٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤): قَالَ بَعْضُهُمْ: الكبد: الانتصاب، أخبر أنه خلق الإنسان منتصبا، وخلق كل دابة منكبا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكبد: الشدة والمعاناة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقه منتصبا في بطن أمه، ثم يقلب وقت الانفصال. ولقائل أن يقول: أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم، وكل يعلم أنه خلق كذلك؟ فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا، بل خلقهم اللّه تعالى ليمتحنهم ويأمرهم بالعبادة، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله: أنه خلقهم ليكابدوا المعاش والمعاد جميعا، وخلقهم للشدة؛ ليعتبروا ويتذكروا. وإن كان منصرفا إلى الانتصاب، ففيه تعريف لعظم نعم اللّه - تعالى - عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك؛ ليستأدي منهم الشكر بذلك. وإن كان التأويل على ما ذكر أنه خلقه منتصبا في بطن أمه، ثم يقلب وقت الانفصال، ففيه أن اللّه - تعالى - قادر على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء؛ لأنه لا يتهيأ لأحد أن يقلب أحدًا، فيجعل أعلاه أسفله، إلا أن يجد مثله في المكان سعة، ثم إن اللّه - تعالى - قلبه، فجعله أعلاه أسفله في ذلك المكان الضيق، فتبين لهم ألا يعجزه شيء؛ فيحملهم ذلك على الإيمان بالبعث والنشور، واللّه أعلم. ومعنى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} عندنا: لقد خلقنا الإنسان لما له يكابد، فإن كانت مكابدته في طاعة اللّه تعالى، وكان مؤثرا لها - فقد خلق للجنة، وإن كانت مكابدته في أمر الشيطان، فهو للنار خلق، وعلى هذا يخرج قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}، أي: ذرأ من يعلم أنه يؤثر طاعة الشيطان وعصيان الرحمن لجهنم، وذرأ من يعلم أنه يعبد اللّه ويوحده للعبادة بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. والأصل: أن الحكيم أبدا يقصد بفعله العاقبة إلا الذي ليست له معرفة بالعاقبة، فأما من عرف العاقبة فابتداء فعله يقع لتلك العاقبة، فإن كانت عاقبته النار؛ فابتداء الخلق من اللّه - تعالى - يقع لذلك الوجه، وإن كانت عاقبته الجنة فهو لذلك الوجه ما خلق؛ فعلى هذا يخرج تأويل قوله - عليه السلام -: " السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه " وهو لا يوصف بالسعادة والشقاوة في ذلك الوقت؛ ولكن معناه أنه: إذا آثر الشقاوة في حالة الامتحان خلق كذلك، وإذا آثر السعادة فكذلك أيضا. وقال نوح - عليه السلام -: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}، وهم في وقت ما وُلدوا غير موصوفين بواحد من الوصفين، بل يصيرون كذلك؛ فيتبين أنهم خلقوا لذلك؛ فموقع القسم على ما له يكابد، ليس على المكابدة نفسها؛ لأن المكابدة من الإنسان ظاهرة لا يحتاج إلى تأكيدها بالقسم. وقولنا: إن المقصود من ابتداء الفعل العاقبة قول النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " إذا أردت أمرا فدبر عاقبته، فإن كانت رشدا فأمضه، وإن كانت غيا فانته ". وزعمت المعتزلة أن اللّه - تعالى - لم يخلق أحدا من البشر إلا ليعبده، ولو كان الأمر على ما زعموا وظنوا، لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب، أو وجب أن يكون الفعل خارجا مخرج الخطأ؛ لأن كل من صنع أمرا يريد غير الذي يكون جاهلا بالعواقب، أو عابثا بالفعل؛ لأن من يبنى لشيء يعلم أنه لا يكون، عد ذلك منه عبثا، ولو كان غير الذي يريده، وهو أن يبني ليسكن فيه، ثم ينقض قبل أن يسكن، كان الذي حمله على البناء جهله بالعواقب. وجل اللّه - تعالى - من أن يلحقه خطأ في التدبير أو جهل بالعواقب؛ فثبت بما ذكرنا أن اللّه - تعالى - شاء لكل فريق ما علم الذي يكون منهم، وخلقهم لذلك الوجه دون أن يكون خلق الجملة للعبادة، واللّه أعلم. |
﴿ ٤ ﴾