يقدر على الباه فليصم؛ فإن الصوم له وجاء ". والرابع: بما يترك النظر إلى النساء ولا يخلو بهن، ويدع مجالسة الفجار وأهل الريبة. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) ولو لم يقل: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}، لكنا نعلم بقوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أنهم لا يلامون؛ لأنه قد أباح لهم الاستمتاع بمن ملكت أيمانهم ومن كان تحتهم بملك النكاح، ولا يجوز أن تلحق اللائمة باستعمال المباح المطلق، ولكن فيه فوائد: أحدها: أن من الناس من يحرم الاستمتاع بملك النكاح وملك اليمين، فيخبر أنهم عند من اعتقد الإيمان بالرسل غير ملومين، وإنَّمَا يلومهم من أنكر الرسالة، وهم الثنوية والبراهمة. وجائز أن يكون معناه: أنهم وإن منعوا النساء عن الجماع بما هو خير لهم من الصيام وأنواع القرب، لم تلحقهم اللائمة كما يلام من يمنع آخر عن طاعة اللّه تعالى، وإذا استمتعوا بملك النكاح وملك اليمين، لم يبلوا بالزنى؛ فتلحقهم اللائمة بذلك. ٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١) العادي: هو الظالم في الحقيقة؛ يقال: عدا فلان على فلان؛ إذا ظلمه، فهم عادون؛ حيث ظلموا أنفسهم فوضعوها في موضع لم يؤذن لهم بالوضع فيها. وقال الحسن: هم العادون حيث عدوا من الحلال إلى الحرام. وفي هذه الآية دلالة تحريم المتعة؛ لأنه أخبر أن من ابتغى وراء ملك اليمين وملك النكاح، فهو إذن من العادين. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٣٢) فالأمانات لها وجهان: أحدهما: ما ائتمن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عباده على ما له من الحقوق عليهم. والثاني: ما ائتمن بعضهم بعضا على الحقوق والعهود التي تجري بين الخلق من الذمم، والنذور، وغير ذلك؛ فيدخل فيه كل أمانة بين العبد وبين ربه، وبينهم وبين الخلق، وكل عهد أخذ عليهم؛ من نحو قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} -قيل في التأويل: العهود- ثم بين ذلك فقال: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ ... }. والعهد الذي أعطينا للمعاهدين، فكل ذلك داخل تحت الآية، وقد يدخل معنى الأمانة في العهد والعهد في الأمانة، وقد يجوز أن يقع بينهما فرق، واللّه أعلم. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:، (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (٣٣) أي: يقيمونها للّه تعالى كقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه}، أو قائمون بالوفاء بما عليهم من الشهادة، فيقومون لها، أحبوا أو كرهوا، ضرهم ذلك أو نفعهم. ٣٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤) محافظة الصلاة إقامتها في أوقاتها بشرائطها، والذي يحملهم على المحافظة ما يخشون اللّه تعالى، ولما جعلت تكفيرا لسيئاتهم؛ فيرغبون في إقامتها؛ تكفيرا عن سيئاتهم. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) في الآية إبانة أن مَن يكرم بالجنان هَؤُلَاءِ. وذكر عن أبي بكر الأصم أنه قال: في هذه الآية، دلالة أن من وفَّى بهذه الأشياء التي ذكرها في هذه السورة من الإدامة على الصلاة، وإيتاء الحق المعلوم، والتصديق بيوم الدِّين. . . إلى آخر ما ذكر - فهو الذي يكرم بالجنة، والخاطئ الذي يرجع عن خطيئته ويتوب عنها، فأما غير هذين فهو لا يستوجب الإكرام بالجنة، فما ذكر من الإكرام بالجنة للصنفين اللذين ذكرهما فهو كما ذكر، وأما الصنف الثالث فهم الذين بلوا بالخطيئات من أهل الإيمان ولم يتوبوا عنها، فقد يرجى لهم هذه الكرامة بعفو اللّه سبحانه وتعالى، وكرمه وجوده، ومن كان هذا وصفه لم يؤيس من إحسانه، بل كان العفو منه مأمولا والإحسان منه مرجوًّا. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) اختلف في تأويل الإهطاع: فمنهم من يقول: هو الإسراع في المشي. ومنهم من يقول: هو إدامة النظر. فمن حمله على الإسراع، فمعناه: أن أئمة الكفر كانوا يأتون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فيستمعون القرآن منه، ثم يسرعون إلى أتباعهم، ويجلسون حلقا حلقا، ويحرفون ما يستمعون من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويلبسون على ضعفائهم وأتباعهم؛ ليصدهم ذلك عن الإيمان باللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله. ٣٧فإن كان الأمر على هذا فتأويله: ما لهم يسرعون إليك ليسمعوا كلامك ثم يتفرقوا عن اليمين وعن الشمال ويكذبونك، نحو أن يقول بعضهم: [{مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى}]، و: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللّه}، ونحو ذلك. وما المنفعة لهم في طعنهم عليك سوى استحقاقهم المقت والهلاك بذلك من اللّه تعالى، وما يرجون بإعراضهم عن تصديقك بعدما رأوا الآيات. ومن حمله على النظر، فمعناه: أنهم كانوا يجلسون من بعيد، فينظرون إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ويطعنون عليه بالسحر والافتراء، وأنه من أساطير الأولين، فيمكرون، بمن يقتدي برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن يعاديه من الكفرة. فإن كان على هذا فتأويله كأنه يقول له: يجلسون من البعد ناظرين إليك، ولا يدنون منك؛ ليستمعوا ما أنزل إليك فينتفعوا به، لكنهم متفرقون عن اليمين وعن الشمال، يصدون الناس عن مجلسك، وقد علموا أن لهم إلى من يعلمهم الكتاب والحكمة حاجة؛ إذ ليس عندهم كتاب ولا علم بالأنباء المتقدمة؛ ليعلموا أنك جئت بالعلم والحكمة دون السحر والكهانة. فإن كان على هذا الوجه؛ فالعتاب لمكان التحريف والتبديل، واللّه أعلم. ٣٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) قوله: {أَيَطْمَعُ} حرف استفهام، وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام ممن لا يَستِفْهم إيجابٌ. ثم اختلف في وجه الإيجاب: فمنهم من يقول: معنى قوله: {أَيَطْمَعُ}، أي: لا يطمع كل امرئ منهم بعبادتهم الأصنام والأوثان أن يدخلوا جنة نعيم؛ إذ هم منكرون للبعث والجنة والنار، ثم مع هذا ينصرون الأصنام ويعبدونها، ويخضعون لها، وإن كان لا طمع لهم في نصرها إلى شيء في العاقبة، ولا يرجون منها العواقب؛ فيكون في هذا ترغيب للمؤمنين على القيام بنصر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم يطمعون في نيل الجنة والكرامة من اللّه تعالى والنجاة من النار بنصرهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعبادتهم للّه تعالى، كأنه يقول: إنهم لا يطمعون نيل شيء، ولا يخافون من شيء في العاقبة، ثم يقومون بنصر الأصنام، فأنتم أحق بنصر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ تطمعون نيل الجنة والدخول فيها بنصركم إياه، واللّه أعلم. ومنهم من حمله على إيجاب الطمع، وهو أنهم كانوا يطمعون دخول الجنة ونيل نعيمها إذا رجعوا إلى ربهم؛ ظنًّا منهم أنهم إذا ساووا المسلمين في نعيم الدنيا وسعتها، فكذلك يساوونهم في نعيم الآخرة، كما قال اللّه تعالى خبرا عنهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، ٣٩وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . .} الآية، هكذا ظن الكفرة أنهم إن رجعوا إلى ربهم فسيجدون عنده خير منقلب، فقال تعالى: (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فقوله: {كَلَّا} على هذا التأويل رد لاعتقادهم وقطع لأطماعهم، فقال: {كَلَّا} أي: لا يدخلونها قط، ثم استأنف الكلام فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}. وعلى التأويل الأول: {كَلَّا} بمعنى: حقًّا أنهم لا يطمعون، ثم استانف بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}، أي: من تلك النطف؛ فيذكرهم بهذا عظيم نعمه وإحسانه إليهم بما أخرجهم منها ونقلهم من حال إلى حال حتى صاروا بشرًا سويًّا؛ ليعلموا أنه لا يتركهم سدى؛ بل ليمتحنهم ويستأدي منهم شكر ما أنعم عليهم؛ فيوجب ذلك تصديق الرسل. وفيه تذكير قدرته وسلطانه، وبيان ضعف ابتدائهم؛ ليعلموا أن من قدر على إنشائهم لقادر على أن يحييهم بعدما أفناهم، واللّه أعلم. ٤٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠). ذكر المشارق والمغارب: ذكر السماوات والأرض، وفي ذكرهما ذكر أهل السماوات وأهل الأرض، فيكون معناه: فلا أقسم برب الخلائق أجمع، ويكون حرف " لا " زائدًا في الكلام تأكيدا للقسم على ما يذكر، فيكون معناه: فلا أقسم. ثم حق هذا القسم أن يقول مكان قوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}: " فلا أقسم بي " إذا كان القسم من اللّه تعالى، هذا هو ظاهر الكلام، في متعارف اللسان، ولكن يحتمل هذا وجوها: أحدها: أن يكون هذا القسم من النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كأنه علمه أن يقسم به ويقول له: قل يا مُحَمَّد: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}. وإن كان هذا قسما من اللّه تعالى فهو مستقيم - أيضا - من وجهين: أحدهما: على الإضمار؛ كأنه قال: فلا أقسم بي؛ فأنا رب المشارق والمغارب. والثاني: وإن كان هذا القسم من اللّه تعالى يستقيم بلفظ الغائب كما يستقيم بلفظ الحاضر؛ لأن الخلق كله للّه شهود، وليس هو شاهدًا للخلق، فيخرج الكلام بينهم على ما يخاطب الغائب، ومرة على الوجه الذي يخاطب به الشاهد، ومثل هذا مستعمل في متعارف اللسان، واللّه أعلم. وفي الآية دلالة على أن ملك السماوات والأرضين ومدبرهما واحد؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان لملك السماء أن يمنع الشمس والقمر والكواكب من إيصال النفع إلى أهل الأرض، ويكون لملك الأرض أن يمنع ملك السماء عن الإغراب في الأرض. ثم الذي يشرق ويغرب منذ خلق يجري على ما جرى عليه التدبير جريا واحدا لم يقع فيه تغيير ولا تبديل، ولو كان للّه تعالى فيه شريك لكان لا بد من وقوع التغيير فيها؛ فثبت أن تدبير السماوات والأرضين وتدبير سلطانهما راجع إلى الواحد. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) هذا موضع القسم، فجائز أن يكون أريد به: أن يبدل الخير منهم، فيجعل مكان ما كانوا من الشر خيرا؛ كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}، وقد فعل ذلك؛ لأنهم أسلموا. ويحتمل أن يكون أراد به أن يبدل قوما خيرا منهم. ثم هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على تحقيق القدرة. والثاني: أن يكون معنى القدرة إرادة الفعل. أما الأول فعلى وجهين: أحدهما: على معنى تخويف أهل مكة أنهم إن لم ينتهوا عن ذلك، أنزل اللّه تعالى مكانهم من هو خير لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والبدل لا يكون إلا بعد المبدل عنه، وقد فعل اللّه تعالى ذلك بهم، أهلك المعاندين منهم، وأبدل لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أولادهم والمهاجرين منهم والأنصار الذين آووا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونصروه. والثاني: أي: كنا قادرين على أن نجعل المرسل إليهم خيرا منهم؛ إذ قد علموا من قدرة اللّه عَزَّ وَجَلَّ أنه هو الذي خلقهم وأنشأهم، لكن إنما أرسل إليهم وأمرهم؛ لحاجات أنفسهم، لا لنفع يرجع إليه، ليس على ما عليه ملوك الدنيا، لكنه إنما امتحنهم بالأمر ليسعوا في نجاة أنفسهم، ونهاهم؛ ليفكوا رقابهم من النار؛ فيكون فيه تسكين قلب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند وجده عليهم حيث لم يؤمنوا. وأما الوجه الثاني: أن يكون معنى القدرة إرادة الفعل خاصة؛ إذ قد يكنى بالقدرة عن الفعل إذ هي سبب الفعل؛ كالأمر المعتاد بين الخلق يأمر رجل آخر بفعل فيقول: لا أستطيع ولا أقدر، أي: لا أفعل، وعلى هذا تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، أي هل يفعل ذلك فعلى هذا تأويل هذا تأويل قوله - تعالى - {إِنَّا لَقَادِرُونَ}، أي: لفاعلون ما هو خير لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بدلا عن هَؤُلَاءِ. فإن كان على هذا فيكون فيه بشارة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يجعل له أصحابا يرضاهم، ويكون فيه إخبار اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر والغلبة على المكذبين منهم، ويكون فيه إنباء لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا ينفذ فيه مكرهم وإن اجتهدوا، ويكون فيه إعلام أنه ينتقم منهم له ويعذبهم، وقد فعل ذلك كله بحمد اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللّه المستعان؛ حيث بدل من أهل مكة أهل المدينة، وكانوا خيرا منهم؛ لأن أهل مكة كانوا عليه، وأهل المدينة كانوا له، فكانوا هم خيرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}. والمسبوق: المغلوب، فكأنه قال: لا يسبقنا أحد ولا يعجزنا أحد عن ذلك، ولا يفوتنا أحد فيما نريده. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢). قال أبو بكر: الخائض: المتحير، واللاعب: الخاطئ، فقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} أي: دعهم فيما هم فيه من خطاياهم وتحيرهم في دينهم، فكل من اشتغل بما لا يحتاج له فهو خائض لاعب، وأصله أن كل أمر لا عاقبة له تحمد فهو فيه لاعب لاهٍ؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}، أي: من يعمل في الحياة الدنيا للدنيا لا للآخرة فهو لاعب لاهٍ، وكأن هذه الآية صلة قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} الآية، أمره بألا يشتغل بأُولَئِكَ ويقبل على من يرجو منهم الإيمان. أو أمره بألا يشتغل بمكافأتهم بسوء صنيعهم؛ فإن اللّه سينصره عليهم ويكافئه عنهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} قد لاقوا ذلك اليوم وهو يوم بدر، وسيلاقون اليوم الثاني وهو يوم الآخرة. ٤٣وقوله تعالى: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا ... (٤٣) يخبر أنهم يخرجون من الأجداث، وهي القبور سراعًا إلى الداعي، والذي يحملهم على الإسراع هو أن أنفسهم أبت إجابة الداعي في الدنيا؛ فنزل بهم الهلاك بتركهم الإجابة، فيسارعون في ذلك اليوم إلى إجابة الداعي؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب الذي حق عليهم بترك الإجابة، وذلك لا ينفعهم وإن وجدت منهم التوبة والرجوع عن تلك الإجابة؛ لأن ذلك اليوم ليس بيوم ينفع فيه الندامة والتوبة، وإنَّمَا هو يوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت؛ وهذا كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}، فأخبر أنهم يفزعون إلى الإيمان باللّه تعالى لما أيقنوا أنهم إنما حل بهم البأس بإعراضهم عن الإيمان، ففزعوا عند إيقانهم بالعذاب إلى الإيمان؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب، فلم ينفعهم ذلك ولم يغنهم من عذاب اللّه شيء؛ إذ ذلك الوقت ليس بوقت قبول التوبة، فيكون هذا تحريضا بالإسراع إلى إجابة الداعي والإيمان بما يدعو إليه قبل أن يؤمنوا إيمانا لا ينفعهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}. قرئ بنصب النون، وجزم الصاد، وهو اسم العلامة كالغرض وأشباهه. وقرئ بضم النون والصاد، وهو اسم الصنم. فإن كان على العلامة، فمعناه: أنهم يسارعون في ذلك الوقت إلى إجابة الداعي مسارعة من يسارع في هذه الدنيا إلى الغرض والعلامة المنصوبة؛ كذا قاله بعض أهل التأويل. وذكر عن الكلبي {إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}: إلى علم يسعون. وقال قتادة: إلى علم يستبقون. وعن مجاهد: إلى علم ينطلقون. فإن كان على الثاني، فمعناه: أنهم يسرعون إلى إجابة الداعي في ذلك؛ كسرعتهم إلى عبادة النصب عند خوفهم فوت عبادتها وعند اجتماع عبادها عندها لو يبتدرون نصبهم حتى يستلموها. ومنهم من ذكر أن النصب برفع النون والصاد هي الأغراض التي يسبقون إليها، ومن تأول هذا فهو يجعل النُصُب هاهنا جمع النَّصْب. وقوله: {يُوفِضُونَ} أي: يسرعون. وقال الحسن: أي: يرملون، وهما واحد؛ لأن الإسراع في الرمل موجود. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ... (٤٤). يحتمل أن يكون هذا على بصر الوجوه وصفة خشوعها على ما قال في آية أخرى: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}، فيخشع خشوعا لا يملك صرف طرفه عن الداعي، ففيه أن الذِّلة قد أحاطت بهم حتى أثرت في الأعين والوجوه، وفي كل عضو. وجائز أن يكون هذا على بصر القلوب، وهو أن قلوبهم تشتغل بإجابة الداعي عن أن تبصر لنفسها حيلة تتخلص بها من أهوال ذلك اليوم وشدائده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}: أي: تعلوهم، والذلة: الحالة في النفس تبدو وتظهر من الأبصار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}. حقه أن يقول: هذا اليوم الذي كانوا يوعدون؛ لأنه أضاف إلى اليوم الذي كانوا يوعدون في الدنيا. ولكن معناه: كانوا يوعدون ذلك اليوم في الدنيا، وذلك اليوم في الوقت الذي كانوا يوعدون غير موجود، فيعبر عنه بما يعبر به عن الغائب، واللّه أعلم، وصلى اللّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * * |
﴿ ٠ ﴾