سُورَةُ الْفَلَقِ

وهي مدنية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}:

قال الفقيه - رحمه اللّه -: الأمر بالتعوذ به يحتمل وجوها ثلاثة:

أحدها: على التعليم، لا لنازلة كانت في ذلك الوقت؛ لكن لما علم اللّه - تعالى - من عظيم شر من ذكر بما يظن بالأغلب أن شر ما ذكر يتصل بالذي ذكر في علم اللّه تعالى؛ فأمرهم بالتعوذ به، كما أخبر في أمر الشيطان: أنه عدو لهم، وأنه يراهم من حيث لا يرونه؛ ليكونوا أبدا معدين متيقظين فزعين إلى اللّه - تعالى - معتصمين، وهذا أحق في التعليم من الذي ذكر في سورة الناس؛ لأنه أضر من ذلك العدو؛ لأن ضرره إنما يتصل به بإتيانه ما دعاه إليه الشيطان، وما يوسوس في صدره الوسواس، وذلك فعله يمكنه الامتناع عنه، وهذا الضرر يقع بفعل غيره من وجه لا يعلم مأتاه -أعني: شر النفاثات ونحو ذلك- فهو أحق في تعليم العباد فيه، والأمر بالفزع إلى من بلطفه جعل ذلك الفعل ممن ذكرنا معمولا فيه مؤثرا.

والثاني: ما قيل: نزل جبريل - عليه السلام - على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إن عفريتا من الجن يكيدك؛ فتعوذ بأعوذ برب الفلق، وبرب الناس من شره إذا أويت إلى الفراش ".

والثالث: قيل: إن واحدًا من اليهود سحر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فنزل هذا.

قال أبو بكر الأصم: ذكروا في هذه السورة حديثا فيه ما لا يجوز؛ فتركته.

قال الفقيه - رحمه اللّه -: ولكن عندنا فيما قيل: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سحر - وجهان في إثبات رسالته ونبوته.

أحدهما: بما أعلمه بالوحي أنه سحر، وذلك فعل فعلوه سرا منه، ولا وقوف لأحد على الغيب إلا بالوحي.

والثاني: بما أبطل عمل السحر بتلاوة القرآن؛ فيصير لتلاوته في إبطال عمل السحر ما لعصا موسى - عليه السلام - وأن هذا في كونه آية أعظم مما فعل موسى عليه السلام؛ لأن ذلك يتنوع بتنوع ما له الفعل والعمل من حيث الجوهر والطبع من حيث مرأى العين؛ فإنه ثعبان يلقف ما صنعوا. فأما إبطال السحر وعمله بتلاوة القرآن لا يكون إلا باللطف من اللّه تعالى، واللّه أعلم.

ثم الأصل في هذا عندنا: أنه قد ثبت الأمر بالتعوذ بقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وقد بينا حق الاشتراك فيما يتضمن هذا الأمر إن كان على نازلة في واحد، أو على ابتداء التعليم، فهو أمر فيه رجاء للفرج والمخرج من الأمور الضارة بما يعتصم فيها باللّه - تعالى - بما عنده من اللطائف؛ فجائز تمكينه من أمور ضارة باللطف من حيث لا يعلم البشر مأتاه، ولعل الذي يعمل به لا يعلم حقيقة ذلك العمل الذي جعل اللّه لذلك العمل إلا بما سبق من وقوع ذلك، وقد يجوز الأمر والنهي بأشياء بعينها من الأفعال؛ لمكان ما يتولد عنها من المنافع والمضار باللطف من حيث لا فعل في حقيقة ذلك للخلق؛ وإنما ذلك لطف من اللّه - تعالى - نحو ما نهى عن أكل أشياء، وأمر بها، مما بها الاعتداء والقتل، من غير أن نعلم حقيقة وصول ذلك إلى ما يعدو أو يقتل وأي حكمة في ذلك ومعنى له؟.

وكذلك الموضوع من المناكح لطلب الولد وسقي الأشجار والزروع بما يحدث اللّه فيها، وإن كان وجه العمل بالمأمور به، والمنهي عنه، وحقيقته بغير الذي له ذلك. وعلى ذلك الأمر بالاستماع، والنظر لما يلقى إليه ويراه، وإن لم يكن حقيقة الإدراك فعله.

وعلى ذلك التقدير جائز أن يكون اللّه - تعالى - يجعل النفث بالعزائم، أو بأنواع السحر، أو بأنواع الرقى - أعمالا في المقصود بها من النفع والضر، لا يعلم حقيقة الوقوع والمعنى الموضوع فيه له من فيه ذلك الفعل، وهو به مأمور، وعنه منهي؛ بما له من حقيقة الفعل، وإن لم يكن النافع به في حقيقة فعله.

ثم قوله - عز وجل -: {الْفَلَقِ} اختلفوا فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الصبح.

وقيل: كل شيء ينفلق من جميع ما خلق، نحو الأرحام؛ ليتعرف ما فيها، والحب، والنوى، والهوام، وكل شيء.

فمن ذهب إلى تخصيص الصبح؛ فهو لأنه آخر الليل، وأول النهار، وقد جرى تدبير اللّه - تعالى - في إنشاء هذين الوقتين على جميع العالم، بحيث لا يملك أحد الامتناع عن حكمهما فيما جعل لهما، وهما النهاية في العلم بعلم اللّه - تعالى - الغيب؛ إذ جرى من تدبيره في أمر الأوقات في الليل والنهار على حد واحد كل عام، بما فيهما من الرحمة للخلق وأنواع المحنة، ومَنَّ عليهما بما يأتيان الخلق ويذهبان؛ فكأنما ذكر جميع الخلق على ما ذكر في تأويل قوله - تعالى -: {بِرَبِّ النَّاسِ}؛ فيكون فيه لو قصد بالذكر ما في كل ذلك، ولا قوة إلا باللّه.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢) له وجهان:

أحدهما: من شر خلقه؛ لما أضاف إلى فعله؛ كما يقال: " من شر فعل فلان "، أي: من شر ما يفعله.

ويحتمل من شر يكون من خلقه، لكن الإضافة إليه بما هو خالق كل شيء من فعل خلقه، ومن خلق ما له الفعل ولا فعل.

والأول كأنه أقرب؛ لما ذكر في بقية السورة من الواقع بخلقه المكتسب من جهتهم، وأضيف إليه؛ لما بينا، ولأن كل شر اكتسبه الخلق فذلك منسوب إلى اللّه - تعالى - خلقا، وهو فعل المكتسب وكسبه، فمتى كان المراد من قوله - تعالى -: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} هذا النوع؛ فكأن ذكر ما بعده يكون تكريرا.

وإذا حمل الأول على محض التخليق فيما لا صنع للخلق فيه من الشرور، كان ذكر ما لهم صنع فيه -وإن كان بخلق اللّه تعالى، لا يكون تكريرا- فيكون هذا التأويل أحق، مع ما قد بينا أنه يمنع في فعل غيره بلطف، أو إعجاز، وفي الإعجاز لا يحتمل التعوذ من شر من لا يقدر على فعل يتصل به الشر، وفي ذلك إثبات التمكين لما يقع به الشر؛ فيجوز التعوذ من الذي منه أذية تكون من غيره، على ما بينا من جواز الأمر والنهي عن

أفعال لمكان ما يقع بها، وإن لم يكن الواقع في الحقيقة لهم؛ فعلى ذلك التعوذ من شر خلقه، وهو التمكين واللّه الموفق والمعين.

وفي هذا تعلق بعض من يقول بأن القوة تسبق الفعل: أنه لو لم يكن له قوة على الشر كيف كان يتعوذ من شر من لا يقوى عليه؟.

والجواب من وجهين:

أحدهما: أن التعوذ يكون بما سيفعل بما يملك هو ما يقع لديه الفعل، وهو الآلات السليمة والقدر تحدث تباعًا على حدوث الأفعال، وتحدث لما يختار هو؛ فصارت القدرة في كونها لما يختار؛ ككون ما يختار من الفعل بالاختيار بحدوث القدرة حالة الفعل؛ فيتعوذ منه؛ لعلمه أن الذي به كأنه في يده.

والثاني: أن قد جرت العادة بالعلم بما يقع في المتعارف: كالعلم بما هو واقع في الرغبة والرهبة؛ ألا ترى أنه يتعوذ من ظلم الجبابرة والظلمة، على ما بينهم من بعد الأمكنة وطول المدد؛ لإمكان الوصول بما اعتيد منهم بلوغ أمثال ذلك، وإن كانت القدرة على الظلم في حقه للحال معدومة، لا تبقى في مثل هذه المدة؛ فعلى ذلك الأمر الأول:

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (٣) اختلف فيه:

قيل: الغاسق: هو الليل المظلم: والغسق الظلمة.

وقيل: سمي الليل: غاسقا؛ لأن الغاسق: البارد، قال اللّه تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاءً وِفَاقًا)، والليل أبرد من النهار؛ لذلك سمي: غاسقا.

والأصل في هذا: أن الذي ذكر لا يكون منه ضرر يتعوذ منه، لكنه يرجع إلى من كان في ظلمة الليل، أو في نور القمر من الذي يأتي منه المضار، ومعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة الليل، ومنها في الليالي لا يمكن إلا بنور القمر؛ فأمر بالتعوذ مما يكون فيها، لا أن يكون منها، وهو كقوله - تعالى -: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، لما يقع به الإبصار؛ لا أنه يقع منه ذلك.

وهذا - واللّه أعلم - ليس على تخصيص الليل بذلك؛ لأنه ليس له فعل الضر، لكن قد يعرض به الإمكان من الشر؛ لما المعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة الليل، ومنها في الليل لا يمكن إلا بنور القمر؛ فأمر بالتعوذ منه عما يتحقق فيه؛ فعلى ذلك يجوز التعوذ من شر النهار، على تأويل ما يقع به من التمكين من الشر، ويوجد فيه، واللّه أعلم.

وقوله: {إِذَا وَقَبَ} واختلفوا في معنى {وَقَبَ}: قيل: إذا جاء ودخل.

وقيل: ذهب.

وقيل: معناه: القمر إذا خسف، أمر بالاستعاذة من ذلك؛ إذ هو علم من أعلام الساعة؛ لهذا قال: {إِذَا وَقَبَ}؛ إذ القمر لا يخسف إلا في الليل.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (٤):

فهذا تعوذ من شرهم بحسب سببه، لكنه في الحقيقة فعل لهم، وفي الأول يقع سببه بلا صنع لهم، فكأنه في الجملة أمر بالتعوذ من كل سبب خيف تولد الشر منه، فعلا كان ذلك له أو لم يكن؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ}، وقد يكون للشيطان فعل في الحقيقة، ولا يكون للحياة الدنيا فعل؛ فوقع النهي عن الاغترار بهما؛ فعلى ذلك التعوذ من شر الأمرين وإن لم يكن لأحدهما فعل بما يقع فيه.

وجائز أن يكون من هذا الوجه في الملائكة محنة في الدفع والحفظ؛ لقوله - عز وجل -: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّه}، قيل فيه: أي: بأمر اللّه يقع حفظه؛ فجائز أن يكون في هذه الأمور الخفية، وأنواع المضار من حيث لا يعلم إلا بعد جهد يقع الحفظ باللّه - تعالى - على استعمال الملائكة.

وعلى ذلك يجوز أن يكون أمر سلامة المطاعم والمشارب والمنافع التي للبشر عن إفساد الجن، يحفظ ما ذكر؛ ليكون فيها محنة للملائكة، على ما كان مكان وسواس الشيطان إيقاظ الملائكة ومعونتهم.

ويحتمل أن يكون اللّه - تعالى - لم يمكنهم إفساد ما ذكرنا وإن مكنهم الوسواس؛ إذ باللطف يمنع من حيث لايعلم.

وقيل - أيضا -: من أمر اللّه: عذابه وأنواع البلايا إلى وقت إرادة اللّه - تعالى - الوقوع.

٥

وقوله - عَزَّ وجل -: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (٥) يخرج على وجهين:

أحدهما: إذا كان الحاسد دون المحسود، لا يقوى على الشر ليفعل به، والشر المتوهم منه يكون من شر عينه، وعمل الحسد إرادة زوال نعم المحسود وذهاب دولته.

وإنه جائز أن يكون اللّه - عَزَّ وجل - بلطفه يجعل في بعض الأعيان عملا يتأدى بالنظر إلى ما يستحسنه من النعم إلى الزوال، ويؤثرون ذهاب الدولة عنه؛ فأمر بالتعوذ لهذا، وقد بينا لك المتولدات من الأفعال بما جعل اللّه - تعالى - فيها من المضار والمنافع ما لا يبلغها علوم الخلق، بل لو أراد الخلق أن يعرفوا ما في البصر من الحكمة التي تدرك بفتح البصر ما بين السماء والأرض من غير كثير مهلة، لم يقدروا عليه.

وروى عمران بن حصين أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " العين حق، فإن كان شيء يسبق القدر لسبقه العين ".

وفي خبر آخر: " لا شر في الهام، والعين حق ".

ويدل عليه في قصة إخوة يوسف - عليه السلام -: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}.

وقد فسر قوم وجه عمل العين وكيفيته، لكنه أمر كعمل الشمس في العين نفسها فيما تبصر الشمس وتنظر إليها، فإنها تضره وتغلبه عن النظر على بعدها من العين بما جعل اللّه - تعالى - وذلك من اللطف والحكمة، وكذلك عمل العين في المعيون.

والثاني: أن يكون بما حسد أن يبعث حسده على الحيل وأنواع ما به العين من السعي في الأمور التي بها الفساد على ضعفه في نفسه؛ قال اللّه - تعالى - في صفة المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، فمع ما بين من فشلهم وضعفهم، أمرهم بالحذر عنهم،

وقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، ثم أمر بالتعوذ من شره؛ فكذلك الحاسد، واللّه أعلم بالصواب.

* * *

﴿ ٠