سُورَةُ الطَّارِقِوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}: إن اللّه - جل وعلا - عظم قدر السماء في أعين الخلق؛ لما جعلها معدن رزقهم ومسكن أولي القدر من خلقه، وهم الملائكة، وفيها خلق الجنة، وخلقها بغير عمد ترى، فأقسم بها؛ لما عظم من شأنها، وجعل مصالح الأغذية بزينتها، وهي الشمس والقمر، وأقسم بالنجم الثاقب، وهو المتلألئ من النجوم المضيء الذي يثقب الشيطان، أي: يخرقه، ولما فيها - أيضا - من عظيم البركات، وبركاتها أنها جعلت بحيث يهتدي بها في البر والبحر، ويوصل بها إلى لطائف التدبير إلى أن ظن بعض الناس أن الأنجم السبعة هي المدبرات، وبها ما منع الشياطين عن الصعود إلى السماء لينتفي بها التلبيس عن الوحي؛ لأنهم لو لم يحفظوا عنها، لكانوا إذا وقفوا على أخبارها أسرعوا بحملها إلى الكهنة؛ فيؤدي ذلك إلى التلبيس. ومن عظيم قدرها أنها تقطع في الليلة الواحدة مسيرة ألف شهر، فأقسم بها أيضا. ويجوز أن يكون هذا من اللّه - تعالى - تعليما لرسوله - عليه السلام - بأن يقسم به دون أن يكون ذلك قسما منه تعالى؛ لأنهم لم يكونوا يرتابون في ألوهيته وربوبيته وصدق أخباره؛ فيزال عنهم الريب بالقسم، وإنما كانوا يرتابون في رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فعلمه القسم بما ذكر؛ ليؤكد أمره؛ فيحملهم ذلك على النظر في أمره. ويجوز أن يكون القسم بعين هذه الأشياء؛ لكونها معظمة عند الكفرة، وليس للمسلمين أن يقسموا بها فيما بينهم. أو يكون القسم بهذه الأشياء هو القسم بخالقها؛ فكأنه أمره بالقسم بخالق هذه الأشياء على الإضمار، واللّه أعلم. واختلف في تأويل {وَالطَّارِقِ}: فقَالَ بَعْضُهُمْ: ما يجيء به الليل؛ يقال: طرقته بالليل؛ إذا أتيته. وقال الزجاج: {وَالطَّارِقِ}: هو الساكن؛ يقال: أطرق في الكلام مليا؛ إذا وقف، وسكن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو النجم يطرق بالليل، ويخفى بالنهار، وهو النجم الثاقب، ذكره تفسيرًا للطارق. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (٤) اختلف في قوله: {إِنْ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: أريد به هاهنا: " ما ". وقوله: {لَمَّا} صلة في الكلام، فمعناه: ما كل نفس عليها حافظ، وإنما الحافظ على بعض دون بعض. والثاني: أن يكون الحافظ على بعض ما في النفس دون بعض، وذلك البعض هو الذي يظهره، فأما الذي يخفيه فإنه لا يشهده كاتباه. ومنهم من حمل قوله تعالى {لَمَّا} على الاستثناء، فقال: معناه: ما من نفس إلا عليها حافظ. قال الزجاج: حرف {لَمَّا} استعمل في موضع الاستثناء، يقال في اللغة: " أقسمت عليك لَمَّا فعلت كذا ": أي: إلا فعلت كذا. فإن كان معناه ما ذكروا، ففيه إلزام التيقظ والتبصر، والنفس من طبعها: أنه إذا سلط عليها من يراقبها ويحفظها، احتشمت من وقتها وخافته، وتكون متيقظة، ولا ترتكب من الأمور إلا ما تعلم أنه لا يلحقها التبعة فيه من الحفاظ؛ فسلط عليه الملكان - أيضا - ليكون متيقظا في كل قول وفعل، فلا يقبل إلا على ما فيه نفع العاجل والآجل. وسمى اللّه - تعالى - الملكين: {كِرَامًا كَاتِبِينَ}، ومن صحب المكرم من الخلائق احتشم منه، وتوقى عن إتيان ما يُستحْيا من مثله، ومن أراد أن يكتب إلى أحد كتابا، لم يثبت في كتابه شيئا يؤخذ عليه، ويذم به، بل يحكم الأمر، ويصلحه غاية ما يحتمله الوسع؛ فكان في ذكر الحفاظ على الأنفس إلزام التيقظ والتبصر من الوجوه التي ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَافِظٌ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظ عليها رزقها حتى تستوفيه؛ فإن كان على هذا، فالحفظ يكون لها لا عليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظ عليها عملها خيرها وشرها. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) الأصل أن إمعان النظر فيما خلق منه الإنسان مما يوصل المنكرين للبعث والمنكرين للرسالة إلى القول بهما، وذلك أن النطفة التي خلق منها الإنسان لو رئيت موضوعة على طبق، ثم رام أحد أن يعرف وأن ينتزع منها المعنى الذي به صلح أن ينشأ منها العلقة والمضغة وخلق منها الإنسان - لم يدرك، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يركبوا عليها جارحة من جوارح الإنسان، لم يتهيأ لهم تركيبها، أو تعرّف المعنى الذي صلح أن ينشأ منه السمع والبصر، لم يوقفوا عليه؛ فتبين أن الذي بلغت قدرته هذا لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، وتبين لهم حكمته، وإذا عرفوا حكمته أداهم ذلك إلى القول بالبعث؛ لأنه لولا البعث وإلا كان يخرج إنشاء الخلق عبثا باطلا؛ فيخرج عن أن يكون حكيما، ولزمهم أن يصدقوا الرسل بجميع ما أخبرتهم به. وفيه دلالة خلق الشيء لا من شيء؛ إذ لا يجوز أن يكون الإنسان بكليته في النطفة مستجنا، فظهر؛ لأنه لا يسع في الشيء الواحد ما لا يحصى ذلك من الأضعاف، ولا يجوز أن يكون ذلك عمل النطفة - أيضا - لأنها موات، لا يحتمل أن تصير كذلك إلا بتدبير مدبر عليم، فيكون فيما ذكرنا إيجاب القول بحدوث العالم. ولأنها لو صارت مضغة وعلقة وخلقا سويا بطبعها، لكانت لا تخلو نطفة إلا وهي تنتقل إلى ما ذكرنا؛ ألا ترى أن النار لما كان من طبعها الإحراق، والثلج إذ كان من طبعه التبريد، لم يجز أن ينتقل واحد منهما عن طبعه الذي أنشئ عليه. ثم قد وجدنا نطفا تخلو عن هذه المعاني التي ذكرنا؛ فثبت أنها نقلت إلى ما ذكرنا بتدبير مدبر حكيم، لا بطبعها. ثم الأعجوبة فيما فيه خلق الإنسان ليست بأقل من الأعجوبة مما منه خلق، وذلك أن الإنسان خلق في الظلمات على ما أراد اللّه تعالى، وصوره كيف شاء، ولو أراد أحد أن يعلم علم ذلك، أو يصور مثله في حالة العيان لم يملك، وجعل ذلك المكان فيما ينمو فيه الولد، ويغذو فيه خصوصا من بين سائر الأماكن، ولو أراد حكماء الإنس والجن أن يعرفوا الوجه الذي به صلح ذلك المكان للنماء والغذاء، وأعملوا فيه فنون العلم، لم يعرفوا، فمن تقكر فيما ذكرنا، علم أن قدرته ذاتية لا يلحقها فناء ولا عجز، وعلم أن علمه ذاتي ليس بمكتسب؛ فيتوهم خفاء الأمور عليه. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يعني: النطفة التي يدفقها الرجل في الرحم، والدافق: معناه: مدفوق؛ أي: يدفق به؛ كقولك: " ليل نائم "، أي: ينام فيه، و " هم ناصب "، أي: ينصب به. وقال الزجاج: {مَاءٍ دَافِقٍ} أي: ذي اندفاق. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) اختلف في تأويله: فمنهم من يقول: بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي الأضلاع الثمانية: أربع عن يمينها، وأربع عن يسارها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالتَّرَائِبِ} هي الأطراف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالتَّرَائِبِ} موضع القلادة منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالتَّرَائِبِ} ما دون التراقي وفوق الصدر. ثم من الناس من صرف تأويلها إلى الرجل خاصة، فقال: قوله: {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} وأريد به: صلب الرجل وترائبه، وزعم أن الماء الذي يكون منه الولد ليس معدنه الصلب خاصة؛ بل يجتمع من أطرافه كلها. ومن حمله على المعاني الأخر صرف الأمر إليهما جميعا، وهو أن الماء الذي يخلق منه الولد يكون منهما جميعا. وكذلك ذكر أبو بكر الأصم أن {الصُّلْبِ} كناية عن الرجل، {وَالتَّرَائِبِ} كناية عن المرأة؛ فيكون هذا اسما لهما مأخوذا عن أصل ما يكون منهما؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ. . .} الآية، فأضاف الأبناء إلى الأصلاب. وفي إخراج الماء من بين الصلب والترائب لطف من اللّه تعالى؛ لأنه لو اجتهد الخلائق باستخراجه من بين ما ذكر بحيلهم وقواهم ووضعه في الرحم، لم يقدروا عليه، ثم اللّه بلطفه وضع هذه الشهوة فيما بين الخلق، واستخرج بها الماء من بين الصلب والترائب، لا أن يكون أحد يملك إخراجها بالأسباب والحيل، كما وضع فيهم شهوة الأكل والشراب، فمتى ما أكلوا وشربوا، وقرَّا قرارهما، ظهر من قوة الطعام والشراب في كل جارحة من جوارح الأكل باللطف، لا أن يكون ذلك العمل بالأكل والشرب خاصة، وكذلك يرى الإنسان إذا سقى أصل شجرة ظهرت منفعة السقي في أغصانها وأوراقها وأثمارها، ولو أراد أحد أن يعرف أنه لأي معنى صلح أن يكون الماء بالمحل الذي ذكرنا؟ وأراد أن يستخرج المعنى المجعول في الطعام من القوة التي ذكرنا - لم يتدارك ذلك؛ فيكون فيما ذكرنا أبلغ حجة على الثنوية؛ لأنهم ينكرون خلق الأشياء لا عن أشياء، وزعموا أنا لم نشاهد كون الشيء لا من شيء، والشاهد دليل الغائب؛ فلزم ذلك في الذي غاب عنا، فمن قدر على تصوير الولد في تلك الظلمات، وفي الأماكن الضيقة وقدر أن يجعل في الماء والطعام المعاني التي يعجز الخلق عن استدراكها - لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء؛ إذ الأعجوبة فيما ذكرنا ليست بدون الأعجوبة عن إنشاء شيء لا من شيء. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه على رده إلى صلب أبيه لقادر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه على بعثه لقادر؛ هذا أشبه التأويلين؛ لأن الآية في موضع الاحتجاج على الكفرة ولم يذكر عن أحد التنازع في نفى الرد إلى الصلب وإنكاره حتى يدفع المنازعة بهذا، وكانوا أهل إنكار بالبعث؛ فاحتج عليهم بابتداء الخلقة، وكذلك أكثر ما جرى به الاحتجاج في إثبات البعث في القرآن، إنما احتج عليهم بالابتداء. وإن كان التأويل على رده إلى صلب أبيه، فوجه الرد هو أن يرد من حالة الشيب إلى حالة الشباب، ثم من حالة الكبر إلى حالة الصغر، ثم إلى حالة الطفولة، ثم يرد مضغة، ثم يرد علقة، ثم نطفة، ثم ترد النطفة إلى صلب أبيه، لا أن يوصف اللّه - تعالى - بالقدرة على رده وهو على حاله نسمة عظيمة إلى صلب أبيه مع ضيق ذلك المكان. ولأن هذا محال، واللّه تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال، وليس فيما لا يوصف بالقدرة على المحال نفي القدرة عنه في الأزل، وبهذا يجاب من سأل فقال: أيقدر اللّه - تعالى - على إدخال الدنيا في بيضة؟ فيقال له: إن أردت إدخالها في البيضة بأن يصغر الدنيا ويضيقها حتى يجعلها أضيق من البيضة، أو يوسع البيضة حتى تسع الدنيا - فهو على ذلك قادر. وإن أردت أنه قادر على إدخالها فيها على إبقاء البيضة بحالها وبقاء الدنيا بحالها، فهذا محال؛ لما فيه من انقلاب البعض كلا، والكل بعضا؛ فكذلك يوصف اللّه - تعالى - بالقدرة على رد النسمة إلى الصلب بالوجه الذي ذكرنا، لا أن يردها على ما هي عليه إلى الصلب؛ لما في ذلك من الإحالة، وكذلك إذا سألنا عن حركات أهل الجنة والسكون هل لهما غاية؟. فنقول: لا. فإن قالوا: هل يعلم اللّه - تعالى - غايتها وعددها. فنقول له: يعلمها غير منقطعة، لا أن يعلمها منقطعة، ولم يكن في قولنا: إنه لم يعلمه منقطعا إثبات الجهل ولا نفي العلم عنه؛ بل الجهل إنما يتحقق إذا وصف بالعلم بالانقطاع فيما لا ينقطع، فكذلك ليس في نفي الوصف بالقدرة على المحال إثبات عجزه، واللّه أعلم. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩) أي: يظهر ما كان أخفى منها؛ فجائِز أن يكون الإظهار منصرفا إلى التي لم يطلع عليها الملائكة؛ فتكتبها عليه، فيذكره اللّه - تعالى - تلك السرائر كيف شاء، فيقررها عليه، أو تنطق جوارحه بها كقوله - تعالى -: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ. . .} الآية. أو يكون إظهار القراءة ما عليه؛ فيظهر ذلك للخلق، وإن كان قد أسرها عنهم في الدنيا، ثم سمى ذلك: ابتلاء؛ لأن الابتلاء هو الاختبار، وإنما يكون الابتلاء بالسؤال، أو بالأمر والنهي، فسمى ما يسأل عنه في الآخرة: ابتلاء. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (١٠) يحتمل وجهين: أحدهما: أن ليست له قوة في كتمان ذلك على نفسه، ولا له قوة نفي العذاب عن نفسه لو كتم. أو ما له من قوة يمتنع بها، ولا ناصر يمنعه عن نزول العذاب به. ووجهه: أن الكفار كانوا يفتخرون بقواهم وكثرة أنصارهم في الدنيا فكانوا يظنون أنهم لو أريدوا بالتعذيب، دفعوا ذلك بأنصارهم، وبما لهم من القوى؛ فيخبر اللّه - تعالى - أن قواهم وكثرة أنصارهم لا تنفعهم في الآخرة، ولا تدفع عنهم بأس اللّه تعالى، وكانوا يعبدون الأصنام؛ لتقربهم إلى اللّه - تعالى - وتنصرهم من العذاب؛ كما قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}؛ فبين أنها لا تغني عنهم من اللّه - تعالى - شيئا. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} قال أبو عبيدة: الرجع: هو الماء؛ أي: السماء ذات المطر. وقال غيره: {ذَاتِ الرَّجْعِ}، أي: تعود في كل عام إلى ما كانت عليه في العام الذي قبله بالمطر، والرجع: هو العود. ويحتمل: {ذَاتِ الرَّجْعِ}، أي: بتكرر إدرار بركتها على الخلق استوفوا منها. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢) قيل: {ذَاتِ الصَّدْعِ} بالنبات. أو {ذَاتِ الصَّدْعِ}، أي: ذات أودية وأنهار يجتمع فيها الماء، فينتفع بها الخلق لسقي أراضيهم ودوابهم؛ فعظم أمر السماء والأرض؛ فأقسم بهما. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) يعني: القرآن، وليس بالهزل. وفي إخراج النبات من الأرض حكمة عجيبة ولطف تدبير؛ وذلك أن النبات شيء لين ينثني بأدنى مس، ثم إن اللّه - تعالى - بلطفه صدع له الأرض اليابسة الصلبة، وأخرجه منها غير منثنٍ ولا منكسر؛ ليعلموا أن مدبره حكيم؛ فيلزمهم به التوحيد. وجعل منافع الأرض بمنافع السماء متصلة؛ إذ الأرض إنما تتصدع للنبات إذا أصابها المطر من السماء؛ فيكون في ذلك إنباء - أيضا - أن مدبرهما واحد، ولولا ذلك لم تتصل منفعة إحداهما بالأخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي: بَيِّن، بَيَّنَ فيه الحلال والحرام، وما يتقى عنه، وما يؤتى، وبيَّن فيه الصواب من الخطأ، وبيَّن فيه الوعد والوعيد. أو يكون معنى الفصل: التفريق، وهو أن فرق الوعد من الوعيد، والحلال من الحرام، والحق من الباطل؛ فوضع كل شيء موضعه، ولم يخلط أحدهما بالآخر. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) أي: باللعب والباطل. ١٥-١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦) فقوله: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} يحتمل وجهين: أحدهما: أي: أجزيهم جزاء كيدهم؛ فسمى الجزاء باسم ما له الجزاء وإن لم يكن ذلك كيدًا، كما سمى الجزاء للسيئة: سيئة مثلها، وإن لم يكن الجزاء سيئة، وكما سمى جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الجزاء اعتداء بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وقال: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ}، أي: جزاهم جزاء النسيان، أو جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به، لا أن يكون منه في الحقيقة نسيان؛ فكذا سمى جزاء الكيد: كيدا، لا أن يكون الجزاء كيدا. ووجه آخر: أن الكيد في الحقيقة والمكر هو أن يأخذه من وجه أمنه؛ فيلحق الكائد اسم الذم؛ لأنه أخذه من وجه لم يشعر به، وهذا المعنى في الكيد الذي أضيف إلى اللّه - تعالى - غير موجود؛ لأن اللّه - تعالى - قد بين له الطريق الذي إذا سلكه وقع له به الأمن من الطريق الذي إذا سلكه حل به البوار والهلاك، فإذا سلك هذا الطريق، كان سلوكه عن عناد منه، أو عن ترك الإنصاف من نفسه؛ فوجد ما يكره من الكيد لا من الكائد؛ فلم يلحقه بذلك الوصف المعنى المكروه. ثم كيدهم برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالمؤمنين ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه}. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧) مهل وأمهل لغتان؛ فكأنه يقول: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}، ولا تجازهم بصنيعهم؛ فإن اللّه - تعالى - يجازيهم بصنيعهم عن قريب، وقد فعل ذلك بما سلط رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقتلهم وسبيهم؛ فيكون في هذا بشارة منه لرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر عليهم وبغلبته إياهم، وفي ذلك آية رسالته؛ لأنه قال لهم هذا عند قلة أعوانه وضعفه، ثم إن اللّه - تعالى - كثر أنصاره وأظهره عليهم كما قال لهم؛ ليعلموا أنه علم ذلك بالوحي، واللّه الموفق. * * * |
﴿ ٠ ﴾