سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِمَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١-٥قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥) اختلفوا في تأويلها: فمنهم من حمل تأويل هذا كله على الملائكة. ومنهم من صرفها إلى الرياح. ومنهم من صرف البعض إلى الرياح، والبعض إلى الملائكة. وجائز أن يجعل هذا كله في الرياح، ويستقيم أن يصرف كله إلى الملائكة، ويستقيم أن يجعل البعض في الملائكة والبعض في الرياح. فإن كان في الرياح، استقام القسم بها؛ لأن من الرياح رياحا هن مبشرات برحمته، سائقات للنعم إلى عباده؛ كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}. ومن الرياح رياح هي منجيات؛ قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا}؛ فجعل اللّه تعالى الريح سببا لتسيير السفن في البحار، كما جعل الماء سببا لذلك، وجعل منها مهلكات مذكرات لقوته وسلطانه؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ} الآية، فهي تميتهم وتهلكهم من غير أن يدركوها بأبصارهم، وإن كانت الأبصار هي أول ما يقع بها درك الأشياء، ولو أراد أحد أن يعرف الوجه الذي له صارت المنجيات منجيات، أو يعرف الوجه الذي له صارت الرياح مهلكات، أو مبشرات - لم يقف عليه؛ فصارت الرياح مذكرات للنعم، وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث، وبكل ما يخبرهم به الرسل؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم، فعلموا أن الأمر غير مقدر بعقولهم ولا بحكمتهم؛ فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض له من الشك والشبه في أمر البعث؛ فأقسم بها - جل جلاله - على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيد ما يقصد إليه باليمين. فرجعنا إلى قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} قيل: هي الرياح المبشرات؛ سميت: عرفا؛ لأن ما تأتي به من النعم معروفة. وقيل: العرف: المتتابع، وسمي عرف الفرس: عرفا؛ لتتابع بعض الشعر على بعض؛ فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة. وكذلك قوله - تعالى -: {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} جائز أن يحمل على الرياح، لكن على الرياح المُنْشِرَات، وهي الرياح السهلة الخفيفة؛ لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} في بعض القراءات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء وتقصمها، وهي التي ترسل للإهلاك؛ كقوله تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ}. وجائز أن يكون قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للّهلاك أو للتبشير؛ لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب، وغير ذلك قبل أن تتتابع، وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها، وهو أن تكون قاصفة شديدة قبل أن تتتابع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا}. يحتمل الرياح - أيضا - وأنما سميت: فارقات؛ لأنها تفرق السحاب؛ فيصير البعض في أفق، والبعض في أفق أخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا}: جائز أن يصرف إلى الرياح، وإلقاء ذكرها ما ذكرنا: أنه تظهر بها النعم، وتتذكر، وتبين بها النجاة، ويقع ببعضها الهلاك، فذلك إلقاء ذكرها، واللّه أعلم. وإن صرف الكل إلى الملائكة فيحتمل أيضا: فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}، أي: الملائكة الذين أرسلوا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا}، أي: الملائكة الذين يعصفون أرواح الكفار، أي: يأخذونها على شدة وغضب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} جائز أن يكون أريد بها السفرة من الملائكة، سموا: ناشرات؛ لأنهم ينشرون الصحف، ويقرءونها. وجائز أن يراد بها الملائكة الذين يأخذون أرواح المؤمنين على لين ورفق. وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} جائز أن يراد بها الملائكة، وسميت: فارقات؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} هم الملائكة الذين يلقون الذكر على ألسن الرسل، عليهم السلام. وإن صرف البعض إلى الملائكة والبعض إلى الرياح، فمستقيم أيضا. فتكون " المرسلات ": الذين أرسلوا بالمعروف والخير. و" العاصفات " الريح الشديدة، و " الناشرات ": الرياح الخفيفة السهلة. و" الفارفات فرقا " و " الملقيات ذكرا ": هم الملائكة. ويحتمل وجها آخر: أن يراد بقوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} هم الرسل من البشر الذين بعثوا إلى الخلق، فما من رسول بعث إلا وهو مرسل بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وكذلك جائز أن يراد بقوله تعالى: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا. فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} هم الرسل؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل، ويلقون الذكر في مسامع الخلق. وجائز أن يكون قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} هي الكتب المنزلة من السماء؛ لأنها أرسلت بالمعروف وكل أنواع الخير. وكذا قوله: {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا}، أي: ناشرات للحق والهدى، وكذا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا}؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل أيضا. وكذلك {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا}؛ فإنها سبب لذلك، واللّه أعلم. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦): أي: عذرًا من اللّه - تعالى - وهو أن اللّه - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبين الحجج؛ حتى لم يبق لأحد على اللّه حجة بعد ذلك، فهذا هو الإعذار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ نُذْرًا}، أي: أنذرهم، ولم يعجل في إهلاكهم؛ بل بين لهم ما يتقى ويجتنب، وما يندب إليه ويؤتى، فهذا هو الإنذار على تأويل الرياح ما ذكرنا: أنها مذكرات نعم اللّه تعالى ونقمته؛ فيكون في ذلك إيجاب ذكر المنعم والمنتقم؛ فيكون في ذلك إعذار وإنذار، واللّه أعلم. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧). فهذا موضع القسم بما ذكر من المرسلات إلى آخرها. ثم إن كان الموعود هو البعث، فمعناه: إن الذي توعدون به من البعث لكائن، وإن كان على الجزاء والعقاب، فتأويله: إن ما توعدون به من العذاب لنازل بكم؛ فتكون الآية في قوم علم اللّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨). فكأنه - واللّه أعلم - لما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} سألوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن وقت وقوعه متى يكون؟ فنزلت: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ}، فأشار إلى الأحوال التي تكون يومئذ، لا إلى نفس الوقت، فقوله: {طُمِسَتْ}، أي: ذهب ضوءها ونورها، ثم تناثرت. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩): أي: انشقت. ١٠(وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠). أي: قلعت من أصلها؛ فسويت بالأرض. وقال الزجاج: نسفت الشيء إذا أخذته على سرعة. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) وقرئ {وُقِّتَتْ}، وكذلك أصله، لكن الهمزة أبدلت مكان الواو؛ طلبا للتخفيف، وهو من التوقيت، أي: جمعت لوقت. وقيل: أحضرت الرسل؛ ليشهد كل واحد منهم على قومه الذين بعث إليهم؛ كما قال اللّه، تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}. وقيل: {أُقِّتَتْ} أي: وعد لهم بيان حقيقة ما إليه دعوا من وقوع ما أوعدوا قومهم الذين تركوا إجابتهم من العذاب، ووعد لهم الوصول إلى من آمن باللّه تعالى وأجاب الرسل فيما دعوهم إليه من الثواب. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢): {أُجِّلَتْ} و {أُقِّتَتْ} واحد؛ لأن في التأجيل توقيتا، وفي التوقيت تأجيلا، ثم بين وقت حلول الأجل -أجل العذاب- ١٣بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) أي: ليوم الحكم والقضاء، قال اللّه - تعالى -: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}، وقال: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}. فجائز أن تكون الكلمة التي سبقت منه هي تأخير الجزاء إلى يوم البعث؛ فجعل ذلك يوم الجزاء؛ وذلك يكون بالمعاينة، وجعل هذه الدار دار محنة وابتلاء، وذلك يكون بالحجج والبينات؛ فكأنه قال: لولا ما سبق من كلمة اللّه - تعالى - من تأخير الجزاء والعذاب، وإلا كان العذاب واقعا بهم في هذه الدنيا بالتكذيب. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن اللّه - تعالى - أخر الجزاء والعقاب إلى اليوم الذي يجمع فيه الأولين والآخرين، وقدر في هذه الدنيا خلق هذا البشر على التتابع إلى ذلك اليوم؛ إذ ذلك اليوم هو الذي يوجد فيه الجمع، واللّه أعلم. وسمى يوم الفصل لهذا أنه يوم القضاء والحكم، ولأنه اليوم الذي يظهر فيه مثوى أهل الشقاء وأهل السعادة، ويفصل بين الأولياء والأعداء ويفصل بين الخصماء، واللّه أعلم. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤): أي: لم تكن تدري، فدراك اللّه تعالى؛ ذكر هذا: إما على التعظيم والتهويل لذلك اليوم، أو على الامتنان على رسوله - عليه السلام - بإطلاعه عليه، واللّه أعلم. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥): في هذا دليل على أن الوعيد المذكور على الإطلاق منصرف إلى أهل التكذيب، ثم لم يذكر ما للمصدقين، وحقه أن يقال: " طوبى للمصدقين "؛ لأن حرف " الويل " يتكلم به عند الوقوع في المهلكة، وحرف " طوبى " يتكلم به في موضع السرور والعطية، فإذا ذكر في أهل التكذيب حرف الهلاك، كان من كان بخلاف حالهم مستوجبا للسرور، ولكنه إن لم يذكرها هنا فقد ذكرها في موضع آخر بقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: تقديم وتأخير. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦): وهم قوم نوح - عليه السلام - وقوم عاد وثمود. ١٧(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧): قوم فرعون اللعين وقوم لوط - عليه السلام - وغيرهم. ١٨(كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨): قيل: مجرمي هذه الأمة. ثم اختلف في وقت فعله: فمنهم من يقول بأن هذا الإهلاك في الآخرة، لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}. ومنهم من ذكر أنه فعل بهم يوم بدر. ومنهم من ذكر أن فعله بمجرمي أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين "، ألقى اللّه تعالى في قلوبهم الرعب؛ حتى تركوا الانتداب إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه للمحاربة، مع كثرة شوكتهم، وقلة أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فهذا فعله بالمجرمين، وفي إلقاءه الرعب ألطف آيات رسالته، وأبين حجة عليها إذ كان فيه ما ينبههم أن الذي أقعدهم عن القتال، وقذف في قلوبهم الرعب أمر سماوي لا غير، واللّه أعلم. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠): جائز أن يكون ذكر هذا؛ ليدفع عنهم الإشكال والريب الذي اعترض لهم في أمر البعث؛ لأن الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في الإنشاء والابتداء، فذكر ابتداء خلقهم؛ لينتفي عنهم الريب في الإعادة. وجائز أن يكون ذكر خلقهم من الماء المهين، وهو الماء المستعاف المستقذر؛ ليدعوا تكبرهم وتجبرهم على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وينقادوا له، ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه. وأخبر أنه خلقهم في الظلمات التي لا ينتهي إليها تدبير البشر؛ ليعلموا أنه قادر على ما يشاء، ويعرفوا أنه لا يخفى عليه شيء؛ فيحملهم ذلك على المراقبة، وعلى التيقظ والتبصر. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١): القرار المكين هو الرحم، جعله اللّه - تعالى - قرارا مكينا يتمكن فيه الماء المهين، فيخلق منه علقة ومضغة، ويقر فيه إلى الوقت الذي قدر اللّه تعالى الخروج منه. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدَرْنَا ... (٢٣) قرئ: {قَدَرْنَا} و {قَدَّرْنَا}، فـ {قَدَّرْنَا}، أي: خلقنا كل شيء منه بقدر؛ و {قَدَرْنَا}، أي: سويناه على ما توجبه الحكمة على الوجوه التي تذكر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}: أي: أنعم به من قادر؛ فيخرج مخرج ذكر الآلاء والنعم، أي: إن الذي فعل بكم هذا هو اللّه - تعالى - لم يقدر أحد أن يفعل بكم هذا الفعل. ٢٥-٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦): جائز أن يكون هذا صلة قوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} و {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}. فيكون في ذكر هذا كله تذكير للآلاء والنعم، وتذكير القدرة والسلطان والحكمة. فوجه تذكير النعم: أن اللّه - تعالى - في أول ما أنشأه، أنشأه نطفة قذرة، وجعل لها مكانا يغيب عن أبصار الخلق، ولم يفوض تدبيرها إلى البشر، وكذلك في الوقت الذي أنشأه علقة ومضغة، لم يفوض تدبيره إلى أحد من خلائقه؛ لأنه في ذلك الوقت بحيث يستعاف ويستقذر، ولا يدفع عنه المعنى الذي به وقعت الاستعافة والاستقذار بالتطهير؛ فجعل له قرارا مكينا يستتر به عن أبصار الخلائق، ثم لما أنشأه نسمة، وسوى خلقه أخرجه من بطن أمه وألقى في قلب أبويه الرقة والعطف؛ ليقوموا بتربيته وإمساكه إلى أن يبلغ مبلغا يقوم بتدبير نفسه ومصالحه، ثم جعل له بعد مماته أرضا تكفته وتضمه إلى نفسها؛ فيستتر بها عن أبصار الناظرين؛ إذ رجع بعد موته إلى حالة تستعاف وتستقذر ولا تقبل التطهير؛ فكان في ذكره أول أحواله إلى ما ينتهي إليه تذكير النعم؛ ليصل إلى أداء شكره. أو جعل الرحم قرارا له في وقت كونه نطفة وعلقة ومضغة؛ لما لا يعرف الخلائق أنه بم يغذى حتى ينمو ويزيد؟ فرفع عنهم مؤنة التربية في ذلك الوقت، ثم إذا صار بحيث يعرف وجه غذائه، وعرف الخلق المعنى الذي يعمل في دفع حاجته، أخرجه من بطن الأم، وفوض تدبيره إلى أبويه؛ فهذا وجه تذكير النعم، وفي ذكره ذكر القوة والسلطان والحكمة، وهو أن اللّه تعالى جعل النطفة التي أنشأ منها النسمة، بحيث تصلح أن ينشأ منها علقة ومضغة، ولو أراد الخلائق أن يعرفوا المعنى الذي له صلحت النطفة بأن ينشأ منها العلقة والمضغة والعظام واللحم، ثم يكون منها نسمة سوية - لم يصلوا إلى معرفته، وإذا تفكروا في هذا علموا أن حكمته ليست على ما ينتهي إليه علم البشر ولا قوته تقتصر على الحد الذي تنتهي إليه قوى البشر، والذي كان يحملهم على إنكار البعث بعد الإماتة تقديرهم الأمور على قوى أنفسهم وتسويتها بعقولهم، فإذا تدبروا في ابتداء أحوالهم ورأوا من لطائف التدبير وعجائب الحكمة، علموا أن الأمر ليس كما قالوا وقدروا؛ فيدعوهم ذلك إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل وتخبرهم من أمر البعث وغيره. وجائز أن يكون ذكرهم ابتداء أحوالهم ونشوءهم، وإلى ما يصيرون إليه؛ ليدعوا التكبر على دين اللّه تعالى وينقادوا له بالإجابة، ولا يستكبروا على أحد من خلائقه؛ لأنهم في ابتداء أحوالهم كانوا نطفة يستقذرها الخلائق، ثم علقة ومضغة، ويصيرون في منتهى الأمر جيفة قذرة؛ ومن كان هذا وصفه فأنى يليق به التكبر على أحد؟! ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا}: تكفتهم، أي: تضمهم وتجمعهم في حياتهم وبعد مماتهم، فالانضمام إليها في حال حياتهم ما جعل لهم من المساكن فيها والبيوت، وجعل لهم بعد مماتهم مقابر يدفنون فيها، أو جعل متقلبهم ومثواهم في ظهورها في حياتهم، وجعل بطنها مأوى لهم بعد وفاتهم، وجعل ظهرها بساطا لهم؛ ليسلكوا فيها سبلا فجاجا؛ وقدر لهم فيها أقواتهم، فذكرهم وجوه النعم في خلقه الأرض؛ ليستأدي منهم الشكر، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ... (٢٧): الرواسي هي الجبال الثابتات في الأرض أثبتها في الأرض؛ لتقر بها، ولا تميد بأهلها؛ إذ لو مادت لم يصل أهلها إلى ما قدر لهم من المنافع، فذكرهم بذكره الجبال الرواسي عظيم نعمه عليهم؛ ليستأدي منهم الشكر. والشامخات: هي الطوال. ٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا}: ولولا إنزاله عليكم لم تكونوا تصلون إليه بقواكم وحيلكم، ثم أنزله من السماء إلى الأرض، ولم يخرج من حد العذوبة، ولا حل به التغير بما مسته الأرض، واختلطت به، وهذا منصرف إلى الشرب خاصة، ثم لغير العذب من المنافع ما للعذب إلا الشرب خاصة. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، معناه - واللّه أعلم -: إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب اللّه تعالى، وهم كانوا يكذبون بالبعث وبالعذاب، لكن يقال لهم هذا بعد البعث؛ فهو منصرف إلى ما ذكرنا من العذاب. ٣٠وقوله - عز وبخل -: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠): ذكر أن ذلك الظل دخان يخرج من جهنم؛ فيظنون أنه ظل؛ فينطلقون إليه؛ رجاء أن ينتفعوا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أصله واحدا، ثم يتشعب منه شعب ثلاث: وجائز أن يكون في الأصل ذا شعب ثلاث تأتي كل شعبة من ناحية، ثم تجتمع، فتصير شيئا واحدا. ٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللّهبِ (٣١): أي: لا ينتفعون به ما ينتفع بالظل في الدنيا؛ لأن ظل الدنيا يهرب إليه لدفع الحر، أو ليسكن فيه؛ لأن ظل البيت مما يسكن فيه، وظل الشجر والحيطان؛ ليأووا إليه؛ للتروح، وذلك الظل لا يغني عنهم في الآخرة في دفع الحرارة ولا في غيرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللّهبِ}: جائز أن يكونوا هربوا إلى ذلك الظل من اللّهب؛ فيخبر أن ذلك الظل لا يدفع عنهم، أذى اللّهب. وجائز أن يكون اللّهب في ذلك الظل، ويكون كثافة الظل ساترة عما فيها من اللّهب؛ فيخبر أن سترها لا يمنع اللّهب عن أن يمسهم إذا انضموا إلى الظل. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ (٣٢) مفتوحة الصاد: فالقراءة المعروفة قيل: يراد بالقَصْر: المعروف المبنى باللبن والخشب. وقيل: يراد بها قصور أهل البادية، وهي أن خيام. ومن قرأ بالنصب اختلفوا في تأويله: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {كالقَصَر} قصر النخل؛ الواحدة: قصرة، وذلك أن النخلة تقطع قدر ثلاثة أذرع وأقصر وأطول، يستوقدون بها في الشتاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو أصل النخل المقطوع المنقعر من الأرض. وقيل: هو أعناق النخيل. وقيل: القصرة: اسم الخشبة التي تقطع عليها اللحوم، وتكسر العظام، تكون للقصابين. وعن الحسن أنه قرأ مخففة {كالقَصْر}؛ غير أنه فسرها: أي: الجزل من الخشب؛ الواحد: قصرة؛ كقولك: تمرة وتمر، واللّه أعلم. وفيه إخبار عن عظم شررها وقدرها خلافا لما عليه سائر الشرر في الدنيا؛ لأن شرر الدنيا لا يأخذ مكانا؛ بل يتبين ثم ينطفئ. ثم جائز أن يكون بعض شررها في العظم كالخيام، وبعضه كالقصور، وبعضه كأصول الأشجار. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) قرئ: [{جِمَالَتٌ صُفْرٌ} جماعة الجمل]، وقرى: {جِمَالَاتٌ} جمع جمالة. والصفر: قيل: السود، وإنما سميت السود: صفرا؛ لأن السود تعلوها الصفرة في الإبل، فتسمى بهما؛ يدلك قول القائل عليه: تلك حبلى منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب شبه الشرر بالقصر، والقصر بالجمالة، وهي الإبل السود. وقرئ {جِمَالَاتٌ} برفع الجيم، وهي حبال السفن تمد، ثم إذا ضمت تكون كأوساط الرجال؛ فشبه الشرر بالحبال الممدودة الصفر عند الامتداد وعند الانضمام كأوساط الرجال؛ فتكون كالقصر. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) جائز أن يكون معناه: أنهم لا ينطقون نطقا ينتفعون به كما لم يكونوا ينطقون في الدنيا كلاما يقربهم إلى اللّه تعالى، فعاملهم في الآخرة حسب معاملتهم اللّه تعالى في الدنيا، وهو كقوله تعالى: {نَسُوا اللّه فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} الآية. ومنهم من يقول: لا ينطقون في بعض المواضع، وينطقون في بعضها. ويحتمل: أي: لا ينطقون بحجة؛ بل يكذبون؛ كقوله: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦): ليس أنه لا يقبل العذر منهم إذا أتوا به، ولكن معناه: أنه لا عذر لهم؛ ليقبل منهم، وهو كقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، معناه: أنه لا شفيع لهم، لا أنهم إذا أتوا بشفعاء لم يشفع لهم، وإذا لم يكن لهم عذر، فهم لا يعتذرون بعذر. ٣٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فيه إخبار أنه لا يخص بالبعث فريقا دون فريق، بل يجمع الخلائق كلهم، ثم يفصل بينهم؛ فينزل كلا منزلته التي استوجبها {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}. وقيل: هو يوم الحكم؛ فجائز أن يكون سمي به؛ لما يختصم فيه أهل المذاهب؛ فيحكم فيه بين المحق وبين الذي كان على الباطل، واللّه أعلم. ٣٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩): جائز أن يكون يقال لهم هذا في الآخرة: أن كيدوا حتى تنجوا أنفسكم مما نزل بكم؛ أي: إن كانت لكم حيل تحتالون بها فافعلوا، وهو حرف التقريع والتوبيخ على نفي نفاذ المكر والحيلة، ليس على ما عليه أمر الدنيا: أنهم يحتالون ويمكرون بأنواع الخداع والتمويهات. ويحتمل أن قيل لهم هذا في الدنيا، أمر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعارضهم بهذا فيقول لهم: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} في قتلي أو إخراجي من بين أظهركم، كما قال هود - عليه السلام - لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}، فعجزهم عن ذلك يظهر لهم آية رسالته، وحجة نبوته؛ إذ خوف الأعداء من غير أعوان كانوا له ولا جنود مجندة؛ بل كان وحيدا فريدا بين ظهراني قوم مشركين، ليست همتهم إلا إطفاء هذا النور. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ}، فالمتقون: هم الذين اتقوا عذاب اللّه، قال اللّه تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وقال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وقال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فهذا هو التقوى. ثم إن أهل التوحيد أقروا بالعذاب، فاجتهدوا في اتقائه، فقيل لهم: انطلقوا إلى ظلال وعيون؛ وأهل النار كانوا مكذبين بالعذاب، فقيل لهم: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، من العذاب. ثم أخبرنا بالوجه الذي يقع به الاتقاء فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، وأمرنا بالانتصاب لمحاربته، ثم علمنا وجه المحاربة بقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّه}، وقال: - تعالى -: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، وقال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فألزمنا الفزع إليه، وبين أنا لا نقوى على محاربته إلا بالابتهال إليه والفزع. ثم يحتمل أن يكون الاتقاء هاهنا منصرفا إلى التصديق خاصة؛ لأنه ذكر الاتقاء هاهنا مقابل التكذيب في الأولين. وجائز أن يكون منصرفا إلى المصدقين بالأقوال، والموفين بالأعمال؛ فالمتقي: هو الذي اتقى إساءة صحبة نعم اللّه تعالى فوقاه اللّه - تعالى - شر يوم القيامة، مجازاة له، والمحسن: هو الذي أحسن صحبة نعمه، فأحسن اللّه منقلبه، وأحله بدار كرامته، في ظلال وعيون وفواكه. أو المتقي: هو الذي وقى نفسه عن المهالك، فوقاه اللّه تعالى يوم القيامة، والمحسن: هو الذي أحسن إلى نفسه، وهو الذي استعملها في طاعة اللّه تعالى؛ فأحسن اللّه إليه بما أنعم عليه من الظلال والعيون. ثم أخبر أنهم في ظلال؛ لأن الظلال مما ترغب إليه الأنفس في الدنيا؛ لأنها تدفع عنهم أذى الحر والبرد وأذى المطر والرياح، وغير ذلك، وظلال الأشجار والحيطان تدفع أذى الحر، وظلال البنيان تدفع أذى الحر والبرد والمطر، وهي لا تحول - أيضا - بين المرء والأشياء، عن أن يدرك حقائقها؛ فعظمت النعمة في الظلال، ووقعت إليها الرغبة في الدنيا، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ}، وقال تعالى: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)، ثم الأنفس إذا أوت أوت إلى الظلال، اشتهت ما تتمتع به الأبصار، وأعظم ما تتلذذ به الأبصار أن يكن نظرها إلى المياه الجارية؛ فأخبر أنهم في ظلال وعيون. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) أي: فواكه أيضا؛ فأخبر أن لهم فيها ما تتلذذ به الأبصار، وتتمتع به، وفيها ما تشتهى أنفسهم، وفيها ما يدفع عن أنفسهم الأذى. ٤٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) لا تبعة عليكم من جهة السؤال، ولا تنغيص؛ أي: لا يؤذيهم ما يأكلون ويشربون، فالهنيء الذي لا تبعة على صاحبه، ولا تنغيص فيه. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) فسمى المتقي: محسنا؛ لأنه بدأ بذكر المتقين، وذكر ما أعد لهم، ثم أخبر أنهم جوزوا بإحسانهم؛ فيكون فيه دلالة على أن الاتقاء متى ذكر على الانفراد يقتضي إتيان المحاسن والاتقاء عن المهالك. ٤٦ثم رجع إلى المكذبين، فقال: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ}، فهذا في الظاهر أمر بالأكل والشرب، وهو في الحقيقة وعيد، وهو أن تمتعكم بالأكل وغيره الذي يمنعكم عن النظر في الآيات قليل، عن سريع تفارقونه، وتصيرون إلى عذاب اللّه تعالى. وقوله - تعالى -: {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} قد ذكرنا أن المجرم هو الوثاب في المعاصي. ٤٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) أي: إذا قال لهم الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: اركعوا؛ أي: اخضعوا، واستسلموا للّه - تعالى - امتنعوا عن ذلك؛ استكبارا منهم على الرسل، وإعراضا عن النظر في حجج اللّه تعالى. ٥٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠) أي: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ يصدقون بعد حديث اللّه - تعالى - الذي لا حديث أصدق منه، وأقوى في الدلالة. وجائز أن يكون هذا على تسفيه عقولهم وأحلامهم، وهو أنهم يمتنعون عن التصديق بحديث اللّه تعالى؛ إذ لا حديث أصدق منه، ثم يصدقون الأحاديث الكاذبة والأباطيل المزخرفة، واللّه أعلم بالصواب، وصلى اللّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * * |
﴿ ٠ ﴾