سُورَةُ الْبَيِّنَةِوهي مدنية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}: ذكر في حق أهل الكتاب: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بحرف {مِنْ}، وهو للتبعيض، ولم يقل: " أهل الكتاب "، وذكر في حق أهل الشرك: {وَالْمُشْرِكِينَ}؛ لأن أهل الكتاب كانوا فرقا: منهم من كان آمن برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، ومنهم من كان كافرًا به، فلما بعث آمن به، فلزم الإيمان به، ومنهم من كان كافرا به، فلما بعث، وأرسل، لزم الكفر به، ولم يؤمن، فلما كانوا أصنافا وفرقا؛ لذلك قال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بحرف " من ". وأما المشركون: فإنهم كانوا صنفا واحدا، ثم لم يبين: أنهم إذا أتاهم البينة ينفكون أو لا؟. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَمْ يَكُنِ. . .} إلى قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}، أي: لم يكن بعض أهل الكتاب وبعض المشركين منفكين من الكفر؛ لأنه عطف المشركين على أهل الكتاب؛ كأنه قال: من أهل الكتاب ومن المشركين؛ ولذلك خفض المشركين، ولم يقل: " والمشركون "، بل كانوا أهل كفر وشرك إلى آخر عمرهم، وإن أتتهم البينة، والبينة: هي ما في خلقة كل أحد مما يدل على ألوهيته ووحدانيته. ويحتمل أن بعضا من الفريقين على الشرك حتى تأتيهم البينة، وهي معاينة العذاب عند الموت؛ كقوله - تعالى -: {فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا. . .}، ونحو ذلك. وذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين)، وفي حرف أبي: (ما كان الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين). ثم اختلف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُنْفَكِّينَ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منتهين، زائلين عن الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين خارجين من الدنيا حتى تأتيهم البينة. ثم اختلفوا في البينة التي ذكر أنها تأتيهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: البينة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال على أثره: {رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما جاء به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو القرآن، وما جاء به مُحَمَّد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الحجج: فمن جعل قوله: {مُنْفَكِّينَ}: منتهين، زائلين، يجعل البينة: رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ورسول اللّه - عليه السلام - سمي بينة؛ لأنه به يعرف كل خير وكل إحسان، وبه يتبين الحق من الباطل، وكل شيء من أمر المعاد والمعاش، وكذلك القرآن جاء به. ومن قال: {مُنْفَكِّينَ}: خارجين من الدنيا: يجعل البينة التي ذكر أنها تأتيهم: العذاب معاينة جهارا؛ كقوله - تعالى -: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. . .}، أي: خارجين من الدنيا؛ حتى يعلموا العذاب؛ فعند ذلك يؤمنون. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢): على التأويل الأول في البينة يكون ما ذكر من قوله: {رَسُولٌ مِنَ اللّه} تفسيرا للبينة. وعلى الثاني يخرج على الابتداء، يقول: رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يتلو صحفا مطهرة. ثم جائِز أن يكون سمى القرآن وحده: صحفا؛ على المبالغة؛ إذ قد يسمى الواحد باسم الجميع على المبالغة. وجائز أن يكون قوله: {يَتْلُو صُحُفًا}: القرآن، وسائر الصحف؛ لأن سائر الصحف فيه. وكذلك: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}، جائز أن يكون سمى كتابه المنزل على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كتبا؛ على الإبلاع، والتأكيد؛ على ما ذكرنا. وجائز أن يكون: يتلو صحفا وكتبا عليهم، وهي التوراة والإنجيل والزبور، كأن هذا القرآن في تلك الكتب، وتلك الكتب في هذا، وهو كقوله - تعالى -: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)، أخبر أنه في تلك الكتب، وأن الكتب الأولى فيه؛ فيصير بتلاوة هذا عليهم كأنه تلا تلك الكتب عليهم، وعلى هذا قوله - تعالى -: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي. . .}، وقوله - تعالى -: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. . .}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُم. . .}، ففى هذا ما في تلك الكتب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {صُحُفًا مُطَهَّرَةً}: التي كانت في أيدي السفرة البررة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُطَهَّرَةً}، يحتمل: مطهرة من أن يكون للباطل فيها حجة أو مدخل. أو مطهرة من الافتعال والافتراء. أو مطهرة من أن تحتمل ما ذكره أُولَئِكَ الكفرة. وقال قتادة: سمى كتابه بأحسن الأسماء، وأثنى عليه بأحسن الثناء، سماه: نورا، وهدى، ورحمة، وبركة، وآية، [وشفاء]، ونحوه. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَيِّمَةٌ (٣) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: فيها كتب صادقة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عادلة. قال غيرهم: مستقيمة على ما توجبه الحكمة. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}، أي: أحكام كثيرة مستقيمة؛ على ما توجبه الشريعة والحكمة. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤): يقول أهل التأويل: إنما تفرقوا من بعد ما جاءتهم البينة، وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. قال أبو بكر: هذا التأويل خطأ؛ لأنهم كانوا متفرقين قبل ذلك؛ فلا معنى لهذا. وعندنا: ليس كما توهم هو، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: وما تفرقوا في مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلا من بعد ما جاءهم العلم به، عند ذلك تفرقوا فيه، فأما قبل ذلك، كانوا مجتمعين فيه كلهم. أو ما تفرقوا في الدِّين والمذهب إلا من بعد ما جاءتهم البينة، أي: عن بيان وعلم تفرقوا في الدِّين، وفيما تفرقوا فيه، وهو ما جعل في خلقة كل أحد دلالة التوحيد والربوبية له ما لو تفكروا، لعرفوا بأن اللّه - تعالى - واحد، والبينة تحتمل من هذا الموضع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والقرآن، ونفس الخلقة على ما ذكرنا. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥). أي: ما أمر أوائلهم وأواخرهم في تلك الكتب إلا ليعبدوا اللّه - تعالى - ولا يعبدوا من دونه. أو ما أمروا إلا ليجعلوا الألوهية للّه والوحدانية له. ودل قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه} على أن تأويل قوله - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، على إضمار الأمر، أي: إلا ليأمرهم بالعبادة على كل حال؛ لأنه لو خلقهم للعبادة ما قدروا على غيره. أو أن يكون قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} على الخصوص، خلق من علم أنه يعبده للعبادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: إخلاص الدِّين له يخرج على وجهين: أحدهما: أن يخلص له الدِّين، ويصفى، لا يشرك فيه غيره، ويكون من خلوصه وصفائه. والثاني: الدِّين الخالص هو الدائم، كقوله {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا. . .}، أي: دائما. وكذلك يحتمل قوله: {أَلَا للّه الدِّينُ الْخَالِصُ. . .}. وقوله: {حُنَفَاءَ}: قال أهل التأويل: المسلمون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حنفاء: متبعين، والحنف: الميل، كأنه قال: مائلين إلى الإسلام. وقيل: {حُنَفَاءَ}: الحجاج. وقيل: الحنف: المستقيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}: يحتمل القبول، أي: قبلوا إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ كقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}، أي: تابوا، وقبلوا ذلك، ليس على حقيقة الإقامة. ويحتمل أن يكون حقيقة الإقامة والإيتاء، وأيهما كان، ففيه أن أوائلهم كانوا مأمورين بالصلاة والزكاة. ثم المعنى الذي في الصلاة والزكاة لا يحتمل النسخ في وقت من الأوقات؛ لأن الصلاة معناها: هو الاستسلام، والخضوع له، والزكاة: هي تزكية النفس وطهارتها، وذلك لا يحتمل النسخ أصلا. ثم قال: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} والدِّين مذكر، والقيمة مؤنث؛ فجائز أن يكون الذي ذكر هو الملة القيمة، ويحتمل دين الأمة القيمة، وهو قول الزجاج. أو يقول: ذلك الذي قومته الحجج والبراهين، أضيف إلى الحجج. وجائز أن يكون ذكر القَيِّمة، على التسوية بين ما سبق وما تقدم من أواخر الآي، من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}، و {مُطَهَّرَةً}، و {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}، ثم قال على ذلك: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، تسوية بين ما تقدم وما تأخر من قوله: {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، و {شَرُّ الْبَرِيَّةِ}. وفي حرف أُبي: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمِ} بغير هاء. وفي قوله - تعالى -: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} - وجهان: أحدهما: تحذير لهذه الأمة؛ لئلا يتفرقوا كما تفرق أُولَئِكَ في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفيما جاء به. والثاني: يكونون أبدا فزعين إلى اللّه - تعالى - في كل وقت، خائفين منه، وألا يكلوا إلى البيان الذي جاءهم؛ فيتفرقوا كما تفرق أُولَئِكَ. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦). ظاهر هذا أن يكون تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}، أي: بعض المشركين في النار، لا كل المشركين، ولكن من كفر من المشركين، كان كمن كفر من أهل الكتاب في نار جهنم، لكن الكفر هو الشرك، والشرك هو الكفر؛ كقوله: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. . .}؛ فدل أن الكفر والشرك واحد؛ فكل كافر مشرك؛ فكأنه قال: إن الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أُولَئِكَ هم شر البرية. ثم جاء كل هذا التشديد لهَؤُلَاءِ؛ لأن أهل الكتاب ادعوا أنهم من نسل الأنبياء، ثمِ تركوا اتباعهم، والمشركون قد (. . . أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. . .)، ثم نقضوا ذلك العهد. وأهل الكتاب قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، فتركوا اتباع الصالحين من آبائهم. والعرب - أيضا - كانوا أقرب إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من غيرهم؛ فحقه عليهم ألزم وأوجب؛ فشدد على هَؤُلَاءِ لهذا المعنى. ثم إن كان البرية مأخوذًا مقدرا من البري وهو التراب، ويرجع تأويل الآية إلى البشر؛ كأنه قال: أُولَئِكَ هم شر ما أنشئ من الأرض. وإن كان مأخوذا مقدرا من البرا وهو الخلق؛ فيصير كأنه قال: أُولَئِكَ هم شر ما خلقوا؛ فيدخل في ذلك الملائكة والجن والبشر، وفي الأول لا يدخل إلا البشر خاصة. ٧وكذلك ما ذكر من أهل الإيمان؛ حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧): فإن كان البرية مأخوذا من البرى، فهو يرجع إلى الأصناف جميعا، وإن كان من البري -وهو التراب- فهو يرجع إلى البشر خاصة؛ فيصير كأنه قال: شر أهل البشر من جنسهم، وخير أهل الخير من جنسهم؛ لأنهم صاروا قادة في الهدى والخير. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨): فإن كان العدن هو المقام، فجميع الجنان عدن، وجميع الجنان نعيم. ثم قد قسم الخلق صنفين: صنفا جعله شر البرية، وصنفا جعله خير البرية، ثم يكون من كل صنف شر من شر، وخير من خير، وسوى بين من نشأ على الكفر، وداوم عليه في التأبيد والتخليد وبين من أحدث الكفر في آخر عمره، وكذلك من دام على الإيمان، ومن أحدث سوى بينهما، ولم يجعل لما مضى من الكفر والإيمان جزاء ولا عقابا؛ وذلك - واللّه أعلم - هو أن من اعتقد إيمانا إنما يعتقده للأبد، وكذلك من يعتقد الكفر، إنما يعتقده للأبد، فإذا أحدث الإيمان بعد الكفر اعتقد قبح ما عمل في حال كفره وشره، وحسن ما أحدث من الإيمان والتوحيد، وكذلك من أحدث الكفر بعد الإيمان، اعتقد فساد ما عمل في حال إيمانه؛ لذلك سوى بين من أحدث، وبين من دام عليه، وليس كمن يذنب في وقت، ويتوب في وقت؛ لأنه ليس يعتقد حسن ذلك، ولا قبحه في الأبد، واللّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: يقول: رضي اللّه عنهم، بعملهم الذي عملوا لأنفسهم، وسعيهم الذي سعوا في الدنيا لهم؛ رضي سعيهم لهم، {وَرَضُوا عَنْهُ}، أي: رضوا هم عنه بما أكرمهم، ووفقهم للأعمال التي عملوا لأنفسهم في الدنيا، وهو كقوله - تعالى -: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، أي: إن قبلوا ما أحسن إليهم، وأحسنوا صحبة إحسانه إليهم يرضى ذلك لهم. وهذا يدل أن ما يعملون من خير أو شر إنما يعملون لأنفسهم، ولمنفعة ترجع إليهم، أو مضرة تندفع عنهم. والثاني: {رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ} بما أكرمهم من الثواب لأعمالهم التي عملوا لأنفسهم، ورضوا عنه بكرامته التي أكرمهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ} هذا منه إفضال وإنعام؛ حيث ذكر رضاه عنهم، وإن ذكر العفو والتجاوز كان حقا، ولكن هذا كما ذكر من لطيف معاملته عباده؛ حيث سمى ما ادخروا في وقت حاجتهم إليه: قرضا؛ حيث قال: (. . . وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا. . .)، وسمى بذلهم أنفسهم وأموالهم سرًّا، وما يعملون لأنفسهم - جزاء وشكرا، وأموالهم وأنفسهم في الحقيقة له، ولكن سمى بالذي ذكرنا؛ لطفا منه وفضلا؛ فعلى ذلك ما ذكر من رضاه عنهم به، وكذلك قوله: {وَرَضُوا عَنْهُ} وذكر رضاهم عنه بفضله ولطفه، وإلا من هم حتى يذكر منهم الرضا عن اللّه تعالى؟!. ثم هو يخرج على وجهين سوى ما ذكرنا: أحدهما: رضوا عنه بما امتحنهم في الدنيا بالمحن الشديدة العظيمة، وإن اشتدت تلك، وثقلت على أنفسهم إذا رأوا إحسان اللّه - تعالى - وفضله في الآخرة. والثاني: رضوا عنه بالنعم التي أكرمهم في الجنة، (. . . لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، ولا يريدون غيرها، ولا يملون على ما يملون في الدنيا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {مُنْفَكِّينَ}، أي: لا يزالون على هذه الحال، يقول الرجل: ما انفككت أفعل كذا وكذا، أي: ما زلت أفعل كذا وكذا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأبو عبيد وغيرهما: المنفكين: زائلين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}: أي: الذي ذكر من الجزاء لمن خشي نقمته، أو خشي سوء صحبة نعمه، وأصله أن من اجتنب المعاصي وعمل بالطاعات، فإنما يفعل ذلك؛ لخشية ربه - تعالى - وكل من كان أعلم بربه فهو أخشى لربه تعالى، ومن كان أجهل به فهو أجرأ؛ قال اللّه - تعالى -: (. . . إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ. . .). وقال الحسن: الخشية: هي الخوف اللازم في القلب الدائم فيه، أو خشي خلافه وكفران نعمه، واللّه أعلم، والحمد للّه رب العالمين. * * * |
﴿ ٠ ﴾