سُورَةُ عَبَسَ

وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١-٢

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى)

ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية؛ فإنه ذكر أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عنده من عظماء المشركين قوم يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام، فلما جاءه ابن أم مكتوم يسأله، أعرض عنه؛ لمكان أُولَئِكَ القوم، وعبس وجهه؛ رجاء إسلامهم.

وذكر غيره من أهل التفسير: أنه عبس وتولى؛ لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه؛ فعبس وجهه بقطعه الحديث عليه.

ثم هذا التعبس منه - عليه الصلاة والسلام - كان في أمر لو التأم، ثم وزن ذلك بخيرات أهل الأرض، لرجح على خيراتهم ومحاسنهم؛ لأنه ذكر أنه كان مقبلا على رؤساء الكفرة يعظهم ويحرضهم على الإسلام؛ رجاء أن يسلموا؛ فيكون في إسلامهم رجاء إسلام كثير من القوم؛ لأنهم كانوا من علية القوم وعظمائهم؛ فكان في إسلامهم رجاء إسلام من يتبعهم من قومهم؛ فيستوجب بإسلامهم من جزيل الثواب وعظم المنزلة ما لا يبلغه آخر بجميع محاسنه؛ فكان في سؤاله إياه منع ما قصد إليه من إحراز جزيل الثواب وكريم الخصال، وإذا كان هكذا فتعبس الوجه في مثل هذا الحال أمر سهل لا يستبعد، ولا يستنكر.

والثاني: أن تعبس الوجه على الأعمى، والإعراض عنه لا يظهر للأعمى؛ لأنه لا يراه؛ فلا يعده جفاء، وكان في إقباله على أُولَئِكَ القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم؛ إذ إقباله وحسن صحبته يظهر لهم، وفي الإعراض عنهما ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم، ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الشرك إلى الهدى

وصلاح الدِّين والدنيا، فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهي.

ولأن إقباله على القوم إذ كان؛ لمكان دعائهم إلى الإسلام، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا، فلأن يسوغ الدعاء من وجه ليس فيه إلا تعبيس الوجه على واحد من المسلمين - أولى، ولكن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجد منه هذا النوع من الإيثار؛ اجتهادا ورأيا، والأنبياء - عليهم السلام - قد جاءهم العتاب من اللّه - تعالى - بتعاطيهم أمورا لم يسبق من اللّه - تعالى - لهم الإذن في ذلك، وإن كان الذي تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق؛ نحو ما عوتب يونس - عليه السلام - وعوقب بمفارقة قومه بغير إذن، وإن كان مثل تلك المفارقة لو وجدت من واحد من أهل الأرض، استوجب بها الحمد، وحسن الثناء؛ لأن تلك المفارقة لا تخلو من أحد أمور ثلاثة:

أحدها: أن قومه كانوا أهل كفر، وكانوا له أعداء في الدِّين، ففارقهم؛ لينجو منهم، ويسلم له دينه، ومثل هذا لو وجد من غير الأنبياء - عليهم السلام - عد ذلك من أفضل شمائله.

والثاني: أن في مفارقته من بين أظهرهم تخويفا لهم وتهويلاً؛ لأن القوم من قبل كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا وقتما يريد أن ينزل بهم العذاب؛ فكان في مفارقته إياهم تخويفهم وتهويلهم، فيدعوهم ذلك إلى الانقلاع عما هم عليه من الضلال، والفزع إلى اللّه - تعالى - ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى وردعه عن الضلال، فقد أبلغ في النصيحة، واستقام على الطريقة.

والثالث: أنه يفارقهم؛ ليستنصر بغيرهم فينصرونه عليهم، ويتقوى بهم؛ ليكون على دعائهم إلى الإسلام أمكن وأقدر، ومن كانت مفارقته من قومه على هذه النية، فلنعم المفارق هو، ثم عوتب مع هذا كله، وذكر اللّه - تعالى - في الكتاب قصته للوجه الذي ذكرنا؛ فكذلك الوجه في معاتبة نبينا مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات.

ومنهم من ذكر أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقصد إلى تعبس الوجه على ابن أم مكتوم، ولا تولى

عنه عمدا لذلك، لكن لما قطع عليه حديثه، وكان فيه قطع رجاء إسلام أُولَئِكَ القوم، شق ذلك عليه، واعتراه من ذلك هم شديد، أثر ذلك في وجهه، لا أن كان منه ذلك على القصد.

ووجه آخر: أن يقال: إن اللّه - تعالى - جعل في قلبه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته أن كادت نفسه تذهب على من أعرض عن دين اللّه - تعالى - والإيمان به حسرات عليه، وحتى قيل له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}،

وقال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}،

وقال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.

وتأويله: ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن؛ فيكون فيه تخفيف الأمر عليه، لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة؛ ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}، ومعناه - واللّه أعلم -: ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع بما أحل اللّه لك الانتفاع به؛ طلبا لمرضاتهن، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن؛ بل قد ندب إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} الآية، فجائز أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اشتد عليه إعراض أُولَئِكَ القوم عن الإيمان، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه؛ فظهرت عبوسة وجهه؛ فنزل قوله - تعالى -: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة له.

ثم في هذه الآية فوائد أخر:

إحداها: جواز العمل بالاجتهاد؛ لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعل هذا النوع من العمل اجتهادا، لا نصا؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبس سائغا، لم يكن يعاتب بفعل قد أمر به.

فَإِنْ قِيلَ: كيف لا تدل المعاتبة على النهي عن إقدامه على مثله؛ فيحرم عليه الاجتهاد؟

قيل له: لو كان هذا نهيا، لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك، وقد وجد منه - عليه السلام - العود؛ لقوله: {عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، وبقوله:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ}، فثبت أنه ليس فيه نهي.

وفيه أن الكافر وإن كان مبجلا معظما في قومه، فليس على المؤمنين أن يعظموه ويبجلوه، بل يسترذل ويستخف به، وأن المسلم ينبغي أن يعظم ويكرم، وإن كان حقيرا في أعين الخلق.

وفيه آية رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودلالة نبوته، وأنه لم يختلق هذا الكتاب من عند نفسه؛ لأن من يتعاطى فعلا حقه الستر، فهو يستره على نفسه، ولا يهتك عليها الستر؛ لئلا يذم عليه، فلو لم يكن مأمورًا بتبليغ الرسالة لكان يجتهد في الستر على نفسه، ولا يبديه للخلائق، ولكنه كان رسولا لم يجد من تبليغه إلى الخلق بدًّا، فبلغه كما أمر.

﴿ ١