سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ

 وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}: وجه تعييرهم بالتطفيف وإلحاق الوعيد بهم؛ لمكانه وإن كانوا مستوجبين للوعيد، وإن أوفوا المكيال، ولم يطففوا فيه؛ إذ كانوا جاحدين باللّه تعالى ومكذبين بالبعث -: هو أن الكفرة لم يكونوا اعتقدوا الكفر باللّه - تعالى - لتلذذ يقع لهم بنفس الكفر، ولا التزموه على التحسين لهم إياه، وإنما أعرضوا عن الإيمان لحبهم الرياسة، ولمأكلة كانت لهم خافوا زوالها عنهم بالإسلام.

أو زهدوا عنه؛ لما يلزمهم بالإيمان مؤن، واختاروا الكفر؛ لئلا يلزمهم بالإيمان تحملها؛ فكان الذي يحملهم على الصد عن الإيمان وترك النظر في آيات اللّه - تعالى - وحججه ما ذكرنا؛ فعيروا بالأفعال الدنية التي كانوا يتعاطونها فيما بينهم من التطفيف والهمز واللمز وتركهم إيتاء الزكاة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}؛ لينقلعوا عنها؛ فيحملهم ذلك على النظر في القرآن والتدبر فيه، وهو كما ذكرنا في القتال أن فيه ما يحملهم على الإيمان؛ لأنهم كانوا يتزهدون عنه لحبهم الدنيا، فإذا قوتلوا ضاقت عليهم الدنيا؛ فبعثهم ذلك على الإيمان باللّه - تعالى - وعلى النظر في آياته.

وذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما تلا هذه الآية على أهل مكة تركوا التطفيف؛ فلم يطففوا

بعد ذلك.

قال أهل اللغة: التطفيف: النقصان، يقال: إناء طفان؛ إذا كان غير مملوء.

وقال الزجاج: يقال: شيء طفيف، أي: يسير، فسمي: مطففا؛ لما يسرق منه شيئا فشيئا في كل مكيال.

وفي هذه الآية، دلالة أن حرمة الربا عامة على أهل الأديان.

وفيه دلالة أن حرمة الربا ليست لمكان العاقدين، وإنما هي حق على العاقدين للّه - تعالى - وذلك أن الذي يكال له، كان يأخذ ما يكال له على علم منه بتطفيف البائع، ثم كان يرضى به، ويتجاوز عن ذلك، ومع ذلك لحقهم التعيير بالتطفيف؛ فدل أن حرمته ليست لمكان العاقدين، ولكنها من حق اللّه تعالى.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) منهم من ذكر أن هذا على التقديم والتأخير، ومعناه: ويل للمطففين على الناس إذا اكتالوا أو وزنوا، وإذا اكتالوا استوفوا.

ومنهم من قال بأن {عَلَى} هاهنا بمعنى " عن "؛ فكأنه يقول: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا عن الناس يستوفون.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) منهم من حمل قوله: هم بعد ذكر الكيل والوزن على التأكيد والمبالغة، فإن كان هذا على هذا، فحقه الوقف على قوله: (كالوا)، وعلى قوله: (وزنوا).

ومنهم من قال: معناه: وإذا كالوا لهم، أو وزنوا لهم؛ لأن الألف بينهما ليست بمثبتة في المصاحف، وهو مستعمل: كلته، وكلت له؛ كقوله: وعدته، ووعدت له، فإن كان هذا معناه، لم يستقم الوقف على قوله: (كالوا) و (وزنوا)؛ لأن قوله: (لهم)، تفسير لقوله: (كالوا) أو (وزنوا)، ولا يجوز قطع التفسير عما له التفسير.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤):

قال أكثر أهل التفسير: {أَلَا يَظُنُّ}: ألا يعلم، وألا يتيقن.

وقال أبو بكر الأصم: {أَلَا يَظُنُّ}، معناه: ألا يشك أُولَئِكَ في البعث، وهو محتمل لما ذكرنا؛ لأن الشك يوجب الرهبة، وارتفاعه يوجب الأمن؛ ألا ترى أن المرء إذا أراد أن يسافر إلى مكان، فأخبره إنسان أن في الطريق الذي يريد أن يسلك سراقا وقطاع الطريق، فإنه يترهب لذلك؛ فيستعد له بما يدفع عن نفسه ضرر قطاع الطريق وضرر السراق، وإن لم يتيقن أن المخبر صادق في مقالته، ولا يتيقن أن السراق يتمكنون من الإضرار به، فكيف لا يشك هَؤُلَاءِ بكون البعث بما يخبرهم النبي - عليه السلام - ويقيم عليه الحجج، وهذا أقل منازل الأخبار أن تورث شكا.

ثم الأصل أن حرف الشك يستعمل عند استواء طرفي الداعيين، والظن يستعمل عند اختلاف طرفي الداعيين، وهو أن تغلب إحدى الدلالتين على الأخرى؛ لذلك يستقيم الحكم والقول بأكثر الظن، ولا يستقيم بأكثر الشك.

ثم الظن يتولد من البحث عن الأمر والنظر فيه، وإذا تدبر فيه، فهو لا يزال يرتقي في الظن درجة فدرجة؛ حتى ينتهي نهايته بلوغ اليقين ودرك الصواب؛ فلذلك حمل أهل التفسير تأويل الظن هاهنا على اليقين والعلم؛ إذ ذلك نهاية الظن.

وحمله أبو بكر على الشك؛ لما لا ترتفع الشبهة كلها فيما كان طريق معرفته الاجتهاد.

ومثال الظن منا الخوف الذي ذكرنا أنه قد يستعمل في موضع العلم؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته صار علما؛ كالذي يهدد بالقتل، أو بقطع عضو؛ ليشرب الخمر أنه يباح له الشرب، ويجعل كالمتيقن أنه يفعل به لا محالة لو امتنع عن الشرب؛ لبلوغ الخوف نهايته وإن لم يكن في الحقيقة متيقنا؛ لما يجوز أن يحصل به ما يمنعه عن القتل؛ فعلى ذلك الحكم في الظن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} للحساب الذي يحصل عليهم؛ فلا يجدون منه مخرجا؛ فيتخلصون من العذاب، ليس على ما يحصل عليه الحساب في الدنيا يجد لنفسه الخلاص ووجه المخرج عنه.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) سماه: عظيما؛ لما ذكرنا من دوام عذابه ودوام عقابه.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦) أي: لحكمه.

أو لحسابه.

أو لوعده ووعيده.

أو يقومون له مستسلمين خاضعين بجملتهم، وإن كان البعض منهم وجد منه الامتناع عن الاستسلام في الدنيا، فإن الظلمة ينازعونه ويدعون لأنفسهم أشياء، وينكرونها له، فأما يوم القيامة فإنهم جميعا يقرون له وينقادون لحكمه وقضائه؛ لذلك خصه بقيام الناس له.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا ... (٧) قال الحسن وأبو بكر: حقا؛ أي، بعثهم حق؛ فيبعثون.

وقال الزجاج: {كَلَّا}: حرف ردع وتنبيه، أي: ليس الأمر على ما ظنوا: أنهم لا يبعثون؛ بل يبعثون ويجازون بأعمالهم؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من طريق الاستدلال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} اختلف في السجين:

فمنهم من جعله اسم موضع، وأشار إليه فقال: هو صخرة تحت الأرض السابعة يوضع كتاب الفجار تحته إلى يوم القيامة.

ولكن ليس بنا إلى معرفة ذلك الموضع حاجة؛ لأن الذين امتحنوا بجعله في ذلك الموضع قد عرفوه، وهم الملائكة.

ومنهم من زعم أنه حرف مذكور في كتب الأولين، فذكر ذلك في القرآن، فجائز أن يكون المقصود يتحقق بدون الإشارة إليه.

وجائز أن يكون السجين الموضع الذي أعد للكافر في الآخرة للعذاب، لكن أول ما يرد إليه عمله الذي أثبت في كتابه، ثم تلحق به الروح، ثم يتبعهما جسده في الآخرة على

ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن "، فيرد كتابه إلى ذلك السجن، ويرد كتاب الأبرار إلى الجنة التي أعدت له، ثم تتبعه روحه، ثم جسده؛ فذلك قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}.

ومنهم من قال: هو على التمثيل ليس على تحقيق المكان في العليين؛ وذلك لأن السجن هو مكان أهل الخبث في الدنيا، فمثلت أعمالهم بذلك؛ لخبثها وقبحها، ومثلت أعمال الأبرار بما ذكر من العليين، وذلك مكان أهل الشرف وأولي القدر؛ فيكون ذلك كناية عن طيب أعمالهم.

وقال الكسائي: السجين: مشتق من السجن؛ كقولك: رجل فسيق، وشريب، وسكيت.

ثم ذكر كتاب الفجار، والفجور يكون بالكفر وبغيره، فهذا اسم يقع به الاشتراك بين أهل الكفر وأهل الإسلام، لكنه ألحق عند التفسير بما يوجب صرف الوعيد إلى الكفار بقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}، وكذلك نجد هذا الشرط ملحقا بالتفسير في جميع ما جرى به الوعيد بالاسم الذي يقع به الاشتراك؛ من نحو الفسق، وترك الصلاة، بقوله - تعالى -: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}، وفيما جرى من الوعيد في الذي لا يؤتي الزكاة؛ فكان في ذكر التفسير على تقييده بالتكذيب قطع الشهادة وإيجاب العذاب على المكذبين، وفي ذكر الاسم الذي يقع به الاشتراك إيجاب الخوف على المسلمين الذين شركوا في ذلك الاسم، فترك قطع الشهادة عليهم بالوعيد؛ لما لم يذكروا عند التفسير.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) فهو تعظيم ذلك اليوم، ووصفه بنهاية الشدة، أو على الامتنان على نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يكن يعلم ذلك حين أطلعه اللّه عليه، وهكذا تأويل قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}.

٩

وقوله: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩) أي: الكتاب الذي في السجين مرقوم، والمرقوم، قالوا: مكتوب ومثبت.

والرقم عندنا: هو الإعلام، يقال: رقم الثوب؛ إذا أعلمه؛ فجائز أن يكون علمه هو أن يختم؛ فيكون فيه إخبار أنه لا يزاد على قدر ما عمل، ولا ينقص منها، وهو كما ذكرنا من

الفائدة، فيما وصف جبريل - عليه السلام - بالقوة والأمانة بقوله: {ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}، فوصف بالأمانة؛ ليؤمن الخلق عن خيانته في الكتاب وتغييره، ووصفه بالقوة؛ ليعلم أن غيره لا يتهيأ له أن ينتزع منه ما أرسل على يده، فيغيره، فكذلك وصفه بالختم والأعلام؛ ليؤمن من الزيادة فيه والنقصان.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) أي: للمكذبين بجميع ما يحق عليهم تصديقه، وذلك يكون بالإيمان باللّه تعالى، وبآياته، ورسله، وبالبعث.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) الدِّين اسم لشيئين: اسم للجزاء، واسم للاستسلام والخضوع؛ فسمي: يوم الدِّين؛ لما يدانون بأعمالهم، أو لما يستسلمون للّه - تعالى - في ذلك اليوم ويخضعون له، وفي تكذيبهم بيوم الدِّين تكذيب لقدرة اللّه تعالى وتكذيب رسله؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم إلى الإيمان بيوم الدِّين؛ فكانوا يكذبونهم بتكذيبهم بذلك اليوم؛ فيكون تأويله منصرفا إلى ما ذكرنا من تكذيبهم بجميع ما يحق عليهم التصديق به.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) المعتدي هو الذي يتعدى حدود اللّه تعالى، والأثيم: الذي يتأثم بربه؛ فيكون مجاوزًا به عن الحدود، والتأثم بربه هو الذي يحمله على التكذيب، وإلا لو قام بحفظ حدوده، ولم يأثم بربه، لكان لا يكذب بيوم الدِّين.

أو يكون فيه إخبار أن المكذب به معتد أثيم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) قال: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: أباطيل الأولين.

وقال أبو عبيدة: الأساطير: هي التي لا أصل لها.

ومعناه عندنا: ما سطره الأولون، أي: كتبه، فالسطر: الكتابة؛ فيخبرون أنها ليست من عند اللّه تعالى، بل مما كتبها الأولون الذين لا نظام لهم، ولم يكن يقولون هذا في كل ما يتلو عليهم، ولكنهم كانوا يعارضونه بهذا عندما كان يتلو عليهم من نبأ الأولين، وكانوا ينسبونه إلى السحر إذا أتاهم بالإيات المعجزات.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ... (١٤) قيل: الرين: الستر والغطاء.

وقيل: الرين: الصدأ؛ فاللّه - تعالى - سمى الإيمان الذي هو في النهاية من

الخيرات: نورًا، وسمى الكفر الذي هو في النهاية من الشرور: ظلمة، فإذا كان الإيمان منورا للقلب، والكفر مظلما، فإذا اشتغل بالأسباب الداعية إلى الكفر شيئا بعد شيء من الآثام، فكل سبب من ذلك يعمل في إظلام القلب حتى تتم الظلمة؛ على ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن هذه الآية، فقال: " هو العبد يذنب الذنب، فتنكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صفا قلبه، وإن لم يتب، وعاد فأذنب، نكتت في قلبه نكتة سوداء، وإن عاد نكتت في قلبه حتى يسود القلب أجمع؛ فذلك الرين "، ومن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره شيئا فشيئا بأسباب تتقدم الإيمان حتى يحمله ذلك على الإيمان؛ فذلك تمام الانشراح.

وعلى هذا يخرج تأويل ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد عظما، ازداد ذلك البياض، فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله.

ومعنى قوله: " يبدأ نقطة بيضاء " إلى قوله: " حتى يستكمل الإيمان "، عندنا بالأسباب الداعية إلى الإيمان، فلا يزال ينشرح منه شيء فشيء حتى يؤمن، لا أن يكون الإيمان ذا أجزاء، ولكن للإيمان مقدمات؛ فينشرح شيء فشيء بكل مقدمة منه حتى يفضي به إلى الإيمان.

ثم إن اللّه - تعالى - سمى السواتر عن الإيمان بأسام، مرة قال: {طَبَعَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ}، ومرة قال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. . .} الآية. ومرة: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، فكأن الذين وصفوا بالقفل على قلوبهم هم الذين انتهوا في الكفر غايته حتى لا يطمع منهم الإيمان، وهم المتمردون المعتقدون للتكذيب، وهم الرؤساء منهم والأئمة.

ومنهم من هو مطبوع على قلبه، وهم الذين اعتقدوا الكفر لا عن تمرد وعناد، ولكن لما لم تَلُحْ لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان.

وذكر الزجاج أن أول منازل الستر: الغبن، وهو الستر الرقيق كالسحاب الرقيق في السماء، يعمل في غشاء القلب غشاء السحاب الرقيق بلون السماء، ثم إذا ازداد سمي:

رينا، ثم يرتقي إلى الطبع إلى أن يصير كالقفل على القلب، وفي هذا دليل على أن للّه تعالى تدبيرًا وصنعا في أفعال العباد؛ لأنه أنشأ للكفر ظلمة في القلب حتى تمنعه تلك الظلمة عن درك الخيرات ونور الإيمان؛ إذ كل من اعتقد الكفر فهو ليس يعتقده؛ ليمنعه عن درك الأنوار، وإذا لم يوجد منه هذا، ثبت أنه صار كذلك بتدبير اللّه - تعالى - وصنعه؛ إذ لا يجوز أن تحدث الظلمة في القلب إلا بمحدث لها، وإذا انتفى الصنع من الكافر ثبت أنه بتدبير اللّه - تعالى - ما صار كذلك، وأنه أنشأه مظلما، واللّه الموفق.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) اختلف في قوله: {يَوْمَئِذٍ}.

فذكر أبو بكر الأصم: أن هذا في الدنيا، يقول: إنهم حجبوا عن عبادة ربهم بما عبدوا غير اللّه تعالى؛ فصارت عبادتهم غير اللّه حجابا من عبادته.

وذكر أهل التفسير: أن هذا في الآخرة.

ثم منهم من يقول: إنهم حجبوا عن لقاء ربهم، وأوجبوا بهذا القول الرؤية للمؤمنين.

ومنهم من يقول: هم محجوبون، أي: عن كرامته التي أعدها لأوليائه، وعن رحمته، فعوقبوا بالحجب عن ذلك؛ جزاء لصنيعهم؛ لأنهم في الدنيا ضيعوا نعم اللّه - تعالى - فلم يقبلوها بالشكر، ولم يؤمنوا برسوله الذي بعثه رحمة للعالمين؛ فأبلسوا من رحمته وكرامته في الآخرة؛ عقوبة لهم ومجازاة، وهو كقوله تعالى: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ}، أي: جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به؛ فعلى ما وجد منهم من المعاملة لآياته وحججه بتركهم الالتفات إليها عوملوا بمثله في الآخرة.

وقال في آية أخرى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦) من صرف الحجب إلى الدنيا، فهو يقول: ثم إنهم يصلون الجحيم بعدما عبدوا غير اللّه تعالى، وحجبوا عن عبادته.

ومن صرف التأويل إلى أمر الآخرة، فهو يقول: إنهم يصلون الجحيم بعدما يظهر فيهم من أثر الحجاب من سواد الوجوه، وإعطاء الكتاب بشمالهم ومن وراء ظهورهم.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) تأويله: أنهم يعرفون أنهم يصلونها بتكذيبهم بها، وحجبوا عن اللّه - تعالى - بتكذيبهم بذلك اليوم، والا لو آمنوا وأقروا أن النار حق والبعث حق، لم يكونوا يصلونها؛ فيعرفون حتى يقروا بذلك بقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}: ذكر الأبرار هاهنا مقابل الفجار في الأول، ثم بين الفجار أنهم المكذبون بيوم الدِّين، وذلك أول منازل الكفر، فإذا أريد بالفجار: الكفار، أريد بالأبرار: الذين آمنوا؛ فلذلك قيل بأن الأبرار هم المؤمنون.

والبر هو الذي يكثر منه تعاطي فعل البر، فسمي: بارا؛ إذا كثر منه البر، والفاجر: هو الذي يكثر منه فعل الفجور؛ فجائز أن يكون الوعيد في الذين بلغوا في الفجور غايته، ويكون حكم من دونهم متروكا ذكره؛ فيوصل إلى معرفة حكمه بالاستدلال، ويكون الوعد في الذين أكثروا أفعال البر، ويكون حكم من دونهم معروفا بغيره من الأدلة.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) ذكر شهود المقربين في ذكر كتاب الأبرار، ولم يذكر شهودهم عند ذكر كتاب الفجار، فجائز أن يكون شهودهم على التعظيم لعمله، والدعاء له، وغير ذلك.

وقيل: المقربون: هم مقربو أهل كل سماء.

٢٢

وقوله - تعالى -: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) البَرُّ هو الذي يبذل ما سئل عنه، ويجيب إلى ما دعي إليه، فإذا أجاب اللّه - تعالى - فيما دعاه إليه من التوحيد، ووفَّى بأوامره، وانتهى عن مناهيه، فهو من الأبرار.

ثم ما ذكرنا يكون بوجهين:

أحدهما: بالاعتقاد، وبتحقيقه بالفعل والمعاملة، فهذا قد وفَّى بما طلب منه قولا وفعلا؛ فيكون هذا ممن يقطع فيه القول باستيجاب الوعد المذكور للأبرار.

والثاني: أن يقوم بوفاء ما طلب منه اعتقادا، ولم يف ما اعتقده بفعله، فالحكم في مثله الوقف، ولا يقطع فيه القول باستيجاب الموعود، بل للّه - تعالى - أن يجازيه بما ضيع من حفظ حدوده بقدر ما وجد من التضييع ثم يلحقه بأهل كرامته، وله أن يعفو عه بفضله وسعة رحمته.

والفجور: هو الميل، والميل يكون بوجهين:

أحدهما: بترك الاعتقاد والفعل جميعا.

والثاني: ميل في المعاملة، وهو أن يخالف فعله عقده.

فالذي وجد منه الميل على الوجهين جميعا، يحل به ما أوعد لا محالة، وأما الذي خالف فعله عقده فإنه يوقف فيه، ولا يشهد أنه من جملة من يلحقهم الوعيد لا محالة.

قد ذكرنا أن البر إذا ذكر على الانفراد أريد به ما يراد بالتقوى والبر جميعا، وكذلك التقوى إذا أفرد اقتضى معنى البر، وإذا قرنا جميعا أريد بالتقوى جهة، وبالبر جهة، وذلك أن التقوى: هي أن يتقي المهالك، وذلك يكون بالإجابة إلى ما دعي إليه قولا وفعلا، والانتهاء عما نهي عنه قولا وفعلا، وهذا هو معنى البر أيضا، فإذا ذُكرا معًا أريد بالتقوى الاجتناب عن المحارم، وأريد بالبر إتيان المحاسن، وكذلك الإيمان، إذا ذكر بالانفراد أريد به ما يقتضي الإسلام من المعنى والإيمان جميعا، وكذلك الإسلام يقتضي معنى الإيمان إذا ذكر بالانفراد؛ لأن الإسلام هو أن يرى الأشياء كلها سالمة للّه تعالى، لا يجعل لأحد فيها شركا، والإيمان أن يصدق اللّه - تعالى - بأنه رب كل شيء، وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت أما يقتضيه ظاهره من جعل، الأشياء كلها سالمة له؛ فهذا معنى قوله: إنه يراد بالإيمان إذا ذكر بالانفراد ما يراد بالإسلام، فإذا ذكرا معا أريد بالإسلام ما يقتضيه ظاهره من جعل الأشياء كلها سالمة له، وأريد بالإيمان ما يقتضيه ظاهره؛ كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. . .} الآية.

وكذلك الحكم في الخوف والرجاء إذا ذكر كل واحد من الحرفين مفردا، اقتضى كل واحد منهما معنى الآخر، وإذا ذكرا معا، أريد بكل واحد منهما ما يقتضيه ظاهره، ولم يصرف إلى ما يراد بالآخر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَفِي نَعِيمٍ}: جائز أن يكون هذا في الآخرة، يصفهم أنهم أبدا في نعيم.

وجائز أن يكونوا في نعيم في الدنيا والآخرة معا؛ فيكونون في الدنيا في نعيم العقول دون نعيم الأبدان، وذلك أنهم يطيعون العقل فيما يدعوهم إليه؛ فيتنعمون بعقولهم، ولكن الذي تدعوهم إليه عقولهم ما تأبى أنفسهم الإجابة له، ويشتد عليها ذلك، فهم في نعيم العقول لا في نعيم الأبدان، ونعيم الآخرة نعيم البدن والعقل جميعا، فتتنعم أنفسهم وعقولهم، ولا يحملون ما تأبى أنفسهم احتماله، قال اللّه - تعالى -: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّه مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، وقال - تعالى -: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. . .} الآية؛ فثبت أنهم في الدنيا وفي الآخرة لفي نعيم.

٢٣

وقوله - تعالى -: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) قد ذكرنا أن كل ما تتوق إليها الأنفس وتشتهى في الدنيا فعلى مثله جرت البشارة لأهل الجنة في الدنيا.

وذكر أن أهل اليمن كان إذا شرف قدر أحدهم وعلت رتبته في الدنيا، اتخذ لنفسه أريكة نسبت إليه؛ فيقال: هذه أريكة فلان، فجرت البشارة لأهلها بالأرائك؛ لما يرغب إلى مثلها في الدنيا، لا أن أرائكها شبيهة بالأرائك التي تتخذ في الدنيا؛ لأن أرائك الجنة مطهرة من الآفات التي هي آثار الفناء، لكنها ذكرت بهذا الاسم؛ لما لا وجه للوصول إلى تعريفها بغير اسمها المعتاد فيما بين الخلق.

والأريكة: هي السرير في الحجال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَنْظُرُونَ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يقع النظر في الحجل، وذلك عند تلاقي الإخوان واجتماعهم على الشراب.

والنظر الثاني يكون إلى مملكته؛ فيكون ذلك خارجا من الحجال؛ على ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن الرجل من أهل الجنة ليرى جميع ما له بنظرة واحدة، وأقل ما

يعطى الرجل مثل سعة الدنيا وعرضها " فذلك النظر يجاوز عما في الحجال؛ فيقع خارجا منها.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) أي: تعرف لو نظرت في وجوههم نضرة النعيم، فجائز أن تكون النضرة منصرفة إلى نفس الخلقة، وهو أنهم أنشئوا على خلقة لا تتغير، ولا تفنى، بل بهجة نضرة.

أو تكون نضارتهم بما أنعموا من النعيم.

ثم خصت الوجوه؛ لأن النظر من بعض إلى بعض يكون إلى الوجوه، لا إلى غيرها من الأعضاء؛ فخصت الوجوه بالذكر لهذا، لا أن تكون النضرة لها خاصة؛ بل النضرة تشتمل سائر البدن.

والثاني: أن السرور إذا اشتد في القلب أثر في الوجوه، وكذلك الحزن يؤثر في الوجه إذا اعترى في القلب؛ فيكون في ذكره نضرة الوجه إخبار عن غاية ما هم عليه من السرور.

خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)

٢٥

وقوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ ... (٢٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الرحيق: هو الخمر الذي لا غش فيه، وهو أن يكون مطهرا من الآفات.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو شيء أعده اللّه - تعالى - لأوليائه، لم يطلعهم على ما يتهيأ في الدنيا على ما قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، فهو شراب تقر به أعينهم مما أخفي لهم إلى الوقت الذي يشربونه.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ .... (٢٦) جائز أن يكون راجعا إلى حال الإناء الذي فيه الرحيق، وهو أنه مختوم لم تتناوله الأيدي، وكذلك ترى المرء في الدنيا يختم نفيس شرابه الذي في الإناء [بالْفِدَامِ] في الدنيا، فيخبر أن ذلك الشراب في الإناء على الوجه الذي كانوا يؤثرونه في الدنيا، وأخبر أن ختامه بأنفس شيء عرفوه في الدنيا، وهو المسك، ليس كالختام في الدنيا؛ لأنهم يختمون أوانيهم في الدنيا بالشيء الرذل، وبما لا قدر له عندهم.

وجائز أن يكون منصرفا إلى الشاربين: أنهم لا يشربون أبدًا، بل يكون له ختم ولكن لا تنقطع لذة الشراب عنهم؛ بل أبدا يجدون من ذلك ريح المسك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} جائز أن يكون أراد به الشراب الذي وصفه في قوله: {رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. . .} الآية.

والتنافس حرف يستعمل في الخيرات؛ كأنه يقول: فليرغبوا في الشراب الذي هذا وصفه، الذي لا غول فيه ولا هم ينزفون، لا في الشراب الذي يذهب بالعقول، ويضعف الأبدان، ويتلف الأموال.

أو فليتنافسوا في النعيم الذي وصف هاهنا، لا في النعيم الذي ينقطع ولا يدوم؛ فكأنه يقول: فليرغبوا فيما يعقب لهم النعيم الدائم والشراب الذي لا تنقطع لذته.

وقيل: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}: ما بقي في الكأس من البقية يكون ذلك مسكا.

والتنافس إنما يكون في المسارعة في الخيرات، وترك الاتباع للشهوات، والانتهاء عن المعاصي، وهو كقوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}، أي: فليكن عملهم بما يثمر لهم ما ذكر من النعيم، لا في الذي ينقطع، وتكون عقباه النار.

٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) قيل: التسنيم: شيء أعده اللّه - تعالى - لأوليائه، لم يطلعهم عليه في الدنيا، وهو من قرة الأعين التي لا تعلمها الأنفس، فوصف مرة المزاج بالمسك، ومرة بالكافور بقوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}، ومرة أخبر أنه ممزوج بالتسنيم، ولم يبين ما التسنيم، والسنام: اسم ما ارتفع من الشيء؛ فيجوز أن يكون سمي: تسنيما؛ لأنه ينحدر إليهم من الأعلى، وأخبر أنه ممزوج بما إلى مثله ترغب الأنفس في الدنيا وتشتاق إليه؛ ألا ترى أن الشراب في الدنيا إذا كان ممزوجا فهو في القلوب أوقع، وتكون الأنفس إليه أرغب منه إذا كان غير ممزوج، فرغبوا بمثله في الآخرة.

وذكر بعض أهل التفسير أن المقربين يسقون من ذلك الشراب صرفا، ويمزج لغيرهم.

وقال الحسن: المزاج يكون للمقربين وغيرهم، وجعل الممزوج منه أشرف، على ما ذكرنا.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨).

المقربون هم الذين يسارعون في الخيرات في الدنيا، فتركوا منى الأنفس، واتقوا المهالك والزلات، فهم المقربون، وأضاف التقريب إلى الغير؛ لأنهم بغيرهم ما وفقوا لاكتساب الخيرات، وعصموا عن ارتكاب المهالك والزلات، لا بأنفسهم؛ فنالوا فضل

التقريب بما أجهدوا أنفسهم في الدنيا؛ للأمور التي ذكرنا.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}: وجه ذكر صنيع الكفرة بالمؤمنين في القرآن، وجعله آية تتلى وإن كان المؤمنون بذلك عارفين - يخرج على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن فيه تبيين موقع الحجج في قلوب المؤمنين وعملها بهم؛ وذلك أن المؤمنين لما سخت أنفسهم باحتمال الأذى والمكروه من الكافرين، انتصبوا لمعاداة آبائهم وأجدادهم وأهاليهم، ورفضوا شهواتهم، وتركوا أموالهم، واختاروا اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودينه، ومعلوم أنهم لم يحملوا أنفسهم كل هذه المؤن؛ طمعا ورغبة في الدنيا؛ لما لم يكن عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يرغب في مثله من نعيم الدنيا؛ فثبت أن الحجج هي التي حملتهم ودعتهم إلى متابعته لا غير؛ فيكون فيما ذكرنا تثبيت رسالته، وإن لم يكن في الآية إشارة إلى الحجج التي اضطرتهم إلى تصديقه والانقياد له؛ فيكون في ذكره تقرير لمن تأخر عنهم من المؤمنين لرسالته، عليه السلام.

والثاني: أن أُولَئِكَ المؤمنين صبروا على ما نالهم من المكاره، واستقبلهم من أنواع الأذى في قيامهم بأمر اللّه تعالى؛ ليكون في ذكره تذكير لمن تأخر من المؤمنين: أن عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا عذر لهم في الامتناع عن القيام بما ذكرنا وإن نالهم من ذلك أذى ومكروه؛ بل الواجب عليهم الصبر على ما يصيبهم، والقيام بما يحق عليهم.

أو ذكر ما لقي الأوائل من السلف من المعاداة والشدائد من الكفرة بإظهارهم دين الإسلام، ثم نلنا نحن هذه الرتبة، وأكرمنا بالهدى بلا مشقة وعناء؛ لنشكر للّه تعالى بذلك

ونحمده عليه؛ لعظمة ثنائه لدينا، وجزيل مننه علينا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} فضحكهم يكون لأحد وجهين:

إما على التعجب منهم أن كيف اختاروا متابعة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحملوا أنفسهم في الشدائد، ورضوا بزوال النعيم عنهم من غير منفعة لهم في ذلك، وهم قوم كانوا لا يؤمنون بالبعث؛ فكانوا يكذبون بما وعد المؤمنون من النعيم في الآخرة؛ وكان يحملهم ذلك على التعجب؛ فيضحكون متعجبين منهم.

أو كانوا يضحكون على استهزائهم بالمؤمنين، يقولون: إن هَؤُلَاءِ آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدقوه فيما يخبرهم من نعيم الآخرة، ولا يعرفون أنه كذلك، وكانوا يجهلون المؤمنين على ما جهلوا بأنفسهبم، وظنوا أن لا بعث ولا جنة ولا نار.

قال أبو بكر: المجرم: هو الوثاب في المعاصي.

وذكر أبو بكر أن في ذكر صنيع الكفار بالمؤمنين دلالة رسالة النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أنهم كانوا يضحكون من المؤمنين، ويتغامزون، وينسبونهم إلى الضلال سرا من المسلمين، فأطلع اللّه - تعالى - نبيه - عليه السلام - على ما أسروا من الأفعال؛ ليجعل لهم من أفعالهم حجة عليهم لنبوته ورسالته، عليه السلام.

٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: لاهين، أو معجبين بحال المؤمنين، أو مسرورين، كما قال - تعالى -: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) يجوز أن يكونوا نسبوهم إلى الضلال؛ لتركهم دين آبائهم، ورأوا ما اختاروه من تحمل الشدائد، ورضوا بضيق من العيش ضلالًا منهم.

٣٣

وقوله: (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) أي: لم يرسلوا بحفظ أعمال المسلمين؛ فيكون في ذكر هذا تسفيه أحلامهم، وهو أنهم تركوا النظر في أحوال أنفسهم، وجعلوا يعدون على المسلمين عيوبهم كأنهم أرسلوا عليهم حفاظا، وما أرسلوا.

أو يكون هذا إخبارا عن الكفار أنهم يقولون: ما أرسل على أحد حافظ يحفظ عليه

أعماله؛ فيكون هذا على الإنكار منهم بالكرام الكاتبين.

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) يكون ضحكهم على المجازاة للكفرة بما كانوا يضحكون منهم في الدنيا.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) منهم من وقف على قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ}.

ومنهم من رأى موضع الوقف على قوله: {يَنْظُرُونَ}.

فإذا وقفت على قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ}، كان معناه: أنهم ينظرون: هل جوزي الكفار ما أوعدهم الرسل في الدنيا أو لا بعد؟

٣٦

وإذا وقفت على قوله: {يَنْظُرُونَ}، كان قوله - تعالى -: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ... (٣٦) أي: قد جوزي الكفار ما كانوا يفعلون، فهم ينظرون كيف يعاقبون.

ثم القول: أن كيف احتملت أنفسهم النظر إلى الكفار بما هم فيه من التعذيب، والمرء إذا رأى أحدا في شدة العذاب، لم يحتمل طبعه ذلك، ونغص عليه العيش؛ فجائِز أن يكون اللّه - تعالى - أنشأهم على خلقة لا تقبل المكاره ولا تجدها؛ بل تنال اللذات كلها والمسار.

أو ارتفع عنهم المكروه؛ لبلوغ العداوة بينهم وبين أهل النار غايتها، وكذلك يرى المرء في الشاهد إذا عادى إنسانا واشتدت العداوة فيما بينهما، ثم رآه يعذب بألوان العذاب، لم يثقل عليه ذلك؛ بل أحب أن يزاد منه.

ثم جائز أن يرفع إليهم أهل النار إذا اشتاقوا النظر إليهم، فيرونهم.

أو يجعل في بصرهم من القوة ما ينتهي إلى ذلك المكان.

ثم ذكر بعضهم أن هذه السورة مكية.

ومنهم من ذكر أنها نزلت بين مكة والمدينة، وهي مكية.

ومنهم من ذكر أن أولها مدنية وآخرها مكية، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠