٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) على هذا وقع القسم، ثم اختلف في السبب الذي لأجله نزل هذا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان سئل عن شيء إذ طلبوا منه شيئا، فقال: أفعل ذلك غدا، أو أجيبكم عنه غدا، ولم يستثن؛ فاحتبس عنه الوحي أياما لذلك؛ فقال المشركون: ودَّعه ربه وقلاه، أي: تركه وأبغضه.

ومنهم من قال: إنه أبطأ عليه الوحي، فجزع جزعا شديدا، فقالت له خديجة - رضي اللّه عنها -: " إني لأرى قلاك ربك وودعك "؛ مما ترى من جزعه؛ فنزل قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.

ولسنا ندري كيف كان الأمر؟ فإن كان نزل ذلك لقول قريش، فالقسم يحتمل كذلك؛ ردا لقولهم.

والقول الثاني: أنه نزل لقول خديجة - رضي اللّه عنها - فهو غير محتمل؛ لأن خديجة تعلم أن اللّه - تعالى - لم يودعه ولا قلاه، وكذا كل مؤمن معتقد أن اللّه - تعالى - لا يودع أحدا من رسله.

ولأنها تصدق الرسول - عليه السلام - أنه لم يودعه ولا قلاه إذا أخبرها بغير قسم؛ فلا معنى للقسم؛ فدل أن هذا الوجه غير محتمل.

ثم صرف تأويل الآية إلى غير ما قالوا أشبه عندنا وأقرب مما قالوا، وهو أنه - عليه السلام - بعث إلى الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم قتل من خالفهم، وإهلاك من

استقبلهم بالخلاف، ولم يكن معه فضل مال وسعة يستميل به قلوب الناس؛ فيقول أُولَئِكَ الكفرة: إن ربه قد خذله وتركه وقلاه، حيث بعثه إلى من ذكرنا من الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل وعادتهم إهلاك من خالفهم بلا أنصار ولا أعوان من الملائكة، ولا مال وسعة يستميل به القلوب والأنفس؛ لأن من سلم إنسانا إلى أعدائه الذين يعلم أنهم أعداؤه، ويخلي بينه وبين الأعداء بلا أنصار وأعوان ولا مال وسعة من الدنيا - يقال: إنه قد خذله وتركه وقلاه؛ إذ لا يفعل ذلك في الأصل إلا لذلك؛ فعند ذلك قالوا: إنه ودعه وقلاه، وهو ما قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، ونحو ذلك مما قالوا، فلولا صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكروا، وإلا صرفه إلى ما ذكرنا أشبه.

وفي قولهم: " قد ودعه ربه " دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأقروا بذلك حتى قالوا؛ فنزل قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ}.

والثاني: أنه لو كان يخترع على ما كانوا يقولون أُولَئِكَ، لكان لا يحتبس عن الاختراع، ويكون يخترع أبدًا؛ حتى لا يقولوا: " إنه ودَّعه "؛ فدل ظهور احتباس الوحي: أنه عن أمر يخبر، وأنه مأمور بذلك، ثم أخبر أنه لم يبعث إلى هَؤُلَاءِ الفراعنة والجبابرة لما ذكر أُولَئِكَ الكفرة أنه خذله وتركه وقلاه، ولكن بعثه وهو ينصره ويعينه على تبليغ ما أمر بتبليغه إلى من أمر بتبليغه، ولم يقله، ولكنه اصطفاه واختاره؛ حتى يعلو أمره، ويكثر ذكره، وفي ذلك آية عظيمة على إثبات الرسالة، وهو ما ذكرنا أنه بعث إلى من همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم، فقهرهم جميعا، وغلب على الكل حتى أظهر الإسلام فيمن قرب منه ومن بعد.

﴿ ٣