سُورَةُ الْقَدْرِوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}: قال أهل التأويل: إن قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، يعني: القرآن. ويحتمل أن يكون قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، يعني: السلام الذي ذكره في آخر السورة، حيث قال: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ}: فمن قال: أنزل القرآن في ليلة القدر، فهم مختلفون فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ في تلك الليلة، وهي في شهر رمضان؛ لقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. . .}، أي: أنزل من اللوح المحفوظ، ثم أنزل من السماء الدنيا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتفاريق على قدر الحاجة من الأمر والنهي، والحلال والحرام، والمواعظ، وكل ما يحتاج إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أنزل من اللوح المحفوظ في تلك الليلة المقدار الذي يحتاج إليه إلى العام القابل جملة، ثم ينزل على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نجوما بالتفاريق، واللّه أعلم. ثم لا ندري أن تلك الفضيلة التي جعلت لهذه الليلة؛ لفضل عبادة جعلت فيها، امتحن الخلق بأدائها على الترغيب والأدب، أو فضلت لمكان ما امتحن الملائكة وكلفهم بالنزول فيها والعبادة للّه في الأرض، وإنزال القرآن، ونحو ذلك؛ أو لحكمة ومعنى فضلت لم يطلع على ذلك المعنى أحد، وقد جعلت لبعض الأمكنة الفضيلة لعبادات جعلت فيها، نحو ما ذكر: " صلاة واحدة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة واحدة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره سوى المسجد الحرام ". وقال - تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه. . .}، خصت هذه البقاع بالفضيلة على غيرها؛ لعبادات جعلت فيها؛ فعلى ذلك جائز أن يخص بعض الأوقات دون بعض بالفضيلة؛ لمكان عبادات جعلت فيها، لكنْ بيَّن تلك الأماكن، ولم يبين تلك الأوقات المفضلة، وجعلها مطلوبة من بين غيرها من الأوقات؛ فهو - واللّه أعلم -: أن لو بين، وأشير إليها؛ لكان لا مؤنة تلزم لطالبه في ذلك؛ لأنه يحفظ ذلك الوقت وتلك الليلة خاصة، وأما المكان تلزم المؤنة في إتيان ذلك المكان، وعلى ذلك يخرج ما لم يبين وقت خروج روح الإنسان من بدنه؛ لأنه لو بين، وأعلم نهاية عمره، لتعاطى الفسق، وارتكب المعاصي؛ آمنا إلى آخر أجزاء حياته، ثم يتوب؛ فلم يبين؛ ليكون أبدا على خوف وحذر ورجاء؛ فعلى ذلك لم يبين تلك الليلة؛ لتطلب من بين الليالي جميعا؛ ليحيوا ليالي غيرها، واللّه أعلم. ثم إن كان السؤال عن القرآن هو المنزل في تلك الليلة، يكون دليله قوله: (حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍةٍ. . .). وإن كان السؤال عن ليلة القدر؛ فيكون البيان عنها. ٢ثم قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يقول: ما كنت تدري حتى أدراك؛ كقوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا. . .}. ويحتمل قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} على التعظيم لها والتعجيب، واللّه أعلم. وقيل: نزول هذه الآية يكون على معنى التسلي، أعطاه فضل هذه الليلة، والعمل فيها، ٣ثم بين فضلها حيث قال: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أُري بني أمية على منبره؛ فساءه ذلك؛ فنزل قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. . .}، أي: من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية يا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، أي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها. وقيل - أيضا -: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكر لأصحابه أن رجلا من بني إسرائيل جاهد ألف شهر في سبيل اللّه؛ فعظم ذلك عليهم؛ فنزل قوله - تعالى -: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، أي: العمل فيها خير من جهاد ذلك الرجل في ألف شهر. ويحتمل أن يكون ذكر ألف شهر على سبيل التمثيل، لا على التوقيت، أي: خير من ألف شهر وأكثر؛ إذ التقدير قد يكون لبيان العدد نفسه، وقد يكون لبيان شرف ذلك الشيء وعظمته؛ فلا يكون الغرض هو القصر على العدد، وهو كقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ}، ونحو ذلك. ثم اختلف في تسمية ليلة القدر: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي ليلة الحكم والقضاء، فيها يحكم ويقضي ما يريد أن يكون في ذلك العام المقبل؛ لقوله - تعالى -: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. أو سميت: ليلة القدر؛ لأنها ليلة لها قدر ومنزلة عند اللّه تعالى؛ لما يوصف الشيء العظيم بالقدر والمنزلة. وسميت: ليلة مباركة؛ لأنه تنزل فيها البركات والرحمة من اللّه - تعالى - على خلقه. أو سميت: مباركة؛ لكثرة ما يعمل فيها من العبادات. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ. . .): قَالَ بَعْضُهُمْ: الروح هاهنا: جبريل - عليه السلام - كقوله - تعالى -: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلق موكلون بالملائكة، كما أن الملائكة موكلون ببني آدم. وجائز أن يكون الروح هاهنا هو الرحمة، أي: تنزل الملائكة بالرحمة فيها، على ما سميت: مباركة بما ينزل فيها من البركات. ثم اختلفوا في قوله: {فِيهَا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في تلك الليلة تنزل الملائكة والروح. وقيل: {فِيهَا}: أي: في الملائكة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، أي: ينزلون بأمر ربهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بكل أمر تقدر في تلك السنة على الأرض، وكذا قَالَ الْقُتَبِيُّ: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ}، أي: بكل أمر سلام. وقيل: من كل أمر يدبره اللّه تعالى، أي: الملائكة لا علم لهم فيما يقدر اللّه - تعالى - إلا أن يطلعهم اللّه عليه؛ فكأنهم يطلعون على ما يقدر في تلك السنة من الأمور؛ فينزلون بها بأمر اللّه تعالى. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَلَامٌ هِيَ ... (٥): قيل: تنزل الملائكة تخفق بأجنحتها بالسلام من اللّه تعالى والرحمة والمغفرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: هي ليلة سالمة، لا يحدث فيها شر، ولا يرسل فيها شيطان إلى مطلع الفجر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو سلام الملائكة، أي: تسلم الملائكة على كل مؤمن ومؤمنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ}، أي: من كل آفة وبلاء سلام. وكذلك ذكر في قوله - تعالى -: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّه}: قَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظونه من عذاب اللّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظونه بأمر اللّه تعالى؛ فكذلك يحتمل قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ} هذين الوجهين. وقوله: {هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} يحتمل: أي تلك البركات التي ذكرت إلى مطلع الفجر. ويحتمل ذلك السلام الذي ذكر إلى مطلع الفجر. ويحتمل الملائكة يكونون في الأرض إلى مطلع الفجر، وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - أنه قرأ: (من كل امْرئٍ سلام)، وقال: يعني: الملائكة. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: اختلفت الروايات عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ليلة القدر متى تكون؟ واختلفت الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - فيها: روى عبد اللّه بن أنيس عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " التمسوها في العشر الأواخر، واطلبوها في كل وتر ". وروى عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليلة تسع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين ". وروى ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -أنه قال: " تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر ". وروي أنها في سبع وعشرين. وعن عبد اللّه بن عمر أنه: سئل النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ليلة القدر -وأنا أسمع- قال: " هي في كل رمضان ". وعن زر قال: قلت لأبي بن كعب: أخبرني عن ليلة القدر، يا أبا المنذر؛ فإن صاحبنا عبد اللّه بن مسعود سئل عنها، فقال: من يقم الحول يصبها فقال: نعم، رحم اللّه أبا عبد الرحمن، واللّه لقد علم أنها في رمضان، كره أن تتكلوا، واللّه إنها في رمضان، ليلة سبع وعشرين. ثم ليس لنا، ولا لأحد أن يشير إلى تلك الليلة، فيقول: هي ليلة كذا: ليلة سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، إلا أن يثبت بالتواتر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك خبر بالإشارة إليها؛ فعند ذلك يسع، وإلا كانت مطلوبة في الليالي. وعلى هذا الوجه تخرج الأخبار المروية على التوافق دون المناقضة، وتكون كلها صحيحة؛ فتكون في سنة بعض الليالي، وفي سنة أخرى في غيرها، وفي سنة في العشر الأواخر من رمضان، وفي سنة العشر الأوسط من رمضان، وفي سنة في العشر الأول، وفي سنة في غير رمضان، واللّه أعلم بالصواب. |
﴿ ٠ ﴾