سُورَةُ كُوِّرَتْوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} هذا ليس بابتداء خطاب، ولكنه جواب عن سؤال تقدم؛ فيشبه أن يكون السؤال عن وقت لقاء الأنفس الأعمال؛ فنزل قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إشارة إلى أحوال ذلك الوقت وآثارها؛ على ما نذكر المعنى الذي له وقع لتبيين الأحوال دون تبيين الوقت في سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}. واختلف في قوله - تعالى -: {كُوِّرَتْ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي فارسية، معربة، وهي بالعربية: غورت. وقال: {كُوِّرَتْ}، أي: ذهب ضوءها؛ يقال: كور الليل على النهار، أي: أذهب نوره وضياءه؛ فالتكوير يغطي لون الشيء عن الأبصار، فقيل: كورت الشمس، أي: حبس ضوءها على الأبصار بالطمس؛ فيكون فيه إنباء أنه يطمس ظاهرها، ثم يرد التغيير في نفسها فتتلف وتتلاشى، ومنه يقال: كور العمامة؛ إذا لفها على رأسه فتغطيه. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) تناثرت وتساقطت، وهو كقوله: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ}. وقيل: ذهب ضوءها؛ فكأن ضوءها يذهب أولا، ثم تتناثر بعد ذلك. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) أي: قلعت عن أماكنها وسيرت، كما قال في آية أخرى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، وهي إذا قلعت تكثرت؛ حتى لا يتبين للناظر سيرها؛ لكثرتها؛ فيحسبها جامدة، وهي تسير، فهذا أول تغير يظهر منها، ثم تصير كثيبا مهيلا، ثم كالعهن المنفوش، ثم هباء منثورا إلى أن تتلاشى وتتلف. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) فالعشار هي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر، وهي من أنفس الأموال عند أهلها؛ فيخبر أن أربابها يعطلونها في ذلك اليوم ولا يلتفتون إليها؛ لشغلهم بأنفسهم في ذلك، وهو كما قال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} إلى قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} الآية. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) قيل: جمعت، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن تجمع كلها فتتلف وتهلك. والثاني: أن تحشر مرات يحييها بعد موتها؛ فيضع اللّه تعالى فيها ما شاء؛ فيكون في هذا إخبار عن عظم هول ذلك اليوم؛ حتى يؤثر الهول في الوحوش، والشمس، والقمر، والسموات. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) قيل: فجرت، وسنذكر تأويل التفجير فيما بعد، إن شاء اللّه تعالى. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) قيل: قرنت. ثم اختلف في معنى القران: فقَالَ بَعْضُهُمْ: قرن زوجها إليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقرن كل بأهل شيعته؛ فيقرن الكفرة بالشياطين، وأهل الشراب بأهل الشراب، وأهل الزنى بأهل الزنى، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -:، {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، إلى قوله: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}، ففي هذا إخبار أن المعذب منهم إذا رأى عدوه يعذب عذابه، ويكون في العذاب الذي هو فيه لم يتسل بذلك شيئا، ولم ينل به راحة، وإن كان المرء في الدنيا إذا رأى عدوه يعذب عذابه يتسلى بذلك. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) وقرأ بعضهم: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سألت} وهذا هو الظاهر أن تكون هي السائلة، أي: تسأل إياهم: بأي ذنب قتلت؟! وتقول: بأي ذنب قتلتموني؟!. وكانت العرب تدفن بناتها، يقال: وأدته: أي: دفنته. ثم القراءة المعروفة: {سُئِلَتْ}، وهي تحتمل أوجها ثلاثة: أحدها: ذكر أبو عبيد وقال: إن قتلتها تسأل: بأي ذنب قتلت الموءودة؟!. والثاني: يحتمل أن تسأل الموءودة عند حضرة الذين وأدوها: بأي ذنب قتلْتِ؟! يراد بالسؤال تخويف وتهويل للذين وأدوها، لا سؤال استخبار واستفهام، وهو كقوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه}، وليس يسأل عن هذا سؤال استخبار واستفهام، ولكن يسأل سؤال تخويف وتهويل لمن ادعى أن عيسى - عليه السلام - هو الذي أمرهم أن يتخذوه وأمه إلهين من دون اللّه. والثالث: جائز أن تسأل الموءودة: أتدعي أو لا تدعي؟ وما الذي تدعي عليهم؟ فيبدأ بها بالسؤال، كما يرى المدعي في الشاهد هو الذي يبدأ بالسؤال، فيقال له: ما تدعي على ٩هذا؟ فقوله: (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) كأنها إذا سئلت عن الذي ادعت، قالت: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} واللّه أعلم. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) أي: الكتب نشرت للحساب، وهي التي فيها أعمال ابن آدم وقتما تدفع إليهم بأيمانهم وشمائلهم. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) قيل: قشرت، وذلك أن تتناثر النجوم، وتطمس الشمس، فتطوى كطي السجل للكتب. وقيل: كشفت، تكشف السماء، كما يكشف الغطاء عن الشيء. ويقال: كشطت؛ أي: قلعت كما يقلع السقف. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يحدث تسعيرها؛ فيكون فيه علم الحدثيَّة، وكذلك في قوله - تعالى -:: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} يحتمل أن يبتدئ تسجيرها، ولما تسجر من قبل. وجائز أن يراد من التسجير والتسعير على ما كان من قبل؛ لقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وقد كان وقودها بغير هذين، ثم يزاد في وقودها بالناس والحجارة. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) قيل: قربت؛ فأضيف إليها التقريب؛ لأن أهلها إذا قربوا إليها فقد قربت هي إليهم. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤) أي: ما أحضرت من خير أو شر؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} الآية. أو تعلم ما أحضرتها الملائكة الذين كتبوا عليها. ١٥-١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ): الأشياء التي وقع بها القسم تقتضي أحكاما ثلاثة. أحدها: ما من شيء خلقه اللّه - تعالى - إلا وفيه دليل وحدانيته، وآية ربوبيته، إذا أنعم النظر فيه، ويثبت علمه وحكمته، ويدل على قدرته وسلطانه، وفي تثبيت القدرة والسلطان إيجاب القول بالبعث، وإيجاب القول بالرسل، ونهي عن عبادة غير اللّه، فلو أنعموا النظر فيها وتفكروا في أمرها، لأداهم ذلك إلى القول بالبعث، ودعاهم إلى وحدانية الرب والإقرار بالرسل؛ فلا يدعون أن معه آلهة أخرى، ولا كانوا ينكرون البعث، ولا يكذبون الرسول؛ فأقسم بهذه الأشياء على التأكيد لحججه؛ ليعلموا أنه رسول من عنده، أو أن القرآن من عنده، أو أن الأوامر من عنده، أو الرسول من عنده. أو يكون القسم تلقينا من اللّه - تعالى - لرسوله بأن يقسم لهم بهذه الأشياء؛ ليزيل عنهم الشبه والشكوك التي اعترضت للكفرة في أمره - عليه السلام - ويدعوهم إلى النظر في حججه وآياته. ثم القسم بما لطف من الأشياء ودق، وبما كثف وغلظ، وبما كبر وصغر، وبما ظهر وخفي، تتفق كلها في إزالة الشبهة وإثبات التوحيد والرسالة والبعث، بل الأعجوبة فيما لطف من الأشياء أعظم منها فيما كثف وغلظ، فأقسم مرة بالكواكب، ومرة بظلمة الليل وما يضحى، وبما شاء من خلقه؛ إذ الخلائق كلها في الشهادة على وحدانيته وإثبات ربوبيته وإثبات علمه وحكمته وقدرته وسلطانه - متفقة. ولأن ما لطف من الأشياء وخفي منها يتصل بما ظهر منها، فيتضمن ذكر ما خفي منها واستتر ذكر ما ظهر منها، وفي ذكر ما ظهر منها ذكر منشئها؛ فيكون القسم في الحقيقة باللّه تعالى. ثم اختلف في (الخنس) و (الكنس): قال أبو بكر: إن (الخنس) هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل. وقال الحسن: الخنس: هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها ويغبن في مغاربها، و (الكنُس): هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها ثم يكنسن ويختفين إلى أن يعدن إلى مطالعهن فيطلعن. وقيل: {بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} وهي خمس كواكب لهن مجار في السماء يظهرن بالليل ويستترن بالنهار، وسائر الكواكب ثوابت. ثم قيل: الخنوس والكنوس واحد، وهو الاختفاء والغروب في مغاربها والدخول فيها. وقيل: الخنوس: الاختفاء، والكنوس: التأخر، وكذا قال الفراء: هي النجوم الخمسة تخنس في مجراها، وترجع. وفي حديث كعب: " فتخنس بهم النار كما تخنس النجوم الخنس "، أي: تحيد بهم وتتأخر، واللّه أعلم. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: هي الوحوش اللاتي تخنس من الإنس، وتكنس في مكانسهن، وأيما كان فهي كلها دالة على الوجوه التي ذكرنا. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) قيل: إذا أقبل. وقيل: إذا أقبل وإذا أدبر. ١٨وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إذا انفجر، وإذا ارتفع، وفي إقبال الليل وإقبال النهار تثبيت القدرة والسلطان؛ وذلك أن ظلمة الليل إذا غشت سترت عن وجوه الأشياء وكشف النهار عنها الستر، ولو أراد أحد أن يغطي الأشياء كلها بالحيل والأسباب لم يتمكن منها، ولو أراد نزع الغطاء عنها، لم يملك، فذكرهم هذا؛ ليعلموا أن من بلغت قدرته هذا لا يعجزه أمر، ولا يتعذر عليه البعث؛ بل هو قادر على إحيائهم وبعثهم. ١٩وقوله - تعالى -: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) فموضع القسم على هذا، وعلى قوله - تعالى -: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}. ثم تأويل قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، أي: هذا الذي أتاكم به مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تلقاه عن رسول كريم على ربه، وهو جبريل - عليه السلام - ثم نسب هاهنا إلى الرسول؛ لما سمع منه، ولم يكن من قبله، وقال في آية أخرى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه}، فسماه: كلام اللّه؛ على الموافقة، أو لما أن ابتداءه يرجع إليه، لا أن يكون المسموع كلامه، كما يقال: هذا قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وهذا قول فلان الشاعر، وليس الذي سمعته قول من نسب إليه، ولكن نسب إليه؛ لأن ابتداءه يرجع إليه؛ فكذلك سمي: كلام اللّه؛ لأنه يدل على كلامه، ولما يرجع إليه ابتداؤه، لا أن يكون هو نفس كلامه. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) وفي وصفه بالقوة فائدتان: إحداهما: ما ذكرنا أن فيه بيان الأمن عن تغيير يقع فيه من الأعداء من الجن والشياطين والإنس، يحتجز عنهم بقوته؛ فلا يتمكنون منه حتى يغيروه ويبدلوه، ووصفه بالأمانة في نفسه ليأمن الخلق ناحيته. أو وصفه بالقوة على التخويف والتحذير للذين عادوا محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيخبرهم أن معه من يدفع عنه شرهم وكيدهم إن هموا ذلك به. وروي أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لجبريل - عليه السلام -: " إن اللّه تعالى وصفك بالقوة فما أثر قوتك؟ فقال: لما أمرني اللّه تعالى بإهلاك قوم لوط - عليه السلام - فقلعت قرياتهم ورفعتها بجناح واحد إلى السماء ثم قلبتها ". وليس بنا إلى أن نعرف قوته حاجة، وإنما بنا الحاجة إلى أن نعرف ما المعنى والحكمة في ذكر قوته؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}: إن كان المراد من العرش: الملك، فمعناه: عند ذي الملك مكين؛ أي: ذو قدرة ومنزلة. وقيل: العرش: السرير، فإن كان كذلك، فتأويله: أنه مكين عند من له سرير الملك. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) قيل: إن جبريل - عليه السلام - رسول إلى الملائكة كما هو رسول إلى الناس، فإن كان كذلك ففيه إخبار أن الملائكة الذين يعبدها بعض الكفرة يطيعون جبريل - عليه السلام - فيما يأمرهم وينهاهم، فما بالهم يتركون طاعته والائتمار بأمره؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثَمَّ أَمِينٍ}، أي: هم يأتمنونه، ولا يتهمونه في شيء مما يجيء به إليهم، فكيف يتهمه هَؤُلَاءِ فيما يأتي إلى الرسول من الوحي؟!. ٢٢وقوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) منهم من يقول بأن الكفرة نسبوه إلى الجنون حين رأى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جبريل على صورته فغشي عليه، وكان يتغير في كل مرة يأتي به جبريل - عليه السلام - بالوحي لون وجهه؛ فينسبونه إلى الجنون لهذا. ومنهم من يقول: إنما نسبوه إلى الجنون؛ لأنه أظهر المخالفة لأهل الأرض، وكان في أهل الأرض الجبابرة والفراعنة الذين من عادتهم القتل والتعذيب لمن أظهر الخلاف لهم؛ فكان ذلك منه مخاطرة بنفسه وروحه؛ حيث انتصب لمعاداة من لا طاقة له بهم، ومن قام بخلاف من لا طاقة له به، وانتصب لمعاداته، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد؛ فنسبوه إلى الجنون لهذا. ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا، ولكن شدة سفههم هو الذي حملهم على هذا؛ فنسبوه إلى الجنون مرة، وإلى أنه ساحر أخرى، ومرة قالوا: علمه بشر، ومرة قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}؛ فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا، لا عن بحث منهم في حاله، ولكن على السفه والعناد؛ ألا ترى أنهم نسبوه إلى الجنون مرة، وإلى السحر ثانيا، وهما أمران متناقضان؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم غايته، والجنون هو النهاية في الجهل، ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول؛ فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن اتباع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بل كانوا يتفقون على كلمة واحدة، فيصدرون عنها حتى يقع التلبيس منهم موقعه؛ فيصلون إلى مرادهم من صد الناس عن اتباع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك فيما زعموا أنه علمه بشر، وأنه إفك افتراه؛ أتوا بالمختلف من القول؛ لأن اختلافه وافتراءه يثبت أنه عالم بنفسه، مستغنٍ عن تعليم غيره، وحاجته إلى أن يتعلم من غيره تثبت عجزه وجهله عن الاختلاق بنفسه، فهذا كله يدل على أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لأعلام ظهرت لهم منه، ولكنهم قذفوه بكل ما حضرهم؛ سفها منهم وعنادا. ثم إن كانوا نسبوه إلى الجنون لما غشي عليه عندما رأى جبريل - عليه السلام - على صورته فقد أتاهم بما لو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس بصاحبهم جنة؛ كما قال اللّه - تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}، وذلك أنه أتاهم بحكم عجز حكماء الإنس والجن عن إتيان مثله، وأتاهم بكتاب عجز أهل الكتاب عن إتيان مثله، فلو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس من فعل المجانين، ولا من علومهم، ولكنه من عند اللّه أكرم به. وإن كانوا بما نسبوه إلى الجنون لما خاطر بروحه، فهم - بحمد اللّه تعالى - لم يتهيأ لهم أن يمكروا به، ولا أن يقتلوه؛ بل أظفره اللّه عليهم، وأظهره على الدِّين كله؛ فصار ذلك الوجه الذي به نسبوه إلى الجنون آية رسالته، وعلم نبوته. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) قال الحسن: إنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه بقلبه؛ أي: عظمته وسلطانه من وجه لا يقع به تشابه، وخص بالأفق؛ لأنه من الأفق تنزل البركات وتنزل الملائكة وأنواع الخير كلها، والمراد من ذلك الأماكن كلها. وغيره من أهل التفسير صرف الرؤية إلى جبريل، عليه السلام. وذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سأل جبريل - عليه السلام - أن يراه على صورته، فقال له جبريل - عليه السلام -: " إن الأرض لا تسعني، ولكن إذا صليت الفجر، فانظر إلى أفق السماء؛ فهنالك تراني "، ففعل فرآه على صورته، ثم دنا منه، فكان قاب قوسين أو أدنى، فذكر الأفق؛ لأن الشيء من البعد لا يتهيأ أن يرى من أقطار الأرض؛ لذلك خصت الأفق؛ إذ كذلك تقع رؤية ما بعد، واللّه أعلم. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وقرئ (بظنين). قال أبو عبيد: والظنين أولى؛ لأن الظنين هو المتهم، والضنين: البخيل، ولم ينسب أحد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى البخل حتى ينفي عنه البخل بهذه الآية، وقد كانوا يتهمونه على الغيب، وهو القرآن، فكانوا يقولون: علمه بشر، وليس من عند اللّه، ويقولون - أيضا -: إن هذا إلا إفك افتراه؛ فبرأه اللّه تعالى مما قالوا بقوله: (وما هو على الغيب بظنين) ومن قرأه بالضاد فهو يحتمل أوجها: أحدها: ما ذكره أبو بكر الأصم، وهو أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يضن بشيء علمه اللّه - تعالى - عن أحد من أصحابه كما يفعله غيره من العلماء؛ لأن العلماء لا يريدون أن يعلموا من اختلف إليهم كل ما عندهم من العلوم حتى يُستغنى عنهم، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يود أن يعلم جميع ما علم من العلوم أصحابه؛ فكان يقوم على تعليم كل منهم بقدر طاقته، ولم يكن يمتنع عن التعليم بُخلا منه وضنًّا. وجائز أن يكون برأه اللّه - تعالى - من هذا؛ لما علم أنه يكون في أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من يزعم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خص بعض أصحابه بتعليم أشياء لم يطلع عليها غيرهم، وتخصيص بعض دون بعض بتعليم ما عنده بخل في الشاهد؛ فكان في قوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} تكذيب أُولَئِكَ الذين يدعون هذا، وهذا كما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته "، فكأنه قال هذا لما علم أنه يكون في أمته من يتقدم الشهر بالصيام، فقال هذا؛ ليعرف خطأ من يتقدم الشهر بالصيام على الخطأ والجهالة، ليس على إصابة الحق؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكرنا. ثم صرفوا تأويل الغيب إلى القرآن، وهو عندنا في القرآن وفي غيره من الأشياء التي أطلع اللّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليها. وجائز أن يكون الضن منصرفا إلى الشفاعة التي أكرم اللّه - تعالى - نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - بها، فهو لا يخص بعض أمته دون بعض بالشفاعة، بل يعمهم جميعا؛ فيكون في هذا تحريض على الاتباع له، والانقياد لطاعته. ويحتمل وجها آخر: وهو أنه ليس بضنين في أداء شكر ما أنعم اللّه - تعالى - عليه؛ حيث غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل اجتهد في أداء شكره حتى ذكر أنه تورمت قدماه من طول القيام، فقيل له: ألم يغفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال: " أفلا أكون عبدا شكورا؟! ". ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (٢٥) يحتمل وجهين: أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليس من شياطين الإنس، ولا بمجنون كما ذكرتم؛ بل هو رسول كريم. أو الذي أتاكم به من القرآن لم يتلق من الشياطين، ولا هو من قبلهم كما تلقته الكهنة والسحرة من أقوالهم؛ بل هو ذكر من اللّه - تعالى - للعالمين أنزله إليه الروح الأمين القوي الذي لا يصل إليه الشيطان فيغيره ويبدله. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) أي: فأين تذهبون عن طاعته واتباعه والانقياد له وقد أتاكم ما يلزمكم طاعته واتباعه. ٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧) أي: عظة للعالمين، يذكرهم بما يحق عليهم في حالهم، ويبين لهم ما يؤتى وما يتقى، وما تصير إليه عواقبهم. أو أن يكون قوله: {ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}، أي: شرف لهم، يشرف قدرهم به، ويصيرون أئمة يقتدى بهم ويختلف إليهم؛ ليتعلم منهم، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} يحتمل أوجها غير ما ذكرنا: أحدها: أن هذا القرآن الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تلقاه من رسول كريم على اللّه - تعالى - فإذا لم تؤمنوا به، ولم تقبلوه فما ذهبتم إلا إلى قول شيطان رجيم. ويحتمل؛ {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}؟ وإلى من تفزعون إذا أتاكم بأس اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ونقمته إذا لم تؤمنوا باللّه تعالى، وأنكرتم البعث، ولم تصدقوا الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبركم به؟! فإذا حل بكم ما أنذركم به فإلى من تلجئون؟! وهو كقوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّه وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. أو إذا لم تؤمنوا باللّه - تعالى - ولم تتبعوا ما أتاكم به مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد تقرر عندكم صدقه أنما أتاكم من الآيات المعجزة، فبأي حديث تصدقونه بعد ذلك وتذهبون إليه؟! وهو كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟!. ٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) معناه - واللّه أعلم -: أن هذا القرآن ذكر لمن شاء أن يستقيم من العالمين، فهو في نفسه ذكر وآيات وهدى، ولكن ينتفع بهذا الذكر من شاء الاستقامة، ويهتدي به من طلب الهداية؛ قال - تعالى -: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، وهو في نفسه هدى، ولكن يهتدي بهداه المتقون، ومن ليس بمتقٍ فهو عمى عليه ورجس، وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، وهو كان ينذر من اتبع ومن لم يتبع، ولكن معناه: أنه ينتفع بالذي تنذر به من اتبع الذكر، وقال: آيات لأولي الأبصار، وهي في أنفسها آيات، ولكن ينتفع بآياته أولو الأبصار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يحمل على تحقيق المشيئة، ويكون تأويله: أن من أراد الاستقامة على أمر اللّه - تعالى - أو على الحق، فهذا الذكر -وهو القرآن- يقيمه على الحق وعلى الأمر، ويهديه إلى ذلك. أو أن يكون هذا على تحقيق الفعل؛ فيكون معناه: من استقام منكم على الحق والأمر فهو ذكر له. والأصل أن المشيئة وصف فعل كل مختار، وإذا كان هكذا، صارت المشيئة مقترنة بالفعل، فإذا فعل فقد شاء؛ فكان في إثبات الفعل إثبات المشيئة؛ لذلك استقام حمله على ما ذكرنا، وهو أن يجعل أحدهما كناية عن الآخر. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩) فإن كان قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ} على تحقيق المشيئة، فمعناه: أنكم لا تشاءون الاستقامة -على ما ذكرنا- إلا أن يشاء اللّه. وإن كان على تحقيق الفعل، فتأويله: أنكم ما استقمتم على الطريقة إلا بمشيئة اللّه تعالى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويل قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ}، أي: لم تكونوا تشاءون إنزال هذا الكتاب، فأنزله اللّه تعالى على رسوله - عليه السلام - بغير مشيئتكم. وهذا غير محتمل عندنا؛ لأنه قد سبق من القوم الإرادة والسؤال بإرسال الرسول إليهم بقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، فثبت أنه قد سبق منهم السؤال بإرسال الرسول وإنزال الكتاب عليه، لكن تأويله ما ذكرنا. ثم في هذه الآية دلالة أن كل من شاء اللّه تعالى منه الاستقامة توجد منه الاستقامة:، ولا يجوز أن يشاء من أحد استقامته ولا يستقيم، كما قالت المعتزلة؛ لأن اللّه - تعالى - مَنَّ على من استقام بمشيئة استقامته، فلو لم توجد الاستقامة من كل من شاء منه الاستقامة، لم يكن للامتنان معنى؛ لأن الاستقامة وغير الاستقامة تكون به، لا باللّه تعالى، واللّه المستعان، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم. * * * |
﴿ ٠ ﴾