٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ... (٣١): فلقائل أن يقول في هذا: إنه لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة، لم يوجد فيها إنسي ولا جني، فكيف قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}، وهو لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة؟ والجواب: أن تأويله: أي: ما جعلنا على أصحاب النار إلا ملائكة يعذبون أهلها بها، لا أن يكون الملائكة تمسهم النار، ويتأذون بها. وفي هذا دلالة على أن من قرأ مكان قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}: " أصحاب النار " في صلاته لا تفسد؛ لأنه ليس في نسبة أصحاب الجنة إلى أصحاب النار إيجاب عذاب عليهم؛ كما لم يكن في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} إيجاب عذاب على الملائكة واستحقاقهم، واللّه أعلم. وإِنَّمَا خصهم بذلك - واللّه أعلم - لأنهم خلقوا يسخطون ويغضبون للّه تعالى، ولا يعصون اللّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لم يميلوا إلى أحد، ولم يرحموا بما رأوا عليه من العذاب في معصية اللّه وخلافه، ليسوا على طباع الإنس والجن أن قلوبهم ربما تميل وترحم من لا يستحق الرحمة. وذكر أهل التأويل أن قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} رد على أُولَئِكَ الكفرة الذين قالوا: " إنا لنكفي هَؤُلَاءِ العدة -حين سمعوا {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} - فنغلب عليهم، ونخرج من النار "، فأخبر أنهم ليسوا برجال أمثالكم، إنما هم ملائكة، ووصف الملائكة، وقد روى في الأخبار من هول خلقهم، وعظمهم، وشدة بأسهم وبطشهم، وأن لهب النيران يخرج من أفواههم، وأن بنيتهم لا تحتمل الحرق والآلام، وليس على ما عليه بنية البشر، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: الفتنة: قد يتكلم بها على وجهين: فتذكر الفتنة ويراد بها المحنة التي فيها الشدة. وتذكر ويراد بها العذاب. فإن كان يراد بها العذاب، فمعناه: أنه جعل العدد الذي ذكر فتنة للكفرة؛ وهو كقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}، أي: يعذبون. وإن كان يراد بها المحنة، فتخرج على وجوه: أحدها: أي: ما جعلنا ذكر عددهم إلا لافتتان الذين كفروا، أي: من علمَ اللّه تعالى منه أنه يكفر بآيات اللّه تعالى، جعل ذلك سببا لفتنته إذا كان في علم اللّه تعالى أنه ممن يبتغي الفتنة، فأما من علم أنه ينظر في آيات اللّه مسترشدا، فلم يزده ذلك إلا إيمانا وتصديقا؛ إذ علموا أن للّه تعالى أن يمتحنهم بأنواع المحن، فآمنوا به، وسلموا ذلك للّه تعالى؛ فيكون في جعل عدتهم تسعة عشر شدة على الكفرة، إذ كان سبب كفرهم؛ فلذلك سمى المحنة على هذا أن وجه فتنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} بمعنى: على الذين كفروا. ثم جائز أن يكون ذلك على حدوث الكفر، وهو في قوم قد آمنوا به، فلما سمعوا هذا زعموا أن لا حكمة في هذا العدد، وليس هذا العدد بأولى من أن يجعلوا أصحاب النار من العشرين أو من الثمانية عشر، فكفروا به؛ وهو كقول موسى - عليه السلام -: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ}، وذلك على حدوث إضلال لهم لم يكن من السامري موجود، لا أن الإضلال متقدم بغيرها. وجائز أن تكون فتنتهم هي أنهم ازدادوا بذكر هذا العدد كفرا إلى كفرهم؛ لأنهم نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء، ولم ينظروا إليه بعين التبجيل والتعظيم، فازدادوا بذلك كفرا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}: الاستيقان والزيادة واحد؛ لأن في الاستيقان زيادة إيمان، وفي الزيادة استيقان، فمعناه: ليستيقن الذين أوتوا الكتاب والذين آمنوا. ووجه استيقانهم: أنهم يجدون هذا العدد موافقا للعدد الذي في كتابهم؛ فيحملهم ذلك على الاستيقان أنه من عند اللّه تعالى. ويحتمل أنه يراد به أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا إذا وجدوا ذلك موافقا لما في كتبهم؛ فيستيقنون: أنه إنما يخبر عن اللّه تعالى، ويرتفع عنهم الارتياب؛ ليكون أدعى لهم إلى الإيمان به، إن أراد منهم الإيمان، وأقرب إلى إلزام الحجة عليهم، إن لم يرد منهم الإيمان، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}، أي: تصديقا على ما سبق منهم من التصديق بالجملة، وكذلك روي عن أبي حنيفة - رحمه اللّه - في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، وفي كل موضع ذكر فيه الزيادة في الإيمان: أن معنى الزيادة فيه: أنهم زادوا بالتفسير تصديقا على تصديقهم بالجملة؛ لأنهم إذا وحدوا اللّه - تعالى، وآمنوا به، فقد أقروا بأن له الخلق والأمر كله، وفي الإقرار بأن له الخلق إيمانٌ بالرسل وتصديق منه إياهم بجميع ما أنزل عليهم من الكتب عن اللّه تعالى؛ فصار بإيمانه معتقدًا للتصديق بكل رسول على الإشارة إليه، فإذا آمن بالرسول والكتاب المنزل إليه، فقد أتى بزيادة تصديق على ما وجد منه من التصديق بالجملة. وجائز أن تكون الزيادة منصرفة إلى الثبات والاستقامة؛ لأن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت؛ إذ المؤمن في كل وقت مأمور باجتناب الكفر، وإذا اجتنب الكفر، فقد أتى بضده، وهو الإيمان؛ فثبت أن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت، وإذا كان كذلك، استقام صرف الزيادة إلى الثبات والقرار عليه، فإن شئت فسم الدوام على الإيمان: زيادة، وإن شئت فسمه: إيمانا، وإن شئت فسمه: ثباتا، وفي الكتاب ما يطلق جواز هذا كله؛ قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ}، فندبهم إلى الإيمان بعدما آمنوا، وما ذلك إلا الثبات على ما هم عليه، وقال: {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وهو الإيمان، وقال في آية أخرى: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا}، فجعل دوامهم على الإيمان واستقامتهم عليه إيمانا. وقال تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، قال أبو داود: إيمانا مع إيمانهم فأطلق فيه اسم الزيادة، واسم الثبات، واسم الإيمان. وإن كانت الزيادة منصرفة إلى الأعمال، فهو عندنا على الزيادة من جهة الفضيلة والكمال، لا إلى الزيادة في عينه؛ لأن الشيء إذا استحق الزيادة بغيره فاستحقاقه يقع من جهة الفضيلة والكمال؛ ألا ترى إلى قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " ومعلوم أنه لم يرد به التفاضل من جهة العدد؛ إذ هو يأتي بأعين الأفعال التي يلزمه إتيانها في غير ذلك؛ فكانت الزيادة منصرفة إلى الكمال والفضل، لا إلى الزيادة من جهة العدد. وكذلك قال: " صلاة في جماعة تفضل على صلاة المرء وحده بخمس وعشرين درجة "، ولم يرد به الزيادة من جهة العدد؛ وإنما أريد به الزيادة من جهة الفضل والشرف والكمال، وكذلك الزيادة التي تقع للإيمان من الأعمال الصالحة، إنما هي من جهة الفضيلة والشرف؛ إذ الأعمال ليست من جنس الإيمان؛ إذ الإيمان هو التصديق، وذلك غير موجود في الأفعال؛ فثبت أن زيادته من الوجه الذي ذكرنا دون غيره. وقوله - تعالى -: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلًا}: في هذا الفصل كلام بيننا وبين المعتزلة، فهم يزعمون أن تلك العدة -وهي عدة الملائكة- جعلت محنة لأهل الإسلام، وأهل الكتاب، وأهل الكفر، وللذين في قلوبهم مرض؛ ليؤمنوا بها، ويستسلموا لها لا ليكفر بها من كفر، ويقول: {مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلًا}؟ ولكن لما وجد منهم ذلك القول نسب الجعل إليه، لا أن خلقوا لذلك الوجه؛ وهو كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، نسب إليهما الالتقاط وإن كان الالتقاط لغير ذلك الوجه، وكذلك قال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، ومعلوم أن الإملاء لم يكن لازدياد الإثم، ولكن هم لما ازدادوا إثما، نسب الإملاء إليه، وإن لم يكن الإملاء لذلك الوجه، وكذلك يقال في الكلام السائر: لدوا للموت وابنوا للخراب ولا أحد يبني البناء للخراب؛ ولكن مصيره لما كان إلى الخراب نسب البناء إليه، وإن لم يكن البناء لذلك الوجه، ويقال: يسرق السارق لتقطع يده، ومعلوم أنه ليس يسرق للقطع، ولكن بسرقته إذن لزمه القطع ولأجلها ما قطع، نسب الفعل إليه، وإن كانت السرقة لغير ذلك الوجه؛ فكذلك العدة التي ذكرت في الآية جعلت فتنة بجهة واحدة، وهي التي ذكرناها، لكنه لما وجد من الكفرة ما ذكرنا نسب الخلق إلى ذلك الوجه، لا أن كان الجعل لذلك. ولكنا نقول: لو كان الأمر على ما زعموا، أدى ذلك إلى إسقاط الربوبية؛ إذ في الحكمة: من عمل عملا يريد غير الذي يكون، أوجب ذلك جهلا بالعواقب، أو جعل عابثا في فعله، ومن هذا وصفه، لم يصلح أن يكون إلها، بل يكون جاهلا سفيها؛ ألا ترى أن من بنى شيئا يعلم أنه لا يكون - كان ذلك منه عبثا، وإذا كان غير الذي يريده كان جاهلا به. فإذا ثبت هذا فنقول: لو أراد اللّه من الكافر غير الذي كان منه، لكان فعله خارجا مخرج الخطأ، أو العبث؛ فثبت أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم؛ فإذا علم من عبده أنه يؤثر الضلال على الهدى، فقد شاء له الضلال، وإذا علم أنه يؤثر فعل الخير، شاء له ذلك، ووفقه له، وهداه إليه. والجواب عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، فمعناه: ليكون لهم في علم اللّه عدوا وحزنا، لا أن كان الالتقاط منهم لذلك الوجه؛ بل لو علموا أنه يصير لهم عدوا وحزنا لم يلتقطوه، ولكنهم جهلوا ما ينتهي إليه العاقبة؛ فالتقطوه؛ رجاء أن ينتفعوا به. ولا يجوز أن تخفى على اللّه تعالى عواقب الأشياء؛ فيكون فعله في الابتداء لغير ذلك الوجه. وقولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب فهذا يتكلم به في موضع التذكير والدعاء؛ لئلا يحرص المرء في بناء الأبنية، بل يزهد عنه، ولا يجوز أن يخفى على اللّه تعالى أمر؛ فيخرج الأمر فيه مخرج التذكير؛ فثبت أنه على التحقيق، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلًا}: فالمثل يذكر بمعنى البيان؛ كقول القائل: " أمثل لك صورة كذا " يريد أبين لك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّه مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، فهذا كله تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً. . .} الآية، أي: يضل به من كان في علمه أنه يختار الضلال، واختياره الضلال هو أن ينظر في آيات اللّه تعالى بعين الاستهزاء والاستخفاف، ومن كان نظره في آيات اللّه ما ذكرنا، أضله اللّه تعالى، وزاده غواية، ومن نظر في آيات اللّه، بعين الاستهداء والاسترشاد، واستقبلها بالتبجيل والتعظيم لها، وفقه اللّه تعالى، ومن عليه بالهداية؛ وهو كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، وغير ذلك، واللّه الموفق. وقالت المعتزلة: قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّه مَنْ يَشَاءُ}، أي: يسميه: ضالا، أو يحكم عليه بالضلال إذا ضل، لا أن يكون اللّه - تعالى - يضله، ويشاء ضلالته. فيقال لهم: إذا كان اللّه يريد أن يؤمن به، وذلك إرادته في كل أحد عندكم فتسميته إياه: ضالا، وحكمه بالضلال وهو يريد أن يهتدي - جور منه، وفيه تحقيق كذبه، جل اللّه تعالى عن أن يلحقه وصف الجور في فعله، أو ينسب إلى الكذب. وقال أبو بكر الأصم: تأويله؛ أن اللّه - تعالى - ينصب طريقا، مَن سلكه أفضى به إلى الهداية، ومن زاغ عنه صار إلى الضلال، ولا يتهيأ لأحد من الخلائق أن ينصب مثله. فنقول: لو كان التأويل على ما زعم لكان حقه أن يقال: " كذلك يضل اللّه ما يشاء ويهدي ما يشاء "؛ فلما قال: {مَنْ يَشَاءُ}، و " مَن " يعبر به عن الأشخاص العقلاء لا عن الطريق التي لا يعقل، ثبت أن الذي قاله ليس بشيء يعتمد عليه. ثم الأصل أن قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّه مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} من صفات الربوبية، وفيه امتداح الرب - تعالى - بالفعل لما يريد، فلو لم يكن مريدا منهم ما قد كان، ولم يرد كون ما علم أنه يكون، سقط الامتداح، وخرج عن أن يكون من صفات الربوبية؛ فثبت أن اللّه تعالى شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}: فالجنود هو اسم للجماعة التي ينتقم بها، وينتصر بها. وجائز أن يكون قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} منصرفًا إلى الملائكة، التي هي أصحاب النار، ليس ما جعله من خزنة النار عددًا قليلًا؛ لقلة جنوده، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، أي: لا يعلم مقادير قواهم وأحوالهم إلا اللّه؛ فمعناه: لا يعلم جنود ربك، أي: لا يعلم قوة هَؤُلَاءِ الجنود وبطشهم وهيبتهم إلا هو. ثم يجوز أن يكونوا سلطوا على تعذيب أهل النار؛ على جهة الامتحان للملائكة؛ كما امتحن بعضهم بإيصال التحف والكرامات إلى أهل الجنة، وكما امتحن بعضهم في الدنيا بقبض الأرواح، وبعضهم باستنزال الأمطار، وغير ذلك. وجائز أن يكون تسليطهم على أهل النار على جهة الثواب والجزاء لهم؛ لأنهم يتلذذون بما يعذبون أهل النار، وينتقمون من أعداء اللّه تعالى؛ لأن المرء في الشاهد إذا وصل إلى الانتقام من عدوه، تلذذ به وتنعم. ويحتمل أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، أي: وما يعلم كثرة جنود ربك إلا هو. ويحتمل: وما يعلم السبب الذي به يجعل الجنود، ويصلحون للانتقام إلا هو؛ إذ هو القادر على أن يجعل أضعف شيء من خلقه جندا ينتقم به من أعدائه، كما في قصة البعوض في زمن نمرود، وغير ذلك من إرسال الطير إلى أصحاب الفيل، وإمطار الحجارة على قوم لوط، ونحو ذلك. ويحتمل أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ}، أي: لا يعلم ما الذي يتخذ اللّه تعالى جندًا للانتقام من الأعداء إلا هو؛ ألا ترى أن اللّه - تعالى - انتقم من بعض الأعداء بالغرق، وهم قوم فرعون وقوم نوح - عليه السلام - وأهلك بعضا منهم بالرياح، واتخذها جنودا عليهم، وأهلك بعضهم بالخسف؛ فيكون في هذا إيجاب المراقبة من حلول النقمة والسخطة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}: جائز أن يكون منصرفا إلى السقر أنها ذكرى للبشر، أي: موعظة وتذكيرا لهم ما إليه مرجع أمورهم. وجائز أن يكون منصرفا إلى عدة الملائكة. |
﴿ ٣١ ﴾