سُورَةُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قيل فيه من أوجه:

أحدها: أن سبح ربك.

وقيل: سبح اسمه.

وقيل: سبح ربك بأسمائه.

فمن قال: سبح ربك، فمعناه: أن نزهه عن جميع المعاني التي يحتملها غيره من الآفات والحاجات والأضداد والأنداد؛ فيكون القول به توحيدا.

وروي عن مقاتل بن سليمان أنه قال: تأويله: وحد ربك، وتوحيده ما ذكرنا.

وقال بعض المفسرين: تأويله: أن صل لربك؛ وهذا محتمل؛ لأن الصلاة بنفسها تسبيح؛ لأنه بالافتتاح يقطع وجوه المعاملات بينه وبين الخلق، ويمنع نفسه عن حوائجها؛ فيجعلها للّه تعالى، وهذا هو التوحيد والإيمان؛ لأنه بالإيمان يجعل الأشياء كلها للّه تعالى سالمة؛ فصارت الصلاة تسبيحا لعينها، لا للتسبيح المجعول فيها.

ومن حمل التسبيح على الاسم، فقال: نزه اسمه، فذلك يرجع إلى الأسماء الذاتية، وهو ألا يشرك غيره فيسميه بها، والأسماء الذاتية قوله: اللّه الذي لا إله غيره الرحمن، وما أشبهه من الأسماء، وتنزيهه للأسماء الصفاتية: أن ينزهها عن المعاني التي استوجب الخلق الوصف به، كقولك: عالم، حكيم، رحيم، مجيد؛ فمن وصف بالعلم من الخلائق فإنما استوجب الوصف به بأغيار دخلن فيه، واستوجب الوصف بالحكمة والوصف بالمدح بالأغيار، واللّه - تعالى - استحق الوصف به بذاته، لا بأغيار، فينصرف التنزيه إلى الأغيار؛ إذ صفاته ليست بأغيار للذات؛ وهي لا تفارق الذات، فالامتداح الواقع بالصفات امتداح بالذات الموصوف بها، واللّه الموفق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: سبح بالحمد والثناء؛ وهو يرجع إلى ما ذكرنا من التأويل الأول، وهو أن يحمده بالثناء الذي يتضمن التوحيد والتنزيه عن معاني الخلق.

ومن قال: سبح ربك بأسمائه؛ فهذا ظاهر، وهو أن يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وحده لا شريك له، وأسماؤه معروفة، لا نحتاج إلى إظهارها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْأَعْلَى} ظاهره يقتضي أن يكون هناك أدون وأسفل، وكذلك قول: " اللّه أَكْبَرُ " ظاهره يقتضي الأصغر، ولكن معنى قوله: {الْأَعْلَى} أي: هو أعلى من أن تمسه حاجة أو تلحقه آفة، وكذلك هذا في الأكبر، ويكون الأكبر والأعلى في النهاية عن تنزيه المعاني التي ذكرنا، وهو كقولك: هو أحسن وأجمل، فإذا قلت: أحسن وأجمل، أردت به النهاية في الحسن والجمال.

أو يكون {الْأَعْلَى} بمعنى: العلي و " الأكبر " بمعنى: الكبير، وذلك جائز في اللغة.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) يحتمل أوجها:

أحدها: أن يكون سواه على ما قدره، خلافا لأفعال الخلق؛ لأن الفعل من الخلق يخرج مرة سويا على ما قدر، ومرة بخلافه.

أو يكون سوى الخلق كله في دلالة وحدانيته وشهادة ربوبيته، فما من خلق خلقه إلا إذا تفكر فيه العاقل، دلت خلقته على معرفة الصانع، ووحدانية الرب.

أو سواه على ما فيه مصلحته ومنفعته.

أو سواه على ما له خلق؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أمر بالركوع والسجود خلقه من وجه يتمكن من الركوع والسجود؛ فهذا معنى قولنا: إنه سواه على ما له خلق، واللّه أعلم.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) يحتمل أوجها:

أحدها: هداه إلى ما أحوجه إليه، فهدى العبد إلى معيشته من أين يأخذها؟ وهدى كل دابة إلى رزقها وعيشها، فعرفت كل دابة رزقها.

أو يكون قوله: {فَهَدَى}، أي: هدى به.

أو تكون الهداية منصرفة إلى أمر الدِّين، وذلك يرجع إلى الخصوص من الخلق الذين لهم عقول مميزة؛ فيكون معناه: هدى فيمن هدى.

وطعنت المعتزلة علينا بهذه الآية، فقالت: إن اللّه - تعالى - يقول: {قَدَّرَ فَهَدَى}، وأنتم تقولون: قدر فأضل؛ ولكن هذا التحقيق يرجع إليهم؛ لأنهم يحملون تأويل

الهداية على البيان، وإذا كان كذلك وقد بين اللّه تعالى سبيل الهدى وسبيل الضلال جميعا، فإذن قد أضله؛ حيث بين له سبيل الضلال على قولهم.

ثم ليس في قوله: {قَدَّرَ فَهَدَى} نفي الإضلال؛ إذ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداه؛ فلم يجب قطع الحكم على ما ذكروه، وقد ذكر في موضع آخر المكرمين بالهدى؛ فقال: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) الآية؛ فثبت أن الهدى راجع إلى الخصوص؛ فقوله: {قَدَّرَ}، أي: قدر لخلقه معايشهم، وهداهم وجه أخذ المعيشة.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) في هذه الآية تعريف الرب الأعلى؛ كأنه يقول: الرب الأعلى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}.

ثم ذكر هذه الأشياء التي يعرف انقضاؤها وبدؤها وإنشاؤها وإهلاكها من المرعى وغيره؛ لأن وجه الدلالة بمعرفة الصانع بالأشياء التي يعرف بدؤها وانقضاؤها وحدوثها وفناؤها أقرب منه بالأشياء التي لم يشهد الخلق بدءها ولا انقضاءها، وهي السماوات والأرضون؛ إذ المرء يصل إلى وحدانية الرب ومعرفة الصانع بالأشياء التي تحدث وتتغير بأدنى نظر وتأمل، ولا يصل إلى ذلك فيما يدوم إلا بلطائف الفكر، وفضل بصر، وزيادة تأمل.

وجائز أن يكون خص المرعى بالذكر؛ لما بالمراعي قوام هذا الخلق؛ لأنه لا بد للبشر من الدواب والأنعام؛ للتعيش، والداوب حياتها بالمراعي؛ فكان قوام الخلق في التحصيل بإخراج المراعي، فذكرهم هذا؛ ليستأدي منهم الشكر؛ إذ كانت الدواب لم تنشأ لأنفسها، وإنما أنشئت للخلق؛ ليتمتعوا بها، ثم اللّه - تعالى - بفضله أنشأ للدواب مراعي، وقدر لها أوقاتها، ولم يضيعها، فكيف يضيع هذا الخلق، وهم الذين قصد إليهم من خلق هذا العالم، فلا يرزقهم، ويخرجهم من تدبيره.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥) قيل: الغثاء: اليابس الذي تحمله السيول والأمطار {أَحْوَى} أي: أسود من قدمه.

وقيل: الأحوى: هو الأخضر الذي يضرب إلى السواد، وهو على التقديم والتأخير؛ أي: جعله غثاء بعدما كان أحوى.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى}، أي: سنحفظ عليك ما أوحينا إليك من القرآن فلا تنسى، وفي حفظه - عليه السلام - ما يوحى إليه دلالة رسالته؛ لأنه لم يكن يعرف الكتابة، ولا كان يتلو الكتب، ثم كان يقرأ جميع ما يلقى إليه بمرة واحدة، مع ما كان مأمورا ألا يحرك لسانه بشيء مما يوحى إليه إلى أن يقضي إليه الوحي، ومن كانت حالته ما ذكرنا، تعذر عليه حقظ ما يلقى إليه بمرات وإن كان ذلك لسانه، فكيف يضبطه بمرة واحدة؛ فكان حفظه بالمرة الواحدة نوعا من آيات نبوته.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا شَاءَ اللّه (٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: إلا ما شاء اللّه من ذلك؛ فإنه ينسيك ما أراد أن ينسيكه.

ولكن ما أرى هذا التأويل صحيحا، وذلك أن الذي أوحي إليه آية نبوته؛ فرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ، ثم أنسي، فلمن طعن في رسالته أن يستقرئه تلك الآية، ولا يتهيأ له أن يقرأها إذا كان قد أنسي؛ فيجد في ذلك موضع الطعن عليه.

وقد روي في بعض الأخبار أنه أنسي، ولكنها من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز قطع الحكم بها؛ لأن خبر الآحاد يوجب علم العمل، ولا يوجب علم الشهادة، وهي في موضع الشهادة هاهنا، ولكن تأويله عندنا - واللّه أعلم - يخرج على أوجه ثلاثة:

أحدها: أن الأنبياء - عليهم السلام - لم يكونوا آمنين على أنفسهم بالعصمة عن الزلات التي لديها يخاف زواد ما أنعموا به وإن ظهرت عصمتهم اليوم عندنا؛ ألا ترى إلى قصة إبراهيم - عليه السلام - عند محاجة قومه قال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّه وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي}،

وقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، فخاف زوال ما أكرم به، وخشي أن يبتلى بما ابتلي به أهل المعاصي حتى فزع إلى الدعاء، وقال في قصة شعيب - عليه السلام -: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّنَا}، وقال في قصة يوسف - عليه السلام -: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه}؛ فثبت أنه لم يتبين لهم حقيقة العصمة عن الوقوع في الزلات التي تزيل النعم، فكذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يؤمن عما

يعقب الإنساء؛ بل قيل له: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللّه}؛ ألا ترى إلى قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}؛ فثبت أنهم كانوا على خوف ووجل عن ارتكاب ما يسلب به الوحي وينسى.

أو يكون الاستثناء راجعا إلى إنساء حكمه، وهو أن ينسخ حكمه حتى يترك فيصير كالمنسي؛ كقوله: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ}، أي: جعلهم كالشيء المنسي بما آيسهم من رحمته، لا أن يكون هناك حقيقة نسيان، فكذلك ما نسخ حكمه وترك، صار كالمنسي، وإن لم يكن فيه حقيقة نسيان؛ فيكون النسيان منصرفا إلى حكم التلاوة، لا إلى عينها.

أو يكون - عليه السلام - يذهب خاطره عن بعض ما يوحى إليه؛ إذا اشتغل فكره في أشياء أخر؛ فيصير الذي ذهب عن وهمه كأنه نسيه وإن كان يعود ذلك إليه عند إحضاره ذهنه، كما ترى المرء في الشاهد يذهب عن وهمه جميع ما في فاتحة الكتاب من الحروف إذا أعمل رؤيته في أشياء أخر؛ حتى يصير كالناسي لها وإنْ كان يعود إلى تذكرها إذا رام أن يقرأها.

فعلى هذه التأويلات يستقيم أن يوجه إليه الاستثناء، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}، أي: ما يجهر بعض لبعض من الخلائق، أو ما يسر بعض عن بعض.

أو يعلم ما تطلع عليه الملائكة من أعمالهم، ويعلم ما يعزب عنهم، فعلمه فيما أسر العبد كعلمه فيما أظهر وجهر به؛ فذكرهم هذا؛ ليكونوا متيقظين؛ فلا يخافون، ولا يجهرون إلا بالذي يحق عليهم؛ إذ اللّه - تعالى - حفيظ عليهم.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨) قالوا: ونسيرك للخير ولعمل أهل الجنة، فسميت أعمال الخير: يسرى؛ لأنها تعقب ذلك، واللّه أعلم.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) ظاهر هذا يقتضي ألا يذكر إلا من نفعته الذكرى، ولكن تخصيص الحكم في حال بوصف لا يوجب قطع ذلك الحكم فيما

كان الحال بخلاف ذلك الوصف؛ بل يلزمه أن يذكر من نفعه ومن لا ينفعه؛ قال اللّه - تعالى -: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} الآية، أمر بالتذكير على الإطلاق.

ثم قوله - تعالى -: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} يحتمل وجهين:

أحدهما: أن ذكر فقد نفعت الذكرى، وهو كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}، ومعناه: قد كان وعد ربنا مفعولا.

وقد نفعت الذكرى؛ لأنه بتذكيره أسلم من أسلم منهم، وبه فازوا، وبه نالوا الدرجات العلا، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.

أو يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} فسيأتي على أقوام حالة لا تنفعهم الذكرى لديها، وتلك حالة المعاينة لبأس اللّه وعذابه.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠) أي: يتعظ بها من يخشى اللّه تعالى أو المعاد، قال اللّه - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، أي: بالقرآن، وذلك أن الذي يحملهم على الإيمان بالآخرة إيمانهم بهذا الكتاب؛ لأن في القرآن تذكيرًا للآخرة، وأمرا بالاستعداد لها؛ فلذلك خشيته تحمله على الاتعاظ بالذكرى والانتفاع بها، والخشية هي الخوف اللازم في القلوب.

١١-١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢)

أضاف التجنب هاهنا إلى الأشقى، وهو الشقي، وفيما ذكر الأتقى أضاف التجنب إلى نفسها بقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}؛ فيكون في هذا دلالة الإذن بإضافة الخيرات إلى اللّه - تعالى - وفي الأول دلالة منع إضافة الشرور إليه؛ وهذا لأن إضافة الخيرات إلى اللّه تعالى تخرج مخرج الشكر له، وهو حقيق بأن تشكر نعمه، وليس في إضافة الشرور إلى آخر شكر له؛ فلم يصح أن تضاف إليه، واللّه أعلم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣) أي: لا تنقضي عنه أفعال الموت، وهي آلامها وأوجاعها، بل يبقى في آلامها أبدًا؛ قال اللّه - تعالى -: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}، أي: لا يقضي عليه حتى يتخلص من أوجا عها.

قوله تعالى: {وَلَا يَحْيَى}، فالحياة التي ينتفع بها في الدنيا هي التي ترتفع عنها آلام الموت، وأوجاعه، فقوله: {وَلَا يَحْيَى}، أي: لا يرتفع عنه ألم الموت.

أو يكون قوله: {لَا يَمُوتُ} فيستريح {وَلَا يَحْيَى} حياة يتلذذ بها.

١٤

قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩).

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، أي: من أتى بما تزكو به نفسه، أو أتى بما تطهر نفسه به، وسنذكر في سورة: " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا " ما تأويل الفلاح؟ إن شاء اللّه تعالى.

١٥

وقوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) يحتمل أن يكون أريد به أنواع العبادات، لا الصلاة المعروفة وحدها؛ لأن الصلاة اسم للدعاء والثناء ولأنواع من الكرامات؛ فإنه يقول: بذكر الرب ما يصل إلى العبادات، ومن أعرض عن ذكره حرم أداء العبادات.

أو يكون منصرفا إلى الصلاة المعروفة؛ فيكون قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}، أي: يصلي بتقديمه اسم الرب؛ فيكون ذلك منصرفا إلى الافتتاح؛ فيكون حجة لأبي حنيفة - رحمه اللّه - أن المصلى له أن يفتتح صلاته بأي أسماء اللّه تعالى أحب.

ثم ذكر اسم الرب يقتضي المعاني التي ذكرنا في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: تؤثرون حياتها على حياة الآخرة، ويكون الخطاب منصرفا إلى المنافقين والكفرة، لا إلى أصحاب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم كانوا في الإيثار مختلفين؛ فمنهم من آثرها في أن نظر في الدنيا وأعرض عن النظر في الآخرة وجحدها.

ومنهم من كان أغلب سعيه لأمر الدنيا.

ومنهم من كان يؤثر بعض أحوالها على الآخرة.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) أي: إيثار الحياة الآخرة خير وأبقى من إيثار الحياة الدنيا.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩):

قَالَ بَعْضُهُمْ: الآيات الأربع في صحف موسى وإبراهيم، أولهن {قَدْ أَفْلَحَ. . .} إلى قوله {خَيْرٌ وَأَبْقَى}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السورة كلها أنزلت على إبراهيم وموسى عليهما السلام، فإن كانت السورة كلها في الصحف الأولى، فجميع ما في هذه السورة ذكر فيها بحق الحاجة لهم إلى تعرفها، ويكون قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى}، مذكورا بحق الثناء على رسول [اللّه]- صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ووجه الثناء: ما ذكر في قوله: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. . .} إلى آخر الآية، وهو يستحق الثناء بهذا الحرف لما في حفظه - عليه السلام - جميع ما يوحى إليه بمرة واحدة إكرام له وتفضيل؛ فصلح أن يثنى عليه بهذا.

وفي قوله - تعالى -: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} دلالة أن اختلاف الألسن لا يغير الأشياء عن حقائقها؛ لأن اللّه - تعالى - شهد بكون هذا في الصحف الأولى؛ وليس في الصحف الأولى بهذا اللسان؛ فيكون فيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللّه - في تجويز القراءة بالفارسية، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠