سُورَةُ نُوحٍ عليه السلام

مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

في ذكر نبأ نوح - عليه السلام - دلالة رسالته وأَية نبوته؛ لما ذكرنا: أن هذا لم يكن من علمه، ولا علم قومه، ولم يختلف النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى من عنده علم به فتعلمه منه، فعلم أنه باللّه تعالى علمه لا بأحد من خلقه؛ فيكون فيه إلزام الحجة عليهم، وفيه إعلام رسول اللّه - عليه السلام - ما لقي نوح - عليه السلام - من قومه؛ ليصبره بذلك على أذى قومه؛ إذ السورة مكية.

ثم أمره بالإنذار، ولم يذكر معه البشارة، فكذلك قال نوح - عليه السلام - {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ولم يقل: بشير، وقد كان هو بشيرا ونذيرا، فجائز أن يكون اقتصر على ذكر النذارة؛ لأن في ذكرها ذكر البشارة؛ وذلك أنهم إذا استوجبوا العذاب إذا داموا على ما هم فيه من الضلالة وعبادة غير اللّه تعالى، فهم إذا انتهوا عن ذلك استوجبوا العفو، واستيجاب العفو وقوع البشارة، فإذا كان ذكر أحد الوجهين يقتضي ذكر الوجه الآخر، اكتفي بذكر أحدهما عن ذكر الآخر.

وجائز أن يكون خص النذارة بالذكر؛ لأن الحال كانت حال الإنذار؛ لأنهم كانوا معرضين عن طاعة اللّه تعالى ومقبلين على عبادة غيره، فكانوا مستوجبين للنذارة، ولم يكونوا من أهل البشارة، وإنما يصيرون من أهلها إذا انتهوا عما هم عليه؛ فيكون قوله: {أَنْذِرْ قَومَكَ} إن داموا على ما هم عليه، وفي هذا دلالة على أن المرء إذا أخذ غير طريق الهدى، فالسبيل فيه أن يفسد عليه مذهبه، ثم إذا ظهر فساده عنده، أمره باتباع سبيل الهدى وبين له الحجج والدلائل؛ لينجع فيه ذلك، ليس أن يحتج عليه بالحجج التي هي

حجج مذهب الحق قبل أن يبين له فساد ما هو فيه؛ فإن ذلك لا ينجع فيه، ولا يدعوه إلى قبول الحق والتزامه، بل يبين له قبح ما هو فيه وفساد ما اعتقده، فإذا بأن له ذلك يحتاج إلى أن يسأله عن سبيل الهدى فيه؛ ليعرفه بالتعلم.

ثم الأصل أن الدنيا هي سبيل الآخرة، والضلال سبيل يفضي بمن سلكه إلى العذاب الدائم، والهدى سبيل يفضي إلى الثواب الدائم، فالنذارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الضلال، والبشارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الهدى.

وإن شئت قلت: إن النذارة هي أن يبين عسر ما يحل به في العاقبة، والبشارة هي أن يثبته بما يصير إليه في العاقبة من اليسر.

ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} دلالة أن حجة الإسلام تلزم الخلق قبل أن يأتيهم النذير؛ لأنه لو كانت لا تلزمهم، لكانوا في أمن من نزول العذاب قبل أن يأتيهم النذير؛ فلا يخوفون بنزل العذاب بهم قبل أن ينذروا، فلما خوفوا بنزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير دل أن الحجة لازمة عليهم، وأن للّه تعالى أن يعذبهم لتركهم التوحيد وإن لم يرسل إليهم الرسل، فيكون تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، على عذاب الاستئصال في الدنيا ليس على عذاب الآخرة، واللّه أعلم.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢).

أي: مبين بما يقع به الإنذار والتخويف؛ فيكون الإبانة منصرفة إلى النذارة.

ويحتمل أن يكون هذا الوصف راجعا إلى نفسه خاصة؛ كأنه قال: نذير لكم مبين، أي: إني لم أقم في دعائي إياكم إلى عبادة اللّه تعالى وإنذاركم من عند نفسي، ولكن بما اختصني اللّه تعالى وولاني ذلك.

ثم الأصل في الإنذار أن يقتضي نهيا وفي النهي أن يقتضي أمرا، لكن الإنذار يقتضي نهيا وَكِيدا، والنهي الوكيد يقتضي الأمر بالخلاف أمرا وكيدا.

وأما البشارة فهي تقتضي الأمر الوكيد وغير الوكيد؛ لأنه يستوجب البشارة بكل خير يفعله، وإن كان للمرء ترك ذلك الخير بخير آخر يأتي به، فلا يفهم بنفس البشارة الأمر الوكيد؛ ويفهم بتصريح النذارة كلا الوجهين اللذين ذكرناهما.

وإذا كان كذلك، فمطلق البشارة لا يدل على تحقيق النذارة، وأما النذارة فهي تدل على

البشارة؛ لأن النذارة على ما هو فيه في الفعل تلزم النهي، وإذا انتهى عنه فقد حصل العفو، وفي حصول العفو ارتفاع ما خوف وذهابه.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) فكأنه قال: أنذرهم على عبادة غير اللّه، ومرهم بعبادة من يستحق العبادة، وهو اللّه تعالى؛ إذ الأمر بالإنذار يقتضي النهي عما هم عليه ويدعو إلى خلافه، وبين لهم الخلاف الذي دعوا إليه؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ}.

وقيل: {اعْبُدُوا اللّه}، أي: وحدوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل عبادة جرى بها الأمر في القرآن على الإرسال فهي منصرفة إلى التوحيد.

فكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن الآيات التي فيها أمر بالعبادة نزلت في أهل الكفر؛ لأنه خاطب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، ولم يخاطب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: يا أيها الذين آمنوا اعبدوا ربكم، وإذا ثبت أنها في أهل الكفر، والكافر أول ما يؤمر يؤمر بالتوحيد ليس يخاطب بعبادة أخرى سواه؛ لأنه ما لم يأت بالتوحيد لم يقبل منه شيء من العبادات، فجعلوا تأويل العبادة التوحيد لهذا؛ لا أن يكون العبادة عبارة عن التوحيد خاصة، بل العبادة يراد بها التوحيد مرة إذا ذكرت عقيب الكفر، وإذا ذكرت في أهل الإيمان فالعبادة منهم أن يفوا بمعاملة ما اعتقدوه بالقول؛ وأن ينجزوا ما وعدوا من أنفسهم، وهذا كما ذكرنا في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: أنهما إذا ذكرتا في أهل الكفر، انصرف المراد من ذلك إلى الاعتقاد لا إلى الفعل؛ لأنهم ليسوا من أهل الفعل، وإذا ذكرتا في أهل الإسلام أريد بالإقامة والإيتاء إيجاد الفعل، فكذلك الحكم في العبادة بقوله: {اعْبُدُوا اللّه} أي: وحدوه واتقوه، أي: اتقوا الإشراك في عبادته، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد اللّه تعالى وألا تشركوا به شيئا.

وجائز أن يكون قوله: {وَاتَّقُوهُ}، أي: اتقوا المهالك كلها، واتقوا النار؛ كما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، فالتقوى إذا ذكر على الانفراد مرسلا، اقتضى الانتهاء عما فيه الهلاك، واقتضى الأمر بالعبادة والطاعة، وإذا جمع بين العبادة والتقوى،

كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك، وهو كما قلنا في البر والتقوى: إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر، وإذا جمعا في الذكر، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة.

وقال الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّقُوهُ}، أي: اتقوا اللّه في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى وما يتقى.

ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى اللّه، والعبادة لا تكون إلا للّه تعالى؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة: {اعْبُدُوا اللّه}، فأضافها إلى اللّه تعالى، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله: {وَأَطِيعُونِ}، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك باللّه تعالى في الطاعة، بل اللّه تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}، وذم من يعدل باللّه تعالى في العبادة بقوله تعالى: {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف، واللّه تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا على الأمر لا غير؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، سموا: عباد الأصنام، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)

إن صرفت قوله: {وَاتَّقُوهُ} إلى اتقاء الشرك يرجع قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

وإن صرفته إلى سائر وجوه المهالك، رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا؛ وهو كقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}؛ فيكون قوله (مِن) صلة على ما ذكره أهل التفسير، ومعناه: يغفر لكم ذنوبكم.

وجائز أن يكون قوله: (مِن) على التحقيق ليس على حق الصلة؛ لأنه قد يكون من الذنوب ذنوب يؤاخذ بها بعد الإسلام، وهي التي تكون بينه وبين الخلق من القصاص

وغيره، فالمأثم بالقتل وإن زال عنه بالتوبة؛ فإن القصاص لا يرتفع عنه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} جائز أن يكون أُولَئِكَ القوم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام؛ فيخرج قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} مخرج الأمان لهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا؛ إذ يكون معناه: أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى انقضاء أجلكم المسمى سالمين آمنين، لا يتهيأ لعدوكم أن يمكر بكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقال في موضع آخر: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، جائز أن يكون قوله: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ}، أي: لا يتأخرون عن آجالهم أو لا يؤخرون بما يطلبون من التأخير؛ فيكون في هذا إياس لهم أنهم لا يؤخرون إذا طلبوا التأخير؛ قال اللّه تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ فأخبر - جل جلاله - أن الموت إذا أتاه طلب التأخير ليبذل ما طلب منه البذل قبل ذلك من التصدق والإيمان به، فقطع عنهم طمعهم بقوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللّه نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}، وبقوله: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، وبقوله: {إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ}.

وهذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون بأن رجلا لو جاء وقتل آخر، فإنما قتله قبل انقضاء أجله، واللّه تعالى يقول: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، والأصل: أن اللّه تعالى إذا علم أنه يقتل فإنما يجعل انقضاء أجله بالقتل ليس بغيره؛ لأنه لا يجوز أن يجعل انقضاء أجله بموته حتف نفسه، ثم ينقضي أجله بغير ذلك؛ لأنه لو جاز ذلك لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب، والجهل بالعواقب يسقط الربوبية، ويثبت الجهل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

أي: لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء آجالكم، لكنتم تبذلون للحال ما أريد منكم؛ لئلا يحل بكم العذاب.

أو أن يكون معنى قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ}، أي: أجل العذاب إذا حل، وقع

لا محالة، فلو علموا بوقوعه لا محالة، لارتدعوا عنه.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}.

يحتمل أن يكون هذا من نوح - عليه السلام - بعد أن أخبر {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}، فيكون القول منه قول معتذر: أنه لم يقصر في دعوة قومه إلى الإسلام، وأنه قد دعاهم إلى الإسلام في كل وقت وحال، وأنه قد أبلى عذره في ذلك، وإنما جاء التفريط والتعدي من جهة قومه.

ويحتمل أن يكون هذا منه على الإشفاق والرحمة والتعرض؛ لاستنزال اللين والرحمة، لعل اللّه تعالى بلطفه يلين قلوبهم فينقادوا للحق، ويرغبوا في الإجابة؛ ليتخلصوا من العذاب ويستوجبوا المغفرة من ربهم، فهو يخرج على أحد هذين الوجهين: إن كان قبل الإخبار، فهو على التعرض منه؛ لاستنزال اللين والرحمة، وإن كان بعده فهو على إبلاء العذر، لا على الدعاء والرجاء بأن يلين قلوبهم بلطفه فينقادوا للحق؛ إذ لا يجوز أن يخبر اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو يطمع منهم أن يؤمنوا.

ثم قوله: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}، أي: دعوت في كل وقت وكل ساعة من الليل والنهار أمكنني فيه الدعاء.

٦

وقوله -. عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦).

وأصل هذا أن عداوتهم كانت قد اشتدت لنوح عليه السلام، وكانوا قد استثقلوه وأبغضوا كلامه، فحدث لهم ببغضهم كلامه واستثقالهم إياه معنى حملهم على الفرار؛ فنسب ذلك إلى الدعاء، لأن حدوث ذلك المعنى كان عند وجود الدعاء؛ فنسب إلى الدعاء على معنى المجاورة والقرب، لا أن يكون الدعاء في الحقيقة سببا لزيادة الفرار؛

وهو كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}، والقرآن لم يجعل سببا لزيادة الرجس، ولكنهم لما أحدثوا بغضا عندما تلى عليهم القرآن، فحدث لهم بذلك معنى حملهم على ذلك الوجه، فأضيفت تلك الزيادة إلى القرآن؛ إذ عند ذلك حدث ذلك السبب الزائد في الرجس، فنسب إليه على معنى المجاورة، وقال اللّه تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي}، وهم لم يكونوا منسيين، بل كانوا مذكرين يذكرونهم مرة بعد مرة، لكن بغضهم إياهم واتخاذهم سخريا أوقع لهم النسيان، فنسب إليهم الإنساء، فعلى ذلك لما أبغضوه واستثقلوا كلامه ودعاءه، أحدث لهم ذلك البغض زيادة نفار وجحود، ثم نسب النفار إلى الدعاء على الوجه الذي ذكرنا لا أن يكون الدعاء في الحقيقة منفر.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧)

وقال في موضع آخر: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. . .} إلى قوله: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}، فيجوز أن تكون هذه الآية فيما يدعون رؤساءهم وأشرافهم والأجلة منهم، فإذا دعاهم ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء عليهم السلام، وضربوهم على ما ذكر في الأخبار، وأما الأتباع منهم، والمقلدون لهم، كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ويغطون وجوههم ورءوسهم؛ كي لا يسمعوا كلامه فيقع شيء منه في قلوبهم؛ لما حذرهم رؤساؤهم عن ذلك.

أو يكون هذا في طائفة منهم، وهذا في طائفة إذا كان أيس من قوم، وأقبل على آخرين، فاختلفت معاملتهم معه على ما كان من أمر نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ثم هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: على التحقيق على ما ذكرنا؛ ليؤيسه من الإجابة.

والثاني: جائز أن يكون على التمثيل، فضرب مثلهم في تركهم الإجابة مثل من جعل أصبعه في أذنه واستغشى ثيابه؛ لئلا يسمع ولا يجيب؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، ولم يوجد منهم نبذ، ولكنهم أعرضوا عنه إعراض من ينبذه وراء ظهره، وكذلك في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} على التمثيل، وهو أنهم تركوا الإجابة إلى ما دعوا إليه كترك الإجابة من الذي يرد يده في

فيه؛ لئلا يتكلم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا}، أي: داموا على ما هم عليه وثبتوا على كفرهم.

وقال قتادة: {وَأَصَرُّوا}، أي: صاحوا في وجوه الأنبياء - عليهم السلام - ردا عليهم، أو مغالبة في الدعاء؛ كقوله: {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}، أي: استكبروا عن طاعة اللّه تعالى، وامتنعوا عن الإجابة لرسوله عليه السلام.

٨-٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩)، ففي هذا إخبار أنه دعاهم إلى عبادة اللّه تعالى في كل وقت تهيأ له من ليل أو نهار، ولم يقصر فيها، ودعاهم في كل وقت؛ رجاء الإجابة منهم.

ويحتمل {إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا}، أي: إذا بعدوا مني، وازدحموا وكثروا؛ فدعاهم جهارا؛ لتعمهم الدعوة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} إذا قربوا منه وقلوا، فلما أدخلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم أعلن في الدعاء.

ثم جائز أن يكون الجهر والإسرار منصرفا إلى الدعوة، ويكون الإعلان إعلانا بالحجج وإظهارا للبينات، وإلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) فالاستغفار طلب المغفرة بما ذكر من قوله عَزَّ وَجَلَّ: {اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}؛ فيكون هذا منه أمرا لهم بإتيان الإيمان الذي هو سبب المغفرة، لا أمرًا بسؤال المغفرة نفسه من اللّه تعالى؛ إذ استغفار كل قوم يرجع إلى أحوالهم، فإذا كانوا كفرة، فهو إيمان باللّه تعالى، وإن كانوا أصحاب ذنوب، فالتوبة إلى اللّه تعالى، وإن كانوا مخلصين فمما سلف من ذنوبهم مما يعلمونها، ونحو ذلك.

١١-١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) فيحتمل أنما قال هذا لهم؛ لأنهم كانوا في شدة عيش وضيق حال فوعد أنهم إن انتهوا عن الكفر، وأجابوا إلى ما يدعوهم إليه، غفر اللّه لهم ذنوبهم، وأرسل

السماء عليهم مدرارا؛ فيتوسعوا به، على ما قال به بعض أهل التأويل: إن اللّه تعالى قد حبس عنهم المطر، وعقمت أرحام نسائهم، وهلكت مواشيهم وجناتهم لتمام أربعين سنة، ثم أهلكوا بعد ذلك، وكانوا كلهم كفارا، ليس فيهم صغير؛ فلذلك كان نوح - عليه السلام - يعدهم بما ذكرنا، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكونوا خافوا انقطاع النعمة عنهم بالإجابة وزوال السعة عنهم بالإسلام ومن الناس من يترك الإيمان خشية هذا، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذي هم فيه من رغد العيش لا ينقطع عنهم بالإسلام، بل يرسل عليهم المطر من السماء مدرارا متتابعا، ويمددهم بأموال وبنين مع ما يجعل لهم من الجنان والأنهار، لكن ذوو الألباب والعقلاء ينظرون إلى حسن العاقبة وما إليه مآل الأمر دون الحال، فذلك الذي يرغب فيه؛ ولذلك اختلفت دعوة النبي عليه السلام لأمته: فمنهم من بشره بكثرة أمواله وبنيه، ومنهم من رغبه في آخرته، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}،

وقال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ. . .} الآية.

ونظير الأول كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}.

والأصل أن الرسل - عليهم السلام - بعثوا مبشرين ومنذرين، داعين، زاجرين، محتجين، مدحضين، فما تلوا عليهم من أنباء الأولين دخل فيهم جميع الأوجه الثلاثة؛ إذ النذارة والبشارة مرة تقع بالابتلاء، ومرة بذكر ما ينزل بالمتقدمين المصدقين منهم والمكذبين؛ أن كيف كان عاقبة هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ.

وكذلك دعاء الرحمة يكون مرة بابتداء الدعاء، والزجر، وبذكر الأمم السالفة، وأن الرسل كيف كانوا يدعونهم ثانيا للحق، واللّه أعلم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا (١٣).

قال أبو بكر الأصم: تأويله كيف لا ترجون للّه ثوابا فتعبدوه فيثيبكم بها، وقد علمتم أن الخير كله في يده، وأن الذي تعبدون من دون اللّه لا يملكون لكم نفعا ولا يدفعون عنكم ضرًّا؛ فجعل قوله: {وَقَارًا} مكان " عبادة "، واللّه أعلم.

وقال غيره: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا}، أي: ما لكم لا ترجون لأنفسكم عند اللّه منزلة وشرفا وقدرا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما لكم لا تخافون عظمة اللّه وقدرته عليكم؛ فتنتهوا عما نهاكم وتأتوا ما أمركم به، وحمل الرجاء على الخوف؛ لما قد ذكرنا أن الرجاء المطلق يقتضي الخوف والرجاء جميعا، وكذلك الخوف المطلق يقتضي رجاء، واللّه أعلم.

والأشبه بالتأويل عندنا: أن الرجاء للّه تعالى على مثال الغضب للّه، والحب للّه، والبغض للّه، أي: ما لكم لا تسعون سعي من يرجو ما عند اللّه على الوقار والهيبة، بعد أن شاهدتم من نعم اللّه تعالى وإحسانه إليكم من خلق أن سماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وما ذكر من منته في الآيات التي يتلوها؛ وذلك أن المرء إذا سعى لآخر على غير رجاء أو لم يرج أحدا، استحقر به، فألزمهم نوح - عليه السلام - سعي من يرجوه على التوقير والهيبة على ما عليه العادة في الشاهد أن الساعي للملوك والكبراء على الرجاء كيف يكون منهم توقيرهم إياهم وهيبتهم منهم، واللّه أعلم.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤).

فمن حمل قوله: {لَا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا} على حقيقة الرجاء، فتأويله: كيف لا ترجون أن يعظم قدركم عند اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أجبتم إلى ما دعاكم إليه، وفيما ذكر من خلقه إياهم أطوارا تذكير لهم حسن صنيعه بهم فيما قلبهم من حال إلى حال من أول ما أنشأهم إلى حالهم التي هم فيها، فكيف لا يرجون إحسانه في حادث الأوقات إذا أقبلوا على طاعته واشتغلوا بعبادته؟!

وإن كان قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا} على الخوف، ففيما ذكر من قوله - عز وجل -: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} تذكير العظمة والسلطان والقدرة، وهو أنه دبركم في تلك الظلمات الثلاث، ولم يخفَ عليه أحوالكم فيها، بل قلبكم من حال إلى حال كيف شاء،

فكيف يخفى عليه أفعالكم في حال بروزكم وظهوركم؛ فيكون في ذكر هذا تنبيه أن اللّه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال الخلق فيدعو ذلك إلى المراقبة، ويلزم التيقظ والتبصر في كل حال؛ لئلا يتعدى حدود اللّه، ولا يضيع حقوقه، فيحل به البوار والهلاك.

فإذا حملت التأويل على الرجاء، فهو يخرج على غير التأويل الذي حملته على الخوف؛ لأنك إذا حملته على الرجاء كان فيه تذكير عظيم مننه، ونعمه عليهم من أول ما أنشأهم إلى الوقت الذي انتهوا إليه؛ فيحملهم ذلك على طلب ما يشرف قدرهم عند اللّه تعالى، ويحمد عاقبتهم.

وإن حملته على الخوف، كان فيه تذكير القدرة والسلطان؛ فيحملهم على المراقبة والاتقاء في حادث الأوقات.

ومن حمل قوله: {وَقَارًا} على العبادة، فهو يخرج على غير الوجهين الذين ذكرناهما في الخوف والرجاء إذا صرف إليهما التأويل، كأنه يقول: إن الذي خلقكم أطوارا قد تعلمون أنه حكيم ومن هو حكيم لا يسفه، وتَرْكُكُم سدى لا يأمركم ولا ينهاكم، ولا يستأدي منكم شكر النعم - سفه؛ فيكون في ذكر هذا ترغيب في العبادة وإخلاص الطاعة.

ويكون في ذكر هذا أيضا إثبات الربوبية وإلزام القول بالوحدانية؛ لأنه أنشأهم من أول ما أنشأهم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن خلقهم بشرا سويًّا، فلو لم يكن المدبر والمنشئ واحدا، لكان يعجز عن تقليبه من حال إلى حال؛ لأنه إذا أراد أن ينشئ من النطفِ علقة، ومن العلقة مضغة، كان للآخر أن يمنعه عن تدبيره؛ فلا يتهيأ له إنشاء علقة ولا مضغة، فارتفاع المانع دليل على أن لا مدبر سواه، ولا خالق غيره.

وإذا ثبت انفراده بما ذكرنا ثبت أنه هو المستحق للعبادة من الخلائق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: معنى قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}، أي: مختلف الأخلاق والصور والألوان والألفاظ والأصوات والنغم؛ حتى لا يرى أحد يشبه آخر بجميع خلقته، وهذا من عظيم ما يستدل به على قدرته وحكمته، واللّه الموفق.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّه سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥).

قد ذكرنا أن قوله: {أَلَمْ تَرَوْا} يقتضي تذكير أمر عرفوه، فأغفلوا عنه، فقد يقتضي تذكير أعجوبة لم يسبق من الخلائق العلم بها، يقول: قد رأوا أنه خلق سبع سماوات طباقا بغير علائق فوقها ولا أعمدة تحتها، ومن قدر على خلق مثله لقادر على خلق كل ما يريد؛ فيكون فيه إيجاب القول بالبعث؛ إذ إعادتهم ليست بأعسر من خلق السماوات في تقدير عقولكم، فمن قدر على خلقهن، لقادر على البعث، واللّه الموفق.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ... (١٦).

منهم من يذكر أنه جعله نورا في السماء الدنيا، وأضافه إلى جملة السماوات.

وقد يجوز - أيضا - أن يضاف الشيء إلى العدد وإن لم يكن يوجد ذلك إلا في البعض، يقال: في سبع قبائل مسجد واحد، والمسجد إذا كان واحدا فهو لا يكون في سبع قبائل، وإنَّمَا يكون في قبيلة واحدة، ويقال: فلان توارى في دور قوم، وهو لا يكون متواريا في دور جملتهم، وإنما يكون متواريا في واحدة منهن، ثم أضيف التواري إلى الجملة فكذلك أضاف نور القمر إلى السماوات السبع وإن كان القمر في سماء واحدة.

ومنهم من ذكر أن نور القمر قد أحاط بجميع السماوات، وزعم أن وجهه إلى السماوات، وظهره إلى أهل الأرض، ولهذا ما يعمل عليه السواتر من السحاب وغيره، فأما نور وجهه فإنه لا يستره شيء من السواتر.

لكن هذا إنما يعرف بالخبر، فإن صح عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خبر، فذلك هو، وإلا فالإمساك عن مثله أحق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} فذكر السراج هاهنا مكان الضوء في موضع آخر، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}، فذكر في القمر النور

وفي الشمس الضياء؛ لأن القمر يكون في وقت الحاجة إلى النور، وذلك في ظلمة الليل، ثم اللّه تعالى أنشأ الليل لنسكن فيه، لكن قد يبدو للخلائق بالليل حوائج يحتاجون إلى قضائها؛ فمن اللّه تعالى عليهم بنور القمر؛ ليتوصلوا بنوره إلى قضاء حوائجهم، وجعل الشمس ضياء؛ ليختطف ضوءها نور الليل، ويغلب عليه، ولا يختطف نور النهار نور الشمس، واللّه أعلم.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧):

جائز أن يكون أضاف الإنبات إلى الأرض، ويرد ذلك إلى الأصل الذي خلق من التراب، وهو آدم - عليه السلام - فنسب الفرع إلى الذي منه خلق الأصل؛ لحدوثه منه، لا أن يكون خلق الجملة من التراب، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، والذي لنا في السماء هو المطر لا الذي يرزق به، ولكن الذي يرزق به أصله المطر، فنسب إلى المطر؛ لأنه هو الأصل الذي يتوصل به إلى الإرزاق؛ فكذلك الخلائق لما كانوا من نسل آدم - عليه السلام - وكان هو أصلا لهم، أضيف النسل إلى الأصل؛ الذي حدث منه الأصل.

ويحتمل أن يكون يرجع هذا إلى كل في نفسه؛ وذلك لأن حياة الأبدان وقوامها بالذي يخرج من الأرض، وينبت منها من أنواع الأغذية، فإذا كان قوامها بما ينبت منها، فكأنما أنبتنا منها؛ فاستقام أن يضاف الإنبات إليها، كما يستقيم أن يضاف خروج الثمار إلى الأرض وإن كان حدوثها من الأشجار؛ إذ قوام الأشجار وبقاؤها بها؛ فنسب ما يخرج منها إلى الأرض على التقدير الذي ذكرنا.

ففي قوله: {وَاللّه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} على التأويل الأول إثبات القدرة على البعث وإلزام الحجة على من يجحد كونه؛ لأنه يذكرهم قدرته أنه أنشأهم من الأرض، ولم يكونوا شيئا، فمن قدر على إنشائهم من الأرض بعد أن كانوا ترابا، لقادر على أن

يعيدهم إلى الحالة التي كانوا عليها من كونهم بشرا سويا، وإن صاروا عظاما ورفاتا؛ لأنهم كانوا يزعمون أن كيف يعادوا خلقا جديدا بعد أن صاروا ترابا، فاحتج عليهم بأمر الابتداء من الوجه الذي ذكرنا.

وإن كان على التأويل الثاني، ففيه تذكير نعمه: أن قد أخرج لهم من الأرض ما يتعيشون به، ويقيمون به أودهم، أو يستأدي منهم الشكر، وفيه تذكير قوته وسلطانه؛ ليخوفهم عقابه فيتعظوا ويتقوا سخطه، ويطلبوا مرضاته.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨)، فجمع يين الإعادة والإخراج بحرف الجمع: وجعل قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَيُخْرِجُكُمْ} في موضع " ثم "؛ لأن هذا الإخراج يكون بعد الإعادة إلى الأرض، فيكون في هذا دليل أن أحد الحرفين وهو " الواو " قد يستعمل مكان " ثم ".

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩).

أي: جعلها كالشيء المبسوط الذي ينتفع ببسطه، ولو لم يجعلها كذلك، لم يتوصلوا إلى حوائجهم، ولا الانتفاع بها، ففي ذكر هذا تذكير بما للّه تعالى عليهم من عظيم المنة.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠):

قيل: الفجاج: هي الطرق الواسعة.

وقيل: السبل في السهل، والفجاج: الطرق في الجبال، وهذا - أيضا - من عظيم نعم اللّه تعالى على عباده؛ لأن اللّه تعالى قدر أرزاق الخلق في البلاد، فلو لم يجعل لهم في الأرض سبلا، لم يجدوا طريقا يسلكونه، فيتوصلون به إلى ما به قوام أبدانهم؛ فصارت الطرق المتخذة لما نسلك فيها، فنصل إلى حوائجنا وإلى معايشنا: كالدواب التي سخرت لنا؛ فنتوصل بها إلى حوائجنا، وهذا يبين لك أن ملك أقطار الأرض وتدبيرها يرجع إلى الواحد القهار؛ لأنه أحوج الخلق إلى الانتشار في البلاد؛ لإقامة أودهم، وجعل لهم سببا يتوصلون به إلى ذلك؛ فثبت أن مالك الأقطار واحد.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}، أي: عصوني فيما أمرتهم به أو فيما دعوتهم إليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}:

يشبه أن يكون المتبوعون هم الذين كثرت أموالهم وحواشيهم، استتبعوا من دونهم فيتبعوهم ولم يتبعوا نوحا عليه السلام، وقد كان نوح - عليه السلام - يدعوهم إلى اتباعه، فأخبر أنهم لم يتبعوه، وإنَّمَا اتبعوا من كثرت أمواله وأولاده وحواشيه؛ فتكون هذه الآية في الأتباع أنهم اتبعوا أجلتهم ورؤساءهم ليس في رؤسائهم، وما تقدم من الآيات في أجلتهم من دعاء نوح - عليه السلام - إياهم إلى التوحيد وغيره.

ويحتمل أن تكون هذه الآية في الأجلة والضعفة جميعا؛ فيكون قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا}، أي: اتبعوا من تقدمهم من أهل الثروة والغناء، والذين وسعت عليهم الدنيا، وبسطت لهم؛ ظنًّا منهم أنهم أحق باللّه تعالى، وأقرب إليه في المنزلة.

والذي حملهم على هذا هو أنهم لا يرون أحدا في الشاهد يترك صلة وليه ويصل عدوه، فيرون أنه إذا بسطت على رؤسائهم الدنيا، ووسع اللّه تعالى عليهم، وضيق على هَؤُلَاءِ - أن أُولَئِكَ أقرب منزلة وأعلى حالا، وأنهم هم الأولياء، وهم لا يؤمنون بالآخرة وثوابها، فكانوا يزعمون أنه يوفر الجزاء على الأولياء والمحسنين في الدنيا، وزعموا أن من وسع عليه الدنيا فهو أحق أن يكون وليا للّه تعالى حيث وصل إليه الجزاء فيها، فهذا الظن هو الذي حملهم على الاتباع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا خَسَارًا}، أي: بوارا وهلاكا لذلك المتبوع، فكانت تلك النعم التي ظنوا أنهم أكرموا بها بصنيعهم سببا لخسارهم.

ثم قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} كقوله: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا}، ثم قد بينا تأويل شكايته إلى اللّه تعالى من قومه، فهذه الآية وتلك الآيات في معنى تأويل الشكاية إلى اللّه تعالى - واحد.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢).

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يمكرون ما يمكرون بألسنتهم؛ حيث كانوا يدعونهم إلى الكفر والصد عن سبيل اللّه، فكنى بالمكر عما قالوه بالسنتهم، فكان ذلك {مَكْرًا كُبَّارًا}، أي: قولا عظيما.

وجائز أن يكون على حقيقة المكر، وهو أن رؤساءهم مكروا بأتباعهم حيث قالوا: إن هَؤُلَاءِ لو كانوا أحق باللّه تعالى منا، لكانوا هم الذين يوسع عليهم ويضيق علينا، فإذا وسع علينا وضيق عليهم، ثبت أنا نحن الأولياء والأصفياء دون غيرنا، وهذا منهم مكر عظيم؛ لأنه يأخذ قلوب أُولَئِكَ فيصدهم عن سبيل اللّه تعالى.

وجائز أن يكون مكرهم ما ذكر أنهم كانوا يأتون بأولادهم الصغار إلى نوح عليه السلام، ويقولون لهم: إياكم واتباع هذا فإنه ضال مضل، فكان هذا مكرهم بصغارهم.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣).

هذه المقالة منهم كانت بعد أن انقادت لهم الأتباع، واتبعتهم إلى ما دعوهم إليه من عبادة الأصنام، فقالوا بعد ذلك: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي: لا تذرن عبادتها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}.

هي أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها.

ثم يحتمل أن يكون الذي بعثهم على عبادة الأصنام ما ذكره أهل التفسير: أن قوم نوح - عليه السلام - اتخذوا هذه الأصنام أول ما اتخذوها على صورة رجال عباد كانت هذه الأسماء أسماءهم، فسموا الأصنام بأسماء العباد؛ ليعتبروا بها، ويجتهدوا في العبادة إذا نظروا إليها، فلما مضى ذلك القرن الذين اتخذوها عبرة وخلفهم قرن بعدهم، قال لهم الشيطان: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدون هذه الأصنام، فعبدوها.

ومنهم من ذكر أن جسد آدم - عليه السلام - كان عند نوح - عليه السلام - يترك كل مؤمن في زمانه أن يدخل فينظر إلى جسد آدم عليه السلام ومن لم يكن مؤمنا لم يدعه أن ينظر إليه، فجاء إبليس إلى الكفار فقال: أيفخر نوح ومن آمن به عليكم بجسد آدم وأنتم كلكم ولده؟ فصنع لكل قوم صنما على صورة آدم - عليه السلام - فكانوا يعبدون تلك الصورة.

ويحتمل أن يكون الذي بعثهم على ذلك هو أنهم لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة رب العالمين، كما يرى هَؤُلَاءِ الذين يخدمون الأجلة في الشاهد لا يطمع كل واحد منهم في خدمة الملوك، ولا يرى نفسه أهلا لخدمتهم، بل يشتغل بخدمة من دونه أولاً؛ على رجاء أن يقربه إلى الملك، فكذلك هَؤُلَاءِ حسبوا أنهم لا يصلحون لخدمة رب العالمين، فكانوا إذا رأوا شيئا حسنا كانوا يظنون أن حسنه لمنزلة له عند اللّه تعالى لا غير، فكانوا يقبلون على عبادته؛ رجاء أن يقربهم إلى اللّه تعالى، فجعلوا الأصنام على أحسن ما قدروا عليه ثم اشتغلوا بخدمتها وعبادتها؛ رجاء أن تقربهم إلى اللّه تعالى، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - حكاية عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}

وقال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، فجائز أن يكون هذا الحسبان هو الذي حملهم على عبادتها وتعظيم شأنها، واللّه أعلم أي ذلك كان!

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٢٤) جائز أن يكون أريد به الكبراء أنهم أضلوا كثيرا، أي: دعوا إلى الضلال، وزينوه في قلوبهم فأضلوا سفهاءهم بذلك.

وجائز أن يكون أريد به الأصنام، ولكن حقه إن كان على الأصنام أن يقول: " وقد أضللن كثيرا "؛ كما قال إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، ولكن الإضلال من فعل الممتحنين، والأصنام ليست لها أفعال، فلما نسب إليها نسبة من يوجد منه الفعل، أخرج الخطاب على الوزن الذي يخاطب به من يوجد منه هذا الفعل؛ وهو كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا}، فأضاف إلى القرية فعل أهلها، والفعل إذا أضيف إلى الأهل، أضيف بلفظ التذكير، ثم أنث هاهنا؛ لإضافة فعل الأهل إلى القرية، ولو كانت القرية بحيث يكون منها الفعل لكان

الخطاب يرتفع عنها بلفظ التأنيث لا بلفظ التذكير، فحيث أضيف إليها فعل أهلها أنث كما يوجب لو كان الفعل متحققا منها.

ثم الأصنام لا يتحقق منها الإضلال، ولكن معنى الإضافة هاهنا هو أنها أنشئت على هيئة لو كانت تلك الهيئة ممن يضل لأضل، وهو كما قلنا في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا}:

فهذا يشبه أن يكون بعدما بين له {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}، فإذ علم أنهم لا يؤمنون لم يدع لهم بالهدى، ولكن دعا اللّه تعالى ليزيد في إضلالهم، ويكون الإضلال عبارة عن الهلاك، والضلال: الهلاك، قال اللّه تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ}، أي: هلكنا.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ... (٢٥) فحرف " ما " هاهنا صلة في الكلام، ومعناه: بخطيئاتهم، أو من خطيئاتهم أغرقوا، فأدخلوا نارا في الآخرة؛ إذ أغرقت أبدانهم وأجسادهم وردت أرواحهم إلى النار.

{فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه أَنْصَارًا}، أي: لم يجدوا لأنفسهم بعبادتهم من عبدوا من دون اللّه تعالى أنصارًا من المعبودين؛ لأنهم كانوا يعبدون من يعبدون من دون اللّه ليقربهم إلى اللّه، ويكونوا لهم شفعاء وعزًّا، فلم يجدوا الأمر على ما قدروه عند أنفسهم.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦).

قيل: تأويله: لا تذر على الأرض من الكافرين ساكن دار، وإذا لم يبق منهم ساكن دار فقد بادوا جميعا وهلكوا، فكأنه يقول: لا تذر منهم أحدا.

٢٧

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧).

هذا كلام شنيع في الظاهر من نوح عليه السلام؛ لأنه خارج مخرج الإنكار على اللّه تعالى لو تركهم ولم يهلكهم، وهذا يشبه بقول من قال: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، وهذا - أيضا - خارج مخرج التذكير للّه تعالى: أنه لو أبقاهم أدى ذلك إلى إضلال العباد، وفيه تقدم بين يدي اللّه تعالى وذلك عظيم؛ لأنه ليس في شرط الألوهية إهلاك من عمله الإضلال؛ ألا ترى أن إبليس اللعين وأتباعه جل سعيهم في

إضلال بني آدم، ثم لم يستأصلوا ولم يهلكوا، بل أبقوا إلى الوقت المعلوم.

ولكن يجوز أن يكون دعا عليهم، بعد أن أذن له بالدعاء عليهم بالهلاك والبوار؛ فيكون الدعاء بالهلاك على تقدم الإذن.

والأصل: أن الرسل - عليهم السلام - بعثوا لدعاء الخلق إلى الإسلام، وكانوا في دعائهم راجين الإسلام منهم، خائفين عليهم بدوامهم على الكفر، فلما قيل لنوح - عليه السلام -: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} - وقع له الإياس عن إسلام من تخلف عن الإيمان، فارتفع معنى الدعاء إلى الإسلام، فجائز أن يرد له الإذن بعد ذلك بالدعاء عليهم بالهلاك، فيدعو إذ ذاك.

ثم يكون قوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} خارجًا مخرج الإشفاق والرحمة على من معه من المؤمنين، وهو أن الذين داموا على الكفر لو أبقوا، خيف منهم أن يضلوا المؤمنين ويغيروهم إلى ملتهم؛ فتكون شفقته على المسلمين داعية له على الدعاء بالهلاك على الكفرة؛ لئلا يتوصلوا إلى الإضلال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} وقت بلوغهم المحنة والابتلاء، فحينئذ يوجد منهم الفجور، لا أن يلدوا فجارا كفارا؛ إذ لا صنع لهم في ذلك الوقت، وهو كقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ}، أي: نبتليه لوقت بلوغه المحنة والابتلاء، لا أن يبتلى وقت ما يشاء.

وفي هذه الآية دلالة أن الكفر قد يقع عليه اسم الفجور؛ لأنه لو خرج قوله: قوله تعالى: {كَفَّارًا} مخرج التفسير لقوله: {فَاجِرًا} استقام أن يحمل تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} على الكفرة.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ... (٢٨) هكذا الواجب على المرء في الدعاء والاستغفار أن يبدأ بنفسه، ثم بوالديه، ثم بالمؤمنين.

ثم قوله: {بَيْتِيَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في سفينتي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (في بيتي) أي: في ديني؛ فيكون البيت كناية عن الدِّين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما هو بيته الذي يسكن فيه؛ لما أطلعه اللّه تعالى أن من دخل بيته مؤمنا لا يعود إلى الكفر.

قال الشيخ - رحمه اللّه -: ثم إن أرجى الأمور للمؤمنين في الآخرة دعاء الأنبياء والملائكة - عليهم السلام - في الدنيا؛ لأنهم إنما يدعون بعد الإذن لهم بالدعاء، فلا يحتمل أن ياذن اللّه تعالى لهم بالدعاء، ثم لا يجيب دعوتهم.

وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - أنه قال: إن نوحًا - عليه السلام - دعا بدعوتين:

أحدهما: للمؤمنين بالاستغفار والتوبة.

والثانية: على الكفار بالبوار والتبار.

وقد أجيبت دعوته فيما دعا على الكفرة؛ فلا يجوز أن يجاب في شر الدعوتين، ثم لا يجاب في خير الدعوتين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} قيل: كسرا وذلا وصغارا؛ فإنه مشتق من التبر، وكل مكسور يقال له: تبر؛ فكأنه يقول: اكسر منعة الظالمين وشوكتهم؛ فإن كان التأويل هذا فهو يقع على جميع الظلمة من كان في وقته ومن بعده.

وقيل: التبار: الهلاك؛ فإن كان هذا معناه فهو على ظالمي زمانه؛ إذ لا يجوز للأنبياء - عليهم السلام - أن يدعوا على قوم إلا أن يؤذن لهم بالدعاء عليهم، وإنما جاء الإذن في حق قومه، فأما في حق غيرهم لم يثبت؛ فلا يجوز القول فيه إلا بما تواتر الخبر به عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠