سُورَةُ الْمُدَّثِّرِبِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}: قيل: إن الذي حمل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على التدثر: أنه كان في بعض طرق مكة إذ سمع صوتا من السماء والأرض؛ فنظر عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه، فلم ير شيئا، فرفع رأسه فرأى شيئًا؛ ففرق منه، فأتى بيته، وقال: " زملوني "، فدثروه. فإن صح ما قالوا، وإلا لم يسعهم أن يشهدوا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن الذي حمله على التدثر ما ذكروا من الفرق. ولأن التدثر ليس مما يسكن به الروع الذي يحل بصاحبه من الصياح. وذكروا أن أول ما نزل من الوحي قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، فإن صح ما ذكروا، فأول ما أوحي إليه هو الصياح الذي سمعه؛ إذ كان ذلك متقدما على قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ}. وقيل: إن كفار مكة قذفوه بالسحر، وأجمعوا رأيهم على أن ينسبوه إليه، وفشا هذا القول فيهم له؛ فأحزنه ذلك؛ فدخل بيته وتدثر بثيابه، فأمره اللّه - تعالى - أن يقوم فينذرهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ}، وعلى هذا التأويل يكون الوحي نازلا قبل نزول هذه السورة، حتى سموه: ساحرا؛ لما يرون منه من الآيات، واللّه أعلم. وذكر أن موسى صلوات اللّه على نبينا وعليه قال: " أتاني ربي من طور سيناء، وسيأتي من طور ساعورا، وسيطلع من جبل فاران ". فإن صح هذا الخبر، فمعنى قوله: " أتاني ربي "، أي: أوحى إلي، وقوله: " وسيأتي من طور ساعورا " هو الوحي إلى عيسى عليه السلام، وقوله: " وسيطلع من جبل فاران " هو القرآن الذي أنزل على نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفي هذا الخبر دلالة أن الأخبار التي ورد بها ذكر نزول الرب في كل ليلة إلى سماء الدنيا، هي على نزول أمره إلى ملائكته، أن قولوا: " هل من داع فيجاب؟، هل من مستغفر فيغفر له؟ "، فجائز أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أول ما أوحي إليه كان بجبل فاران، وهو جبل من جبال مكة، أو كان ذلك الجبل منسوبا إلى ذلك المكان. ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} تثبيت نبوة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وآية رسالته، وذلك أن تعريف المرء بما عليه من الثياب ونسبته إليه، لا يخرجه مخرج التعظيم والتبجيل، وإنما التبجيل فيما يدعى باسمه أو بكنيته، فلو كان الأمر على ما زعمت الكفرة: أن هذا القرآن ليس من عند اللّه، وأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو الذي اخترعه من ذات نفسه، لكان لا يعرف نفسه بثيابه، بل يعرفها بما فيه تبجيلها وتعظيمها، فإذ لم يفعل ثبت أنه كان رسولا حقا، بلغ الرسالة على ما أوحي إليه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأدى كما أمر، على ما ذكرنا في الآيات التي خرجت مخرج المعاتبة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن فيها تثبيت رسالته؛ نحو قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، وغير ذلك من الآيات. وجائز أن تكون نسبته إلى ثيابه؛ ليعلم الخلق أن لا بأس للمرء أن يعرف أخاه بثيابه. وجائز أن تكون نسبته إلى الثوب الذي يدثر به يخرج مخرج التعظيم لذلك الثوب؛ لموافقته حال نزول الوحي، وهذا كما ذكرنا: أن إضافة الأشياء إلى اللّه تعالى نحو الجزئيات تخرج مخرج تعظيم تلك الأشياء، كقوله: ناقة اللّه، ومسجد اللّه، ورب العرش، على تعظيم العرش، وتعظيم أمر الناقة، وتشريف المسجد. وإضافة الأشياء إليه نحو الكليات، يخرج مخرج تعظيم اللّه تعالى؛ كقوله: رب العالمين، رب السماوات والأرض وما بينهما. ثم أذن للمرء أن يسبح في ركوعه، فيقول: " سبحان ربي العظيم "، فيخص نفسه بقوله: " ربي "، والحق في مثله أن يقول " سبحان ربنا "؛ لئلا يخرج ذلك مخرج تعظيم النفس؛ كقوله: " رب العالمين "، و " رب السماوت والأرض وما بينهما "؛ إذ الإضافة من الجانبين على السواء فيما ذكرنا، لكن ذلك الذكر إذا وافق الحالة التي فيها تعظيم الرب ووصفه بالعلو؛ وهي الركوع والسجود، أذن له بأن يأتي بهذا الذكر، وإن خرج ذلك مخرج تعظيم النفس. فكذلك ذلك الثوب الذي تدثر به النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا وافق حال نزول الوحي عظم شأنه من ذلك الوجه؛ فنسب إلى ذلك الثوب. ثم المرء إنما يتدثر عندما يريد أن ينام، أو عند طلب الراحة، وليست تلك الحالة حالة يستحب المرء مصاحبة الكبراء العظماء في مثل تلك الحال، فضلا من أن يصحب الملك في مثل تلك الحال؛ فيكون في هذا دلالة أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يطلع على الأوقات التي كان يأتي فيها الوحي، وإذا لم يعلم كان الأمر عليه أصعب وأشد منه إذا بين له؛ لأنه إذا لم يبين له، لزمه أن يصون نفسه في الحالات كلها عن أشياء يستحي مع مثلها الخلوة بالملائكة؛ ولهذا لم يبين لأحد منتهى عمره؛ ليكون أبدا مستعدا للموت؛ فرقا أن يحل به ساعة بعد ساعة، ويكون أبدا على خوف ووجل من ذلك، واللّه أعلم. |
﴿ ١ ﴾