سُورَةُ الانْشِقَاقِبِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} هو جواب سؤال تقدم؛ لما ذكرنا أن حرف (إذا) حرف جواب، وليس بحرف ابتداء؛ فكأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ملاقاة الأعمال متى وقتها؟ فقال - تعالى -: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) فذلك وقت ملاقاة الأعمال. وقيل: ذكر في الخبر أن أخوين أحدهما مسلم، والآخر كافر، قال للمسلم: أترانا بعد الموت مبعوثين؟ فقال له: بلى، والذي خلقك والجبلة الأولين؛ فنزلت هذه السورة تبين لهم وقت بعثهم: أنه عند انشقاق السماء ومد الأرض ونحوه. ثم ذكر الجواب في ابتداء السورة؛ ليكون المرء أذكر لها؛ لأنه يكون أوعى لها وإذا ذكر في وسط السورة، لم يتحفظ إلا بالتلاوة؛ ولهذا المعنى - واللّه أعلم - جعلت " الم "، و " المر " و " كهيعص " و " طه " رءوس السور؛ لأن الكفرة كانت من عادتهم الإعراض عن القرآن وترك الاستماع إليه ليفهموه، فابتدئت السور بما ذكرت من الرموز والإشارات؛ ليحملهم ذلك على التفكر فيه والنظر؛ إذ لم يكن سبق منهم العلم بمعرفة ما يواد من قوله: " الم " و " الر " ثم ذكر انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها لما جعل فيها؛ ليعرفوا شدة ذلك اليوم؛ فيخافوه، ويستعدوا له. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢)، قيل: سمعت لربها، وأطاعت وأجابت إلى ما دعيت إليه. ثم المراد من الإذن مختلف؛ فحقه أن يصرف كل شيء إلى ما هو الأولى به؛ ألا ترى أنك إذا قلت: " أذن الرجل لعبده في التجارة "، فلست تريد بقولك: " أذن "، ما تريد به إذا أذنت لغيرك أن يتناول من طعامك، بل تريد بالإذن للعبد الأمر بأن يتجر، حتى لو لم يفعل، تلومه على ذلك، وتريد بالآخر إباحة التناول؛ قال اللّه - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه}، وقال في موضع آخر: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه}، فكان المراد من الإذنين مختلفا؛ فثبت أن حقه أن نحمله إلى ما إليه أوجَهُ، وهو إلى الطاعة والإجابة هاهنا أوجه؛ لذلك حملوه عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَحُقَّتْ}، أي: حق لها أن تسمع وتطيع. وجائز أن تكون الإجابة منصرفة إلى أهلها، ثم نسب إليها ذلك وإن كان المراد منه الأهل؛ كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا}، ولا يوجد من القرية عتو، وإنَّمَا يوجد من أهلها، فإن كان كذلك، ففيه أنه لا يتخلف أحد من الإجابة إلى ما دعاه إليه الرب - تعالى - خلافا على ما كانوا عليه من الدنيا، فإن كثيرا من أهل الدنيا، أعرضوا عن طاعته، واشتغلوا بمعصيته. ثم الإجابة والطاعة والطوع والكره، ومثل هذه الأوصاف إذا أضيقت إلى من هو من أهل الاختيار، فهي على الطوع المعروف والإجابة المعروفة، وإذا أضيفت إلى من ليس هو من أهل الاختيار فهو على تغيير الهيئة؛ على ما عليه الخلقة، نحو الأرض توصف بالحياة؛ إذا أنبتت، وتوصف بالموت؛ إذا يبس ما عليها، وصارت متهشمة؛ فيراد بها: أنها صارت بهيئة لو وجدت تلك الهيئة في الروحانيين لصار أحدهما علما لحياته، والآخر علما لوفاته، وقال - تعالى -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، وقوله - تعالى -: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وهما لا يوصفان بطوع ولا إكراه، ولكن خلقتا على هيئة لو وجدت تلك الهيئة فيمن وصف بالطوع والإكراه، كان ذلك منه طوعا. وقال إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، وهي في الحقيقة لا تضل، ولكنها أنشئت على هيئة لو كانت تملك الإضلال، لعد ذلك منها إضلالا. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) قيل: بسطت، وسويت بكسر الشعاب والأودية بالجبال، أو بما شاء؛ فصارت: (قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) أي: ألقت ما وضع فيها من الموتى والكنوز؛ فتخلت عنها؛ فنسب التخلي إليها، وإن كان من فيها هو الذي خلا عنها، وكانت هي الحابسة؛ لأنه إذا خلا عنها خلت هي عنه. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) الكادح: هو الساعي، وهو الذي اعتاد ذلك، وهذا في كل الإنسان، تراه أبدا ساعيا إما في عمل الخير أو عمل الشر، أو فيما ينفعه أو فيما يضره، حتى لو هم بترك السعي لم يقدر؛ لأن تركه السعي نوع من السعي. وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال حين تلا هذه الآية: " أنا ذلك الإنسان " فهذا ليس أنه هو المخصوص بالخطاب؛ لأنه بين الإنسان، فقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}، ولا يجوز أن يكون هو المراد بهذا كله، فكل أحد على الإشارة إليه مراد بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ}، فلذلك قال النبي - عليه السلام -: " أنا ذلك الإنسان ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} وجائز أن يكون معناه: أن اجعل كدحك إلى ربك في أن تسعى في طاعته وطلب مرضاته؛ فإنك ملاقيه لا محالة؛ أي: تلاقي جزاء عملك: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وجائز أن تكون الملاقاة كناية عن البعث؛ إذ البعث قد يكنى عنه بلقاء الرب، قال اللّه - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}، وسمي ذلك اليوم: يوم المصير إلى اللّه - تعالى - ويوم البروز بقوله - تعالى -: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا}. ووجه التسمية بهذه الأسامي ما ذكرنا: أن المقصود من خلق العالم العاقبة؛ فسمي: بروزا؛ لما للبروز أنشئ، وسمى: مصيرا إلى اللّه تعالى؛ لمصيرهم إلى ما له خلقوا، وإن كان الخلق كلهم بارزين له قبل ذلك، ولم يكونوا عنه غائبين؛ فيصيرون إليه خصوصا لذلك اليوم. ٧-٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) فسماه: حسابا، يسيرا؛ لوجوه: أحدها: أن المؤمن اعتقد تصديق الرب في كل ما دعاه إليه، وإذا كان على التصديق سهل عليه تذكر ما قد عمله بتفكر الجملة. ووجه آخر: أنه إذا نظر في كتابه رأى حسناته مقبولة وسيئاته مغفورة له، فسمي ذلك اليوم: يسيرا له؛ لما أثبت فيه من الخيرات، ومُحي عنه من السيئات، كما سميت الخيرات: يسرى، وسمي ما يجري عليها: يسرى أيضا، فكذلك من أوتي كتابه بيمينه يجري عليه الخير؛ فسمي: حسابا يسيرا. وجائز أن يكون المسلم يحاسب في أن يذكر ما أنعم اللّه عليه في الدنيا، ولا يحاسب حساب توبيخ وتهويل؛ بأن يقال له: لم فعلت كذا؟ والكافر يسأل سؤال توبيخ، فيقال له: لم فعلت كذا؟! على الإنكار منه لما فعل، وفي ذلك تعسير عليه. وروي عن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من نوقش الحساب فهو معذب "، وفي بعضها: " من حوسب عذب " قالت: قلت: يا رسول اللّه، ألم يقل اللّه تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا. وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}؟ قال: " يا عائش، ذاك العرض، ولكن من نوقش أن حساب هلك ". قال الفقيه - رحمه اللّه -: في ظاهر قوله - عليه السلام -: " من نوقش الحساب عذب " دفع لما قالته عائشة - رضي اللّه عنها - لأن الفهم من قوله - عليه السلام -: " من نوقش الحساب " غير الفهم من قوله - تعالى -: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؛ فليس في ظاهر قوله جواب لها؛ فكان الظاهر من الكلام الأول على ما فهمته عائشة رَضِيَ اللّه عَنْهُ. ولكن وجه الجواب فيه: أن قوله - عليه السلام -: " من حوسب عذب "، وقوله - عز وجل -: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ} ليس على كل حساب، وإنما هو على الحساب الذي لا يناقش فيه، فأما الذي هو عرض فليس مما يعذب عليه؛ فيكون فيه إبانة أنه لا يفهم بالخطاب العام عموم المراد كما فهمته عائشة - رضي اللّه عنها - بل يجوز أن يكون الخطاب عاما، والمراد منه خاصا. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وقال في شأن الذي أوتي كتابه وراء ظهره {وَيَصْلَى سَعِيرًا. إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}! فهذا لأن المسلم إنما تأهل على قصد تحصيل النفع لنفسه في العاقبة، وتكون معينة له على أمور الآخرة؛ فحصل له ذلك النفع بإحرازه السرور الدائم بذلك، والكافر تأهل للمنافع الحاضرة وسر بها سرورا، وأنساه السرور أمر العاقبة؛ فحق عليه العذاب؛ لتركه السعي للآخرة، لا لسروره بأهله، وهو كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ. . .} الآية، والكل منا يريد العاجلة ولا بد له منها، لكن الذي يصلى جهنم هو الذي ابتغى العاجلة ابتغاء أنساه ذلك عن الآخرة، فكذلك المسرور بأهله إنما حلت به النقمة؛ لما منعه السرور عن النظر للعاقبة، لا لنفس السرور؛ إذ كل متأهل لا يخلو عن السرور بأهله، واللّه أعلم. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فالإيتاء من وراء الظهر يحتمل وجهين: أحدهما: أن استقذر منه؛ لخبث منظره؛ فأوتي من وراء ظهره؛ مجازاة له بما سبق من صنعه، وصنعه أنه نبذ كتاب اللّه وراء ظهره، وترك أوامره ونواهيه كذلك وراء ظهره؛ فجوزي - أيضا - بدفع كتابه وراء ظهره، ودفع إلى المؤمن كتابه بيمينه؛ لما في كتابه من المحاسن والبركات، واليمين أنشئت؛ لتستعمل في البركات وأنواع الخير، وسميت - أيضا - باسم مشتق من اليمن والبركة، والشمال جعلت لتستعمل في الأقذار والأنجاس، فدفع كتابه من خبث عمله إليه بشماله أيضا أو من وراء ظهره. ولأن أهل الإيمان قبلوا أمر اللّه - تعالى - ونواهيه واستقبلوها بالتعظيم والتبجيل، ومن أراد تعظيم الآخر في الشاهد وتبجيله، أخذه بيمينه، فجوزوا في الآخرة بالتعظيم لهم بأن أوتوا كتبهم بأيمانهم، وأما الكافر فإنه استخف بأمر اللّه - تعالى - وطاعته، فجوزي في الآخرة بأن أوتي كتابه بشماله التي تستعمل في الأقذار؛ إهانة له وتحقيرا. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) الثبور والويل حرفان يتكلم بهما عند الوقوع في المهالك؛ فيكون في ذكر الثبور ذكر وقوعه في المهلكة التي يحق له دعاء الثبور والويل على نفسه، دعا به أو لم يدع؛ على سبيل الكناية عن الوقوع في الهلاك، وهو كقوله - تعالى -: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، فالضحك كناية عن السرور، والبكاء كناية عن الحزن؛ فمعناه: أنه يستقبله ما يحزن له طويلا، كان هناك بكاء أو لم يكن. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلَى ... ) فيه دلالة أنه إنما حل به ما ذكر من العذاب؛ لأنه كان للبعث ظانا، ولم يكن به متيقنا؛ وكذلك اللّه - سبحانه وتعالى - حيث قسم الوعد والوعيد بين الفريقين ذكر في آخره ما يبين أن الذي أوعد بالعذاب هو المكذب، وذكر الوعيد هاهنا وبين أن الذي يحل به هذا الوعيد هو الذي كان ظانا بالميعاد ولم يكن متحققا، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ. . .}، إلى قوله: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، فبين أن الوعيد في المكذبين، وقال - تعالى -: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ... } إلى قوله: {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}؛ ليعلم أن الوعيد الدائم في المكذبين خاصة؛ فيكون فيه دفع قول المعتزلة: إن أهل الكبائر يخلدون في النار. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥) أي: كان بصيرا بما سبق من أعماله الخبيثة؛ فيحاسبه على علم منه بما كسبت يداه، ويعذبه على علم منه باكتساب ما استوجب من العذاب، خلافا لأمر ملوك الدنيا: أنهم يحاسبون على تذكير الغير لهم ما عليه من الحساب، ويعذبون على تعريف الغير لهم ما استوجب به التعذيب، لا على علم منهم بذلك. أو يكون معناه: أنه كان به بصيرا في الأزل: أنه ماذا يعمل إذا أنشأه؟ وإلى ماذا ينقلب أمره: إلى النار أو إلى الجنة؟ فخلقه على علم منه أنه يعادي أولياءه، ويعمل بمعاصيه. ولقائل أن يقول بأن المرء في الشاهد لا يشرع في الأمر الذي يعلم أنه في العاقبة يضره ولا ينفعه، ولو شرع فيه، وأتمه كان مذموما عند الناس، ولم يكن محمودا، فأي حكمة في إنشاء عدوه وهو عالم أنه يسعى في معاداته؟!. فجوابه - واللّه أعلم -: أن الذي يشرع في الأمر الذي علم أن إتمامه يضره ولا ينفعه، إنما لحقته المذمة؛ لما سعى في إضرار نفسه، فأما الذي أعرض عن إطاعة اللّه - تعالى - وكفر به فإنما اكتسب الضرر على نفسه خاصة بأن أوقعها في المهالك، ولم يضر غيره؛ لذلك لم تلحقه المذمة في خلقه وإنشائه، وفي هذا دلالة أن اللّه - تعالى - حيث خلق الخلق لم يخلقهم لمنفعة له ولا لمضرة تلحقه من جهتهم؛ بل منافعهم ومضارهم راجعة إلى أنفسهم، واللّه أعلم. ١٦وقوله - تعالى -: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} منهم من حمل قوله: {فَلَا} على دفع منازعة وقعت فيما بين القوم؛ على ما نذكر في سورة {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} إن شاء اللّه، وإنما القسم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُقْسِمُ}. ومنهم من جعل " لا " بحق الصلة. فإن كان على الوجه الأول، لم يجز حذف " لا " من الكلام؛ بل حقه أن يقرأ {فَلَا أُقْسِمُ}. وإن كان بحق الصلة استقام حذفه، كما قرأ بعض القراء: {فَلَا. أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}. ثم الشفق هو أثر النهار، فجائز أن يكون القسم واقعا على النهار كله، وإن كان ذكر طرفا منه. والثاني: أن الشفق يجتمع فيه أثر النهار -وهو النور الذي فيه- وأثر الشمس -وهو الحمرة التي تكون فيه- فيكون القسم واقعا على النهار بما فيه، كما كان واقعا على الليل بما فيه؛ لقوله: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}؛ فيكون فيه حجة لقول أبي حنيفة - رضي اللّه عنه -: إن وقت العشاء لا يدخل حتى يغيب البياض؛ لأن وقتها يدخل بغيبوبة الشفق، والشفق وجدناه مشتملا على البياض والحمرة، فما لم يتم الغيبوبة لم يهجم وقتها؛ ألا ترى أن الصلاة التي تلي الغروب لا يدخل وقتها حتى يتم غروب الشمس، فعلى ذلك الصلاة التي تلي غروب الشفق لا يدخل وقتها حتى يتم الغيبوبة. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَسَقَ}، أي: وما ساق وحمل معه من الظلمة والنجم والدابة، وغير ذلك. والوسق: الحمل، يقال: وسق بعير، أي: حمل بعير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وسق، أي: جمع وساق كل شيء إلى مأواه من الطير والسباع، فذكر النهار والليل؛ لما فيهما من المنافع. ١٨وقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) فالاتساق: الاجتماع، ومعناه: استوى، وكمل؛ إذ ذلك اجتماعه، وذلك في ليالي البيض. وقال أبو بكر الأصم: معناه: أنه جُمع وسوي بعد أن كان كالعرجون القديم فيذكرهم قوته؛ ليعلموا أنه قادر على بعثهم. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩) قرئ بنصب الباء ورفعها، وكلا القراءتين في المعنى واحد، وإن كان في الظاهر إحداهما للجمع والأخرى للوحدان، وإحدى القراءتين بحرف الجمع ليذكر بالرفع، فإن قوله: {لَتَرْكَبُنَّ} منصرف إلى كل إنسان في نفسه خاصة لا على الاقتصار على شخص واحد؛ لما ليس في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ}، إشارة إلى شخص بعينه، ولكن المراد منه الجملة؛ فثبت أن الخطاب منصرف إلى الجملة. ثم قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قيل: حالا بعد حال. ثم جائِز أن يصرف إلى دار الآخرة، فكأنه قال: لتركبن حال الآخرة بعد حال الدنيا؛ فيكون فيه تصريح القول على إيجاب البعث. ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا، فينتقل إلى حال المضغة بعد كونه مضغة، وإلى حال العلقة، وإلى حال الطفولة، إلى أن يبلغ أشده، فلا يزال يركب حالة بعد حالة؛ فيكون في تنقله من حال إلى حال إبانة أنه لم يرد من إنشائه أن تتغير عليه الأحوال فقط، بل أريد به العاقبة التي بها صار إنشاء الخلق حكمة لا عبثا؛ فيكون قوله: {لَتَرْكَبُنَّ} منصرفا إلى كل إنسان في نفسه خاصة، لا على الاقتصار على شخص واحد؛ لما ذكرنا. ومنهم من قال: إنما أراد بهذا الخطاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ذكر عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - لكن قال ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: لَتَرْكَبَنَّ يا مُحَمَّد. وقال ابن عَبَّاسٍ: لتركبن السماء حالا بعد حال. فإن كان التأويل على ما ذكره ابن مسعود، ففيه بشارة له بإسلام قومه، وإجابتهم له؛ فيقول: إنهم سيطيعونك ويصيرون لك أنصارا بعد صدهم الناس عن الإيمان وجفوتهم إياك. ومن قال: لَتَرْكَبَنَّ سماء بعد سماء، فيقول: ذلك ليلة أسري به. والتأويل الأول أقرب؛ لأن موقع القسم في قوله: {لَتَرْكَبُنَّ}، والإسراء لم يكن يعرفه قومه حتى يكون في ذكره دفع الاشتباه عن أُولَئِكَ القوم، فأما ظهور الإسلام وعلو النبي على أعدائه فمما يشاهده الناس؛ فيتحقق في الآخرة ما أخبر النبي - عليه السلام - عن الغيب؛ فيكون تأكيدا لرسالته؛ فلذلك قلنا: إن الحمل على المعنى الأول أحق، واللّه أعلم. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) الأصل أن كل من اعتقد مذهبا فإنما يعتقده لحجة تقررت عنده، أو شبهة اعترضت له، ظنها حجة، فأما أن يعتقده حرامًا، فليس يفعله، فقال اللّه تعالى في هَؤُلَاءِ: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، أي: أي حجة لهم تمنعهم عن الإيمان باللّه - تعالى - وبرسوله، وتدعوهم إلى الشرك والتدين به. ثم قد ذكرنا أن ما خرج مخرج الاستفهام من اللّه - تعالى - فحقه أن ينظر ما يقتضي ذلك الكلام من الجواب أن لو كان من مستفهم؛ فيحمل الأمر عليه، وحق جواب هذا الكلام أن نقول: لا شيء يمنعه عن ذلك؛ فقوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، أي: لا حجة لهم فيما اختاروا من الشرك، وإنما يتدينون به تشهيا وتمنيا؛ فيكون هذا على النفي في أن لا حجة لهم. أو كأنه يخاطب رسوله - عليه السلام - فيقول: سلهم لماذا لا يؤمنون؟ وإذا سألهم لم يجدوا لأنفسهم حجة في الإعراض عن الإيمان؛ فيرجع الأمر إلى ابتغاء الحجة أيضا. ثم المعتزلة احتجت علينا بهذه الآية في تثبيتهم القدرة قبل الفعل، وزعمت أنه لو لم يكن أعطي قوة الإيمان، لم يكن يعاتب على تركه؛ لأنه لا عذر للعبد أعظم من أن يقول إذا قيل له: لم لا تؤمن؟ فيقول: لأني لم أقدر عليه. ولأن قوله - تعالى -: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} حرف تعجيب، ولو كانت القوة ممنوعة قبل الفعل، لكان له أن يقول: إنما لم أؤمن؛ لأني منعت عنه؛ فيرتفع عنه التعجيب؛ فدل أنه أعطي القوة؛ فلم يبق له في التخلف عن الإيمان عذر. والجواب عن الفصل الأول: أن الكافر إنما لحقته كلفة الإيمان؛ لأنه هو الذي ضيع القوة باختياره فعل الكفر، وإنما ترتفع الكلفة إذا منعت عنه الطاقة، فأما إذا كان هو الذي ضيعها، فالكلفة عليه قائمة. والأصل أن القدرة في الصحيح السليم تحدث تباعا على قدر حرصه على العبادة وميله إليها. ثم العبد متى اشتغل بفعل صار مضيعا لضده من الأفعال، لا أن كان ممنوعا من الفعل الذي هو ضد هذا؛ فلذلك إذا آثر الكفر، وأتى به، فقد صار باختياره الكفر مضيعا لقوة الإيمان، لا أن صار ممنوعا عنها؛ لذلك لحقته كلفة الإيمان. وأما ما ذكر من أمر التعجيب فقد وصفنا وجه التعجيب في ذلك، وهو أنهم لم يلزموا الكفر بحجة دعتهم إلى القول به، والمرء إذا قلد مذهبا -قلده لا عن حجة وبرهان- تعجب الخلق باختيارهم الكفر لا عن حجة. ثم لو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة: أن اللّه - تعالى - قد أعطاهم جميع أسباب الهداية، ولم يُبْقِ في خزانته شيئا منعه عنهم، لكان التعجب راجعا إليه، لا إلى الذين لم يؤمنوا، فيقول: ما لي لا أصل إلى هدايتهم، ولم يَبْق عندي شيء به هدايتهم إلا وقد أعطيتهم، لا أن يعجب الخلق من صنعهم؛ فليس الذي اختاروه في القول سوى وصفهم رب العالمين بالعجز، والعاجز لا يصلح أن يكون ربًّا، واللّه الموفق. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١) منهم من صرف التأويل إلى سجود الصلاة، والمراد منه عندنا: سجود التلاوة، وهو سجود الاستسلام والخضوع على الشكر؛ لما أكرم المرء به من الإيمان وهدى اللّه؛ لأن سجود الصلاة يكون عند فعل الصلاة، لا عند ذكر التلاوة. ثم في الآية دلالة وجوب السجدة على السامع؛ لأنهم عوتبوا بتركهم السجود عندما يتلى عليهم، وقرعوا به، والتقريع يجري في ترك اللازم، لا في ترك ما ليس عليه. ولأن المعنى الذي له وجب السجود على التالي قائم في السامع؛ إذ التالي إنما لزمه السجود؛ لما ذكر من آيات اللّه - تعالى - وقامت عليه من الحجج؛ فلزمه أن ينقاد لها ويخضع، والسامع قد قامت عليه الحجج؛ فيلزمه أن يخضع لها. ٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم يكذبون رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام؛ فيحملهم ذلك على التكذيب بالقرآن؛ لأنهم إذا كذبوا رسالته لم يصدقوه فيما يأتي من الأخبار، لا أن يكون في الأخبار معنى يحملهم على التكذيب؛ بل القرآن يحملهم على التصديق والإيمان لو أنعموا النظر فيه، وبذلوا من أنفسهم الإنصاف. أو يكون معناه: أن الذين كفروا هم المكذبون؛ فيكون الكفر منهم تكذيبا، والتكذيب منهم كفرا. ٢٣وقوله: (وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) يحتمل أوجها: أحدها: ما يضمرون من الكيد والمكر برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فاللّه أعلم بكيدهم، لا يتهيأ لهم أن ينفذوا كيدهم فيه إلا ما كتب اللّه عليه؛ فيكون فيه بشارة له بالنصر والتأييد. والثاني: {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} في قلوبهم من التصديق، ويظهرون من التكذيب بألسنتهم، وإنما يوعون من التكذيب بألسنتهم وقلوبهم معا، وذلك أن البعض منهم كان قد أيقن برسالته؛ فكان يصدقه بقلبه، ويكذبه بلسانه على العناد منه والتمرد. ومنهم من لم يكن عرف صدقه بقلبه؛ لما ترك الإنصاف من نفسه بإعراضه عن النظر في حجج أللّه - تعالى - فكان يكذبه بقلبه ولسانه جميعا. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) البشارة إذا فسرت، استقام حملها على الحزن والسرور جميعا، وأما البشارة المطلقة إنما تستعمل في موضع إدخال الفرح والسرور في القلب. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... (٢٥) جائز أن يكون هذا منصرفا إلى كل من آمن. وجائز أن يصرف إلى من آمن من الذين كانوا يوعون ما ذكرنا. وقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} نذكره في سورة " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ "، إن شاء اللّه تعالى. * * * |
﴿ ٠ ﴾