١٤٣

والثالث : أن معنى قوله : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } أي لتكونوا مُحْتَجِّينَ على الأمم كلها ، فعبر عن الاحتجاج بالشهادة ، وهذا قول حكاه الزجاج .

{ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } فيه ثلاثة تأويلات :

أحدها : يكون الرسول شهيداً على أمته أنْ قد بلّغ إليهم رسالة ربه .

والثاني : أنّ معنى ذلك أنْ يكون شهيداً لهم بإيمانهم ، وتكون { عليهم } بمعنى { لهم } .

والثالث : أن معنى قوله : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيداً } أي مُحْتَجّاً .

{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا } أي بيت المقدس ، { إلاّ لِنَعَلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } فإن قيل : اللّه أعلم بالأشياء قبل كونها ، فكيف جعل تحويل القِبْلة طريقاً إلى علمه ؟ قيل : في قوله : { إلاَّ لِنَعْلَمَ } أربعة تأويلات :

أحدها : يعني إلا ليعلم رسولي ، وحزبي ، وأوليائي ؛ لأن من شأن العرب إضافة ما فعله أتْباعُ الرئيس إليه ، كما قالوا : فتح عمرُ بنُ الخطاب سوادَ العراق وجبي خَرَاجَهَا .

والثاني : أن

قوله تعالى : { إلاَّ لِنَعْلَمَ } بمعنى : إلا لنرى ، والعرب قد تضع العلمَ مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كما قال تعالى { ألَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الْفِيلِ } " [ الفيل : ١ ] يعني : ألم تعلم .

والثالث :

قوله تعالى : { إلاَّ لِنَعْلَمَ } بمعنى إلا لتعلموا أننا نعلم ، فإنّ المنافقين كانوا في شك من علم اللّه بالأشياء قبل كونها .

والرابع : أن قوله : { إلاَّ لِنَعْلَمَ } بمعنى إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك ، وهذا قول ابن عباس .

قوله تعالى : { مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ } بمعنى فيما أمر به من استقبال الكعبة { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } بمعنى : ممن يَرْتَدُّ عن دينه ، لأن المرتد راجع مُنْقَلِب عما كان عليه ، فشبهه بالمُنْقلِب على عقبه ، لأن القبلة لمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ من المسلمين قَوْمٌ ، ونافق قوم ، وقالت اليهود : إن محمداً قد اشتاق إلى بلد أبيه ، وقالت قريش : إن محمداً قد علم أننا على هدى وسَيُتَابِعُنَا .

ثم قال تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه } فيه ثلاثة تأويلات :

أحدها : معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرةٌ ، وهذا هو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

والثاني : إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل ، وهذا قول أبي العالية الرياحي .

والثالث : أن الكبيرة هي الصلاة ، التي كانوا صَلَّوْهَا إلى القبلة الأولى ، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد .

ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إيمَانَكُم } يعني صلاتكم إلى بيت المقدس ، فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل ، وسبب ذلك أن المسلمين لما حُوِّلُوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة ، قالوا لرسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : كيف من مات من إخواننا ؟ فأنزل اللّه عز وجل : { وَمَا كَانَ اللّه لِيُضيعَ إيمَانَكُم } .

فإن قيل : هم سألوه عن صلاةِ غيرهم ، فأجابهم بحال صلاتهم ؟ قيل : لأن القوم أشفقوا ، أن تكون صلاتهم إلى بيت المقدس مُحْبَطةً لمنْ مات ومن بقي ، فأجابهم بما دَلَّ على الأمرين ، على أنه قد روى قوم أنهم قالوا : كيف تضيع صلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل اللّه تعالى ذلك . { إنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } الرأفة : أشد من الرحمة ، وقال أبو عمر عمرو بن العلاء : الرأفة أكثر من الرحمة .

﴿ ١٤٣