١٨٧

قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَآئِكُمْ } كان ابن مسعود يقرأ الرفث والرفوث جميعاً ، وهو الجماع في قوله ، وأصله فاحش القول ، كما قال العجاج :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عن اللغا ورفث الكلام

فيكنى به عن الجماع ، لأنه إذا ذُكِرَ في غير موضعه كان فحشاً .

وفي قوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ثلاث تأويلات :

أحدها : بمنزلة اللباس ، لإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ، يستتر به كالثوب الملبوس ، كما قال النابغة الجعدي :

إذا ما الضجيج ثنى عطفها

تثنت عليه فصارت لباساً

والثاني : أنهم لباس يعني السكن لقوله تعالى { وجعلنا الليل لباساً } " [ النبأ : ١٠ ] أي سكناً ، وهذا قول مجاهد وقتادة والسدي .

قوله تعالى : { عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ } سبب هذه الخيانة التي كان القوم يختانون أنفسهم ، شيئان :

أحدهما : إتيان النساء .

الثاني : الأكل والشرب ، وذلك أن اللّه تعالى أباح في أول الإسلام الأكل والشرب والجماع في ليل الصيام قبل نوم الإنسان ، وحرّمه عليه بعد نومه ، حتى جاء عمر بن الخطاب ذات ليلة من شهر رمضان ، يريد امرأته ، فقالت له : إني قد نمتُ ، وظن أنها تعتل عليه ، فوقع بها ، وجاء أبو قيس ابن صرمة ، وكان يعمل في أرض له ، فأراد الأكل ، فقالت له امرأته : نسخّر لك شيئاً ، فغلبته عيناه ، ثم أحضرت إليه الطعام ، فلم يأكل منه فلما أصبح لاقى جهداً . وأخبر عمر وأبو قيس رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بما كان منهما ، فأنزل اللّه تعالى : { عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ } . { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ } فيه تأويلان :

أحدهما : العفو عن ذنوبهم .

والثاني : العفو عن تحريم ذلك بعد النوم .

ثم قال تعالى : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } يريد به الجماع ، لأن أصل المباشرة من إلصاق البشرة بالبشرة ، وكان ذلك منه بياناً لما كان في جماع عمر .

وفي قوله تعالى : { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ } ثلاثة أقوال :

أحدها : طلب الولد ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، والسدي .

والثاني : ليلة القدْر ، وهو قول ابن عباس ، وكان يقرأ { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ } .

والثالث : ما أحل اللّه تعالى لكم ورخص فيه ، وهذا قول قتادة .

ثم قال تعالى فيما كان من شأن أبي قيس بن صرمة : { وَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } اختلف في المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود ، على ثلاثة أقاويل :

أحدها : ما رواه سهل بن سعد قال : لما نزلت { فَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل اللّه تعالى بعدُ { مِنَ الْفَجْرْ } ، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار . والقول الثاني : أنه يريد بالخيط الأبيض ضوء النهار ، وهو الفجر الثاني ، وبالخيط الأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني . وروى الشعبي عن عدي بن حاتم : أنه عند إلى خيطين أبيض وأسود ، وجعلهما تحت وسادته ، فكان يراعيهما في صومه ، ثم أخبر رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال : { إنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِةِ ، إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيلِ }. وسُمِّيَ خيطاً ، لأن أول ما يبدو من البياض ممتد كالخيط ، قال الشاعر :

الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق

والخيط الأسْودُ لون الليل مكتومُ

والخيط في كلامهم عبارة عن اللون .

والثالث : ما حكي عن حذيفة بن اليمان أن الخيط الأبيض ضوء الشمس ، ورويَ نحوُهُ عن عليّ وابن مسعود . وقد روى زَرٌ بن حبيش عن حذيفة قال : كان النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) يتسحر وأنا أرى مواقع النبل ، قال : قلت بعد الصبح ؟ قال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس ، وهذا قول قد انعقد الإجماع على خلافه ، وقد روى سوادة بن حنظلة عن سَمُرة بن جندب قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { لاَ يَمْنَعَنَّكُم مِنْ سُحُورِكُم أذانُ بِلالٍ وَلاَ الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ وَلَكِن الفَجْرُ المُسْتَطِيرُ فِي الأُفُقِ } . وروى الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان

قال : قال النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { الفَجْرُ فَجْرَانِ ، فَالَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السرحانِ لاَ يُحرِّمُ شَيْئاً ، وَأَمَّا الْمُسْتَطِيرُ الّذِي يَأْخُذُ الأُفُقَ فَإِنَّهُ يُحِلُّ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ }. فأما الفجر ، فإنه مصدر من قولهم فَجَرَ الماءُ يَفْجُرُ فَجْراً ، إذا جرى وانبعث ، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : { فجر } لانبعاث ضوئه ، فيكون زمان الصوم المجمع على تحريم الطعام والشراب فيه وإباحته فيما سواه : ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس .

روى عطاء عن أبي هريرة عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { أَعْظَمُ الصَّائِمينَ أَجْراً أَقْرَبُهُم منَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ إِفْطَاراً }. { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ } يعني به غروب الشمس .

وفي قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } تأويلان :

أحدهما : عني بالمباشرة الجماع ، وهو قول الأكثرين .

والثاني : ما دون الجماع من اللمس والقبلة ، قاله ابن زيد ومالك .

{ تِلْكَ حُدُودُ اللّه } أي ما حرم ، وفي تسميتها حدود اللّه وجهان :

أحدهما : لأن اللّه تعالى حدها بالذكر والبيان .

والثاني : لما أوجبه في أكثر المحرمات من الحدود .

وقوله تعالى : { كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه ءَيَاتِهِ لِلنَّاسِ } فيه وجهان :

أحدهما : يعني بآياته علامات متعبداته .

والثاني : أنه يريد بالآيات هنا الفرائض والأحكام .

﴿ ١٨٧