سُورَةُ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} هذا خرج مخرج الامتنان على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإنعام عليه والإفضال؛ ليستأدي بذلك شكره والخضوع له. ثم اختلفوا في {الْكَوْثَرَ}: فقيل: هو الخير الكثير، والخير الكثير: ما أعطي من النبوة والرسالة وما لا ينجو أحد من سخط اللّه - تعالى - إلا به، وهو الإيمان به والتصديق له، وما صيره معروفا مذكورا في الملائكة، وما قرن ذكره بذكره، ورفع قدره ومنزلته في جميع الخلائق، وغير ذلك مما لا يحصى، وهو ما قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {الْكَوْثَرَ}: نهر في الجنة، وعلى ذلك جاءت الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن {الْكَوْثَرَ} فقال: " نهر في الجنة "، أو قال ذلك من غير سؤال. فإن ثبتت الأخبار فهو ذاك كفينا عن ذكره، وإن لم تثبت الأخبار فالوجه الأول أقرب عندنا؛ لأنه ليس في إعطائه النهر تخصيص في التشريف والعطية؛ لأن اللّه - تعالى - وعد لأمته ما هو أكثر من هذا؛ لما روي في الأخبار عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن لأهل الجنة في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "، ونحن نعلم أن هذا في الإنعام أكثر من النهر الذي وصف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {الْكَوْثَرَ}: شيء أعطاه اللّه - تعالى - رسوله لا يعرف. وأصله: أنه شيء خاطب به رسوله، وهو قد عرفه؛ فلا يجب أن يتكلف معرفته وتفسيره؛ لأنه إن أخطأ لحقه الضرر، وإن أصابه لم ينفع كثير نفع. وقيل: {الْكَوْثَرَ}: هو حرف أخذ من الكتب المتقدمة. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: حقيقة الصلاة هي الخضوع والخشوع والدعاء، أمره بجميع ما يعبده في نفسه، وأمره أن يأتي بما تعبده من القرابين، والذبائح، والضحايا التي فيها نفار الطباع؛ حتى أن من الكفرة من يحرم الذبائح والنحر؛ للآلام التي فيها، والطباع تنفر عن ذلك؛ فتعبده بالذي فيه مناقصة طبعه ونفاره عنه. وجائز أن يكون لا على الأمر بالصلاة والنحر، ولكن معناه: إذا فعلت ذلك فافعل للّه؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة كانوا يصلون للأصنام، ويذبحون لها؛ كقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، أي: للنصب، فأمره أن يجعل ذلك للّه تعالى. وقال أن من: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} هو صلاة العيد، وانحر البدن بعدها. وقال مجاهد وعطاء: صل الصبح بجمع، وانحر بمنى. وقال بعضهم: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} حقيقة الصلاة، وهي الصلاة المعروفة المفروضة، وهي مخ العبادة؛ على ما ذكر في الخبر. وكذلك ما ذكر أن المصلي مناجٍ الرب تعالى، وهو - واللّه أعلم - لأنه ما من عبادة إلا وفيها شيء من اللذة وقضاء شهوة النفس وأمانيها من السير، والركوب، والأكل، والشرب، والكلام، والانتقال من موضع إلى موضع، وغير ذلك من الطاعات مما فيه شيء من اللذة للنفس وقضاء شهوتها -وإن قل- من الحج والزكاة والجهاد وغير ذلك، إلا الصلاة نفسها؛ فإن فيها قطع النفس عن جميع شهواتها وأمانيها، وعن جميع ما يتلذذ به من أنواع اللذات، وعلى ذلك ما سمي موسى - عليه السلام -: كليم اللّه، ونجيه؛ لأنه فارق قومه وجميع ما للنفس فيه لذة وراحة، وأتى جبلا ليس فيه أحد، وكلمه ربه في ذلك؛ فسمي: نجي اللّه، وعلى ذلك سمي المصلي: مناجيا ربه، وخص بذلك الاسم؛ لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَانْحَرْ}: هو ما ذكرنا من نحر البدن الذي تعبده للكل؛ لما فيه من نفار النفس بالتألم الذي يحصل لغيره بفعل غيره؛ فالتألم به بفعل نفسه أكثر من التألم بفعل غيره، وهو مجاهدة النفس وتغير ما امتحنه - عليه السلام - بتحمل المشقة لوجهه تعالى مرة بالتبليغ إلى الكفرة مع الخطر على نفسه، ومرة بمجاهدة نفسه بالقيام بالليل، ومرة بإتيان خلاف الطبع، وهو ذبح البدن؛ إذ الطبائع تنفر عن إراقة الدماء مع أنه أشفق الناس وأرحمهم على خلقه، فبلغ من حسن إجابته له، وطاعته له أن ساق مائة بدنة، فنحر ستين منها بيده، وولى عليا - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - نحر أربعين؛ على ما ذكر في الخبر. [وروى أبو الجوزاء] عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}: وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وكذا روي عن عليٍّ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ. وعن عاصم الجحدري، قال: هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة. ومن قول الثنوية: أنهم لا يرون ذبح شيء من الأشياء؛ لما فيه من الألم والأذى. وقولهم هذا ليس بصحيح؛ لأنا نعلم أن إفاتة الروح بالذبح أهون على المذبوح من موته حتف أنفه؛ فإذا جاز في الحكمة أن تزهق روحه بغير الذبح فلأن يجوز في الذبح أحق. وأصله: ما ذكرنا أن هذه السورة نزلت في مخاطبة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو المقصود به من بين الناس، وهو يعلم بالذي خاطبه به من الصلاة؛ والنحر، والكوثر، وغير ذلك؛ فلا نتكلف نحن تفسيره مخافة الكذب على اللّه - تعالى - سوى أن نذكر أقاويل أهل التأويل. ٣وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣) يذكر أهل التأويل: أن فلانا سمى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أبتر؛ فنزل: إن الذي سماك أبتر هو الأبتر - لا نعرفه حقيقة؛ لأنه لم يذكر أن أحدا من أولاد الفراعنة وأعداء الرسل - عليهم السلام - افتخر بأبيه أو بأحد من أوليائه والمنتمين بهم افتخروا بهم، وافتخر أولاد أولياء رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الناس حتى يتعينوا بذلك فيما بينهم؛ يقول: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي: معاديك ومبغضك هو الأبتر دونك. أو يقول: أعداؤك هم الذين يبتر ذكرهم، وأولياؤك مذكورون أبدا على ما قلنا. وأصله ما ذكرنا أنه خاطب به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقد عرف ذلك، ونحن لا نعلم في أي شيء كانت القصة؟ وفيم نزلت الآية؟ واللّه ورسوله أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشانئ: المبغض، يقال: شنئته: أبغضته، والأبتر: هو الذي لا ولد له ذكر، ولا عقب له. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} هو بشارة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالغلبة عليهم، والقهر لهم، والنصرة عليهم، وإظهار دين اللّه - تعالى - في البلاد والآفاق؛ إذ أخبر أن الذي عاداه وباغضه هو المنقطع والأبتر لا هو، واللّه المستعان. * * * |
﴿ ٠ ﴾