٤٠-٤٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣).

فظاهر هذا يؤدي إلى أن التساؤل كان من أهل الجنة بعضهم بعضا، وإذا صدر السؤال عن بعضهم بعضا فحقه أن يقال: " ما سلكهم في سقر "؛ لأن أهل السقر لم يسألوا، بل سئل عنهم غيرهم؛ ألا ترى أنه قال: {عَنِ الْمُجْرِمِينَ}، ولم يقل: " يتساءلون المجرمون "؛ فثبت أن الظاهر يقتضي أن يكون المخاطبون غير المجرمين؛ لذلك قلنا: إن حق مثله أن يقال: " ما سلكهم في سقر "، لكنه يحتمل أن يكون قوله: (عَن) زيادة في الكلام، وحقه الحذف والإسقاط، وإذا حذف ارتفع الريب والإشكال؛ كأنه قال: في جنات يتساءلون المجرمين؛ فيكون فيه تثبيت أن أهل السقر هم الذين خوطبوا بالسؤال.

وجائز أن يكون أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن مكان المجرمين، أين مكانهم؟ وأين هم؟ فيطلعون عليهم فيسألونهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}؟ فيقولون إذ ذاك: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. . .} إلى آخر الآية؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}؛ فثبت أنهبم يطلعون على أماكنهم، فإذا رأوهم سألوهم عن ذلك بقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}، فأجابوا بما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. . .} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}.

والأصل: أن الأفعال التي يتعلق جوازها بالإيمان إذا أضيفت إلى من ليس من أهل الإيمان، أريد بها القبول، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان، أريد بها أعين تلك الأفعال.

والذي يدل على هذا هو أن الكافر يسلك به إلى سقر إذا كان مكذبا بيوم الدِّين، وإن أقام الصلاة، وأطعم المسكين، لم ينفعه ذلك حتى يوجد منه الإيمان؛ فثبت أنه لم يرد بذكر هذه الأفعال إتيان أعينها؛ وإنما أريد بها القبول والإقرار بها؛ والذي يدل على

صحة ما ذكرنا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللّه أَطْعَمَهُ}؛ فثبت أنهم جحدوا أن يكون عليهم إطعام؛ فدل أنه أريد بذكر الإقامة قبولها، لا وجود عينها، وعليهم أن يقبلوا إقامة الصلاة، ويقروا بإيتاء الزكاة، وقد يجوز أن يذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويراد به القبول؛ قال اللّه تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، ولم يكن إيجاد الإقامة وإيجاد الإيتاء من شرط التخلية؛ بل كان معناه على القبول، فإذا أقروا بالصلاة وقبلوا إقامتها، وأقروا بالزكاة، لزم تخلية سبيلهم وإن لم يوجد منهم الفعل بعد؛ فلذلك صلح حمل التأويل على القبول، ولم يحمل على وجود حقيقة الفعل؛ لما ذكرناه.

هذا إذا ثبت أن تأويل قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} منصرف إلى الصلاة المعروفة، فكيف وقد يجوز أن يكون أريد بالمصلين: الموحدين هاهنا؛ لأن أهل الصلاة هم المسلمون، يقال: " أجمع أهل الصلاة على هذا "، ويُعني به المسلمون.

ثم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جمع في الذكر بين التكذيب بيوم الدِّين وبين ترك الصلاة وترك الإطعام، وهذا - واللّه أعلم - يحتمل وجهين:

أحدهما: أن الذي يقر بالصلاة والإطعام وإيتاء الزكاة هو الذي يقر بيوم الدِّين؛ لأن المرء إنما يرغب في فعل هذه الأشياء؛ لما يطمع من المنافع في العواقب، ويتقي بتركها مخافة التبعة في العواقب؛ فإذا لم يقر بيوم الدِّين، لم يرج المنافع، ولا خاف المضار؛ فيحمله ذلك على ترك الإطعام وتضييع الصلاة، وعلى ترك إيتاء الزكوات، وعلى جحدها كلها وعدم قبولها، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)؛ لعدم رجاء العواقب؛ فإذا لم ير لفعله عاقبة، لم يقم بالانتصار لليتيم، ولا قام بالإحسان للمسكين، بل تكذيبه بيوم الدِّين يحمله على الجور على اليتيم، وترك الإحسان إلى المسكين؛ فلذلك جمع في الذكر بين تكذيب يوم الدِّين وبين ترك الصلاة، وإيتاء الزكاة وترك الإطعام.

وجائز أن يكون الذي حملهم على التكذيب بيوم الدِّين هذه الوظائف التي وظفت عليهم بالإسلام؛ لأنهم إذا آمنوا بيوم الدِّين، لزمهم تحمل هذه الأحمال من إقامة

الأفعال؛ والصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطعام المساكين، وصيام شهر رمضان، وغير ذلك من العبادات؛ فاشتد عليهم ذلك؛ فتركوا الإيمان بها؛ لئلا يلزمهم تحمل هذه الأفعال التي حملها أهل الإيمان.

﴿ ٤٠