سُورَةُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}: أي: خسرت، وخابت، كذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ، يقال: تب يتب تبا وتبابا. ثم ما ذكر من قوله: {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} يحتمل حقيقة اليد. ويحتمل أن يكون ذكر اليد على الصلة. فإن كان على إرادة حقيقة اليد، فهو يخرج على وجوه: أحدها: ما ذكر: أنه كان كثير الإحسان إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والإنفاق عليه، والصنائع إليه، وكان يقول: إن كان الأمر لمُحَمَّد يومئذ؛ فيكون لي عنده يد، وإن كان لقريش فلي عندها يد؛ فأخبر - واللّه أعلم - أنه خسر فيما طمع ورجا من اليد التي له عنده والإحسان الذي أحسن إليه؛ إذ لم يصدقه، ولم يؤمن به، وخسر - أيضا - ما ادعى من اليد له عند قريش. والثاني: يحتمل أن يكون من أبي لهب تخويف لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالبطش والأخذ باليد؛ فأمن اللّه - تعالى - رسوله عما خوفه به حيث قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، أي: خسرت يداه، ولا يقدر على البطش. والثالث: يحتمل أن يكون اليد كناية عن القوة في نفسه وماله في دفع العذاب عن نفسه، وكذلك كانوا يدعون دفع العذاب عن أنفسهم؛ بقولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}. وذكر بعض أهل التأويل: أنه لما نزل قوله - تعالى -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، جمع عشائره الأقرب فالأقرب منهم، وقال: " إني لا أملك لكم من اللّه نفعا في الدنيا والآخرة إلا بعد أن تقولوا شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وأني رسول اللّه " فقال أبو لهب عند ذلك: " تبا لك يا مُحَمَّد، ألهذا دعوتنا؟! " فنزل عند ذلك: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ومجازاة له. فهذا وإن لم يكن في فعله في القصة استعمال اليدين، فيجوز أنه كان يصرف الناس عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيده، أو حين دعى إلى الإيمان باللّه - تعالى - مد يديه على التعجب من ذلك، وقال: " ألهذا دعوتنا؟ " فرد اللّه - تعالى - عليه ذلك، وعيره به. وقد يجوز أن يظهر في الجواب مقدمة السؤال وإن لم يذكر ذلك في السؤال؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}؛ فعلم بذلك أن السؤال إنما كان عن قربانهن في المحيض؛ فكذلك الأول. وإن كان ذكر اليد على الصلة، فهو يخرج على وجهين: أحدهما: ذكر اليد كناية عن العمل والفعل، إلا أنه ذكر اليد؛ لما باليد يقوم ويعمل؛ كقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، و {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وذلك على الكناية عما كان منه من الصنيع، أي: خسرت أعماله وبطلت. والثاني: يذكر اليد على إرادة: قدام وأمام؛ كقوله - تعالى -: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، أي: أمامه وخلفه؛ فيكون معناه: ما قدم من الأعمال، واللّه أعلم. ثم تخصيص أبي لهب بالذكر من بين سائر الكفرة يحتمل وجوها: أحدها: خصه بالاسم؛ لأنه كان من الفراعنة والأكابر، وهو المقصود به، والفراعنة قد يذكرون بأسمائهم؛ لما هم المقصودون به، وإن كان من دونهم يشاركونهم في ذلك؛ كذكر فرعون، وعاد، وثمود، وغيرهم. والثاني: كان شديد الهيبة والخوف؛ فذكره باسمه، وخصه به؛ ليعلم أن محمدا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يهابه، ولا يخافه، واللّه أعلم. والثالث: أنه كثير الأيادي والصنائع بحق رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلو كان الخطاب بهذا يعم الكفرة، لكان يظن بما سبق منه من الأيادي أنه غير داخل تحت الخطاب؛ فخصه بالذكر؛ ليعلم أنه لا يغنيه من اللّه شيء. ثم ذكره بالكنية يخرج على وجوه: أحدها: يحتمل أن يكون بالكنية عرف عند الناس، وبها كان معروفا دون اسمه؛ فذكره بالذي كان معروفا به. والثاني: ما ذكر أن اسمه كان عبد العزى؛ فلم يرد أن ينسبه إلى غيره، وهو العزى؛ فذكره بالكنية لهذا. والثالث: أنه عيره بأشياء، وخوفه بمواعيد؛ فلو ذكره باسمه، فلعله يصرف ذلك الخطاب والوعيد الذي كان له إلى غيره؛ لما شرك غيره في الاسم؛ إذ كانوا يسمون أولادهم وينسبونهم إلى أصنامهم، ولم يكن أحد شركه في كنيته؛ فلا يمكنه التحويل إلى غيره. وقيل: ذكره بالكنية يخرج مخرج الوعيد له، أي: تصير النار له كالابن، وهو كالأب لها؛ وذلك لأن هذه الكنى إنما تذكر في المتعارف على وجه التفاؤل، كما يقال: أبو منصور؛ على رجاء أن يولد له ابن يسمى: منصورًا. ثم إن اللّه - تعالى - سمى النار في بعض الآيات: أما للكافر، كقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}، وفي بعضها: مولى؛ حيث قال: {هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ فجاز - أيضا - أن تكون النار إذا قربت منه، وانضمت إلى حجره أن تصير في التمثيل كالولد، ويصير هو أبا لها؛ فقال: {أَبِي لَهَبٍ}؛ على هذا الوجه من التأويل. ووجه آخر: وهو أن ذكر الكنية وإن كان يراد بها التعظيم، فعند ذكر المواعيد والعقوبات يراد بها الاستخفاف والإهانة، وهو على ما ذكرنا في البشارة: أنها وإن كانت تذكر عندما يسر ويبهج في الأغلب، فعند ذكر العقوبة نذارة، كقوله - تعالى -: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ فعلى ذلك الكنية، واللّه أعلم. |
﴿ ١ ﴾