سُورَةُ {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}:

اختلف في قوله: (لَا):

قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا) هاهنا في موضع الدفع والرد لمنازعة كانت بين قوم؛ فدفع اللّه - تعالى - المنازعة من بينهم بقوله: (لَا)، وكانت تلك المنازعة معروفة فيما بينهم؛ فترك ذكرها لذلك، كما ذكر الجواب في بعض السور ولم يذكر السؤال؛ لما كان السؤال عندهم معروفا؛ فترك ذكره، وهو كقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، وغير ذلك.

ومنهم من يقول بأن حرف (لَا) مرة يستعمل في حق الصلة والتأكيد، ومرة في موضع النفي، ويظهر مراده بما يعقبه من الكلام: فإن كان الذي يعقبه إثباتا، فهو بحق التأكيد، وإن كان الذي يعقبه من الكلام نفيا فهو في موضع النفي.

ثم الذي عقبه من الكلام إثبات، وليس بنفي؛ فدل أنه في موضع التأكيد؛ فكأنه قال: لأقسم بهذا البلد، ثم كان حقه أن يقول: " لأقسمن بهذا البلد " بإثبات النون، كما يقال: " لأفعلن "، في اليمين، لكن نون التأكيد قد تذكر في موضع القسم، وقد لا تذكر، قال اللّه تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بهَذَا الْبَلَدِ} قالوا: أريد بهذا البلد: مكة، فأقسم بها بما عظم شأنها بما سبق ذكرنا له، ولخاصة هي معظمة في أعين أهلها، ثم كان من عادة الكفرة القسم بكل ما يعظمونه؛ فعاملهم اللّه - تعالى - من الوجه الذي جرت به العادة فيما بينهم؛ ليؤكد ما قصد إليه بالقسم؛ فيزيل عنه الشبه التي اعترضت لهم.

٢

وقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢):

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَنْتَ حِلٌّ}: نازلها من الحلول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأنت حلال بهذا البلد، والحل والحلال لغتان.

فإن كان على هذا فالحل غير منصرف إلى نفسه؛ وإنما انصرف إلى ما أحل له؛ لأنه لا يجوز أن يكون هو بنفسه حلالا أو حراما؛ فالحل والحرمة إذا أضيفا إلى من له الحل والحرمة فإنما يراد بالحل والحرمة الشيء الذي أحل له، والشيء الذي حرم عليه، لا أن يكون الوصف راجعا إلى المضاف إليه، فإذا قيل: هذا محرم، أريد به أن الأشياء محرمة عليه، وإذا قيل: هذا حلال ليس بمحرم أريد به أن الأشياء له حلال، وإذا أضيفا إلى من لا يخاطب بالحل والحرمة، أريد بهما عين ذلك الشيء كقوله: هذا لحم حلال أو صيد حلال، وهذا لحم حرام؛ فيريد أن ذلك اللحم حلال، وذلك الصيد حرام أو حلال.

ثم اختلفوا في الذي أحل له:

فمنهم من صرفه إلى القتال، فقال بأنه أحل له القتال فيها، وذلك يوم فتح مكة.

ومنهم من قال بأنه أحل له الدخول فيها إذا جاء من الآفاق بغير إحرام، ولا يحل ذلك لغيره.

وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة:

" إن مكة حرام، حرمها اللّه - تعالى - يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، وهي ساعتي هذه، هي حرام بحرام اللّه تعالى إلى يوم القيامة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها، ولا يرفع لقطتها، إلا من نشدها "، فقال العباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: إلا الإذخر يا رسول اللّه؛ فإنه لا غنى لأهل مكة عنه للقبر والبنيان؟ فقال - عليه السلام -: " إلا الإذخر " فبين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنها قد أحلت له ساعة من نهار.

والحل يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما.

وذكر أبو بكر الأصم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يؤذيه أهل مكة؛ فيتأذى بهم؛ فيخرج من بين أظهرهم؛ فيحل له الصيد في ذلك الوقت.

ولكن لا يسع صرف التأويل إلى هذا؛ إذ لا يعرف مثل هذا إلا بالخبر والنقل.

ثم في قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على لسان العباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " إلا الإذخر " دلالة أن

التحريم لم يكن منصرفا إليه، ويحتمل أن يكون التحريم شاملاً له، ثم استثناه بما ذكر العباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - من حاجة أهل مكة إليه؛ لما لم يكن بين ما ذكر من التحريم والتحليل كثير مدة يجري في مثلها النسخ، ولكن ترك بيان الحل إلى أن سأله العباس - رضي اللّه عته - ثم بين.

وهو دليل قول أصحابنا - رحمهم اللّه -: إن تأخير البيان جائز.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون القسم منصرفا إلى نفسه؛ فأقسم به؛ لما عظم من أمره وشأنه؛ كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: لا أقسم بهذا البلد وبالذي هو حل بهذا البلد.

أو يكون منصرفا إلى مكة، ويكون قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} خرج مخرج التعريف بمكة؛ لكونه فيها، أي: البلد الذي أنت نازل به، وحال به، أو حلال فيه.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣):

قَالَ بَعْضُهُمْ: الوالد هو آدم عليه السلام {وَمَا وَلَدَ}: هم أولاده وذريته، ولكن آدم - عليه السلام - وأولاده ليسوا بمخصوصين بالدخول تحت اسم الولد والوالد؛ بل ذلك فيهم، وفي جملة الروحانيين؛ فيكون القسم بالخلائق أجمع، ويكون {وَمَا} على هذا التأويل بمعنى " الذي ".

ومنهم من جعل أن " ما ": " ما " جحد؛ ققال: " وما ولد " أي: الذي لا يلد وهو العاقر، فأقسم بالبشر جملة من يلد منهم ومن لا يلد، وأقسم بهم - أيضا - لما جعلهم مفضلين على كثير من الخلائق.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤):

قَالَ بَعْضُهُمْ: الكبد: الانتصاب، أخبر أنه خلق الإنسان منتصبا، وخلق كل دابة منكبا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكبد: الشدة والمعاناة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقه منتصبا في بطن أمه، ثم يقلب وقت الانفصال.

ولقائل أن يقول: أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم، وكل يعلم أنه خلق كذلك؟

فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا، بل خلقهم اللّه تعالى ليمتحنهم ويأمرهم بالعبادة، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله: أنه خلقهم ليكابدوا المعاش والمعاد جميعا، وخلقهم للشدة؛ ليعتبروا ويتذكروا.

وإن كان منصرفا إلى الانتصاب، ففيه تعريف لعظم نعم اللّه - تعالى - عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك؛ ليستأدي منهم الشكر بذلك.

وإن كان التأويل على ما ذكر أنه خلقه منتصبا في بطن أمه، ثم يقلب وقت الانفصال، ففيه أن اللّه - تعالى - قادر على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء؛ لأنه لا يتهيأ لأحد أن يقلب أحدًا، فيجعل أعلاه أسفله، إلا أن يجد مثله في المكان سعة، ثم إن اللّه - تعالى - قلبه، فجعله أعلاه أسفله في ذلك المكان الضيق، فتبين لهم ألا يعجزه شيء؛ فيحملهم ذلك على الإيمان بالبعث والنشور، واللّه أعلم.

ومعنى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} عندنا: لقد خلقنا الإنسان لما له يكابد، فإن كانت مكابدته في طاعة اللّه تعالى، وكان مؤثرا لها - فقد خلق للجنة، وإن كانت مكابدته في أمر الشيطان، فهو للنار خلق، وعلى هذا يخرج قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}، أي: ذرأ من يعلم أنه يؤثر طاعة الشيطان وعصيان الرحمن لجهنم، وذرأ من يعلم أنه يعبد اللّه ويوحده للعبادة بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. والأصل: أن الحكيم أبدا يقصد بفعله العاقبة إلا الذي ليست له معرفة بالعاقبة، فأما من عرف العاقبة فابتداء فعله يقع لتلك العاقبة، فإن كانت عاقبته النار؛ فابتداء الخلق من اللّه - تعالى - يقع لذلك الوجه، وإن كانت عاقبته الجنة فهو لذلك الوجه ما خلق؛ فعلى هذا يخرج تأويل قوله - عليه السلام -: " السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه " وهو لا يوصف بالسعادة

والشقاوة في ذلك الوقت؛ ولكن معناه أنه: إذا آثر الشقاوة في حالة الامتحان خلق كذلك، وإذا آثر السعادة فكذلك أيضا.

وقال نوح - عليه السلام -: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}، وهم في وقت ما وُلدوا غير موصوفين بواحد من الوصفين، بل يصيرون كذلك؛ فيتبين أنهم خلقوا لذلك؛ فموقع القسم على ما له يكابد، ليس على المكابدة نفسها؛ لأن المكابدة من الإنسان ظاهرة لا يحتاج إلى تأكيدها بالقسم.

وقولنا: إن المقصود من ابتداء الفعل العاقبة قول النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " إذا أردت أمرا فدبر عاقبته، فإن كانت رشدا فأمضه، وإن كانت غيا فانته ".

وزعمت المعتزلة أن اللّه - تعالى - لم يخلق أحدا من البشر إلا ليعبده، ولو كان الأمر على ما زعموا وظنوا، لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب، أو وجب أن يكون الفعل خارجا مخرج الخطأ؛ لأن كل من صنع أمرا يريد غير الذي يكون جاهلا بالعواقب، أو عابثا بالفعل؛ لأن من يبنى لشيء يعلم أنه لا يكون، عد ذلك منه عبثا، ولو كان غير الذي يريده، وهو أن يبني ليسكن فيه، ثم ينقض قبل أن يسكن، كان الذي حمله على البناء جهله بالعواقب. وجل اللّه - تعالى - من أن يلحقه خطأ في التدبير أو جهل بالعواقب؛ فثبت بما ذكرنا أن اللّه - تعالى - شاء لكل فريق ما علم الذي يكون منهم، وخلقهم لذلك الوجه دون أن يكون خلق الجملة للعبادة، واللّه أعلم.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ):

فالآية تحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون حسب أن اللّه - تعالى - لا يقدر على بعثه؛ فيكون قوله: {أَحَدٌ} هو اللّه تعالى.

٦

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦) أي: جما. (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أي: أنفقت منه مقدار ما يخرج عن حد الإحصاء.

وقوله: {لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}، أي: لم يعلم أحد مبلغ ما أنفق من ذلك.

أو يكون قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}، أي: لم يعلم أتباعه الذين أنفق عليهم مقدار ما أنفق عليهم؛ فيكون في قوله - تعالى -: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} إظهار منه لسخاوته وجوده، على الافتخار منه بذلك، وامتنانا منه على أتباعه، فإن كان على هذا فهو في أمر الدنيا، وقد علم اللّه القدر الذي أنفق عليهم، وعلم الخلق سخاوته لا بقوله؛ فليس اشتغاله في إظهار الجود والامتنان إلا نوع من السفه، وكان الذي يحق عليه الاشتغال بالشكر للّه - تعالى - أو توجيه الحمد إليه؛ لما علم أن الذي أنعم به من المال الكثير من اللّه تعالى، وأن تلك المنقبة -وهي السخاوة- نالها باللّه تعالى، وهذا كقوله - تعالى -: {فَاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}، أي: آباؤكم لم ينالوا ما تذكرون من الشرف والمناقب الحميدة إلا باللّه - تعالى - فاذكروه كذكركم آباءكم، وهذا النوع من الافتخار راجع إلى الخصائص من القوم لا إلى الجملة؛ إذ كل أحد يقول مثل ذلك: إنه أهلك مالا لبدا، وفعل كذا.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩):

فإن كان قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} على نفي القدرة على البعث، ففي ذكر العينين نفي تلك الشبهة، وهو أن اللّه - تعالى - أنشأ له بصرا يرى بفتحة واحدة ما بين السماء والأرض، فمن بلغت قدرته هذا لا يعجزه شيء أو يخفى عليه أمر، فقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}، أي: ألم نخلق له عينين يدرك بهما المحسوسات بالنظر، وجعلنا لهما جفونا وأشفارا يدفع بهن القذى عن عينيه، ويغضهما بهن عن النظر إلى ما لا يعنيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِسَانًا} أي: خلقنا له لسانا يحضر به ما غاب واستتر.

وقوله: {وَشَفَتَيْنِ} ففي خلق الشفتين وجهان من الحكمة.

أحدهما: أنه جعلهما طبقا يستران قبح ما في فمه، ولولاهما لكان الناظر إليه وقت مضغه الطعام أو شيئا من الأشياء، استقذر ذلك منه.

وجعلهما طبقا للسانه؛ لئلا يمده، ويستعمله فيما لا يعنيه.

فذكرهم عظيم نعمه في خلق العينين واللسان والشفتين؛ ليستأدي منهم الشكر، وليعلموا أن الذي بلغت قدرته هذا، ليس بالذي يعجزه شيء.

١٠

وقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠).

أي: بينا له ما عليه، وما له، وما يحمد عليه، وما يذم، وما يقبح ويجمل، والنجد: الطريق، فبين للخلق الطريقين جميعا: طريق الخير والشر، ومكنهم من الفعلين جميعا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: النجدان: الثديان، أي: هديناه الثديين في حالة الإرضاع.

ولكن التبيين والهداية لم ينصرف إلى هذا خصوصا، بل هذا من بعض ما هداه وبينه، فقد بين له غيره من الأمور، ولا قيد في اللفظ؛ فيحمل على الإطلاق والعموم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}:

قيل: فيه من وجهين:

أحدهما: فهلا اقتحم العقبة.

والثاني: أنه لم يقتحم.

فإن كان على الأول، فمعناه: أن الذي قال: أنفقت مالا لبدا، كيف لا كان إنفاقه في فك الرقبة، وفي الإنفاق على اليتيم والمسكين الذي بلغ به الجهد إلى أن ألصق بالتراب؟ ويكون من جملة من آمن باللّه - تعالى - وتواصى بالصبر والمرحمة؛ ليكون من أصحاب الميمنة، ويكسب بذلك الحياة الطيبة في الآخرة دون أن تكون العاقبة في الملاهي وشهوات النفس؛ فلم يحصل لنفسه حمدًا ولا أجرا في العقبى، بل صار من أصحاب المشأمة، فيكون ما بعد قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}، صلة له وتفسيرا.

وإن كان التأويل على النفي، ففيه تكذيبه فيما زعم أنه أنفق مالا لبدا، فيقول: لو كان على ما يظن، لظهر ذلك، بفك الرقاب والموأساة على اليتيم وعلى المسكين الذي هو ذو متربة؛ فيكون هذا كله صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} أيضا.

ثم قيل في العقبة من وجهين:

أحدهما: على تحقيق العقبة، وهو أن يكون في النار عقبة لا تجاوز ولا تقطع إلا بما ذكر من فك الرقبة والإطعام في يوم ذي مسغبة، كقوله - تعالى -: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) على تحقيق العقبة؟ معناه: وما يدريك بم تقطع تلك العقبة؟ ثم بين أنها تقطع بما ذكر من فك الرقبة ونحوه.

وجائز أن يكون على التمثيل لا على التحقق، ووجهه: أنه يشتد عليه تحمل المؤن التي ذكر من فك الرقبة، وإطعام المساكين، ومواساة اليتيم؛ فتكون العقبة كناية عن تحمل المؤن، لا على العقبة نفسها، وهو كقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، أي: يصير الإيمان عليه في الشدة والثقل كأنه كلف الصعود إلى السماء، ويشتد على الأول تحمل المؤن، كما يشتد عليه قطع العقبة والصعود عليها.

والاقتحام: هو رمي النفس في المهالك.

وقيل: الاقتحام: هو تحمل المؤن:

فإن كان على تحمل المؤن، فوجهه ما ذكرنا: أن كيف لم يتحمل هذه المؤن؛ ليصير من أهل الميمنة؟

وإن كان على الرمي في المهالك؛ فكأنه يقول: قد أهلك نفسه بتركه الإنفاق في الوجوه التي ذكر، والإعراض عن الإيمان باللّه تعالى، بتركه فكاك الرقبة.

وروى أبو بكر الأصم في تفسيره خبرا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن رجلا سأله فقال: يا رسول اللّه، دلني على عمل أدخل به الجنة؟ فأمره بعتق النسمة، وفك الرقبة؛ فقال السائل: أليسا هما واحدا؟ فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا؛ عتق النسمة: أن تعتقها، وفك الرقبة: أن تعين على فكاكها ".

ففكاك الرقبة: أن تخلصها من وجوه المهالك، وذلك يكون بالتخليص عن ذل الرق، وأن ترى إنسانا يهم بقتل آخر بغير حق؛ فتدفع عن المظلوم شر الظالم، وتراه يغرق؛

فتخلصه عن ذلك؛ فيكون في ذلك كله فكاك الرقبة عن المهالك؛ لتكتسب بها الحياة الطيبة في الآخرة.

واختلف القراء في هذا الحرف:

١٣-١٤

فمنهم من قرأه: (فَكَّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ أطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) على النصب.

ومنهم من قرأه: {فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ} على الرفع.

فإذا قرأته بالنصب، فمعناه: هلا فك رقبة، أو أطعم؛ فيكون راجعا إلى تفسير الاقتحام.

وإذا قرأته بالرفع، انصرف التأويل إلى تفسير العقبة؛ فكأنه قال: قطع العقبة يكون بالفك وبما ذكر.

وذكر عن سفيان بن عيينة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: كل ما في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ}، فقد أعلمه ودرَّاه، وكل ما فيه {وَمَا يُدْرِيكَ}، فهو لم يعلمه، واللّه أعلم.

والمسغبة: المجاعة.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥):

أي: ذا قرابة منه.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦):

أي: ألصق بطنه بالتراب.

وقيل: الذي ليس له شيء يحجبه عن التراب.

ثم في قوله: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} دلالة وجوب حق اليتيم على القريب إذا كان محتاجا؛ فيكون فيه حجة لقول أصحابنا: إن اليتيم إذا كان محتاجا، فرضت نفقته على أقربائه.

وفي قوله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} دلالة أن المسكين الذي وصفه، وهو ألا يكون بينه وبين التراب حائل، فكفايته تلزم الخلق جملة.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧):

فتأويله أنه لا ينفعه فك الرقبة ولا الإطعام؛ حتى يكون مؤمنا مع ذلك، متواصيا بالصبر

والمرحمة، فإذا كان كذلك؛ فحيئنذ يحصل قاطعا للعقبة.

وجائز أن يكون الصبر أريد به الإيمان؛ كقوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، أي: آمنوا.

والتواصي بالصبر والمرحمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ التواصي مأخوذ من الوصية، وهذا يوجب أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في اعتقاد الإيمان.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨):

أي: أصحاب الميامن، وهم أهل اليُمْن.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩):

أي: أصحاب الشؤم على أنفسهم؛ حيث عملوا بالمعاصي، واستوجبوا بها نارا مؤصدة، وهي المؤصدة المطبقة المبهمة، وصفة الإطباق ما ذكر في آية أخرى، وذلك قوله - تعالى -: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}، وقال اللّه تعالى: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} الآية، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠