٢٦٠

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى } اختلفوا لِمَ سأله عن ذلك ؟ على قولين :

أحدهما : أنه رأى جيفة تمزقها السباع فقال ذلك ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك .

والثاني : لمنازعة النمرود له في الإحياء ، قاله ابن إسحاق . ولأي الأمرين كان ، فإنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد علم الاستدلال .

ولذلك قال اللّه تعالى له : { أَوَلَمْ تُؤْمِن ؟ قَالَ : بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : يعني ليزداد يقيناً إلى يقينه ، هكذا قال الحسن ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، والربيع ، ولا يجوز ليطمئن قلبي بالعلم بعد الشك ، لأن الشك في ذلك كفر لا يجوز على نبي .

والثاني : أراد ليطمئن قلبي أنك أجبت مسألتي ، واتخذتني خليلاً كما وعدتني ، وهذا قول ابن السائب .

والثالث : أنه لم يرد رؤية القلب ، وإنما أراد رؤية العين ، قاله الأخفش .

ونفر بعض من قال بغوامض المعاني من هذا الالتزام وقال : إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب بالإيمان ، وهذا التأويل فاسد بما يعقبه من البيان .

وليست الألف في قوله : { أَوَ لَمْ تُؤْمِن } ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب كقول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

{ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ } فيها قولان :

أحدهما : هن : الديك ، والطاووس ، والغراب ، والحمام ، قاله مجاهد .

والثاني : أربعة من الشقانين ، قاله ابن عباس .

{ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قرأت الجماعة بضم الصاد ، وقرأ حمزة وحده بكسرها ، واختلف في الضم والكسر على قولين :

أحدهما : أن معناه متفق ولفظهما مختلف ، فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أقاويل :

أحدها : معناه انْتُفْهُنَّ بريشهن ولحومهن ، قاله مجاهد .

والثاني : قَطِّعْهُن ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن . قال الضحاك : هي بالنبطية صرتا ، وهي التشقق .

والثالث : اضْمُمْهُن إليك ، قاله عطاء ، وابن زيد .

والرابع : أَمِلْهُن إليك ، والصور : الميل ، ومنه قول الشاعر في وصف إبل :

تظَلُّ مُعقّلات السوق خرساً

تصور أنوفها ريح الجنوب

والقول الثاني : أن معنى الضم والكسر مختلف ، وفي اختلافهما قولان :

أحدهما : قاله أبو عبيدة أن معناه بالضم : اجْمَعْهن ، وبالكسر : قَطِّعْهُنّ .

والثاني : قاله الكسائي ومعناه بالضم أَمِلْهُنّ ، وبالكسر : أقْبِلْ بهن .

{ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً } فيه أربعة أقاويل :

أحدها : أنها كانت أربعة جبال ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .

والثاني : أنها كانت سبعة ، قاله ابن جريج ، والسدي .

والثالث : كل جبل ، قاله مجاهد .

والرابع : أنه أراد جهات الدنيا الأربع ، وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب ، فمثّلها بالجبال ، قاله ابن بحر .

واختلفوا هل قطّع إبراهيم الطير أعضاء صرن به أمواتاً ، أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : أنه قطَّعَهُن أعضاء صرن به أمواتاً ، ثم دعاهن فعدْن أحياء ليرى كيف يحيي اللّه الموتى كما سأل ربه ، وهو قول الأكثرين . والثاني : أنه فَرَّقَهُن أحياء ، ثم دعاهن فأجبنه وعدن إليه ، يستدل بعودهن إليه بالدعاء ، على عَوْد الأموات بدعاء اللّه أحياءً ، ولا يصح من إبراهيم أن يدعو أمواتاً له ، قاله ابن بحر .

والجزء من كل شيء هو بعضه سواءً كان منقسماً على صحة أو غير منقسم ، والسهم هو المنقسم عليه جميعه على صحة .

فإنْ قيل : فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله : { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } " [ الأعراف : ١٤٣ ] فعنه جوابان :

أحدهما : أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاص يصح .

والثاني : أن الأحوال تختلف ، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة ، وفي بعض وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن .

قال ابن عباس : أمر اللّه إبراهيم بهذا قبل أن يولد له ، وقبل أن يُنَزِّلَ عليه الصُّحُف .

وحُكِيَ : أن إبراهيم ذبح الأربعة من الطير ، ودق أجسامهن في الهاون لا روحهن ، وجعل المختلط من لحومهن عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثم جعل مناقيرها بين أصابعه ، ثم دعاهن فأتين سعياً ، تطاير اللحم إلى اللحم ، والجلد إلى الجلد ، والريش إلى الريش ، فذهب بعض من يتفقه من المفسرين إلى من وصّى بجزء من ماله لرجل أنها وصية بالعُشْر ، لأن إبراهيم وضع أجزاء الطير على عشرة جبال .

﴿ ٢٦٠