٣٠

قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً } ، في قوله : { وَإِذْ } وجهان :

أحدهما : أنه صلة زائدة ، وتقدير الكلام : وقال ربك للملائكة ، وهذا قول أبي عبيدة ، واستشهد بقول الأسود بن يعفر :

فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ

وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ

والوجه الثاني : أن { إذ } كلمة مقصورة ، وليست بصلة زائدة ، وفيها لأهل التأويل قولان :

أحدهما : أن اللّه تعالى لما ذكَّر خلقه نِعَمَهُ عليهم بما خلقه لهم في الأرض ، ذكّرهم نِعَمَهُ على أبيهم آدَمَ { إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } ، وهذا قول المفضَّل .

والثاني : أن اللّه تعالى ذكر ابتداء الخلق فكأنه قال : وابتدأ خلقكم { إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } ، وهذا من المحذوف الذي دَلَّ عليه الكلام ، كما قال النمر بن تَوْلَبَ { ١٢٧ }:

فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا

فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا

يريد : أينما ذهب .

فأما الملائكة فجمع مَلَكٍ ، وهو مأخوذ من الرسالة ، يقال : ألِكِني إليها أي أرسلني إليها ، قال الهذلي :

ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ

والألوك الرِّسالة ، قال لبيد بن ربيعة :

وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ

بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ

وإنما سميت الرسالة ألوكاً لأنها تُؤْلك في الفم ، والفرس يألك اللجام ويعلكه ، بمعنى يمضغ الحديد بفمه .

والملائكة أفضل الحيوان وأعقل الخلق ، إلا أنهم لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ، ولا يتناسلون ، وهم رسل اللّه ، لا يعصونه في صغير ولا كبير ، ولهم أجسام لطيفة لا يُرَوْنَ إلا إذا قوَّى اللّه أبصارنا على رؤيتهم .

وقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً } اختلف في معنى { جاعل } على وجهين :

أحدهما : أنه بمعنى خالق .

والثاني : بمعنى جاعل ، لأن حقيقة الجَعْل فِعْلُ الشيء على صفةٍ ، وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم .

و { الأرض } قيل : إنها مكة ، وروى ابن سابط ، أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { دُحِيَت الأرضُ من مكةَ } ولذلك سميت أم القرى ، قال : وقبر نوح ، وهود ،

وصالح ، وشعيب بن زمزم ، والركن ، والمقام .

وأما { الخليفة } فهو القائم مقام غيره ، من قولهم : خَلَفَ فلانٌ فلاناً ، والخَلَفُ بتحريك اللام من الصالحين ، والخَلْفُ بتسكينها من الطالحين ، وفي التنزيل : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ } " [ مريم : ٥٩ ] ، وفي الحديث : { ينقل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ }. وفي خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنه كان في الأرض الجِنُّ ، فأفسدوا فيها ، سفكوا الدماء ، فأُهْلِكوا ، فَجُعِل آدم وذريته بدلهم ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أنه أراد قوماً يَخْلُفُ بعضهم بعضاً من ولد آدم ، الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض ، وهذا قول الحسن البصري .

والثالث : أنه أراد : جاعل في الأرض خليفةً يخْلُفُني في الحكم بين خلقي ، وهو آدم ، ومن قام مقامه من ولده ، وهذا قول ابن مسعود .

قوله عز وجل : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ، وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم ، أنه جاعل في الأرض خليفةً ، واختلفوا في

جوابهم هذا ، هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب ؟ على وجهين :

أحدهما : أنهم قالوه استفهماً واستخباراً حين قال لهم : إني جاعلٌ في الأرض خليفة ، فقالوا : يا ربنا أَعْلِمْنَا ، أجاعل أنت في الأرض من يُفْسِدُ فيها ويسفك الدماء ؟ فأجابهم : إني أعلم ما لا تعلمون ، ولم يخبرهم .

والثاني : أنه إيجاب ، وإن خرجت الألف مَخْرج الاستفهام ، كما قال جرير :

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا

وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ

وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان :

أحدهما : أنهم قالوه ظناً وتوهُّماً ، لأنهم رأوا الجن من قبلهم ، قد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فتصوروا أنه إن استخلف استخلف في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء .

وفي جوابهم بهذا وجهان :

أحدهما : أنهم قالوه استعظاماً لفعلهم ، أي كيف يفسدون فيها ، ويسفكون الدماء ، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال : إني أعلم ما لا تعلمون .

والثاني : أنهم قالوه تعجباً من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء فقال : { إني أعلم ما لا تعلمون } .

وقوله : { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } السفك صب الدم خاصةً دون غَيْرِهِ من الماء والمائع ، والسفح مثله ، إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع ، ولذلك قالوا في الزنى : إنه سفاح لتضييع مائه فيه .

قوله عز وجل : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .

والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على جهة التعظيم ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ

سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاجِرِ

أي براءةً من علقمة .

ولا يجوز أن يسبَّحَ عَيْرُ اللّه ، وإن كان منزهاً ، لأنه صار علَماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم الَّتي لا يستحقها إلا اللّه تعالى .

وفي المراد بقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أربعة أقاويل :

أحدها : معناه نصلي لك ، وفي التنزيل : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } " [ الصافات : ١٤٣ ] ، أي من المصلين ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود .

والثاني : معناه نعظِّمك ، وهذا قول مجاهد .

والثالث : أنه التسبيح المعروف ، وهذا قول المفضل ، واستشهد بقول جرير :

قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا

سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ

وأما قوله : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } فأصل التقديس التطهير ، ومنه

قوله تعالى : { الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } أي المطهَّرة ، وقال الشاعر :

فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا

كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ

أي المطهَّر .

وفي المراد بقولهم : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } ثلاثةُ أقاويلَ :

أحدها : أنه الصلاة .

والثاني : تطهيره من الأدناس .

والثالث : التقديس المعروف .

وفي قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ } ثلاثةُ أقاويل :

أحدها : أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أُمِرُوا به من السجود لآدم ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود .

والثاني : مَنْ في ذرية آدم في الأنبياء والرُّسُلِ الذين يُصْلِحُونَ في الأرض ولا يفسدون ، وهذا قول قتادة .

والثالث : ما اختص بعلمه من تدبير المصالح .

﴿ ٣٠