سُورَةُ {وَالْعَادِيَاتِ}

مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. . .} إلى آخره.

قال على - كرم اللّه وجهه - وعبد اللّه - رضي اللّه عنهما -: هي الإبل.

وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وغيره من أهل التأويل: هي الخيل؛ غير أن عليا - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: ذلك يوم بدر.

وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: ذلك في الحج.

ومن قال: هي الخيل، قال: ذلك في سرية بعثها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأبطأ عليه خبرها؛ فاغتم لذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فنزل جبريل - عليه السلام - بخبرها على ما ذكر ووصف؛ فسر بذلك المؤمنون.

فإن كان في أمر السرية والخيل على ما قاله ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - فجهة القسم بذلك تحتمل وجوها:

أحدها: أنه من علم الغيب؛ إذ لا يعلم بحالهم وما وصف من أمر الخيل لا يكون إلا بالوحي من السماء، أو لمن شهد ذلك، فإذا لم يحضرهم أحد ممن شهدها، ثم أخبر بذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم ظهر عندهم على ما أخبر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، علموا بذلك أنه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنه إنما عرف بالوحي من اللّه تعالى إليه، وذلك من أعظم آيات الرسالة.

أو أن يكون القسم بما ذكر من شدة الخيل وقوتها وحدة بصرها؛ حيث عدت في ليل مظلم، لا قمر فيه، ولا نور - عدوا يخرج النار من شدة عدوها من الحجارة التي تضرب بحوافرها ما لا يقدر الإنسان العدو في مكان مستو، فضلا أن يقدر على ذلك من الصعود والهبوط، وما ذكر من إثارة النقع من شدة عدوها، وتوسطها في العدو.

أو يذكر موافقة مرادهم وحصول غرضهم في الإغارة على عدوهم في أغفل ما يكون العدو، وهو وقت الصبح.

ثم القسم بقوله: {وَالْعَادِيَاتِ}، وما ذكر من الموريات وغيره، هو صفة العاديات ونعوتها.

وفيه بشارات ثلاثة:

أحدها: أنه لم تحدث لهم حادثة.

والثاني: الإغارة على العدو.

والثالث: أنهم قد توسطوا العدو.

ومن قال: هي الإبل، وذلك في أمر الحج، يذكر سرعة سيرها، وشدة عدوها في الليلة المظلمة التي فيها الأودية والهبوط والصعود.

٢

ثم قوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) على هذا التأويل، أي: تضرب الحجر بالحجر؛ فتخرج منه النار من شدة سيرها وعدوها، وفي الخيل شدة ضرب الحوافر على ما ذكرنا.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣) على هذا التأويل، يقول بعضهم: نزولهم في تلك المغارات والأودية في وقت الصبح.

والأشبه أن يكون خروجهم من تلك المغارات والأودية في ذلك الوقت؛ لأن ذلك الوقت وقت الخروج منها والدفع، لا وقت المقام.

أو يكون قد استقبلهم العدو هنالك، ومن أراد بهم الشر؛ فتكون المغيرات على الإغارة عليهم؛ إن كان ثم عدو.

٥

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥) على هذا التأويل: الجمع في الحجج، وهو الجمع المعروف.

ومن قال: ذلك في الخيل، يكون توسطهن في جمع العدو.

٦

ثم الذي وقع به القسم قوله - تعالى -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) أي: الإنسان لنعم ربه لكفور، لا يشكرها، وهو أن الإنسان يذكر مصائبه وما يصيبه من الشدة في عمره أبدا، وينسى جميع ما أنعم اللّه عليه، وإن لا يفارقه طرفة عين؛ ولذلك قال الحسن: الكنود: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم.

وقيل: الكنود: القتور البخيل الشحيح في الإنفاق، ويجب أن يكون وصف كل إنسان ما ذكر، لكن المؤمن يتكلف شكر نعم اللّه - تعالى - ويجتهد في ذلك، ويصبر على المصائب، وهو كقوله - تعالى -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}، وخلق {عَجُولًا}، هو كل إنسان، ثم استثنى المصلين منهم، وهم المؤمنون؛ أي: كذلك خلق وطبع كل إنسان، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه من ذلك الطبع الذي أنشئ عليه، وطبع إلى غيرها من الطبائع؛ كالبهائم والسباع التي طبعها النفور من الناس بالاستيحاش عنهم، ثم تصير بالرياضة ما تستقر عندهم وتجيبهم عند دعوتهم.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك الإنسان على ما فعله في الدنيا لشهيد في الآخرة على ما جمعه؛ أي: يشهد ذلك ويعلمه؛ كقوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنَّهُ}، أي: ذلك الإنسان لبخله وامتناعه عن الإنفاق {لَشَهِيدٌ}، أي: يتولى حفظ ماله وإحصاءه بنفسه، لا يثق بغيره.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنَّهُ} ويعني: اللّه تعالى {عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي: عالم، يحصيه؛ ويحفظه، كقوله: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . .}.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أي: ذلك الإنسان لشديد الحب للمال، فذكر بخله، وشحه في المال، في ترك الإنفاق والبذل، وعلى ذلك طبع كل إنسان؛ على ما ذكرنا، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه مما طبع بالرياضة، ويجتهد في الإنفاق، والحب هاهنا: حب إيثار، أي: يؤثر لنفسه.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) يقول - واللّه أعلم -: فهلا

يعلم قدرة ربه وسلطانه وحكمته في إنشائه أنه يستخرج ما في القبور ويحييهم.

أو يكون قوله: {أَفَلَا يَعْلَمُ}، أي: فيعلم {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١) أي: إن ربهم يومئذ لخبير بما كان منهم في الدنيا، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، يقول: فهلا يعلم - أيضا - أنه يميز ما في الصدور، ويبين ويظهر ما فيها، لا يترك كذلك غير مميز، ولا مبين، بل يظهر ويميز، كقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}.

ثم قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}، أي: عن علم له بذلك يأخذهم، ويجزيهم بما يجزيهم.

وفي قوله - تعالى -: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} دلالة أن حصول الأعمال وخلوصها وما يثاب عليها ويعاقب بالقلوب وبالنيات، لا بنفس الأعمال؛ حيث قال: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}.

قال أهل اللغة وأَبُو عَوْسَجَةَ: {ضَبْحًا}: الضبح: صوت في الصدر؛ ضبح يضبح ضبحا، فهو ضابح.

{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}، أي: هيجن الغبار بحوافرهن، والنقع: الغبار، والنقوع: جماعة، {فَوَسَطْنَ} من التوسط، أي: صرن في الوسط، و {لَكَنُودٌ}: كفور، {وَحُصِّلَ}، أي: اختبر؛ يقال: حصلت: أي: اختبرت.

وقَالَ بَعْضُهُمْ والْقُتَبِيّ: {وَالْعَادِيَاتِ}: الخيل، والضبح: صوت حلوقها إذا عدت.

وقيل: الضبح والضبع واحد في السير؛ يقال: ضبحت الناقة، وضبعت.

{فَالْمُورِيَاتِ}، أي: أورت النار بحوافرها، والأرض الكنود: التي لا تنبت شيئا، ويقال: بعثرت، أي: قلبت، فجعل أسفلها أعلاها.

قوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، أي: ميز ما فيها من الخير والشر، والشك، واليقين، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠