سُورَةُ النَّاسِمدنية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}: ظاهره أمر لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بشيء مشار إليه، وهو التعوذ، وحق الإجابة في مثله أن يقول: أعوذ، لا أن يقول: {قُلْ أَعُوذُ} لكنه - واللّه أعلم - يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك أنزل بحق أن يصير ذلك أمرا لكل من بلغه، وتعليما بالذي عليه من الاعتصام باللّه - تعالى - والالتجاء إليه من شر الذي ذكره؛ ليعيذه، وتكون الإعاذة بوجهين: أحدهما: في تذكير ما عرفه من الحجج في دفع ما يخطر بباله من المكروه. والثاني: باللطف الذي لا يبلغه علم الخلق، ولا تدركه عقولهم مما لديه نفع الأمن من الزيغ مما حقه الإفضال، والذي ذلك حقه، فللّه - تعالى - أن يكرم به العبد مبتدئا، وله أن يقدم فيه محنة السؤال والاعتصام به؛ على الإكرام أيضا، ويلزم على من عصم به عن الزلة، أو هدي إلى حسنة: الشكر للّه - تعالى - فيما ابتدأه أو أكرمه به عند السؤال. والوجه الثاني من وجهي الخطاب: أن يكون الخطاب لغيره، وإن كان راجعا إلى مشار إليه، فهو مما يشترك في معناه غيره؛ فأبقى وأثبت ما به يصير مخاطبا من بلغ ذلك، وهو قوله - تعالى -: {قُلْ} حتى يدوم هذا إلى آخر الدهر، وعلى هذا جميع ما فيه حرف الكلفة والمحنة -أعني: صيغة الأمر- واللّه الموفق. ثم في قوله - تعالى -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. . .} إلى آخر السورة وجهان من الحكمة، فيهما نقض قول أهل الاعتزال: أحدهما: أن المحنة قد ثبتت بالامتناع عن طاعة الشيطان والمخالفة له: فإما أن كان اللّه - تعالى - أعطاه جميع ما يقع به الامتناع حتى لا يبقى عنده مزيد، أو لا يعطيه جميع ذلك، بل بقي عنده شيء منه. فإن كان قد أعطاه، فهو بطلب ذلك بالتعوذ والاعتصام باللّه - تعالى - كاتم لما أعطاه، طالب ما ليس عند اللّه - تعالى - فيكون الأمر بالتعوذ محنة وأمرا بما به كتمان ذلك، وذلك حين استوفاه يكون إنكاره ستر نعم اللّه - تعالى - وقد تبرأ عن الأمر بالفحشاء والمنكر، وبين أن ذلك عمل الشيطان. ثم في المحنة بهذا محنة بالاستهزاء باللّه تعالى؛ لأنه يطلب منه ما يعلم أنه لا يملكه، ولا يجده عند نفسه، وذلك من علَم الهزء عند ذوي العقول، فمن ظن أن اللّه - تعالى - يمتحن عباده ويأمرهم بشيء مما ذكرنا، فهو جاهل باللّه - تعالى - وبحكمته وإن لم يكن اللّه تعالى يمتحن عباده، ويأمرهم بشيء مما ذكرنا؛ فهو جاهل بما أعطاه وعنده بعد ذلك. ثم كان من مذهبهم أنه ليس للّه - تعالى - أن يمتحنهم بفعل إلا بعد إيتاء جميع ما عنده مما به قوامه ووجوده؛ ففي ذلك اعتراف بلزوم المحنة وتوجه التكليف قبل إيتاء جميع ما عنده مما به الوصول إلى ما أمر به، وذلك ترك مذهبهم مع ما كان عندهم أنه لو كان عند اللّه - تعالى - أمر ومعنى، لا يقع فعل المختار؛ لأجل أنه لا يعطيه ذلك - لم يكن له أن يمتحنه، وهو بالامتحان جائر. وإما أن سألوه بفعل قد أمر به، وإن لم يكن أعطاه ذلك، وهم ما وصفوا اللّه - تعالى - بمثل ذلك أو بفعل يتلو وقت الأمر ذلك؛ فيكون إعطاء ذلك وقت الأمر؛ فكأنه ظن أن يأمر ولا يعطي حتى يُسأل، وذلك حرف الجور. ثم الأصل الذي اطمأن به قلوب الذين يعرفون اللّه - تعالى - أنه متى هدى الهداية التي يسأل أو عصم العصمة التي يطلب، أو وفق لما يرجو من الفعل، أو أعانه عندما يخاف أنه كان ذلك لا محالة، وتحقق بلا شبهة، ويأمن لديه من الزيغ والضلال، وعلى ذلك جبلوا مما لا نجد غير معتزلي إلا وقد اطمأن قلبه به، حتى يعلم أن هذا منه وقع المجبول عليه بالتقليد، ولا قوة إلا باللّه تعالى. وقوله - عز. وجل -: (بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣) ولم يقل: " أعوذ برب الخلق "، وهذا أعم من الأول، وإضافة كلية الأشياء إليه، أو إضافته إلى الكل بالربوبية من باب التعظيم للّه - تعالى - فما كان أعم فهو أقرب في التعظيم، فهذا - واللّه أعلم - يخرج على أوجه: أحدها: أراد التعريف، وبهذا يقع الكفاية في معرفة من يفزع إليه ممن يملك ذلك، ليعوذ منه، لكنه ذكر {بِرَبِّ الْفَلَقِ}، في موضع، و (باللّه) في موضع، وقوله في موضع، كقوله - تعالى -: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللّه}؛ ليعلم به من سعة الأمر وتحقيق الفزع، والرجوع إلى اللّه - تعالى - عند نزول ما ينزل بالمرء مما يخاف على نفسه، ويشغل قلبه - أن له ذكر ما يحضره من أسماء اللّه - تعالى - أي اسم كان؛ إذ ما من اسم إلا وفيه دلالة على نعمه وسلطانه وقدرته وعظمته؛ ليكون في ذلك توجيه الملك إليه وإخلاص الحمد له بإضافة النعم؛ فيكون ذلك من بعض ما به التشفع إلى اللّه - تعالى - من ذكر قدرته وإحسانه، وأرفع ذلك في ذكر الناس بالإضافة إليه. والثاني: أن الذين عرف فيهم الأرباب والملوك والعبادات لمن دون اللّه - تعالى - هم الإنس دون غيرهم؛ فأمر أهل الكرامة بمعرفة اللّه - تعالى - والعصمة عن عبادة غيره، والاعتراف بالملك والربوبية له -: أن يفزعوا إليه عما ذكر، ذاكرين لذلك، واصفين بأنه الرب لهم، والملك عليهم، والمستحق للعبادة لا غير. أو لما كان للوجوه التي ذكرنا ضل القوم من اتخاذهم أربابا دون اللّه تعالى. أو نزولهم على رأي ملوكهم في الحل والحرمة، وفي البسط والقبض. أو عبادتهم غير اللّه - تعالى - وفزعهم إليه؛ فأمر اللّه - تعالى - أهل الكرامة بما ذكرت الفزع إلى الذي يذكر بهذه الأوصاف على الحقيقة على نحو فزع الضالين إلى أربابهم وملوكهم والذين عبدوهم دونه؛ إذ إليه مفزع الكفرة - أيضا - عند الإياس عمن اتخذوهم دون اللّه؛ لنصرتهم ومعونتهم، واللّه أعلم. والثالث: أن المقصود من خلق هذا العالم هم الذين نزلت فيهم هذه السورة، وغيرهم كالمجعول المسخر لهم، قال اللّه - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، وقال: {اللّه الَّذِي سَخَّرَ لَكُم. . .} الآية، وقال اللّه - تعالى -: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا. . .} الآية، فإذا قيل: (بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ)، فكأنه قيل: " برب كل شيء "، لأن ما سواهم جعل لهم، وذكر الخلق والتوجيه إليه في الاستعاذة والاستعانة هو اعتراف بألا يملك غيره ذلك؛ فاستوى الأمران، واللّه أعلم. وقيل في {بِرَبِّ النَّاسِ}: مصلح الناس، وذلك يرجع إلى أن به صلاحهم في الدِّين وفي النفس. ٢وقيل: ملك الناس؛ على الإخبار بأن الملك له فيهم جميعا، وفي الخلق مما لم يذكر فيه جهة الملك؛ فبين أن ذلك كله في التحقيق للّه - تعالى - وملكه، ولغيره يكون من جهته على ما أعطي لهم بقدر ما احتاجوا إليه. وقيل: سيدهم، لكن لفظة " السيد " لا تذكر لمالك غير الناس، ويوصف بالرب والملك والمالك على الإضافة لا مطلقا، يقال: رب الدار، ومالك الجارية، وملك المصر، ونحو ذلك، فكأنه أقرب. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤): سمى الذي يوسوس بأنه وسواس وخناس، وقيل في تأويله من وجهين: أحدهما: أنه يوسوس لدى الغفلة، ويخنس عند ذكر اللّه تعالى، أي: يخرج ويذهب. وقيل: يخنس: لا يرى، ولا يظهر، كقوله - تعالى -: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}؛ ولهذا قيل في الجواري الكنس: إنهن يطلعن من مطالعهن، ويخنسن بالنهار، أي: يختفين. ٥-٦وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس ِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦) صير الموسوس في صدور الناس من الجنة والناس. وقيل - أيضا -: على التقديم والتأخير، معناه: قل أعوذ برب الناس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس. أما الوسوسة فهي أمر معروف، وذلك بما يلقى من الكلمات التي تشغل القلب وتحير في أمر الدِّين، بما لا يعرف الذي يلقى إليه المخرج من ذلك، وعلى ذلك أمر أهل الأهواء، وأصناف الكفرة؛ كقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}، وأما شياطين الجن، فهو أمر ظاهر عند جميع أهل الأديان ومن آمن بالرسل عليهم السلام، لكن الدهرية ومنكري الرسل يقولون: ليس في الجن شياطين؛ وإنما هو أمر يُخَوَّف به مدعو الرسالة؛ ليلزموا الخلق الاستماع إليهم في تعرف الجهل وما عندهم في دعواهم من العلوم والمعارف، وهذا لسفههم قالوا، ولو أنهم تأملوا في ذلك، لعرفوا أنهم على غير بحث عما ألزمهم ضرورة العقل الطلب، ودعتهم إلى البحث عنه ما مستهم من الحاجة، وهي الخواطر التي تقع في القلوب، والخيالات التي تعرض في الصدور، منها ما إذا صورت وجدت قباحا، ومنها ما إذا صورت وجدت حسانا، ولا يجوز وقوع أمر أو كون شيء بعد أن لم يكن من قبل نفسه؛ للإحالة في أن يصير لا شيء بنفسه شيئا قبيحا أو حسنا بلا مدبر، وقد علم جميع الإنسان بالذي ذكرت من الابتلاء به مما يعلم أنه لم يكن من نفسه معنى يحدث له ذلك؛ فثبت أن قد كانت الضرورة تلزم البحث عن ذلك. ثم لا يعلم من حيث طلب الأبدان الموجبة لها ولا في العقول - أيضا - دركها؛ فيجب بها أمران منعهم عن العلم بهما القنوع بالجهل وحب الراحة: أحدهما: القول بالصانع، ودخول العالم تحت تدبير حكيم عليم قدير. والآخر: القول بالرسالة تأتيهم من عند علام الغيوب، وإذا كان ذلك بحيث لا يبلغه علم البشر فيعرف حقيقة ذلك؛ فَيُعْلم عند النظر والبحث أمران عظيمان: أحدهما: الرسل بما معهم من المعجزات، فيقولون بهم، وبالتوحيد بما رأوا من الآيات الصدق؛ إذ قد علموا أن في الأخبار صدقا، لولا ذلك لكانوا لا يدعون شيئا؛ إذ هو خبر له. والثاني: يلزمهم بما يعاينوا من مرجح الأمر من غير الحكماء أنها تقع متفاوتة مضطربة، والعالم بما خرج متسقًا على الحكمة والمصلحة؛ فعلموا أنه كان بمدبر حكيم يعلم ما به المصالح؛ فيلزمهم به أمران أيضًا: التوحيد والرسالة، ولا قوة إلا باللّه. والأصل عندنا بتمكين الشيطان ما ذكرنا من الوسوسة أن الشيطان والملك خَلْقَان للّه تعالى عرفناهما بالرسل - عليهم السلام - وبما بيَّنَّا من ضرورة الحاجة إلى العلم ممن بإلقائه يصير عند التصوير قبيحًا أو حسنًا، فيأتيان جميعًا بما مكنهما اللّه تعالى من الأمرين جميعًا: أمر الملائكة الخير والحكمة فيسهل عليه سبيله بتيسير اللّه تعالى وفضله، وأمر الشيطان الضلال والشر فييسر عليه، حتى صار الخير للأول كالطبع، والشر للثاني كذلك، فإذن كان كل واحد ممكنًا من الأمرين، قال اللّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ. . .} إلى قوله - عز جل -: {لِلْعُسْرَى}، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ. . .} إلى قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. ثم الأصل في الإنس أنهم امتحنوا بحقوق بينهم وبين اللّه تعالى وبحقوق فيما بينهم، وكلفوا تثبيت الملائكة إياهم بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، وأمروا برد ما يوسوس إليهم الشيطان بقوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، وغير ذلك. وعلى ذلك خلقت الملائكة ممتحنين بالكتابة على البشر بقوله: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} فتكون الحكمة في تكليف التمكين ما وصف من محنة اللّه تعالى إياهم طاعتهم في أنفسهم وفيما مكنوا من غيرهم، على ما ذكرت من أمر الإنس، وحكمة ذلك للإنس إلزام التيقظ والنظر فيما يقع في قلبه من الخواطر؛ ليعلم الذي له والذي عليه. وكذلك في تكليف الملائكة كتابة قوله وفعله؛ ليكون متيقظًا ومتنبهًا في كل أفعاله وأحواله كتيقظه فيما كان الأولياء والأعداء من الكاتبين الظاهرين عليه أنه يحذر كل الحذر عما يؤذي وليه، ويقبل على كل أمر فيه نفع بما أمَّل، ويحذر عدوه أشد الحذر؛ لئلا يؤذيه من حيث لا يعلم، فيتهمه كل تهمة. ثم معلوم ألا يمل الكتبة إلا بعد إحكامه وإصلاحه غاية ما يحتمل الوسع، فعلى ذلك فيما خفي؛ إذ هم في العقول في درك ما منهم وما عليهم كالذين ذكر لهم ممن ظهروا لأبصارهم، واللّه الموفق. وكذلك صلحت المحنة والأمر في صحبة الأولياء والأعداء بحق الولاية والعداوة فيما لا يرون صلاحها وفيما يرون؛ إذ من الوجه الذي فيه الولاية والعداوة مرئية لأبصار القلوب والعقول؛ فيمكن الحذر والمعاملة جميعًا، وعلى هذا التقدير لم يمكن اللّه أعداءه الذين لا يرون من معاداتهم بأفعال من أبدانهم وأموالهم بالسلب والتنجيس والإفساد، وقد مكن أعداءهم من الإنس ذلك؛ ليمكنهم الدفع عن ذلك والحذر عنه بما وقع الوقوف لبعض على حيل بعض والصرف عن ذلك، وما هذا إلا كدرك الحواس بأفعالها وأسبابها بالحس، وكذلك أمر الملائكة، لكن من لا يحتمل عقله معرفة الصانع والتوحيد مع شهادة العقل وكل شيء فجهله بالشيطان غير مستبعد ولا مستنكر، واللّه أعلم. قال - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: ثم اختلف في وجه تمكن الشيطان من الإنس فيما يوسوس إليه: قد روي في بعض الأخبار أنه يجري فيه مجرى الدم، فأنكر ذلك قوم، وليس ذلك مما ينكر بعد العلم باحتمال جري الدم فيه وجري قوة الطعام والشراب وما به حياة الأبدان والحواس مما لطف مجراه في جميع العروق والأعصاب وكل شيء؛ بلطافة ذلك؛ فعلى ذلك الشيطان. وعلى ما روي في أمر الملك مما يكتب ما لا يعلم موضع قعوده ولا يسمع صريف قلمه ولا ما يكتبه علينا من ذلك، فعلى ذلك أمر الذي ذكرت. ثم قد ثبت القول بأمر اللّه تعالى نبيه أن يتعوذ به عن همزه ونزغه وحضوره بقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّه. . .} الآية، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. . .}، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا}، وقال: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. . .} الآية، فثبت أن أمره على ما بيناه. ثم القول في أي موضع لوقت ما له من الوحي والمس والنزغ أمر لا يحتاج إليه بحق؛ لأن اللّه تعالى وعَزَّ وَجَلَّ أخبرنا أنا لا نراه بقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}، ولكن الذي رجعت المحنة إلى أفعاله التي يقع لها آثار في الصدور، وقد مُكِنَّا بحمد اللّه تعالى ومَنِّهِ لندرك منه، وإنما علينا التيقظ لما يقع في الصدور من أفعاله ووساوسه لندفع بما مكننا اللّه تعالى وعَزَّ وَجَلَّ من الأسباب، وعرفنا من الحجج نقض الباطل والتمسك بالحق، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا}، وتوجهوا إلى اللّه تعالى بالتعوذ في طلب اللطف الذي جعله اللّه تعالى للدفاع، كقول يوسف - عليه الصلاة والسلام -: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ. . .} الآية، على العلم فيه بطوائف الأشياء من المجعول لدفع كيدهن، وكذلك قول الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. . .} الآية. لكن من الناس من يقول: هو يعلم النفس فيما تهوى فيزين لها ذلك، والعقل فيما يدعو من ذلك فيمنعه عن ذلك. ومنهم من يقول: لا، لكن في ذلك آثار من الظلمة والنور والطيِّب والخبيث، فيعرف بالآثار وفيها موقع وسواسه حتى يصل إلى الفعل، وقد يكون عمل الهوى والعقل جميعًا في الجسد وخارجًا منه، وبخاصة آثار الأعمال. ومنهم من يقول: ليس له بشيء من ذلك علم، لكن بكل ما يرجو العمل من التغرير أو في التمويه والتلبيس كالأعمى فيما يمس ويطلب المضار من المنافع ونحو ذلك، لكن ذلك كله طريق عمل الشيطان وطريق إمكانه وحِيَله، وذلك أمر لم نؤمر بمعرفته، وإنما علينا مجاهدته في منع ذلك بالتيقظ أو بدفعه بما نتذكر، هكذا ذكرت في الآيات، أو بالفزع إلى اللّه سبحانه وتعالى في دفعه ومنعه إن حضر بما عنده من اللطائف التي لديها يقع الأمن عن الزيغ والظفر بالرشد. وتأول كثير منهم أنه يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الناس، وذلك ممكن؛ لما قد يكون من كل جنس ضُلَّالٌ وغُواة وأخيار وأبرار، فأما حق تأويل السورة على ما وصفنا في ذكر وسواس الجن والإنس. ثم القول في المعوِّذتين أنهما من القرآن أو ليستا من القرآن، قال الفقيه - رحمه اللّه -: لنا من أمرهما أنهما انتهتا بما انتهت إلى أهل هذا العصر معرفة القرآن في الجمع بين اللوحين بتوارث الأمة، ولسنا نحن ممن يعرف بالمحنة والسير بما به نعلم أنهما معجزتان أو لا، وإنما حق ذلك الأخذ عن أهل ذلك والشهادة له بعد الثبات أنه من القرآن وأنه معجز، حقُّ أمثالنا فيه الاتباع، وقد اتضح بما به جرى التعارف في جميع الشرائع التي بها يشهد أنها عن اللّه تعالى وأنها حق، فعلى ذلك هذا. لكن ذكر عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه لم يكتبها في مصحفه، وذلك عندنا يخرج على وجهين: أحدهما: أنه لم يكن سمع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال فيهما شيئًا أنهما من القرآن أم لا، ولم يكن أيضًا رأى على نفسه السؤال عن ذلك حقًّا واجبًا؛ لأن القرآن وما جاء به الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يلزم علم الشهادة والعمل به واحدٌ؛ إذ المقصود من كل ذلك القيام بالمقصود من حق الكلفة لا التسمية، ولم يكن النجباء يمتحنون أنفسهم بالسير في الوجوه التي بها يعرفون المعجز من غير ذلك أنه قرآن أو غيره، وإنما ذلك من عمل المرتابين الشاكين في خبر الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليعرفوا أنه مبعوث مرسل، فأما من تقرر عنده واطمأن به قلبه وزال عنه الحرج فيما آتاهم فقد كُفُوا ذلك، وكذلك يجوز ترك البحث عن ذلك لما ذكرت، لا أن عنده أنهما ليستا من القرآن، وفي خبر عقبة الجهني أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: " نزل اليوم آيات لم ير مثلهن قط " قيل: ما هن يا رسول اللّه؟ فقال: " المعوِّذتان "، دل أنهما من القرآن. وأيد أيضا ما ذكرت في ترك الكتابة ما روي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لنا: " فقولوا "، فنحن نقول بقولٍ لم يشهد في تلك بأنهما منه ولا ليستا منه بما لم يكن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بهما، فعلى ذلك أمر عبد اللّه بن مسعود، رضي اللّه عنه. ويؤيد ذلك أيضا أمر استعاذة القرآن أنها مقدمة على القراءة، وحق هاتين السورتين لو كانتا منه بيقين أن تكونا في افتتاح المصحف كالاستعاذة للقرآن، فهذا أيضًا بعض الذي يمنع العلم بحقيقة ذلك عنه، وقد بينا جواز وجه الإشكال مع ما كان الإنزال لحاجة العباد، وعلى ذلك جرى العمل بهما من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغيره، فهو أمر لا يضر الجهل بالوجه الذي ذكرت. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: لو علمت أن أحدًا أعلم بالقرآن مني وحملتني مطيتي لأتيته. وقد روي عمن ذكر عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يعرض على جبريل - عليه السلام - كل عام مرة إلا في العام الذي قبض عرض عليه مرتين، وقد شهدهما جميعًا عبد اللّه، فعلَّه لم يعرض ما شاء اللّه، وإذا كان كذلك لم يكن هو ممن يسأل في هذا الباب غيره ليثبت عنده السماع بأنهما أثبتتا في المصحف؛ فبقي قوله بحيث لا نعرف حقيقته، ووجه آخر أن يكون رآهما منه لكن لم يكتب؛ لوجهين: أحدهما: لما لم يكن موضع الكتاب والتدبير، على ما ذكرنا أن يكون في أول المصاحف، فكره أن يكتب بتدبيره، ويتخير له موضعًا للكتابة؛ فلم يكتب كذلك. والثاني: أنه يكتب ليحفظ ولا ينسى، وقد أمن عليهما النسيان؛ لأنهما بحيث يجب تلاوتهما في أوائل النهار ومبادئ الليل، وعند النوازل ينفع التعوذ بهما من كل شر وكيد، على نحو الاستعاذة وأنواع الدعوات المدعوة، فلما أمن خفاءهما لم يكتب، وعلى ذلك ترك كتابة فاتحة الكتاب، واللّه أعلم بالصواب. * * * |
﴿ ٠ ﴾