٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣). اختلف في تأويل الجد: فمنهم من يقول بأن هذه الكلمة يتكلم بها فيمن يظفر بكل ما يريده، فيوصف بأنه ذو جد، فجائز أن يكونوا أرادوا بهذا أن ربنا هو الظافر بكل ما يريده، فلا يستقبله خلاف، ولا تمسه حاجة، وعلى هذا التأويل قوله: " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أي: من كان له الجد في الدنيا، فإذا كان في تقدير اللّه تعالى على خلاف ذلك، لم يغنه ذلك من عذاب اللّه شيئا. فإن كان هذا هو المراد، فمعناه: أن من هذا وصفه يتعالى عن أن يكون له شريك، أو يحتاج إلى صاحبة، أو إلى اتخاذ ولد؛ لأن هذه الأشياء كلها أمارات الحاجة، ومن ظفر بكل ما يريده لم تقع له حاجة. وجائز أن يكون الجد صلة، ومعناه: تعالى ربنا. وجائز أن يكون الجد عبارة عن العظمة والرفعة؛ يقال: " فلان جد في قومه ": إذا عظم وشرف فيهم. وقال الحسن: {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}، أي: غِنَى ربنا؛ ألا ترى كيف ذكر اللّه تعالى عندما نزه نفسه عن اتخاذ الأولاد بقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}، وقد ذكر اتخاذ الولد هاهنا على أثر قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {جَدُّ رَبِّنَا}. ومنهم من يقول تأويله: ملك ربنا. وجائز أن يكون أريد به: قوة ربنا، فتعالى ربنا عن كل ما لو نسب إليه كان فيه نسبته إلى فعل الرذالة والتسفل. ثم الحق ألا يتكلف تفسير قوله: {جَدُّ رَبِّنَا} هاهنا؛ لأنه حكاية عن مقالة الجن، فمراد هذه الكلمة إنما يعرف بإخبار الجن. ثم الشرك فيما جرى به الكتاب على أوجه أربعة: مرة على العبادة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. وشرك في الخلق بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ جَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}. وشرك في الحكم بقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}. وشرك في الملك بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}، فثبت أن الشرك يقع مرة في العبادة، ومرة في الخلق، ومرة في الملك، ومرة في الحكم؛ فهو بقولهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} تبرءوا عن الشرك من هذه الأوجه الأربعة. ثم إذا كان الجد عبارة عن الذي يظفر بكل ما يريده، ففيه ما ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يزعمون أن اللّه تعالى أراد من كل كافر الإيمان، فإذا لم يؤمنوا، فهو غير ظافر بما يريد على قولهم. ويدخل عليهم النقض من وجه آخر، وهو أنا قد بينا أن الشرك قد يقع مرة في الخلق، وهم ينفون خلق الأفعال عن اللّه تعالى، وإذا نفوا ذلك، فقد جعلوا له في الخلق شركاء، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه هو المتفرد بخلق الخلائق؛ فثبت أن الأفعال من حيث الخلق والإنشاء من اللّه تعالى، ومن جهة الكسب والفعل للخلق؛ فمن الوجه الذي تضاف إلى اللّه تعالى لا يجوز أن تضاف من ذلك الوجه إلى الخلق عندنا؛ فلا يقع في الخلق تشابه؛ لأنه لا يتحقق من العباد الفعل من الوجه الذي تحقق من اللّه تعالى؛ ألا ترى أنه يضاف الملك إلى اللّه تعالى، وإلى الخلق، ثم لا يقع في ذلك إشراك؛ لأنه من الوجه الذي يضاف إلى اللّه تعالى لا يتحقق ذلك الوجه في الخلق؛ لأن الإضافة إلى الخلق على جهة المجاز والإضافة إلى اللّه تعالى على جهة التحقيق؛ فكذلك إضافة الأفعال إلى اللّه تعالى وإلى الخلق، لا توجب الشرك؛ لاختلاف الجهتين، واللّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}؛ لأن اتخاذ الصاحبة من الخلق؛ لغلبة الشهوة، وهو منشئ الشهوات؛ فلا يجوز أن يغلبه ما هو خلقه، فيبعثه ذلك على اتخاذ الصاحبة، وبهذا يرد على من زعم أن الملائكة بنات اللّه تعالى، والبنات يحدثن من الصاحبة، وهو تعالى لم يتخذ صاحبة؛ فأنى يكون له بنات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا وَلَدًا} فالأصل أن الأولاد يرغب فيهم المرء؛ لإحدى خصال: إما لما يناله من الوحشة؛ فيطلب الولد؛ ليستأنس بهم. أو يرغب فيهم؛ لما حل به من الضعف، فيريد أن يستنصر بهم. أو لما يخاف زوال ملكه؛ فيطلب الولد؛ ليأمن من زواله. وجل اللّه سبحانه وتعالى عن أن تلحقه وحشة، أو يصيبه ضعف، أو يخاف زوال الملك؛ فإذا كانت الطرق التي بها يرغب في اكتساب الأولاد منقطعة في حقه، لزم تنزيهه عن اتخاذ الأولاد؛ ولهذا ما ذكر عندما نسبته الملاحدة إلى اتخاذ الأولاد - غناه بقوله {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}، أي: غني عن كل الوجوه التي تتوجه إلى اتخاذ الأولاد، وباللّه التوفيق. |
﴿ ٣ ﴾