سُورَةُ الْبُرُوجِوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، فقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} على القسم، وكذلك ما ذكر عقيبه. ثم اختلف في موضع القسم في هذه السورة: فمنهم من ذكر أن القسم لمكان قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}. ومنهم من يقول: القسم موضعه على قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، وهو أشبه؛ لأنه في موضع الاحتجاج على الكفرة. ولو حمل القسم على قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، كان ذلك منصرفا إلى المؤمنين، والمسلمون قد تيقنوا بصدق ما يأتي به الرسول من الأنباء، والقسم يذكر على تأكيد ما يقصد إليه؛ ليزال عنه الريب، فإذا كان المسلمون غير مرتابين في نبئه استغنوا عن تأكيده بالقسم؛ فلذلك قلنا: إن صرفه إلى قوله - تعالى -: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، أليق؛ فيكون فيه تحذير لمن كذب رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن بطشه لمن كذب رسوله لشديد، وقد علموا ذلك بما وصل إليهم من نبأ عاد، وثمود، وفرعون، وغيرهم. وجائز أن يكون موضع القسم على قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، وذلك أن أهل مكة كانوا أهل تعذيب لمن آمن بالنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكان في ذكر ما نزل بالمتقدمين من الفراعنة من العذاب، وصبر أُولَئِكَ المعذبين على دينهم، وضنهم به، وحسن ثناء اللّه - تعالى - عليهم تصبير لهم، وتهوين على ما يلقون من العذاب؛ لينالوا من حسن ثناء اللّه - تعالى - عليهم ما ناله من صبر من تقدمهم من السلف. وكذلك ذكر سحرة فرعون، وأحسن الثناء عليهم بصبرهم على تعذيب فرعون، فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ ليكون ذلك عونا لهم على الصبر بما يلقون من الكفرة من التعذيب، ثم أكد الأمر بالقسم؛ لأنه لا كل مسلم يبتلى بتعذيبهم يبلغ يقينه مبلغا لا يعتريه الشك، ولا يتخالجه شبهة في ذلك؛ فأكد الأمر بالقسم؛ لرفع الريب والإشكال. وقال - تعالى -: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، وفي بعض القراءات: {قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، فذكّر المؤمنين ما لقي السلف من الكفرة، وابتلوا بقتل الرسل وثباتهم على الدِّين؛ ليستعينوا به على ما يصيبهم في سبيل اللّه، ولا ينقلبوا على أعقابهم إذا أخبروا بقتل الرسول. وفي ذكر هذه الأنباء دلالة أن قول الرسول - عليه السلام - لعمار رَضِيَ اللّه عَنْهُ: " إن عادوا فَعُدْ " حين أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه، فأجرى وقلبه مطمئن بالإيمان - ليس على الأمر به والإيجاب عليه، والتحصيل بطريق العزم؛ بل معناه: إن عادوا فلك العود؛ على سبيل الرخصة؛ لأنه لو كان على الأمر، لم يكن في ذكر نبأ أصحاب الأخدود وسحرة فرعون فائدة، سوى أن يترك العمل بهما، ومعلوم أن تلك الأنباء إنما ذكرت؛ ليعمل بها لا ليترك بها العمل؛ لذلك حمل قوله: " فَعُدْ " على الرخصة، لا على الأمر به، ويكون المراد من قوله - عليه السلام - أيضا: " من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا "، أي: لم ير العمل به موسعا بل استنكره، وأبى قبوله، لا أن يكون فيه أمر بترك العزيمة وإيجاب العمل بالرخصة، واللّه أعلم. ثم نرجع إلى قوله - تعالى -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}. فقَالَ بَعْضُهُمْ: هي البروج المعروفة، وهي أطراف البناء، وإذا بني بناء اتخذ على طرفه برج؛ ليشدد بناؤه به. ومنهم من قال: البروج: القصور. ومنهم من قال: البروج: النجوم؛ لقوله: {جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} وزينة السماء هي الكواكب بقوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}. ومنهم من قال: هي مجاري الشمس والقمر والكواكب، فمنازلها هي البروج. ثم ذكر السماء بالبروج؛ ليعرف حدثها ودخولها تحت تدبير الغير؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة فيها؛ ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع؛ فيعرفوا بها حدثها؛ إذ المسخر لمنافع الغير داخل تحت قدرة من سخره، والمقدور محدث، وهم لم يشهدوا بدأها؛ ليعرفوا به حدثها، ولا كل أحد يعرف حدثية الشيء؛ لكونه محدودا في نفسه إذا لم يشاهدوا بدأه، فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق؛ إذ ذلك أظهر وجوه الدلالة على الحدثية؛ ليعلموا بها حدثها؛ ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها؛ إذ ذلك أظهر وجوه الحدثية، ولم يحتج عليهم بانتقالها من موضع إلى موضع، ولا بكونها محدودة في نفسها؛ بل احتج عليهم بما ذكرنا؛ ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير. |
﴿ ١ ﴾