٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وقرئ (بظنين).

قال أبو عبيد: والظنين أولى؛ لأن الظنين هو المتهم، والضنين: البخيل، ولم ينسب أحد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى البخل حتى ينفي عنه البخل بهذه الآية، وقد كانوا يتهمونه على الغيب، وهو القرآن، فكانوا يقولون: علمه بشر، وليس من عند اللّه، ويقولون - أيضا -: إن هذا إلا إفك افتراه؛ فبرأه اللّه تعالى مما قالوا بقوله: (وما هو على الغيب بظنين) ومن قرأه بالضاد فهو يحتمل أوجها:

أحدها: ما ذكره أبو بكر الأصم، وهو أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يضن بشيء علمه اللّه - تعالى - عن أحد من أصحابه كما يفعله غيره من العلماء؛ لأن العلماء لا يريدون أن يعلموا من اختلف إليهم كل ما عندهم من العلوم حتى يُستغنى عنهم، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يود أن يعلم جميع ما علم من العلوم أصحابه؛ فكان يقوم على تعليم كل منهم بقدر طاقته، ولم يكن يمتنع عن التعليم بُخلا منه وضنًّا.

وجائز أن يكون برأه اللّه - تعالى - من هذا؛ لما علم أنه يكون في أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من يزعم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خص بعض أصحابه بتعليم أشياء لم يطلع عليها غيرهم، وتخصيص بعض دون بعض بتعليم ما عنده بخل في الشاهد؛ فكان في قوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} تكذيب أُولَئِكَ الذين يدعون هذا، وهذا كما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته "، فكأنه قال هذا لما علم أنه يكون في أمته من يتقدم

الشهر بالصيام، فقال هذا؛ ليعرف خطأ من يتقدم الشهر بالصيام على الخطأ والجهالة، ليس على إصابة الحق؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكرنا.

ثم صرفوا تأويل الغيب إلى القرآن، وهو عندنا في القرآن وفي غيره من الأشياء التي أطلع اللّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليها.

وجائز أن يكون الضن منصرفا إلى الشفاعة التي أكرم اللّه - تعالى - نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - بها، فهو لا يخص بعض أمته دون بعض بالشفاعة، بل يعمهم جميعا؛ فيكون في هذا تحريض على الاتباع له، والانقياد لطاعته.

ويحتمل وجها آخر: وهو أنه ليس بضنين في أداء شكر ما أنعم اللّه - تعالى - عليه؛ حيث غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل اجتهد في أداء شكره حتى ذكر أنه تورمت قدماه من طول القيام، فقيل له: ألم يغفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال: " أفلا أكون عبدا شكورا؟! ".

﴿ ٢٤