سُورَةُ الْبُرُوجِوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، فقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} على القسم، وكذلك ما ذكر عقيبه. ثم اختلف في موضع القسم في هذه السورة: فمنهم من ذكر أن القسم لمكان قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}. ومنهم من يقول: القسم موضعه على قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، وهو أشبه؛ لأنه في موضع الاحتجاج على الكفرة. ولو حمل القسم على قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، كان ذلك منصرفا إلى المؤمنين، والمسلمون قد تيقنوا بصدق ما يأتي به الرسول من الأنباء، والقسم يذكر على تأكيد ما يقصد إليه؛ ليزال عنه الريب، فإذا كان المسلمون غير مرتابين في نبئه استغنوا عن تأكيده بالقسم؛ فلذلك قلنا: إن صرفه إلى قوله - تعالى -: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، أليق؛ فيكون فيه تحذير لمن كذب رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن بطشه لمن كذب رسوله لشديد، وقد علموا ذلك بما وصل إليهم من نبأ عاد، وثمود، وفرعون، وغيرهم. وجائز أن يكون موضع القسم على قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، وذلك أن أهل مكة كانوا أهل تعذيب لمن آمن بالنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكان في ذكر ما نزل بالمتقدمين من الفراعنة من العذاب، وصبر أُولَئِكَ المعذبين على دينهم، وضنهم به، وحسن ثناء اللّه - تعالى - عليهم تصبير لهم، وتهوين على ما يلقون من العذاب؛ لينالوا من حسن ثناء اللّه - تعالى - عليهم ما ناله من صبر من تقدمهم من السلف. وكذلك ذكر سحرة فرعون، وأحسن الثناء عليهم بصبرهم على تعذيب فرعون، فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ ليكون ذلك عونا لهم على الصبر بما يلقون من الكفرة من التعذيب، ثم أكد الأمر بالقسم؛ لأنه لا كل مسلم يبتلى بتعذيبهم يبلغ يقينه مبلغا لا يعتريه الشك، ولا يتخالجه شبهة في ذلك؛ فأكد الأمر بالقسم؛ لرفع الريب والإشكال. وقال - تعالى -: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، وفي بعض القراءات: {قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، فذكّر المؤمنين ما لقي السلف من الكفرة، وابتلوا بقتل الرسل وثباتهم على الدِّين؛ ليستعينوا به على ما يصيبهم في سبيل اللّه، ولا ينقلبوا على أعقابهم إذا أخبروا بقتل الرسول. وفي ذكر هذه الأنباء دلالة أن قول الرسول - عليه السلام - لعمار رَضِيَ اللّه عَنْهُ: " إن عادوا فَعُدْ " حين أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه، فأجرى وقلبه مطمئن بالإيمان - ليس على الأمر به والإيجاب عليه، والتحصيل بطريق العزم؛ بل معناه: إن عادوا فلك العود؛ على سبيل الرخصة؛ لأنه لو كان على الأمر، لم يكن في ذكر نبأ أصحاب الأخدود وسحرة فرعون فائدة، سوى أن يترك العمل بهما، ومعلوم أن تلك الأنباء إنما ذكرت؛ ليعمل بها لا ليترك بها العمل؛ لذلك حمل قوله: " فَعُدْ " على الرخصة، لا على الأمر به، ويكون المراد من قوله - عليه السلام - أيضا: " من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا "، أي: لم ير العمل به موسعا بل استنكره، وأبى قبوله، لا أن يكون فيه أمر بترك العزيمة وإيجاب العمل بالرخصة، واللّه أعلم. ثم نرجع إلى قوله - تعالى -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}. فقَالَ بَعْضُهُمْ: هي البروج المعروفة، وهي أطراف البناء، وإذا بني بناء اتخذ على طرفه برج؛ ليشدد بناؤه به. ومنهم من قال: البروج: القصور. ومنهم من قال: البروج: النجوم؛ لقوله: {جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} وزينة السماء هي الكواكب بقوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}. ومنهم من قال: هي مجاري الشمس والقمر والكواكب، فمنازلها هي البروج. ثم ذكر السماء بالبروج؛ ليعرف حدثها ودخولها تحت تدبير الغير؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة فيها؛ ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع؛ فيعرفوا بها حدثها؛ إذ المسخر لمنافع الغير داخل تحت قدرة من سخره، والمقدور محدث، وهم لم يشهدوا بدأها؛ ليعرفوا به حدثها، ولا كل أحد يعرف حدثية الشيء؛ لكونه محدودا في نفسه إذا لم يشاهدوا بدأه، فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق؛ إذ ذلك أظهر وجوه الدلالة على الحدثية؛ ليعلموا بها حدثها؛ ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها؛ إذ ذلك أظهر وجوه الحدثية، ولم يحتج عليهم بانتقالها من موضع إلى موضع، ولا بكونها محدودة في نفسها؛ بل احتج عليهم بما ذكرنا؛ ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير. ٢وقوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) قيل: هو يوم القيامة؛ فسمي: موعودا؛ لما وعد من جميع الأولين والآخرين في ذلك اليوم، ثم أقسم بذلك اليوم وإن كانوا منكرين له؛ لما قرره عليهم بالحجج، وألزمهم القول به. وقيل: اليوم الموعود، هو كل يوم يأتي، فيأتي بما وعد فيه من الرزق وغيره، واللّه أعلم. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) اختلف في تأويله: فمنهم من قال: الشاهد هو اللّه تعالى، والمشهود هو الخلق، واستدل على ذلك بقوله: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وقيل: الشاهد الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والمشهود أمته؛ قال اللّه - تعالى -: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}. ومنهم من يقول: الشاهد هو الكاتبان اللذان يكتبان على بني آدم أعمالهم، والمشهود هو الإنسان الذي يكتب عليه. ومنهم من يقول: الشاهد والمشهود هو الإنسان نفسه؛ أي: جعل عليه من نفسه شهودا بقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومنهم من يقول: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة؛ فسمي يوم الجمعة شاهدا؛ لأنه هو الذي يشهدهم ويأتيهم، وسمي يوم عرفة: مشهودا؛ لأن عرفة اسم مكان، والناس يأتونها ويشهدونها، ولا يأتيهم؛ فعظم شأن عرفة لما يعظمها أهل الأديان كلها، وعظم يوم الجمعة؛ لأنه يوم عيد المسلمين، ولكل أهل دين يوم يعظمونه، فأكرم اللّه - تعالى - المؤمنين بهذا اليوم؛ ليعظموه مكان اليوم الذي يعظمه غيرهم من أهل الأديان، فأقسم بهما. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) اختلف في تأويله: فمنهم من صرفه إلى المعَذَّبين. ومنهم من صرفه إلى المعَذِّبين. فمن صرف إلى المعَذِّبين حمل قوله: {قُتِلَ} على اللعن؛ أي: لعنوا؛ كقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}، أي: لعنوا. ومن صرفه إلى الذين عذبوا، حمله على القتل المعروف. ثم اختلف في قصة أُولَئِكَ الذين عذبوا؛ فإن كان القسم في الكفرة، فما ينبغي أن يفسر على وجه من ذلك ما لم يتواتر فيه الخبر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، بل حقه أن يقتصر على ما جاء به الكتاب؛ لأن هذه الأنباء حجة لرسالة نبيه - عليه السلام - لأنهم وجدوها مواققة للأنباء المذكورة في كتبهم، وقد علموا أنه لم يصل إلى تعرفها إلا باللّه تعالى؛ إذ لم يروه يختلف إلى من عنده علم الأنباء؛ ليصل إلى معرفتها بهم، فإذا فسرت على وجه أمكن أن يقع فيها زيادة أو نقصان على ما ذكر في الكتاب؛ فيجدوا به موضع الطعن والقدح؛ لذلك لم يسع أن يزاد على القدر الذي جرى ذكره في الكتاب إلا من الوجه الذي ذكرنا. وإِن كان القسم في المؤمنين، وسع القول بحمل التأويلات التي ذكرها أصحاب التفسير؛ لارتفاع المعنى الذي ذكرنا في الكفرة، واللّه أعلم. ثم في ذكر هذه الأنباء تقرير رسالته ونبوته - عليه السلام - عند الكفرة؛ لما ذكرنا أنه لم يختلف، إلى من عنده علم هذه الأنباء؛ ليعلم بها، فإذا أنبأهم بها على وجهها، تيقنوا أنه باللّه تعالى علم. وفيه تصبير لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتخفيف الأمر عليه؛ لأنه يخبره أن قومك ليسوا بأول من آذوك وعاندوك، بل لم يزل سلفهم تلك عادتهم بأهل الإسلام. وفائدة أخرى: ما ذكرنا أن في ذكره بعض ما يستعين به من ابتلي بأذى الكفرة. وفيه أن أُولَئِكَ الكفرة بلغ من ضنهم بدينهم ما يقاتلون عليه من أظهر مخالفتهم في الدِّين؛ ليعلموا أن القتال لمكان الدِّين ليس بأمر شاق خارج من الطباع؛ بل الطباع جبلت على القتال مع من عاداهم في الدِّين؛ فيكون فيه ترغيب للمسلمين على القتال مع الكفرة إذا امتحنوا به، واللّه أعلم. ٥وقوله: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) منهم من جعل الوقود من ألقي فيها من المؤمنين. ومنهم من جعل الوقود صفة تلك النار التي عذبوا بها. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) أي: عظماؤهم وكبراؤهم جلوس عند الأخدود؛ ففيه أن أتباعهم هم الذين كانوا يتولون إلقاء المؤمنين في النار، وكبراؤهم جلوس هنالك. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الشهود هم العظماء والفراعنة. أو يكون منصرفا إلى الأتباع، وهو أن الأتباع كانوا يلقون المؤمنين في النار، ويشهدون أنهم على الضلال، وأنهم ورؤساؤهم على الهدى ولحق، وهو كما قال في موضع آخر: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّه الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) ذكر {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ليعلم أنه لا يلحقه ذل بما يحل من الذل بأوليائه وأهل طاعته، ولا في حمده قصور بقهر أوليائه، خلافا لما عليه ملوك الدنيا، وذلك أن ملوك الدنيا إذا حل بأولياء واحد منهم ذل، كان الذل حالا فيه أيضا، وإذا قهر بعض أتباعه فترك نصرهم وهو قادر على نصرهم واستنقاذهم لم يحمد ذلك منه، ولحقته المذمة؛ وذلك لأن الملك إنما استفاد العز بأتباعه وأنصاره، فإذا استذل أتباعه، زال ما به نال العز؛ فلحقه الذل، ونال الحمد - أيضا - بالإحسان إلى مملكته، فإذا ترك نصرهم وهو ممكَّن من ذلك، فقد ترك إحسانه إليهم؛ فصار به غير ممدوح ولا محمود، واللّه - تعالى - استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه؛ فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد، ولا ما يوجب قصورا في العز. والثاني: أن الدنيا وما فيها أنشئت للإهلاك، ولعل الإهلاك بما ذكر أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنفهم، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء، وهي التي ذكرها اللّه - تعالى - في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. . .} الآية، ولا ينال تلك الدرجة بموتهم حتف أنفهم، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم. ثم للجزاء والعقاب دار أخرى فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء؛ فلم يكن في ترك النصر في الدنيا ما يوجب وهنا ولا ذلا، وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم، لم يتوقع منهم النصر بعد ذلك؛ إذ ليست في أيديهم إلا المنافع الحاضرة؛ لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر، واللّه أعلم. ثم ليس في إهلاك أُولَئِكَ القوم الذين آمنوا واقتدارهم عليهم إيهام أنهم كانوا على الحق والصواب، وأن المؤمنين كانوا على الخطأ؛ لأن الإهلاك إنما يصير آية إذا كان على خلاف المعتاد، وإهلاكهم لم يكن كذلك؛ لأن عددهم كان كثيرا، وكان في المؤمنين قلة، وإهلاك الكثير للقليل غير مستبعد؛ بل هو أمر معتاد، وغلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة هي التي تخرج من حد الاعتياد؛ فيكون فيها آية: أن الفئة القليلة على الحق والأخرى على الباطل، وذلك نحو غلبة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر بمن معه من المسلمين مع قلة أعدادهم وضعفهم في أنفسهم، وكثرة أتباع الكفرة وقوتهم وجلادتهم في أنفسهم، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ}، أي: لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم لينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا باللّه تعالى. وقيل: ما عابوا عليهم، وما أنكروا منهم سوى أن آمنوا باللّه تعالى، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم؛ لأنهم علموا أن ما لهم من النعم كلها من اللّه تعالى، وكان الذي يحق عليهم أن يؤمنوا باللّه - تعالى - ويشكروه بما خولهم من النعم، ويدعوا غيرهم إلى الإيمان به، لا أن يقتلوا ويعذبوا من آمن به. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} العزيز: هو الذي لا وجود له، أو هو عزيز لا يلحقه ذل؛ فيكون العز مقابل الذل. وقال أهل التفسير: العزيز: المنيع، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء، وهو الحميد المستوجب للحمد من كل أحد بذاته. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (٩). ذكر هذا؛ ليعلم أنه لا يدخل في ملكه قصور بقتل أوليائه وأنصار دينه؛ لأن الخلق كلهم عبيد للّه - تعالى - وإماؤه، والسيد إذا قتل بعض مماليكه بعضا، لم يلحق السيد بذلك ذل ولا نقص، وإنما يدخل عليه الذل إذا قتلهم غير مماليكه، فإذا كان الخلق بأجمعهم عبيدًا للّه - تعالى - لم يكن في قتل بعضٍ بعضًا نقص يدخل في ملكه. وقوله: {وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، أي: يحفظ عليهم أعمالهم؛ فيجازيهم بها، لا يعزب عنه شيء. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) الفتنة: المحنة، وهي مأخوذة من فتن الذهب إذا أذابه؛ لأنه يذيبه؛ ليميز به بين ما خبث منه وبين ما صفا، وبين الذهب وبين ما ليس بذهب؛ فاستعملت في موضع المحنة؛ لأن المحنة هي الابتلاء؛ ليتبين بها الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، وذلك يكون بالأمر والنهي؛ فسمي الأمر والنهي من اللّه - تعالى - امتحانا لهذا، وإن كان اللّه - تعالى - لا يخفى عليه شيء. ثم وجه فتنتهم: أنهم اتخذوا الأخاديد وأوقدوا فيها النيران؛ ليلقوا فيها من ثبت على الإيمان ودام عليه، ويتركوا إلقاء من رجع عن دينه، فقيل: فتنوا؛ لهذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا}: فيه أنهم لو تابوا لكان يعفى عنهم، ولا يعاقبون مع عظم جرمهم بربهم في ذات اللّه - تعالى - فيكون فيه إظهار كرمه وعطفه على خلقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}: منهم من صرف قوله: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} إلى الدنيا، فقال بأن تلك النار التي عذبوا بها المؤمنين سلطت عليهم حتى أحرقتهم. وجائز أن يكون ذلك في جهنم أيضا؛ فيكون فيه إخبار بأن نار جهنم تدوم عليهم بالإحراق، ولا تفتر عنهم. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) منهم من صرف هذا الخطاب إلى الذين عذبوا من المؤمنين. ومنهم من صرفه إلى المعذبين، وهو أنهم لو آمنوا مع عظم جرمهم وإساءتهم بأولياء اللّه - تعالى - لكان يعفو عنهم، وتسعهم رحمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فقوله: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يحتمل وجهين: أحدهما: من تحت أهلها. والثاني: من تحت أشجارها. والجنة: اسم للمكان الذي فيه الأشجار الملتفة؛ فيخبر أن الماء يجري من تحت ما به صار جنة وهي الأشجار، وليس يراد بقوله: تحت الجنة، أي: تحت تربتها؛ لأن تحتها تكون قناة أو بئرا، وليس بهما كثير نزهة. وقوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الفائز هو الذي يظفر بما يأمل، وينجو عما يخاف، ويحذر، ووصف أنه كبير؛ لأنه ليس لما أنعم زوال ولا انقطاع. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، أي: أخذه للانتقام شديد، يشتد على الذي يعذب؛ كقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. ١٣وقوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣). قَالَ بَعْضُهُمْ: يبدئ العذاب، ثم يعيده. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يبدئ الخلق، ثم يعيده بعدما أماته. ١٤وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) الغفور: هو الستور يستر على المذنب ذنبه إذا تاب حتى لا يذكر به، ولولا ذلك لم يكن يصفو له نعيم الآخرة عن التنغيص. وقوله: {الْوَدُودُ}: الذي يتودد إلى خلقه فيما ينعم عليهم ويحسن إليهم؛ قال النبي - عليه السلام -: " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها "؛ فجعل الإحسان سبب التودد. والثاني: أن كل من واد آخر، فالحق عليه أن يوده في اللّه - تعالى - لأنه به نال ما به يتودد؛ قال اللّه - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}، فكأنه يقول: هو المستوجب للمودة من الخلق. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) منهم من جعل المجيد نعتا للعرش. ومنهم من جعله نعتا للّه تعالى. فمن جعله نعتا للعرش فهو مستقيم؛ لأنه وصفه في مكان آخر بالكريم بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}، والمجيد يقرب معناه من معنى الكريم؛ لأن الكريم هو الذي عظم قدره وشرفه، والمجيد كذلك هو الشريف المعظم، وعظم قدر العرش في قلوب الخلق وعلا حتى زعم بعض الناس أنه مكان الرب تعالى، والكريم في الشاهد هو الذي يطمع عنده وجود ما يرجى ويؤمل، ويؤمن منه ما يتقى ويحذر، وسمى اللّه - تعالى - النبات: كريما بقوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}؛ لما فيه من عظم المنافع، والكريم: هو النافع للخلق. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٦) أي: ما يريد تكوينه يكونه؛ فيكون فيه إيجاب القول بخلق أفعال العباد، وأنه شاء لكل أحد ما علم أنه يكون منه؛ لأنه امتدح - جل وعلا - بالفعل لما يريد، ولو لم يثبت له صنع في أفعال العباد، لكان لا يختص بهذا الامتداح؛ بل يكون كل واحد مستوجبا لهذا المدح؛ فثبت أن كون حقائق الأشياء بما للّه - تعالى - فيه صنع. والثاني: أن إحداث شيء في سلطان آخر وفي مملكته من حيث لا يشاؤه ولا يريده آية الضعف والقهر، ومن ذلك وصفه، لم يجز أن يكون ربًّا؛ لذلك لزم وصف اللّه - تعالى - بذلك. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، أي: البعث، وهو أنه أنشأ هذا الخلق للعاقبة، وهكذا فعل كل مختار أنه يقصد بفعله العاقبة إلا أن يكون جاهلا بها. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨). قد وصفنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد، وقد ذكرنا أن فيها إثبات رسالته؛ على ما تقدم ذكره غير مرة. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) أي: كفروا أنعم اللّه - تعالى - فهم في تكذيب بأنعم اللّه تعالى. أو لما جحدوا أنعم اللّه - تعالى - لم يوفقهم للإيمان به؛ فجعلوا على التكذيب. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) أي: من وراء تكذيبهم محيط بما ينزل بهم من العذاب ليس يوعدهم عن غفلة وخيال كما يفعله ملوك الدنيا؛ قد يوعدون بالعذاب، ولا يدرون أنهم يتمكنون من ذلك أم لا؟ واللّه - تعالى - ينزل عليهم عذابه كما أوعد. أو يكون قوله: {مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}، أي: عالم بما يسرون ويخفون عن الخلق، لا يعزب عنه شيء. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) سماه: مجيدا، وكريما، وحكيما، وهذه أوصاف من وصف بها في أن شاهد فإنما استحق الوصف بفعل وجد منه، ولا يوجد من القرآن فعل يستحق به الوصف، فالوصف به يحتمل أوجها: أحدها: {مَجِيدٌ}، أي: يصير من تبعه وعمل بما فيه مجيدا حكيما كريما؛ كقوله تعالى: {وَالنهَارَ مُبْصِرًا}، أي: يبصر به أو يكون قوله: {مَجِيدٌ}، و {كَرِيمٌ}، أي: على اللّه تعالى. أو سماه: كريمًا، مجيدًا، حكيمًا؛ لعظم قدره. أو سماه: كريمًا، حكيمًا، مجيدًا؛ لما يوجد منه ما يوجد من الكرماء والحكماء والأمجاد. ٢٢وقوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢) منهم من حقق اللوح والقلم، وقد وصفه أهل التفسير. ومنهم من جعل اللوح عبارة عما يلوح -أي: يظهر- للملك من الأمر، لا على تحقيق اللوح، وسمت الباطنية القلم: المبدع، الأول، واللوح: المبدع الثاني، وجعلوا المبدع الأول علة كون المبدع الثاني، وزعموا أن المبدع الأول بذل له إنشاء المبدع الثاني، فهو المنشئ له، وسمت المبدع الأول: بارئا، والمبدع الثاني: خالقا ورحمانا، وسمت الفلاسفة المبدع الأول: عقلا والثاني: نفسا، ثم حدث التوالد من الأنفس. فأما جعلهم الأول أصلا وعلة ليس كما ذكروا، فذلك يحتمل أن يجعل الأول أصلا للثاني وعلة كما استقام أن تجعل النطفة أصلا لخلق البشر، ولكنه لا يجوز أن يسمى بواحد من الاسمين اللذين ذكرتهما الباطنية والفلاسفة؛ لأنه لا يجوز إنشاء الأسماء لهذه الأشياء اختراعا، بل تسميهما بما جاءت بهما التسمية من عند الحجة، وإنما جاءت التسمية من عند الحجة باللوح والقلم؛ فلا تسميهما بغيرهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَحْفُوظٍ}، أي: عن أعدائه؛ فلا يتمكنون من تغييره وتبديله. وأخبر أنه أنزل إليه على يدي رسول قوي؛ فلا يقدر أحد أن يغلبه؛ فيحرف ما فيه. ووصفه بالأمانة في نفسه بقوله: {ذِي قُوَّةٍ. . .} إلى قوله: {أَمِينٍ}،؛ ليؤمن تغييره بنفسه، واللّه الهادي للعباد والموفق للرشاد، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم. * * * |
﴿ ٠ ﴾