سُورَةُ النَّازِعَاتِوهي مكية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١))، اختلف في تأويله: فمنهم من حمل ذلك كله على الملائكة، فقال. {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} هم الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفرة، ويغرقون إغراقا؛ أي: يشددون في النزع كما يغرق النازع في القوس، أو يشتد عليه شدة الأمر على الغريق، أو تنزع أرواح الكفرة فتغرق في النار. ٢قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) قيل: أي: ينشط أرواح الكفرة نشطا عنيفا، أي: تنزع ملائكة العذاب أرواح الكفرة من أجوافهم نزعا شديدا. وقيل: هذا في حق المؤمنين أن الملائكة تنشط أرواح المؤمنين؛ أي: تحلها حلا رقيقا، كما ينشط من العقال؛ فيخبر بهذا عن خفة ذلك على المؤمنين، ويخبر بالأول عن شدته على الكافر. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) قيل: إن الملائكة يسلون أرواح الصالحين سلا رقيقا. وقيل: الملائكة يسبحود بين السماء والأرض. ٤قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) أي: تسبق الملائكة إلى أرواح المؤمنين. وقيل: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} الملائكة الذين يسبقون بالوحي إلى الأنبياء، عليهم السلام. وقيل: هم الكَرُوبِيُّون، الذين لا يفترون عن تسبيح رب العالمين. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥) هم الملائكة الموكلون بأمور الخلائق وأرزاقهم. ومنهم: من صرف تأويل الآيات إلى النجوم: أنهن النجوم اللاتي يطلعن من مطالعهن لحوائج الخلق، ولأمور جعلت لها، ويغربن في مغاربهن، ثم ينشطن إلى مطالعهن، فيطلعن منها؛ أي: لا يطلعن كرها؛ بل ناشطات لأمر اللّه - تعالى - إلى ما سخرن له. {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا}: النجوم أيضا، وسبحهن: دورانهن في الأفق لأمور، خفي ذلك على الخلق؛ لقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. وقوله: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} أي: يسبق بعضها بعضا، أو تسبقن الشياطين بالرجم والطرد، لا تدعهن يقربون إلى السماء، وبه قال الحسن، واللّه أعلم. ومنهم: من صرف تأويل الآيات إلى مختلف الأشياء، فقال: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} هي القسي ينزعها الإنسان، فيغرق في نزعها، {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} هي الأَوْهاق تنشط بها الدابة تكون منه في جهة. {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا}: هن السفن. {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا}: هن الخيل. {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}: هي الملائكة، وبه قال عطاء. ومنهم: من صرفها إلى أنفس المؤمنين وأرواحهم، فقال: {وَالنَّازِعَاتِ}: هي الأنفس التي تغرق في الصدر، {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} حين تنشط من القدمين. وقيل: إن أنفس المؤمنين ينشطن إلى الخروج عن الأبدان إذا عاينوا ما أعد لهم في الجنة. {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا}: هي أرواح المؤمنين، سميت: سابحات؛ لسهولة الأمر عليها، كما يسهل الخروج من الماء لمن يعلم السباحة. وقوله: {فَالسَّابِقَاتِ} - أيضا -: هي أرواح المؤمنين، سميت: سابقات؛ لما تكاد تسبق فتخرج قبل وقتها؛ لما تعاين من كرامات اللّه تعالى وما ينتشر من الخير؛ يؤيد هذا ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر ". وقيل: ذلك عند موتة المؤمن إذا حضره الموت صار في ذلك الوقت كالمسجون الذي يتمنى الراحة والخلاص منه؛ لأنه يرى ما أعد له من الثواب؛ فتتهوع نفسه تود لو خرجت حتى تصل إلى ما أعد لها من الكرامة، والكافر إذا رأى عندما حُضِرَ جعل يبتلع نفسه؛ كراهة أن يخرج، فتصير الدنيا في ذلك الوقت كالجنة له فيما لا يحب مفارقتها من شدة ما يرى من عذاب اللّه تعالى. وعلى هذا قيل في تأويل قوله - عليه السلام -: " من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه، ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه ": إن ذلك عند الموت أن المؤمن إذا حضره الموت ورأى ثوابه من الجنة، ود أن تخرج نفسه؛ فيحب لقاء اللّه تعالى، ويحب اللّه لقاءه، والكافر يكره في ذلك الوقت أن تخرج نفسه، فذلك حين كره لقاء اللّه، وكره اللّه لقاءه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}، قالوا جميعا: المراد منها الملائكة الموكلون بأمور الخلق وأرزاقهم، ونحو ذلك، واللّه أعلم. ثم اختلف في الذي قصد إليه باليمين والقسم: فمنهم من ذكر أن الذي وقع عليه القسم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} على معنى: إنكم مبعوثون، وأن القيامة حق، فكأنه أقسم بهذه الأشياء أنهم لمبعوثون، وأضمر الجواب هاهنا؛ لما دل عليه المعنى؛ فاكتفى به. ٦ومنهم من ذكر أن القصد من اليمين قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٦)، فأقسم بما ذكر أن النفختين كائنتان: فالنفخة الأولى يموت بها الخلق، والنفخة الثانية؛ لإحياء الأموات، والراجفة هي النفخة، فجائز أن يكون على حقيقة النفخة؛ فتكون النفخة علامة الموت والحياة، لا أن تكون علة الإماتة والإحياء. ثم اختلفوا بعد هذا: فمنهم: من يحمله على التحقيق؛ فيزعم أن النفخة الأولى يهلك بها الخلق، والنفخة الثانية يحيا بها الخلق. ومنهم من ذكر أن النفخات ثلاث: فالنفخة الأولى؛ للتفزيع والتهويل؛ قال اللّه - تعالى -: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. . .) الآية، والنفخة الثانية يهلك بها الخلق بقوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. . .} الآية، والنفخة الثالثة يحيا بها الخلق بقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}. ومنهم من ذكر أن هذا ليس على تحقيق النفخ؛ بل على التمثيل، فمثل به إما لخفة البعث والإحياء على اللّه - تعالى - وسهولته كخفة النفخ على النافخ. أو مثل به؛ لسرعته؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. وقالوا: الرجفة: هي الزلزلة، والتحرك، {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} وهي الزلزلة الأخرى. ٧ثم إن كان القسم على إثبات البعث، ففيها ذكر إشارة إلى أحوال البعث وأفعالها، وإن كان موجفة، على قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) فكأنهم سألوا: كيف تكون القلوب في ذلك اليوم؟ فقال: تكون واجفة، والواجفة: الخائفة الوجلة. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) أي: ذليلة. ووجه تخصيص الأبصار والقلوب - واللّه أعلم -: هو أنه لا يتهيأ لأحد استعمال قلبه وبصره، بل يحدث للقلوب فِكَرٌ وبدوات لا يمكنه أن يدفع عنها الفكر، وكذلك هذا في البصر؛ فيخبر أن ما نزل بهم من الخوف والهيبة يمنع القلوب والأبصار عن عملها؛ فلا تنظر إلا إلى الداعي، ولا يحدث للقلوب فكر، بل تكون الأفئدة هواء، لا تقر؛ لشدة ما حل بها من الخوف؛ إذ المرء إذا أحزنه أمر فهو يعمل أنواعا من الحيل ويوقع بصره على شيء فشيء؛ رجاء أن يستدرك ما فيه خلاصه وسلامته من ذلك الأمر، ثم ينقطع عنهم التدبير في ذلك اليوم؛ فتكون القلوب هواء لا تقر في موضع، ولا تقف على تدبير؛ لشدة ما حل بهم، وتكون الأبصار خاشعة ذليلة إلى ما يدعو الداعي. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أي: يقولون: أئنا لنرد إلى ما كنا عليه في الدنيا في ابتداء الأمر خلقا جديدا؛ يقال: أتى فلان فلانا، فرجع على حافرته؛ يقول: على مجيئه الأول. ويقال: النقد عند الحافرة؛ أي: عند أول البيع والكلام، فقالوا هذا على جهة الإنكار بالبعث والاستهزاء به. قال أبو بكر: هذا مأخوذ من حافر الدابة، وهو أن الفارس يمكنه أن يصرفها بحافرتها إلى الموضع الذي ابتدأ السير منه من وراء. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١) و (ناخرة)؛ فالناخرة: هي البالية التي لم تفتت بعد، والنخرة هي التي صارت رفاتا ودرست حتى تنسفها الريح. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) قال الحسن وأبو بكر: هذا منهم تكذيب البعث؛ أي: لا يكون أبدا. وقال غيرهما: معناه: أن لو كانت كرة كما يزعمها المسلمون فهي كرة خاسرة على المسلمين؛ لأنهم ظنوا أنهم إذا كانوا في الدنيا أنعم حالا وأرغد عيشا، وكان المسلمون في ضيق من العيش وشدة من الحال - أن يكونوا كذلك في الآخرة؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}، فكانوا يظنون أنهم بما أنعم اللّه - تعالى - عليهم إنما أنعم؛ لأنهم أقرب منزلة، وأعظم درجة من المؤمنين؛ إذ لا يجوز أن يضيق على أوليائه، ويوسع على أعدائه، فإذا وسع عليهم ظنوا أنهم هم المفضلون في الدنيا والآخرة، وأن من خالفهم هم الأخسرون. ومنهم من قطع هذا الكلام عن مقالة الكفرة، وزعم أن هذا الوصف راجع إلى الكفرة، فقيل: خاسرة؛ لما خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم، وخاسرة، أي: مخسرة. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) ففيه إخبار عن سرعة كون ذلك الوقت وسهولته على اللّه تعالى. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) قيل: الساهرة: هي وجه الأرض. وجائز أن يكون أريد بهذا أن العيون تسهر في ذلك اليوم، ولا يعتريها النوم؛ بل تكون مهطعة إلى الداعي ذليلة. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}: منهم من يقول: قد أتاك فخوفهم به. وقال الحسن: لم يكن أتاه، فأتاه بهذا؛ كما يقول الرجل لآخر: هل أتاك ما فعل فلان؟ وهو يريد أن يذكره بهذا فيعلمه مع علمه أنه لم يكن علمه من قبل. وقد ذكرنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد من تثبيت الرسالة والتخويف لمن أساء صحبة الرسل - عليهم السلام - لئلا ينزل بهم ما نزل بفرعون وأتباعه حين أساءوا صحبة الرسول موسى، عليه السلام. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) قيل: طوى: اسم ذلك الوادي. وقيل: سمي: طوى؛ لأنه بورك مرتين، مرة حين أتاه إبراهيم عليه السلام، ومرة بإتيان موسى عليه السلام. وذكر عن الزجاج أن (طِوى) بكسر الطاء الذي بورك مرتين، ثم أضاف ذلك الحديث مرة إلى موسى ومرة إلى نفسه إذ ناداه؛ فظاهره: أن اللّه - تعالى - هو الذي كلمه، فأضيف إلى اللّه تعالى؛ لأن أصله من اللّه - تعالى - كما ذكرنا في قوله - تعالى -: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه}، وفي قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) أي: عتا وطغى في نعمه، فاستعملها في كفران نعمه؛ فلم يشكر اللّه - تعالى - بها. ١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) أي: هل لك في إجابة من إذا أجبت تزكيت، أو هل لك رغبة إلى ما تزكو به نفسك وتنمو. ثم في هذه الآية دلالة أن من أراد أن يدعو آخر إلى ما فيه رشده وصلاحه، فالواجب عليه أن يدعوه أولا بالرفق واللين؛ كما أمر موسى وهارون - عليهما السلام - بقوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، وبقوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} وإذا ترك الإجابة ختم كلامه بالتعنيف؛ كما فعل موسى - عليه السلام - بقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}، بعد قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩) أي: أهديك إلى ربك فتهتدي، ثم تخشاه إذا اهتديت؛ أي: عرفت عظمته وجلاله؛ فتخشى عقوبته؛ فيكون العلم مثمرا للخشية؛ ألا ترى إلى قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. أو أهديك إلى طاعة ربك، وأنذرك عقابه إذا عصيته؛ فتخشى؛ فلا تعصيه. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) منهم من ذكر أن الآية الكبرى هي اليد سميت: كبرى؛ لأن سحرهم عمل في الحبال والعصي، ولم يعمل في اليد؛ فكانت هذه الآية خارجة عن نوع سحرهم، فسميت: كبرى؛ لهذا المعنى. ومنهم من ذكر أن الآية الكبرى هي العصا؛ لأن غلبة موسى - عليه السلام - على السحرة كانت بالعصا، حيث تلقفت ما أتوا به من السحر، ولكن كل آياته كانت كبرى، كما قال في آية أخرى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}، فكانت إحداهما أكبر من الأخرى عند ذوي الأحلام والنهي لمن تأمل فيها وتدبر، واللّه الموفق. ٢١وقوله: (فَكَذَّبَ وَعَصَى (٢١) أي: كذب بآيات اللّه، وعصى نبيه موسى؛ فلم يطعه. ٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) قال الحسن: كان خفيفا طيَّاشًا، وإلا فالملوك إذا دعوا إلى أمر تدبروا فيه وتفكروا: إما ليجيبوا الداعي إلى ما دعاهم، أو ليردوا عليه، فأما الإدبار والسعي فليس إلا من الخفة والطيش. وقال غيره: أدبر عن طاعة اللّه - تعالى - وتولى عنه، وسعى في جمع السحرة. أو سعى في جمع من قال لموسى - عليه السلام -: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ). ٢٣-٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) ذلك اللعين قد علم أنه ليس برب السماء والأرض، ولكن قد اتخذ لقومه أصناما فأمر العوام منهم أن يعبدوها؛ ليقربهم ذلك إليه، لكن إذا صاروا من خاصته أذن لهم بأن يعبدوه، وأمر الخواص منهم بعبادته، فسمى نفسه: أعلى الأرباب؛ لهذا. ٢٥وقوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥) منهم من يقول: أخذه بعقوبة الكلمتين جميعا: الكلمة الأولى: قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، والكلمة الثانية: قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). ومنهم من يقول: أخذه بعقوبة ما تقدم من الإجرام وما تأخر إلى أن غرق. ومنهم من يقول: أخذه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، فغرقه في الدنيا، وعذب روحه بعد مماته بقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، ويدخل في النار مع أتباعه بقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)؛ فاتصلت عقوبة الدنيا بعقوبة الآخرة. ٢٦وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٢٦): وفي ذلك كله عبرة، لكن الذي يعتبر بها من يخشى العواقب، ويخاف عقوبة اللَّه تعالى. ٢٧وقوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) جائز أن يكون هذا صلة قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)؛ فيكون في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ). وفي قوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا) تقرير له أيضا. ثم قوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) يحتمل أوجها: أحدها: أن إعادتهم خلقا جديدا وبعثهم أيسر في عقول منكري البعث من خلق السماوات، وقد أقروا أنه خالق السماء، فإذا لم يتعذر عليه خلق السماء، وإن كان خلقها أشد في عقولهم من خلق أمثالهم، فما بالهم ينكرون بعثهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه، وذلك أهون في عقولهم. ويحتمل وجها آخر: وهو أن السماء مع شدة خلقها أشفقت على نفسها، فأبت قبول ما عرض عليها من الأمانة، وخافت نقمة اللَّه - تعالى - فما بال هذا الإنسان مع ضعفه يمتنع عن الإجابة إلى ما دعي إليه؛ أفلا يشفق على نفسه، ولا يخاف نقمة اللَّه تعالى، وما خلقت النار والجنة إلا لأجل الإنس، فيذكرهم بهذا؛ ليخوفهم ويرتدعوا عما هم فيه من الطغيان ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه الرسول. وجائز أن يكون هذا صلة قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، فيخبر أن السماء مع شدتها وطواعيتها لا تقوم بذلك اليوم؛ فكيف يقوم الإنسان لهول ذلك اليوم مع ضعفه؟! فيرجع هذا - أيضا - إلى التخويف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) (بَنَاهَا): أي: خلقها، ٢٨(رَفَعَ سَمْكَهَا (٢٨): سقفها، (فَسَوَّاهَا) بالأرض، أو سواها على ما توجبه الحكمة ويدل على الوحدانية. قال إمام الهدى أبو منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثم لم يفهم أحد من قوله: (بَنَاهَا) ما يفهم من البناء المضاف إلى الخلق، ولا فهم من الرفع ما يفهم من الرفع المضاف إليهم، ولا فهم من قوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ما يفهم من البسط المعروف المنسوب إلى الخلق، فما بال بعض الناس فهموا من المجيء الذي أضيف إلى اللَّه تعالى ما فهموا من المجيء الذي يضاف إلى الخلق، فلولا آفة حلت بهم حملتهم على أن يفهموا منه المعنى المكروه، وإلا لم تنصرف أوهامهم إلى مثل ذلك. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) قيل: أظلم ليلها، (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): ففي؛ إظلام الليل، وإخراج الضحى ما ينفي عن منكري البعث الشبه التي تعترض لهم، وذلك أنه يغطش في ساعة لطيفة ويغشى ظلمتها كل شيء، ثم يتلفها في أدنى وهلة، ويفنيها كأنها لم تكن، ثم يعيدها بعدما أتلفها حتى لو أراد أحد أن يميز بين الأولى والثانية لم يقدر عليه، بل وقع عنده أن الأولى هي الثانية، والثانية هي الأولى، وهذا بعدما تلفت الظلمة الأولى، وذهبت كلها حتى لم يبق منها أثر؛ فلأن يكون قادرا على إعادتهم خلقا جديدا بعدما أفناهم، وقد بقي من آثار الخلق الأول بعضه - أولى. ثم أضاف ذلك إلى السماء؛ لأن بدأهما يظهر من عندها. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) قالوا: بسطها: فمنهم من يقول: خلقها مجتمعة، ثم بسطها بعدما خلق السماوات؛ ألا ترى أنه قال: (دَحَاهَا)، ولم يقل: خلقها. ومنهم من ذكر أنه خلق سماء الدنيا أولًا، ثم خلق الأرضين بعد ذلك، ثم خلق السماوات الست من بعد. ومنهم من ذكر أنها كانت قبل أن تبسط تحت بيت المقدس، ثم بسطها بعد ذلك. قال أبو بكر: هذا لا يحتمل؛ لأنه لا يجوز أن تكون بجملتها وسعتها تحت بيت المقدس، واللَّه أعلم. ولكن معناه عندنا -إن كان على ما قالوا- فهو منصرف إلى الجوهر؛ أي: الجوهر الذي خلق منه الأرض كان هنالك، لا أن كانت بجملتها تحته؛ كما خلق هذا الإنسان من النطفة وإن لم يكن بكليته في النطفة، وخلق من التراب وإن لم يكن بكليته على ما هو عليه في التراب، وكان معناه: أنه خلق من ذلك الجوهر؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكره. ومنهم من زعم أن خلقهما كان معا. وذكر عن الحسن أن الأرضين خلقت قبل السماء بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ. . .)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)، وقال: اسم السماء ما ارتفع من الشيء كما يقال للسقف: سماء؛ لارتفاعه عن الإنسان. ٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) ذكر ما أنشأه لنا؛ لنحمده، وما أخرج منها للأنعام لتذكير النعم - أيضا - لنشكره ونحمده عليه؛ إذ الدواب خلقت لنا، فما رجع إلى منافعها فهي راجعة إلينا، إذ بها ما نصل إلى الانتفاع بالدواب. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) أثبتها؛ لئلا تميد بأهلها. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣) فيه أن ما جعله متاعا لنا قد جعل شيئا من ذلك للدواب أيضا، والذي جعله للأنعام، لم يجعل لنا فيه شركاء؛ وذلك لأن الذي أنشأه لمتاع البشر منه ما يستخبث ويستقذر، ومنه ما يستطاب ويدخر، فجعل ما طاب منه للبشر، وما خبث منه لمنافع الدواب، والذي أنشأه لمنافع الدواب مما تستخبثه الطباع وتستقذره، فَفَضَّل أغذية مَنْ فَضَّلَ منازلهم، ففيما ذكرنا دلالة إباحة التناول من الطيبات؛ إذ اللَّه تعالى مَنَّ على عباده أن جعل أغذيتهم بما طاب من الأشياء، وفضلهم على الأنعام، فمن كره ذلك فقد كره الانتفاع بما أنشئ للانتفاع، واللَّه أعلم. * * * ٣٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) قال: الطامة: هي الصيحة، سميت: طامة؛ لأنها تطم الأشياء وتعمها، وسميت: كبرى؛ لأنها إن طمت بالعذاب فهو يدوم ولا ينقطع، وإن أحاطت بالثواب والكرامة فهو يدوم ولا ينقطع؛ فسميت: كبرى؛ لدوامها. ٣٥وقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥) ما عمل، وتذكره يكون بوجهين: أحدهما: بقراءته كتابه؛ كقوله تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، والتذكر الثاني يكون بالجزاء. فالتذكر الأول يكون باللطف من اللَّه تعالى، وإلا فالمرء قد يكتب أشياء، ثم ينساها إذا طالت المدة، ولا يتذكر بالقراءة، ففيما لم يتول كتابته أحق ألا يتذكر، لكن اللَّه - تعالى - بلطفه يذكره بالقراءة؛ فيعرف به صدق ما كتبته الملائكة، ويعرف أنه إذا عوقب، عوقب جزاء ما كسبته يداه، ويكون الجزاء أبلغ في التذكير؛ فيتذكر في ذلك الوقت، أيضا. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦) وقرئ (لمن ترى) فتضيف الرؤية إلى الجحيم؛ كقوله: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَن يَرَى) جائز أن تكون الرؤية كناية عن الحضور والدخول؛ فيكون قوله: (لِمَن يَرَى) أي: لمن يدخلها ويحضرها، وهو كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، ومعناه: أن رحمة اللَّه للمحسنين، وقال تعالى: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، وأريد بالقرب: التناول؛ فكنى عنه بالقرب؛ فجائز أن تكون الرؤية هاهنا كناية عن الدخول والحضور؛ فيكون فيه إخبار عن إحاطة العذاب بجميع أبدانهم. وجائز أن يكون أهل الرؤية هم أهل الجنة، فيرونها مشاهدة؛ فيتلذذون بذلك لما نجوا وفازوا بالنعيم، كما تألموا بذكرها عندما كانت غائبة لا يرونها؛ قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، وقالوا: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا. . .) الآية. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) أي: عصى، وتمرد. أو طغى بأنعم اللَّه - تعالى - فاستعملها في معاصيه، أو جاوز حدود اللَّه. ٣٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) جائز أن يكون إيثاره أن يبتغي بمحاسنه الحياة الدنيا حتى أنساه ذلك عن الآخرة، وإذا ابتغى بها الحياة الدنيا، لم يبق له في الآخرة نصيب؛ لأنه قد وفي له عمله؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا). ٣٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) أي: يأوي إليها. ٤٠وقوله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ... (٤٠): جائز أن يكون أريد بالمقام حساب ربه أو مقامه عند ربه، فأضيف إلى اللَّه تعالى؛ لأن البعث مضاف إليه، فكل أحواله أضيف إليه أيضا. وجائز أن يكون الخوف راجعا إلى الحالة التي هو فيها؛ فيخاف أن يكون مقامه في موضعٍ نَهَى اللَّه تعالى عن المقام فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)، ليس هذا نهيَ قول، وإنما نهيه إياها أن يكفها عن شهواتها ولذاتها، وكفها أن يشعرها عذاب الآخرة، ويخوفها آلامها وعقابها، فإذا فعل ذلك سهل عليها ترك الشهوات الحاضرة، وسهل عليها العمل للآخرة، والناس في نهي النفس عن هواها على ضربين: فمنهم من يقهرها فلا يعطيها شهواتها، فهو أبدا في جهد وعناء. ومنهم من يذكرها العواقب ويريها ما أعد لأهل الطاعة، ويعلمها ما يحل بالظلمة؛ فيصير ذلك لها كالعيان؛ فتختار لَذَّات الآخرة على لذات الدنيا؛ إذ ذلك أدوم وألذ، ويسهل عليه العمل للآخرة، والهوى هو ميل النفس إلى شهواتها ولذتها؛ ففيه أن الأنفس جبلت على حب الشهوات والميل إليها، ولا تنتهي عن ذلك إلا بما ذكرنا. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢): هي القيامة، سميت: ساعة؛ لما يخف أمرها على من إليه تدبيرها. أو سميت: ساعة؛ لسرعة كونها إذا أتى وقتها. أو سميت: لقربها إلى الحالة التي كانوا عليها؛ كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ). ثم إن كان هذا السؤال من المؤمنين فهو سؤال استهداء، كأنه لما قيل لهم: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، قالوا: متى تكون الساعة؟ فنزلت هذه الآية. وجائز أن يكون السؤال من الكفرة؛ لما ذكرنا أنه ليس في تبيين وقتها كثير منفعة حتى تقع الحاجة للمسلمين إلى تبيينه بالسؤال؛ فيسألونه سؤال استهزاء واستخفاف برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويسألونه استعجالها بقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا)؛ فكانوا يسألونه عن شيء يعلمون أنهم متعنتون في السؤال؛ قصدا منهم للتمويه والتلبيس على الضعفة والأتباع؛ لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك الوقت ليس هو وقت مجيء الساعة، فإذا طلبوا الاستعجال علموا أنه لا يتهيأ له أن يريهم في ذلك الوقت؛ إذ ذلك يخرج مخرج خلاف الوعيد؛ فيحتجون على الضعفة أنه لو كان صادقا في مقالته: إن الساعة تكون، لكانوا متى طلبوا مجيئها، يأتيهم بها. ٤٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) أي: لست أنت من علمها في شيء. هذا إن ثبت أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يطلع عليها أو لست أنت من أخبارها في شيء؛ إذا لم يثبت، ولم يعلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يطلع عليها. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) أي: منتهى علمها؛ فيكون هذا نهيًا للسائلين عن العود إلى السؤال. ٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥) فهو - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان منذرا للعالمين جملة بقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، لكنه ينتفع بإنذاره من يخشى الإنذار. ٤٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦) قال أهل التأويل في هذه الآية: إنهم إذا رأوا الساعة، استقصروا هذه الأيام، وقلت الدنيا في قلوبهم حين عاينوا الآخرة. وجائز أن يكون تأويله: أنهم لو أرادوا الساعة للحالة التي هم فيها، لم يلبثوا فيها إلا عشية أو ضحاها، فلا يقع ذلك موقع التهويل والتخويف، واللّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * * |
﴿ ٠ ﴾