سورة النساء١قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُم الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم ، وفي ذلك نعمة عليكم لأنه أقرب إلى التعاطف بينكم . { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني حواء ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن خلقت من ضلع آدم ، وقيل الأيسر ، ولذلك قيل للمرأة : ضلع أعوج . { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثيراً وَنِسَاءً } روي عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال عند نزولها عليه : { خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهَمَّهَا فِي الرَّجُلُ مِنَ التَّرابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرابِ }. { وَاتَّقُواْ اللّه الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ } ومعنى قوله تساءلون به ، هو قولهم أسألك باللّه وبالرحم ، وهذا قول مجاهد وإبراهيم ، وقرأ حمزة والأرحام بالكسر على هذا المعنى . وفي الأرحام قولٌ آخر : أنه أراد صِلُوها ولا تقطعوها ، وهو قول قتادة ، والسدي ، لأن اللّه تعالى قصد بأول السورة حين أخبرهم أنهم من نفس واحدة أن يتواصلواْ ويعلمواْ أنهم إخوة وإن بعدواْ . { إِنَّ اللّه كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيباً } فيه تأويلان : أحدهما : حفيظاً ، وهو قول مجاهد . والثاني : عليماً ، وهو قول ابن زيد . ٢وآتوا اليتامى أموالهم . . . . . قوله تعالى : { وَءَاتُواْ اليَتَامَى أَمْوَالَهُم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } فيه أربعة تأويلات : أحدها : الحرام بالحلال ، وهو قول مجاهد . والثاني : هو أن يجعل الزائف بدل الجيد ، والمهزول بدل السمين ويقول درهم بدرهم ، وشاة بشاة ، وهو ابن المسيب والزهري والضحاك والسدي . والثالث : هو استعجال أكل الحرام قبل إتيان الحلال ، وهو معنى قول مجاهد . والرابع : أن أهل الجاهلية كانواْ لا يورثون الصغار والنساء ويأخذه الرجل الأكبر ، فكان يستبدل الخبيث بالطيب لأن نصيبه من الميراث طيب ، وأخذه الكل خبيث ، وهو قول ابن زيد . { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي مع أموالكم ، وهو أن يخلطوها بأموالهم لتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها . { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } والحُوب : الإثم ، ومنه قولهم تحوّب فلانٌ من كذا ، إذا توقى ، قال الشاعر : فإن مهاجرين تكنفاهُ غداة إذٍ لقد خطئنا وحَابَا قال الحسن البصري : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل ماله عن ماله فشكواْ ذلك إلى النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، فأنزل اللّه تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُم فَإِخْوَانُكُم } " [ البقرة : ٢٢٠ ] أي فخالطوهم واتقوا إثمه . ٣{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَآءِ } فيه أربع تأويلات : أحدها : يعني إن خفتم ألا تعدلواْ في نكاح اليتامى ، فانكحوا ما حَلَّ لكم من غيرهن من النساء ، وهو قول عائشة رضي اللّه عنها . والثاني : أنهم كانواْ يخافون ألاّ يعدلوا في أموال اليتامى ، ولا يخافون أن لا يعدلواْ في النساء ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، يريد كما خفتم ألاّ تعدلواْ في أموال اليتامى ، فهكذا خافوا ألا تعدلوا في النساء ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والسدي ، وقتادة . والثالث : أنهم كانوا يتوقَّون أموال اليتامى ولا يتوقَّون الزنى ، فقال كما خفتم في أموال اليتامى ، فخافواْ الزنى ، وانحكوا ما طاب لكم من النساء ، وهذا قول مجاهد . والرابع : إن سبب نزولها ، أن قريشاً في الجاهلية كانت تكثر التزويج بغير عدد محصور ، فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته ، وقَلَّ مالُه ، مدّ يده إلى ما عنده من أموال الأيتام ، فأنزل اللّه تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ } . وفي قوله تعالى : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ } قولان : أحدهما : أن ذلك عائد إلى النساء وتقديره فانحكوا من النساء ما حلَّ . وهذا قول الفراء . والثاني : أن ذلك عائد إلى النكاح وتقديره فانحكوا النساء نكاحاً طيباً . وهذا قول مجاهد . { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } تقديراً لعددهن وحصراً لمن أبيح نكاحه منهن وهذا قول عكرمة . { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معدول به عن اثنين وثلاث وأربع ، وكذلك أُحاد وموحد ، وثناء ومثنى ، وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، وهو اسم للعدد معرفة ، وقد جاء الشعر بمثل ذلك ، قال تميم بن أبي مقبل : ترى العثرات الزُّرْق تحت لَبَانِه أُحاد ومثْنى أضعفتها كواهِله وقال آخر : قتلنا به من بين مَثْنى وموحد بأربعة منكم وآخر خامس قال أبو عبيدة : ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز الرباع والمربع عن جهته إلا في بيت للكميت ، فإنه قال في العشرة عُشار وهو قوله : فلم يَسْتَرِيَثُوكَ حتى رَمِدْ ت فوق الرجال خِصالاً عشاراً وقال أبو حاتم : بل قد جاء في كلامهم من الواحد إلى العشرة ، وأنشد قول الشاعر : ضربت خماس ضربة عبشمي أدار سداس ألاَّ يستقيما { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا } يعني في الأربع ، { فَوَاحِدَةً } يعني من النساء . { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني في الإماء . { ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أَلاَّ يكثر مَنْ تعولون ، وهو قول الشافعي . والثاني : معناه ألاّ تضلواْ ، وهو قول ابن إسحاق ، ورواه عن مجاهد . والثالث : ألا تميلوا عن الحق وتجوروا وهو قول ابن عباس ، وقتادة ، وعكرمة . وأصل العول الخروج عن الحد ومنه عول الفرائض لخروجها عن حد السهام المسمّاة ، وأنشد عكرمة بيتاً لأبي طالب : بميزان قسط لا يَخيسُ شعيرةً ووازن صِدْقٍ وزنهُ غير عائل أي غير مائل . وكتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان قسطٍ لا أعول . ٤قوله تعالى : { وءَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ . . . } اختلف فِيمَنْ توجَّه إليه هذا الخطاب على قولين : أحدهما : أنه متوجه إلى الأزواج ، وهو قول الأكثرين . والثاني : أنه متوجه إلى الأولياء ، لأنهم كانواْ يتملكون في الجاهلية صداق المرأة ، فأمر اللّه بدفع صدقاتهن إليهن ، وهو قول أبي صالح . وأما النَّحلة فهي العطية من غير بدل ، وسمي الدين نِحْلَةَ ، لنه عطية من اللّه ، وفي تسميه النّحْل بذلك قولان : أحدهما : أنه سمي نحلاً لما يعطي من العسل . والثاني : لأن اللّه تعالى نَحَلهُ عباده . وفي المراد بالنَّحلة في الصداق أربعة تأويلات : أحدها : يعني فريضة مُسَمَّاة ، وهو قول قتادة ، وابن جريج . والثاني : أنه نحلة من اللّه عز وجل لهن بعد أن كان ملكاً للأولياء ، وهو قول أبي صالحٍ . والثالث : انه نهى لِما كانوا عليه من خِطْبة الشغار ، والنكاح بغير صداق ، وهو قول سليمان بن جعفر بن أبي المعتمر . والرابع : انه أراد أن يطيبوا نفساً بدفعه ، كما يطيبون نفساً بالنحل والهبة ، وهو قول بعض المتأخرين . { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً } يعني الزوجات إن طبن نفساً عن شيء من صداقهن لأزواجهن في قول من جعله خطاباً للأزواج ، ولأوليائهن في قول من جعله خطاباً للأولياء . { فَكُلُوهُ هُنِيئاً مَّرِيئاً } الهنيء ما أعقب نفعاً وشفاء ، ومنه هنأ البعير للشفاء ، قال الشاعر : متبدلاً تَبْدُو مَحاسنه يَضَعُ الهناءَ مَواضِعَ النُّقبِ ٥قوله عز وجل { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } اختلفوا في المراد بالسفهاء في هذا الموضع على أربعة أقاويل : أحدها : أنهم الصبيان ، وهو قول سعيد بن جبير ، والحسن . والثاني : أنهم النساء ، وهو قول ابن عمر . والثالث : أنه عنى الأولاد المسرفين أن يقسم ماله فيهم فيصير عيالاً عليهم ، وهو قول ابن عباس ، وابن زيد وأبي مالك . والرابع : أنه أراد كل سفيه استحق في المال حَجْراً ، وهو معنى ما رواه الشعبي عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أنه قال : ثلاثة يَدْعون فلا يستجيب اللّه لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى مالاً سفيهاً وقد قال اللّه تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } ، ورجل له على رجل دين لم يُشْهِد عليه . وأصل السفيه خفة الحِلْم فلذلك وصف به الناقص العقل . ووصف به المفسد لماله لنقصان تدبيره ، ووصف به الفاسق لنقصانه عند أهل الدين ، والعلم . { أَمْوَالَكُمُ } فيه تأويلان : أحدهما : يعني أموال الأولياء ، وهو قول ابن عباس . والثاني : أنه عنى به أموال السفهاء ، وهو قول سعيد بن جبير . { الَّتِي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِيَاماً } قرأ نافع وابن عُمر { قِيَماً } ومعناهما واحد ، يريد أنها قُوامُ معايشكم سفائكم . { وَارْزُقُوهُمْ فيها وأكسوهم } فيه قولان : أحدهما : أي أنفقوا أيها الأولياء على السفهاء من أموالهم . { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } فيه تأويلان : أحدهما : أنه الوعد بالجميل ، وهو قول مجاهد . والثاني : الدعاء له كقوله بارك اللّه فيك ، وهو قول ابن زيد . ٦{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } أي اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم . { حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } يعني الحُلُم في قول الجميع . { فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً } فيه أربع تأويلات : أحدها : أن الرشد العقل ، وهو قول مجاهد ، والشعبي . والثاني : أنه العقل والصلاح في الدين ، وهو قول السدي . والثالث : أنه صلاح في الدين وإصلاح في المال ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، والشافعي . والرابع : أنه الصلاح والعلم بما يصلحه ، وهو قول ابن جريج . { فَادْفَعُواْ إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ } يعني التي تحت أيديكم أيها الأولياء عليهم . { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا } يعني لا تأخذوها إسرافاً على غير ما أباح اللّه لكم ، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما ليس بمباح ، فربما كان في الإفراط ، وربما كان في التقصير ، غير أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافاً ، وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف . قوله تعالى : { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } قال ابن عباس : وهو أن تأكل مال اليتيم تبادر أن يكبر ، فيحول بينك وبين ماله . { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } يعني بماله عن مال اليتيم . { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فيه أربعة أقاويل : أحدها : أنه القرض يستقرض إذا احتاج ثم يرده إذا وجد ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، وجمهور التابعين . والثاني : أنه يأكل ما يسد الجوعة ، ويلبس ما يواري العورة ، ولا قضاء ، وهو قول الحسن ، وإبراهيم ، ومكحول ، وقتادة . روى شعبة عن قتادة أن عم ثابت بن رفاعة _ وثابت يومئذ يتيم في حجره ، أتى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال : يا نبي اللّه إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ قال : { أَنْ تَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيرِ أن تقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ وَلاَ تَتَّخِذْ مِنْ مَالِهِ وَقْراً }. والثالث : أن يأكل من ثمره ، ويشرب من رِسْلِ ماشيته من غير تعرض لِمَا سوى ذلك من فضة أو ذهب ، وهو قول أبي العالية ، والشعبي . روى القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاماً ، وإن لهم إبلاً ، فماذا يحل لي منها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباءَها ، وتلوط حوضها ، وتفرط عليها يوم وِرْدِهَا ، فاشرب من ألبانها غير مُضِرِّ بنسل ، ولا بأهل في الحلب . والرابع : أن يأخذ إذا كان محتاجاً أجرةً معلومة على قدر خدمته ، وهو قول عطاء . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال : ليس لي مال ولي يتيم ، فقال : { كُلْ مِنْ مَالِ يَتيمِكَ غَيرَ مُسْرِفٍ وَلاَ وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ }. { فَإِذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِم أَمْوَالَهُم فَأَشْهِدُواْ عَلَيهِم } ليكون بيِّنةَ في دفع أموالهم إليهم . { وَكَفَى بِاللّه حَسِيباً } فيه قولان : أحدهما : يعني شهيداً . والثاني : كافياً من الشهود . ٧قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَاِلدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } وسبب نزول هذه الآية ، في الجاهلية كانواْ يُوَرِّثُونَ الذكور دون الإناث ، فروى ابن جريج عن عكرمة قال : نزلت في لأم كُجَّة وبناتها وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار ، وكان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول اللّه توفي زوجي وتركني وبنيه ولم نُورَّث ، فقال عم ولدها : يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاُّ ، ولا ينكأ عدواً يكسب عليها ولا تكسب ، فنزلت هذه الآية . ٨{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمُ مِّنْهُ } فيها ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها ثابتة الحكم . قال سعيد بن جبير : هما وليان ، أحدهما يرث وهو الذي أمر أن يرزقهم أي يعطيهم ، والآخر لا يرث وهو الذي أُمر أن يقول لهم قولاً معروفاً ، وبإثبات حكمها قال ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، والحسن ، والزهري . ورُوْي عن عبيدة أنه وَليَ وصية فأمر بشاة فذبحت ، وصنع طعاماً لأجل هذه الآية وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي . والقول الثاني : أنها منسوخة بآية المواريث ، وهذا قول قتادة ، وسعيد بن المسيب ، وأبي مالك ، والفقهاء . والثالث : أن المراد بها وصية الميت التي وصَّى بها أن تفرق فِيْمَنْ ذُكِرَ وفِيمَنْ حَضَرَ ، وهو قول عائشة . فيكون ثبوت حكمها على غير الوجه الأول . واختلف مَنْ قال : بثبوت حكمها على الوجه الأول في الوارث إذا كان صغيراً هل يجب على وليَّه إخراجها من سهمه على قولين : أحدهما : يجب ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد ، ويقول الولي لهم قولاً معروفاً . والثاني : أنه حق واجب في أموال الصغار على الأولياء ، وهو قول عبيدة ، والحسن . { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب للورثة وأوليائهم أن يقولوا لمن حضر من أولي القربى ، واليتامى ، والمساكين قولاً معروفاً عند إعطائهم المال ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير . والثاني : خطاب للآخرين أن يقولوا للدافعين من الورثة قولاً معروفاً ، وهو الدعاء لهم بالرزق والغنى . ٩{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ اللّه وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } فيه أربعة أقاويل : أحدها : أن معناه وليحذر الذين يحضرون مَّيتاً يوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ماله وصية فيمن لا يرثه ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لولده ، كما لو كان هو الموصي لآثر أن يبقة ماله لولده ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي . والثاني : أن معناه وليحذر الذين يحضرون الميت وهو يوصي أن ينهوه عن الوصية لأقربائه ، وأن يأمره بإمساك ماله والتحفظ به لولده ، وهم لو كانوا من أقرباء الموصى لآثروا أن يوصي لهم ، وهو قول مقسم ، وسليمان بن المعتمر . والثالث : أن ذلك أمر من اللّه تعالى لِوُلاَةِ الأيتام ، أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم ، كما يحبون أن يكون ولاة أولادهم الصغار من بعدهم في الإحسان إليهم لو ماتوا وترمواْ أولادهم يتامى صغاراً ، وهو مروي عن ابن عباس . والرابع : أن من خشي على ذريته من بعده ، وأحب أن يكف اللّه عنهم الأذى بعد موته ، فليتقوا اللّه وليقولا قولاً سديداً ، وهو قول أبي بشر بن الديلمي . ١٠{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } عبر عن الأخذ بالأكل لأنه مقصود الأخذ . { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَاراً } فيه قولان : أحدهما : يعني انهم يصيرون به إلى النار . والثاني : أنه تمتلىء بها بطونهم عقاباً يوجب النار . { وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً } الصلاء لزوم النار ، والسعير إسعار النار ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } " [ التكوير : ١٢ ] . ١١يوصيكم اللّه في . . . . . قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } روى السدي قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ، لا يورثون الرجل من ولده إلاّ من أطاق القتال ، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كُجّة ، وترك خمس أخوات ، فجاءت الورثة فأخذوا ماله ، فشكت أم كجة ذلك للنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية . { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } ففرض للثلاث من البنات ، إذا انفردت عن ذَكَرٍ ، الثلثين ، وفَرْضُ الواحدة إذا انفردت النصف ، واختلف في الثنتين ، فقال ابن عباس النصف ، من أجل قوله تعالى : { فَوقَ اثْنَتَيْنِ } وذهب الجماعة إلى أن فرضهما الثلثان كالثلاث فصاعداً اعتباراً بالأخوات . ثم قال تعالى { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } قال ابن عباس : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ اللّه تعالى ذلك ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس . ثم قال : { مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } فسّوى بين كل واحد من الوالدين مع وجود الولد في أن لكل واحد منهما السدس ، ثم فاضل بينهما مع عدم الولد مع أن جعل للأم الثلث والباقي للأب ، وإنما كان هكذا لأن الأبوين مع الولد يرثان فرضاً بالولادة التي قد استويا فيها ، فسوّى بين فرضهما ، وإذا عَدِمَ الولد ورثت الأم فرضاً لعدم التعصب فيها ، وورث الأب بالتعصيب ، لأنه أقوى ميراثاً ، وجعل فرضها شطر ما حازه الأب بتعصيبه ، ليصير للذكر مثل حظ الأنثيين . { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } فلا خلاف أن الثلاثة من الأخوة يحجبونها من الثلث الذي هو أعلى فرضها إلى السدس الذي هو أقله ، ويكون الباقي بعد سدسها للأب . وحُكِيَ عن طاووس أنه يعود على الإِخوة دون الأب ليكون ما حجبوها عنه عائداً عليهم لا على غيرهم . وهذا خطأ من وجهين : أحدهما : أن الأب يُسقِط من أدلى به كالجد . والثاني : أن العصبة لا يتقدر لهم في الميراث فرض كالأبناء . فأما حجب الأم بالأخوين ، فقد منع منه ابن عباس تمسكاً بظاهر الجمع في قوله تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } وخالفه سائر الصحابة مُحَجِّبُوا الأم بالأخوين فصاعداً ، وإن لم تحجب بالأخ الواحد لأن لفظ الجمع لا يمنع أن يوضع موضع التثنية نحو قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } " [ التحريم : ٤ ] مع أن الاثنتين تقومان في الفرائض مقام الجمع الكامل ، كالأخوات ، وولد الأم . { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَينٍ } فقدم الدين والوصية على الميراث ، لأن الدين حق على الميت ، والوصية حق له ، وهما مقدمان على حق ورثته ، ثم قدم الدين على الوصية وإن كان في التلاوة مؤخراً ، لأن ما على الميت من حق أولى أن يكون مقدماً على ما له من حق . وقد روى ابن إسحاق عن الحارث الأعور عن علي عليه السلام قال : إنكم تقرؤون هذه الآية { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَينٍ } وإن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قضى بالدين قبل الوصية فإن قيل : فَلِمَ قدم ذكر الوصية على الدين إن كان في الحكم مؤخراً ؟ قيل لأن { أَوْ } لا توجب الترتيب وإنما توجب إثبات أحد الشيئين مفرداً أو مصحوباً ، فصار كأنه قال : من بعد أحدهما أو من بعدهما . { ءَابآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } يعني في الدين أو الدنيا . ١٢ولكم نصف ما . . . . . قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } اختلفوا في الكلالة على ثلاثة أقاويل : أحدها : أنهم من عدا الولد ، وهو مروي عن ابن عباس ، رواه طاووس عنه . والثاني : أنهم من عدا الوالد ، وهو قول الحكم بن عيينة . والثالث : أنهم من عدا الولد والوالد ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، والمشهور عن ابن عباس . وقد روى الشعبي قال : قال أبو بكر : قد رأيت في الكلالة رأياً ، فإن كان صواباً فمن اللّه وحده لا شريك له ، وإن يك خطأ فمنِّي واللّه منه بريء ، إن الكلالة ما خلا الوالد والولد . فلما اسْتُخْلِفَ عمر قال : إني لأستحي من اللّه أن أخالف أبا بكر في رأي رآه . ثم اختلفواْ في المُسَمَّى كلالة على ثلاثة أقاويل : أحدها : أن الكلالة الميت ، وهو قول ابن عباس ، والسدّي . والثاني : أنه الحي الوارث ، وهو قول ابن عمر . والثالث : أنه الميت والحي ، وهو قول ابن زيد . وأصل الكلالة الإِحاطة ، ومنه الإكليل سمي بذلك لإِحاطته بالرأس فكذلك الكلالة لإِحاطتها بأصل النسب الذي هو الوالد والولد . ١٣تلك حدود اللّه . . . . . قوله تعالى : { تَلْكَ حُدُودُ اللّه } فيها خمسة أقاويل : أحدها : شروط اللّه ، وهو قول السدي . والثاني : طاعة اللّه ، وهو قول ابن عباس . والثالث : سُنّة اللّه وأمرُه . والرابع : فرائض اللّه التي حدها لعباده . والخامس : تفصيلات اللّه لفرائضه . ١٤وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤) ١٥قوله تعالى : { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ } يعني بالفاحشة : الزنى . { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ } يعني بيِّنة يجب بها عليهن الحد . { فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ } اختلفوا في إمساكهن في البيوت هل هو حد أو مُوعد بالحد على قولين : { أَوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلاً } يعني بالسبيل الحد ، وروي عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّب جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ }. واختلفوا في نسخ الجَلْدِ من حد الثيِّب على قولين : أحدهما : أنه منسوخ ، وهو قول الجمهور من التابعين والفقهاء . والثاني : أنه ثابت الحكم ، وبه قال قتادة ، وداود بن علي ، وهذه الآية عامة في البكر والثيب ، واخْتُلِفَ في نسخها على حسب اختلافهم فيها هل هو حد أو موعد بالحد ، فمن قال : هي حد ، جعلها منسوخة بآية النور ، ومن قال : هي مُوعد بالحد ، جعلها ثابتة . ١٦قوله عز وجل : { وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا منكُم فَئَاذُوهُمَا } فيها قولان : أحدهما : أنها نزلت في الأبكار خاصة ، وهذا قول السدي ، وابن زيد . والثاني : أنها عامة في الأبكار والثيِّب ، وهو قول الحسن ، وعطاء . واختلف في المعنى ب قوله تعالى : { وَاللَّذَانِ يِأْتِيَانِهَا مِنكُم } على قولين : أحدهما : الرجل والمرأة ، وهو قول الحسن ، وعطاء . والثاني : البكران من الرجال والنساء ، وهو قول السدي ، وابن زيد . وفي الأذى المأمور به ثلاثة أقاويل : أحدها : التعيير والتوبيخ باللسان ، وهو قول قتادة ، والسدي ، ومجاهد . والثاني : أنه التعيير باللسان ، والضرب بالنعال . والثالث : أنه مجمل أخذ تفسيره في البكر من آية النور ، وفي الثيِّب من السُّنّة . فإن قيل كيف جاء ترتيب الأذى بعد الحبس ؟ ففيه جوابان : أحدهما : أن هذه الآية نزلت قبل الأولى ، ثم أمر أن توضع في التلاوة بعدها ، فكان الأذى أولاً ، ثم الحبس ، ثم الجلد أو الرجم ، وهذا قول الحسن . والثاني : أن الأذى في البكرين خاصة ، والحبس في الثَّيِّبين ، وهذا قول السدي . ثم اختلف في نسخها على حسب الاختلاف في إجمالها وتفسيرها . { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } يعني تابا من الفاحشة وأصلحا دينهما ، فأعرضواْ عنهما بالصفح والكف عن الأذى . ١٧قوله تعالى : { إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } اختلف في المراد بالجهالة على ثلاثة أقاويل : أحدها : أن كل ذنب أصابه الإِنسان فهو بجهالة ، وكل عاص عصى فهو جاهل ، وهو قول أبي العالية . والثاني : يريد يعملون ذلك عمداً ، والجهالة العمد ، وهو قول الضحاك ، ومجاهد . والثالث : الجهالة عمل السوء في الدنيا ، وهو قول عكرمة . { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : ثم يتوبون في صحتهم قبل موتهم ، وقبل مرضهم ، وهذا قول ابن عباس ، والسدي . والثاني : قبل معاينة مَلَكِ الموت ، وهو قول الضحاك ، وأبي مجلز . والثالث : قبل الموت ، قال عكرمة : الدنيا كلها قريب . وقد روى قتادة أن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { إِنَّ اللّه يَقْبَلُ تَوبَةَ الْعَبْد ما لَمْ يُغَرْغِرْ }. ١٨{ وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ } إلى قوله : { وَهُمْ كُفَّارٌ } فيه قولان : أحدهما : وهو قول الجمهور أنها نزلت في عُصَاةِ المسلمين . والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، وهو قول الربيع . فَسَوّى بين مَن لَمْ يتب حتى مات ، وبين من تاب عند حضور الموت وهي [ حالة ] يعرفها مَنْ حَضَرها . ويحتمل أن يكون عند المعاينة في حال يعلم بها وإن منع من الإِخبار بها . ١٩يا أيها الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً } . وسبب ذلك أن أهل المدينة في الجاهلية كانوا إذا مات أحدهم عن زوجة ، كان ابنه وقريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها ، فإن شاء نكحها كأبيه بالصداق الأول ، وإن شاء زوجها وملك صداقها ، وإن شاء عضلها عن النكاح حتى تموت فيرثها أو تَفْتَدِي منه نفسها بصداقها ، إلى أَنْ تُوفِّيَ أبو قيس بن الأسلت عن زوجته كبيشة بنت معن بن عاصم فأراد ابنه أن يتزوجها فجاءت إلى النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقالت يا نبي اللّه لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تُرِكْتُ فأُنْكَح ، فنزلت هذه الآية . { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ } فيه أربعة أقاويل : أحدها : أنه خطاب لورثة الأزواج أن [ لا ] يمنعوهن من التزويج كما ذكرنا ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة . والثاني : أنه خطاب للأزواج أن [ لا ] يعضلوا نساءهم بعد الطلاق ، كما كانت قريش تفعل في الجاهلية وهو قول ابن زيد . والثالث : أنه خطاب للأزواج أن [ لا ] يحبسواْ النساء كرهاً ليفتدين نفوسهن أو يَمُتْنَ فيرثهن الزوج ، وهذا قول قتادة ، والشعبي ، والضحاك . والرابع : أنه خطاب للأولياء وهذا قول مجاهد . { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبِّينَةٍ } فيها ها هنا ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها الزنى ، وهو قول الحسن ، وأبي قلابة والسدي . والثاني : أنها النشوز ، وهو قول ابن عباس ، وعائشة . والثالث : أنها البذاء والأذى . وقد روي عن مقسم في قراءة ابن مسعود { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يُفْحِشْنَ } . { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيراً كَثِيراً } قال ابن عباس : يعني الولد الصالح . ٢٠قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيئاً } يعني أنهن قد ملكن الصداق ، وليس مِلْكُهُنَّ للصداق موقوفاً على التمسك بهن ، بل ذلك لهن مع إمساكهن ، وفراقهن . { أَتَأْخُذُونُه بُهْتَاناً } فيه قولان : أحدهما : ظلماً بالبهتان . والثاني : أن يبهتها أن جعل ذلك ليسترجعه منها . وإنما منع من ذلك مع الاستبدال بهن وإن كان ممنوعاً منه وإن لم يستبدل بهن أيضاً لِئَلا يتوهم متوهم أنه يجور مع استبدال غيرها بها أن يأخذ ما دفعه إليها ليدفعه إلى من استبدل بها منه وإن كان ذلك عموماً . ٢١قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } فيه قولان : أحدهما : أن { الإفضاء } الجماع ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي . والثاني : أنه الخلوة ، وهو قول أبي حنيفة . { وَأَخَذْنَ مِنكم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه عقد النكاح الذي استحل به الفرج ، وهو قول مجاهد . والثاني : أنه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وهو قول الضحاك ، والسدي ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة . والثالث : أنه ما رواه موسى بن عبيدة ، صعدة بن يسار عن ابن عمر أن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النِّسَاءَ عِندَكُم عَوانٌ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللّه وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللّه فَلَكُم عَلَيهِنَّ حَقٌ وَلَهُنَّ عَلَيكُم حَقٌ ، وَمِنْ حَقِّكُم عَلَيهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فَرشَكُم أَحدَاً وَلاَ يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ، فَإنْ فَعَلْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }. واختلف في ثبوت حكمها أو نسخه على قولين : أحدهما : أنها محكمة ، لا يجوز له أن يْأخذ منها شيئاً مما أعطاها سواء كانت هي المريدة للطلاق أو هو ، وهو قول بكر بن عبد اللّه المزني . والثاني : أنها منسوخة ب قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّه } ، وهذا قول ابن زيد . وقال أبو جعفر الطبري وغيره : حكمها ثابت عند عن خوف النشوز فيجوز أن يفاديها . ٢٢قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } فيه أربعة أقاويل : أحدها : أنها نزلت في قوم كانوا يَحْلُفْون الآباء على نسائهم ، فجاء الإسلام بتحريم ذلك وعفا عما كان منهم في الجاهلية أن يؤاخذواْ به إذا اجتنبوه في الإسلام ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة وعطاء ، وعكرمة . والثاني : يعني لا تنكحواْ كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد ، إلا ما سلف منكم في جاهليتكم فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز الإقرار عليه ، وهذا قول بعض التابعين . والثالث : معناه : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز ، إلا ما قد سلف منهم بالزنى والسفاح ، فإن نكاحهن حلال لكم ، لأنهن لم يَكُنَّ حلالاً ، وإنما كان نكاحهن فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً ، وهذا قول ابن زيد . والرابع : إلا ما قد سلف فدعوه فإنكم تؤاخذون به ، قالوه وهذا من الاستثناء المنقطع ، ومنهم من جعله بمعنى لكن . { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً } والمقت شدة البغض لقبح مرتكبه ، ومنه قولهم قد مقته الناس إذا أبغضوه ، ورجل مقيت ، وكان يقال لولد الرجل من امرأة أبيه المقتي . { وَسَاءَ سَبِيلاً } يعني طريقاً . ٢٣قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلى قوله : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فيه أربعة أقاويل : أحدها : والمحصنات من النساء يعني ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وأبي قلابة ، والزهري ، ومكحول ، وابن زيد . وقد روى عثمان البَتّي عن أبي خليل عن أبي سعيد الخدري قال : لما سبى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) أهل أوطاس ، قلنا : يا نبي اللّه كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهن ؟ قال : فنزلت هذه الآية { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } . والثاني : أن المحصنات ذوات الأزواج حرام على غير أزواجهن إلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ، إذا اشتراها مشترٍ بطل نكاحها وحلت لمشتريها ويكون بيعها طلاقها ، وهذا قول ابن مسعود ، وأُبي بن كعب ، وجابر بن عبد اللّه ، وأنسٍ ابن مالك ، وابن عباس في رواية عكرمة عنه وسعيد بن المسيب ، والحسن ، قال الحسن : طلاق الأَمة يثبت نسبها ، وبيعها ، وعتقها ، وهبتها ، وميراثها ، وطلاق زوجها . الثالث : أن المحصنات من النساء العفائف إلا ما ملكت أيمانكم بعقد النكاح ، أو ملك اليمين ، وهذا قول عمر ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، وعبيدة السلماني ، وعطاء ، والسدي . والرابع : أن هذه الآية نزلت في نساءٍ كُنَّ هَاجَرن إلى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ولهن أزواج ، فتزوجهن المسلمون ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين ، فنهي المسلمون عن نكاحهن ، وهذا قول أبي سعيد الخدري . وأصل الإِحصان المنع ، ومنه حصن البلد ، لأنه يمنع من العدو ، ودرع حصينة أي منيعة ، وفرس حَصان ، لأن صاحبه يمتنع به من الهلكة ، وامرأة حصان ، وهي العفيفة لأنها تمتنع من الفاحشة ، ومنه { وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } " [ التحريم : ١٢ ] . ٢٤{ كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن معناه : حرم ذلك عليكم كتاباً من اللّه . والثاني : معناه ألزموا كتاب اللّه . والثالث : أن كتاب اللّه قيم عليكم فيما تستحلِّونه وتحرمونه . { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أن معناه ما دون الخمس ، وهو قول السدي . والثاني : ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم ، وهو قول عطاء . والثالث : ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم ، وهو قول قتادة . { أّن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } يعني أن تلتمسوا بأموالكم إما شراء بثمن ، أو نكاحاً بصداق . { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } يعني متناكحين غير زانين ، وأصل السفاح صب الماء ، ومنه سَفَح الدمع إذا صبَّه ، وسَفْح الجبل أسفله لأنه مصب الماء فيه ، وسِفَاح الزنى لصب مائه حراماً . { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي آتوهن صدقاتهن معلومة ، وهذا قول مجاهد ، والحسن ، وأحد قولي ابن عباس . والقول الثاني : أنها المتعة إلى أجل مسمى من غير نكاح ، قال ابن عباس كان في قراءة أُبيّ : { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى } ، وكان ابن عباس كذلك يقرأ ، وسعيد بن جبير ، وهذا قول السدي ، وقال الحكم : قال عليّ : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي ، وهذا لا يثبت ، والمحكي عن ابن عباس خلافه ، وأنه تاب من المتعة وربا النقد . { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : معناه لا حرج عليكم أيها الأزواج إن أعسرتم بعد أن فرضتم لِنِسَائكم مهراً عن تراض أن ينقصنكم منه ويتركنكم ، وهذا قول سليمان بن المعتمر . والثاني : لا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضتيم أنتم والنساء اللواتي استمتعتم بهن إلى أجل مسمى ، إذا انقضى الأجل بينكم أن يزدنكم في الأجل وتزيدوهن في الأجر قبل أن يستبرئن أرحامهن ، وهذا قول السدي . والثالث : لا جناح عليكم فيما تراضيتم به ودفعتموه أن يعود إليكم عن تراض ، وهذا قول ابن عباس . { إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فيه ثلاثة أقوال : أحدها : كان عليماً بالأشياء قبل خلقها ، حكيماً في تقديره وتدبيره لها ، وهذا قول الحسن . والثاني : أن القوم شاهدواْ عِلماً وحكمة فقيل لهم إن كان كذلك لم يزل ، وهذا قول سيبويه . والثالث : أن الخبر عن الماضي يقوم مقام الخبر عن المستقبل وهذا مذهب الكوفيين . ٢٥قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتَ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } في الطوْل ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الغنى والسعة الموصل إلى نكاح الحرّة ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وابن زيد ، والشافعي ، ومالك . والقول الثاني : هو أن تكون تحته حرة ، وهو قول أبي حنيفة . والقول الثالث : هو الهوى وهو أن يهوى أَمَةً فيجوز أن يتزوجها ، إن كان ذا يسار وكان تحته حرة ، وهذا قول جابر ، وابن مسعود ، والشعبي ، وربيعة ، وعطاء . وأصل الطَوْل الفضل والسعة ، لأن المعنى كالطول في أنه ينال به معالي الأمور ، ومنه قولهم ليس فيه طائل أي لا ينال به شيء من الفوائد ، فكان هو الأصح من تأويلاته . واختلف في إيمان الأمَةِ هل هو شرط في نكاحها عند عدم الطَوْل على قولين : أحدهما : أنه شرط لا يجوز نكاح الأَمَةِ نكاح الأَمَةِ إلا به ، وهو قول الشافعي . والثاني : أنه ندب وليس بشرط ، فإن تزوج غير المؤمنة جاز ، وهو قول أبي حنيفة . قوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } يعني بالمسافحة : المعلنة بالزنى . { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } هو أن تتخذ المرأة خدناً وصديقاً ولا تزني بغيره ، وقد كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى ، ويستحلون ما بطن ، فأنزل اللّه تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } . { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قرأ بفتح الألف حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ومعنى ذلك أسلمن ، فيكون إحصانها ها هنا إسلامها ، وهذا قول ابن مسعود ، والشعبي ، وروى الزهري قال : جَلَدَ عمر ولائد أبكاراً من ولائد الإمارة في الزنى . وقرأ الباقون بضم الألف ، ومعنى ذلك تزوجن ، فيكون إحصانها ها هنا تزويجها ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن . { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } يعني بها ها هنا الزنى . { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } يعني نصف حد الحرة . { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ } فيه أربعة تأويلات : أحدها : الزنى ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وابن زيد ، وبه قال الشافعي . والثاني : أن العنت الإثم . والثالث : أنه الحد الذي يصيبه . والرابع : هو الضرر الشديد في دين أو دنيا . وهو نحو قوله تعالى : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } " [ آل عمران : ١١٨ ] . { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرُ لَّكُمْ } يعني الصبر عن نكاح الأمَةِ لئلا يكون ولده عبداً . ٢٦يريد اللّه ليبين . . . . . قوله تعالى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } فيهم ثلاثة أقاويل : أحدها : أنهم الزناة ، وهو قول الضحاك . والثاني : أنهم اليهود والنصارى ، وهو قول السدي . والثالث : كل متبع شهوة غير مباحة ، وهو قول ابن زيد . ٢٨قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّه أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } يخفف عنكم في نكاح الإماء ، وخُلِقَ الإنسان ضعيفاً عن احتمال الصبر عن جماع النساء . ٢٩يا أيها الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تِأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه الزنى ، والقمار ، والبخس ، والظلم ، وهو قول السدي . والثاني : العقود الفاسدة ، وهو قول ابن عباس . والثالث : أنه نهى أن يأكل الرجل طعام قِرى وأَمَر أن يأكله شِرى ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور : { وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } " [ النور : ٦١ ] إلى قوله : { أَوْ أَشْتَاتاً } وهو قول الحسن ، وعكرمة . { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } فيه قولان : أحدهما : أن التراضي هو أن يكون العقد ناجزاً بغير خيار ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة . والثاني : هو أن يخير أحدهما صاحبه بَعد العقد وقبل الافتراق ، وهو قول شريح ، وابن سيرين ، والشعبي . وقد روى القاسم بن سليمان الحنفي عن أبيه عن ميمون بن مهران قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { البَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ وَالخِيَارُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلمٍ أَنْ يَغِشَّ مٌسْلِماً }. { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } فيه قولان : أحدهما : يعني لا يقتل بعضكم بعضاً ، وهذا قول عطاء ، والسدي ، وإنما كان كذلك لأنهم أهل دين واحد فصاروا كنفس واحدة ، ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ } " [ النور : ٦١ ] . والثاني : نهى أن يقتل الرجل نفسه في حال الغضب والضجر . ٣٠قوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } فيما توجه إليه هذا الوعيد ب قوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه أكل المال بالباطل ، وقتل النفس بغير حق . والثاني : أنه متوجه إلى كل ما نهى عنه من أول سورة النساء . والثالث : أنه متوجه إلى قوله تعالى : { لاَ َيحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً } " [ النساء : ١٩ ] . { عُدْوَاناً وَظُلْماً } فيه قولان : أحدهما : يعني تعدياً واستحلالاً . والثاني : أنهما لفظتان متقاربتا المعنى فحسن الجمع بينهما مع اختلاف اللفظ تأكيداً . ٣١{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } في الكبائر سبعة أقاويل : أحدها : أنها كل ما نهى اللّه عنه من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها ، وهذا قول ابن مسعود في رواية مسروق ، وعلقمة ، وإبراهيم . والثاني : أن الكبائر سبع : الإشراك باللّه ، وقتل النفس التي حرم اللّه ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، وهذا قول عليّ ، وعمرو بن عبيد . والثالث : أنها تسع : الإشراك باللّه ، وقذف المحصنة ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وأكل الربا ، وإلحاد بالبيت الحرام ، وهذا قول ابن عمر . والرابع : أنها أربع : الإشراك باللّه ، والقنوط من رحمة اللّه ، واليأس من رَوْح اللّه ، والأمن من مكر اللّه ، وهذا قول ابن مسعود في رواية أبي الطفيل عنه . والخامس : أنها كل ما أوعد اللّه عليه النار ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك . والسادس : السبعة المذكورة في المقالة الثانية وزادوا عليها الزنى ، والعقوق ، والسرقة ، وسب أبي بكر وعمر . والسابع : أنها كل ما لا تصح معه الأعمال ، وهذا قول زيد بن أسلم . { نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } يعني من الصغائر إذا اجتنبتم الكبائر ، فأما مع ارتكاب الكبائر ، فإنه يعاقب على الكبائر والصغائر . ٣٢ولا تتمنوا ما . . . . . { إسْألُوا اللّه مِن فَضْلِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وإِنَّ أَفْضَلَ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَجِ } . { إِنَّ اللّه كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أنه قسَّم الأرزاق على ما علم وشاء فينبغي أن ترضوا بما قسم وتسألوه من فضله غير متأسفين لغيركم في عطية . والنهي تحريم عند أكثر العلماء ، لأنه ليس لأحد أن يقول : ليت مال فلان لي ، وإنما يقول ليت مثله لي ، ومن قال بهذا اختلفوا في النهي هل هو تحريم أم أدب ، فقال الفراء هو أدب ، وقال غيره هو تحريم . والقول الثاني : وهو الأشهر - أنها نزلت في نساء تمنين كالرجال في فضلهم ومالهم ، فروى عكرمة أنها نزلت في أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول اللّه تغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت : { ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض } . { للرجال نصيب مما اكتسبوا ، وللنساء نصيب مما اكتسبن } من الثواب على طاعة اللّه والعقاب على معصيته ، وللنساء نصيب مثل ذلك ، ليعني أن للمرأة بالحسنة عشر أمثالها كالرجل ، وهو قول قتادة . والثاني : أن معنى ذلك للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم ، وللنساء نصيب منه ، لأن أهل الجاهلية لم يكونوا يورثون النساء ، وهذا قول ابن عباس . { وسألوا اللّه من فضله } فيه قولان : أحدهما : إن احتجتم إلى مال غيركم فاسألوا اللّه أن يعطيكم مثل ذلك من فضله ولا تتمنوا مال غيركم . والثاني : العبادة التي تكتسب الثواب في الآخرة ، قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : " إسألوا اللّه من فضله فإنه يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج " . { إن اللّه كان بكل شيء عليماً } أنه قسم الأرزاق على ما علم وشاء فينبغي أن ترضوا بما قسم وتسألوه من فضله غير متأسفين لغيركم في عطية . والنهي تحريم عند أكثر العلماء ، لأنه ليس لأحد أن يقول : ليت مال فلان مالي ، وإنما يقول ليت مثله لي . ٣٣قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَلِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } وفي الموالي قولان : أحدهما : أنهم العصبة ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن زيد . والثاني : هم الورثة ، وهو قول السدي ، وهو أشبه ب قوله تعالى : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي } قال الفضل بن عباس : مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا تنشبواْ بيننا ما كان مَدْفوناً { وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } هي مفاعلة من عقد الحلف ، ومعناه : والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم بالحلف بينكم وبينهم ، فآتوهم نصيبهم . وفي المراد بهذه المعاقدة وبالنصيب المستحق خمسة أقاويل : أحدها : أن حلفهم في الجاهلية كانوا يتوارثون به في الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال : { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } " [ الأنفال : ٧٥ ] وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة . والثاني : أنها نزلت في الذين آخى بينهم النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، من المهاجرين والأنصار ، فكان بعضهم يرث بعضاً بتلك المؤاخاة بهذه الآية ، ثم نسخها ما تقدم من قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانَ والأَقْرَبُونَ } " [ النساء : ٣٣ ] ، وهذا قول سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وابن زيد . والثالث : أنها نزلت في أهل العقد بالحلف ولكنهم أُمِرُوا أن يؤتوا بعضهم بعضاً من النصرة والنصيحة والمشورة والوصية دون الميت ، وهذا قول مجاهد ، وعطاء ، والسدي . وقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) وقد سأله قيس بن عاصم عن الحِلف فقال : { لاَ حِلْفَ في الإْسلاَمِ ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلفِ الجاهِلِيَّةِ فَلَمْ يُزِدْهُ الإِسْلاَمُ الإَِّ شِدَّةً }. والرابع : أنها نزلت في الذين يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية ، فَأُمِرُوا في الإِسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصية ، وهذا قول سعيد بن المسيب . والخامس : أنها نزلت في قوم جعل لهم نصيب من الوصية ، ثم هلكوا فذهب نصيبهم بهلاكهم ، فَأُمِرُوا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم ، وهذا قول الحسن البصري . ٣٤قوله تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النَّسَآءِ } يعني أهل قيام على نساءهم ، في تأديبهن ، والأخذ على أيديهن ، فيما أوجب اللّه لهم عليهن . { بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } يعني في العقل والرأي . { وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أِمْوَالِهِمْ } يعني به الصداق والقيام بالكفاية . وقد روى جرير بن حازم عن الحسن أن سبب ذلك أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص ، فجعل النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) بينهما القصاص فنزلت : { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ } " [ طه : ١١٤ ] ونزلت { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، وكان الزهري يقول : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس . { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّه } يعني المستقيمات الدين العاملات بالخير ، والقانتات يعني المطيعات للّه ولأزواجهن . { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } يعني حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن ، ولما أوجبه اللّه من حقه عليهن . { بِمَا حَفِظَ اللّه } فيه قولان : أحدهما : يعني يحفظ اللّه لهن إذ صيّرهن كذلك ، وهو قول عطاء . والثاني : بما أوجبه اللّه على أزواجهن من مهورهن ونفقتهن حتى صرن بها محفوظات ، وهذا قول الزجاج . وقد روى ابن المبارك ، سعيد بن أبي سعيد أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { خَيْرُ النَّساءِ امْرَأَةً إِذا نَظَرْتَ إِلَيهَا سَرَّتْكَ ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مالِهَا ونَفْسِهَا } قال ثم قرأ رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } إلى آخر الآية . { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } في { تَخَافُونَ } تأويلان : أحدهما : أنه العلم ، فعبر عنه بالخوف ، كما قال الشاعر : ولا تدفنيني بالفلاة فإنني أخافُ إذا ما مِتُّ أن لا اذُوقَها يعني فإنني أعْلَمُ والتأويل الثاني : أنه الظن ، كما قال الشاعر . أتاني عن نصر كلام يقوله وما خفت يا سلامُ أنك عائبي وهو أن يستر على نشوزها بما تبديه من سوء فعلها . والنشوز : هو معصية الزوج والامتناع من طاعته بغضاً وكراهة - وأصل النشوز : الارتفاع ، ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نُشز ، فسميت الممتنعة عن زوجها ناشزاً لبعدها منه وارتفاعها عنه . { فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } أما وعظها فهو أن يأمرها بتقوى اللّه وطاعته ، ويخوفها استحقاق الوعيد في معصيته وما أباحه اللّه تعالى من ضربها عند مخالفته ، وفي المراد بقوله : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } خمسة أقاويل : أحدها : ألا يجامعها ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير . والثاني : أن لا يكلمها ويوليها ظهره في المضجع ، وهو قول الضحاك ، والسدي . والثالث : أن يهجر فراشها ومضاجعتها وهو قول الضحاك ، والسدي . والرابع : يعني وقولوا لهن في المضاجع هُجراً ، وهو الإغلاظ في القول ، وهذا قول عكرمة ، والحسن . والخامس : هو أن يربطها بالهجار وهو حبل يربط به البعير ليقرها على الجماع ، وهو قول أبي جعفر الطبري . واستدل براوية ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول اللّه نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : { حَرثَكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ غَيرَ أَلاَّ تَضْرِبَ آلْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ إلاَّ في البًيْتِ ، وأطْعِمْ إِذا طَعِمْتَ وَاكْسِ إِذّا اكْتَسَيْتَ ، كَيْفَ وَقْدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } وليس في هذا الخبر دليل على تأويله دون غيره . وأصل الهجر : الترك على قلى ، والهُجر : القبيح من القول لأنه مهجور . { وَآضْرِبُوهُنَّ } فجعل اللّه تعالى معاقبتها على النشوز ثلاثة أشياء : وَعْظُها وهَجْرُها وضَرْبُها . وفي ترتبيها إذا نشزت قولان : أحدهما : أنه إذا خاف نشوزها وعظها وهجرها ، فإن أقامت عليه ضربها . والثاني : أنه إذا خاف نشوزها وعظها ، فإذا أبدت المشوز هجرها ، فإن أقامت عليه ضربها ، وهو الأظهر من قول الشافعي . والذي أبيح له من الضرب ما كان تأديباً يزجرها به عن النشوز غير مبرح ولا منهك ، روى بشر عن عكرمة قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { اضْرِبُوهُنَّ إِذَا عَصَينَكُمْ فِي المَعْرُوفِ ضَرْباً غير مُبَرِّحٍ }. { فَإِن أَطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } يعني أطعنكم في المضجع والمباشرة . { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } فيه تأويلان : أحدهما : لا تطلبواْ لهن الأذى . والثاني : هو أن يقول لها لست تحبينني وأنت تعصيني ، فيصيّرها على ذلك وإن كانت مطيعة : قال سفيان : إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه لأن قلبها ليس في يدها . ٣٥{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَينِهِمَا } يعني مشاقة كل واحد منهما من صاحبه ، وهو إتيان ما يشق عليه من أمور أما من المرأة فنشوزها عنه وترك ما لزمها من حقه ، وأما من الزوج فعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، والشقاق مصدر من قول القائل شاق فلان فلاناً إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه بما يشق عليه ، وقيل لأنه قد صار في شق بالعداوة والمباعدة . { فَابْعَثْواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا } وفي المأمور بإيفاد الحكمين ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه السلطان إذا تراجع إليه الزوجان ، وهو قول سعيد بن جبير ، والضحاك . والثاني : الزوجان ، وهو قول السدي . والثالث : أحد الزوجين وإن لم يجتمعا . { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً } يعني الحَكَمَين . { يُوَفِقِ اللّه بَيْنَهُمَا } يحتمل وجهين : أحدهما : يوفق اللّه بين الحكمين في الصلاح بين الزوجين . والثاني : يوفق اللّه بينهما بين الزوجين بإصلاح الحَكَمَين ، والحكمين للإصلاح . وفي الفُرْقَةِ إذا رأياها صلاحاً من غير إذن الزوجين قولان : أحدهما : ليس ذلك إليها لأن الطلاق إلى الزوج . والثاني : لهما ذلك لأن الحَكَم مشتق من الحُكم فصار كالحاكم بما يراه صلاحاً . ٣٦واعبدوا اللّه ولا . . . . . { وَاعْبُدُواْ اللّه وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } معناه واستوصوا بالوالدين إحساناً . { وَبِذِي الْقُرْبَى } هم قرابة النسب من ذوي الأرحام . { وَالْيَتَامَى } جمع يتيم وهو من مات أبوه لم يبلغ الحلم . { وَالْمَسَاكِينِ } جمع مسكين وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة فيتمسكن لذلك . { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } فيه قولان : أحدهما : بمعنى ذي القرابة والرحم وهم الذين بينك وبينهم قرابة نسب ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : يعني الجار ذي القربى بالإسلام . { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } فيه قولان : أحدهما : الجار البعيد في نسبه الذي ليس بينك وبينه قرابة ، وهو قول ابن عباس ومجاهد . والثاني : أنه المشرك البعيد في دينه . والجنب في كلام العرب هو البعيد ، ومنه سُمي الجنب لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل ، قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة : أتيت حُريثاً زائراً عن جنابةٍ فكان حريث في عطائي جامداً { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ } فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الرفيق في السفر ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني : أنها زوجة الرجل التي تكون في جنبه ، وهو قول ابن مسعود . والثالث : أنه الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك ، وهو قول ابن زيد . وروي عن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { كُلُّ صَاحبٍ يَصْحَبُ صَاحِباً مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ سَاعةً مِن نَّهَارٍ }. وروى عبد اللّه بن عمر عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { خَيرُ الأَصْحَابِ عِندَ اللّه خَيرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيرُ الجيرانِ عِندَ اللّه خَيرُهُمْ لِجَارِهِ }. { وَابْنِ السَّبِيلِ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه المسافر المجتاز مَارّاً ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، والربيع . والثاني : هو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة ، وهذا قول الشافعي . والثالث : أنه الضعيف ، وهو قول الضحاك . والسبيل الطريق ، ثم قيل لصاحب الطريق ابن السبيل ، كما قيل لطير الماء ابن ماء . قال الشاعر : وردت اعتسافاً والثريا كأنها على قمة الرأس ابن ماءٍ مُلحقُ { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني المملوكين ، فأضاف الملك إلى اليمين لاختصاصها بالتصرف كما يقال تكلم فُوك ، ومشت رجلُك . { إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } المختال : من كان ذا خيلاء ، مفتعل من قولك : خالَ الرجل يَخُول خُيلاء ، وخالاً ، قال العجاج : والخال ثوب من ثياب الجهال { والدهْرُ فيه غَفْلةٌ للغفال } والفخور : المفتخر على عباد اللّه بما أنعم اللّه عليه من آلائه وبسط عليه من رزقه . ٣٧{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } فيهم قولان : أحدهما : أنها نزلت في اليهود ، بخلوا بما عندهم من التوراة من نبوة محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) وكتموه وأمرواْ الناس بكتمه . { وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ } يعني نبوة محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، والسدي . والثاني : يبخلون بالإنفاق في طاعة اللّه عز وجل ويأمرون الناس بذلك ، وهو قول طاووس ، والبخل أن يبخل بما في يديه ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس يحب أن يكون له . ٣٨قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ } فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، وهو قول مجاهد . والثاني : هم المنافقون ، وهو قول الزجاج . ٣٩{ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِيناً } القرين هو الصاحب الموافق ، كما قال عدي بن زيد : عن المرءِ لا تسأل وأبصر قرينه فإن القرين بالمقارن مُقتدي وأصل القرين من الأقران ، والقِرن بالكسر المماثل لأقرانه في الصفة ، والقَرْن بالفتح : أهل العصر لاقترانهم في الزمان ، ومنه قَرْن البهيمة لاقترانه بمثله . وفي المراد يكون قريناً للشيطان قولان : أحدهما : أنه مصاحبِهُ في أفعاله . والثاني : أن الشيطان يقترن به في النار . ٤٠إن اللّه لا . . . . . قوله تعالى : { إِنَّ اللّه لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أصل المثقال الثقل ، والمثقال مقدار الشيء في الثقل . والذرة : قال ابن عباس هي دودة حمراء ، قال يزيد بن هارون : زعمواْ أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن . ٤١قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } وشهيد كل أمة نبيُّها ، وفي المراد بشهادته عليها قولان : أحدهما : أن يشهد على كل أمّته بأنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها ، وهو قول ابن مسعود وابن جريج ، والسدي . والثاني : أن يشهد عليها بعملها ، وهو قول بعض البصريين . { وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً } يعني رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) في الشهادة على أُمته ، روى ابن مسعود أنه قرأ على رسول اللّه : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً } ففاضت عيناه ( صلى اللّه عليه وسلم ) . ٤٢قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } فيه قولان : أحدهما : أن الذين تمنوه من تسوية الأرض بهم ، أن يجعلهم مثلها ، كما قال تعالى في موضع أخر { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } " [ النبأ : ٤٠ ] . والثاني : أنهم تمنواْ لو انفتحت لهم الأرض فصاروا في بطنها . ٤٣يا أيها الذين . . . . . { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فيه قولان : أحدهما : سكارى من الخمر ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة ، وقد روى عطاء ابن السائب عن عبد اللّه بن حبيب : أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً ودعا نفراً من أصحاب النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، ثم قدّموا عمر فصلى بهم المغرب فقرأ : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُم عَابِدُونَ مَا أَعْبُد وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } لَكُمْ دِينُكُم وَلِيَ دِينٌ } فأنزل اللّه تعالى هذه الآية { لاَ تَقْربُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } . والقول الثاني : وأنتم سكارى من النوم ، وهو قول الضحاك ، وأصل السُكر : السَكْر ، وهو سد مجرى الماء ، فالسُّكر من الشراب يسد طريق المعرفة . فإن قيل فكيف يجوز نهي السكران ، ففيه جوابان : أحدهما : أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج إلى حد لا يحتمل معه الأمر . والثاني : أنه نهي عن التعرض للسكر وعليه صلاة . { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ } فيه قولان : أحدهما : أراد سبيل المسافر إذا كان جنباً لا يصلي حتى يتيمم ، وهذا قول ابن عباس في رواية أبي مجلز عنه ، ومجاهد ، والحكم ، وابن زيد . والثاني : لا يقرب الجنب مواضع الصلاة من المساجد إلا مارّاً مجتازاً ، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك ، وابن يسار عنه ، وهو قول جابر ، والحسن ، والزهري ، والنخعي . { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : ما انطلق عليه اسم المرض من مستضرٍّ بالماء وغير مستضرٍّ ، وهذا قول داود بن علي . الثاني : ما استضر فيه باستعمال الماء دون ما لم يستضر ، وهذا قول مالك ، وأحد قولي الشافعي . والثالث ما خيف من استعمال الماء فيه التلف دن ما لم يُخفْ ، وهو القول الثاني من قولي الشافعي . { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : ما انطلق عليه اسم السفر من قليل وكثير ، وهو قول داود . والثاني : مسافة يوم وليلة فصاعداً ، وهو قول مالك ، والشافعي رحمهما اللّه . والثالث : مسافة ثلاثة أيام ، وهو مذهب أبي حنيفة . { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغآئِطِ } هو الموضع المطمئن من الأرض كان الإنسان يأتيه لحاجته ، فكنى به عن الخارج مجازاً ، ثم كثر استعماله حتى صار كالحقيقة ، والدليل على أن الغائط حقيقة في اسم المكان دون الخارج ، قول الشاعر : أما أتاك عني الحديث إذ أنا بالغائط أستغيث وصِحت في الغائط يا خبيث { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ } فيه قراءتان : إحداهما : { لَمَسْتُمُ } بغير ألف ، قرأ بها حمزة والكسائي . والأخرى : { لاَمَسْتُمُ } ، وهي قراءة الباقين . وفي هذه الملامسة قولان : أحدهما : الجماع ، وهو قول عليّ ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد . والثاني : أن الملامسة باليد والإفضاء ببعض الجسد ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عمر ، وعبيدة ، والنخعي ، والشعبي ، وعطاء ، وابن سيرين ، وبه قال الشافعي . وفي اختلاف القراءتين في { لَمَسْتُمْ } أو { لاَمَسْتُمُ } قولان : أحدهما : أن { لاَمَسْتُمُ } أبلغ من { لَمِسْتُمُ } . والثاني : أن { لاَمَسْتُمُ } يقتضي وجوب الوضوء على اللامس والملموس . { وَلَمَسْتُمُ } يقتضي وجوبه على اللامس دون الملموس . { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } فيه قولان : أحدهما : أنه التعبد والتحري ، وهو قول سفيان . والثاني : أنه القصد ، وذكر أنها في قراءة ابن مسعود : فأتوا صعيداً طيباً . وفي الصعيد أربعة أقاويل : أحدها : أنها الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غِراس ، وهو قول قتادة . والثاني : أنها الأرض المستوية ، وهو قول ابن زيد . والثالث : هو التراب ، وهو قول عليّ ، وابن مسعود ، والشافعي . والرابع : أنه وجه الأرض ذات التراب والغبار ، ومنه قول ذي الرُّمة : كأنه بالضحى ترمي الصعيدَ به دَبّابةٌ في عظام الرأس خُرْطوم وفي قوله تعالى : { طَيِّباً } أربعة أقاويل : أحدها : حلالاً ، وهو قول سفيان . والثاني : طاهراً ، وهو قول أبي جعفر الطبري . والثالث : تراب الحرث ، وهو قول ابن عباس . والرابع : أنه مكان حَدِرٌ غير بَطِحٍ ، وهو قول ابن جريج . { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } . فالوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في غسل الوضوء . فأما مسح اليدين ففيه ثلاثة أقاويل : أحدها : الكفان إلى الزندين دون الذراعين ، وهو قول عمار بن ياسر ، ومكحول ، وبه قال مالك في أحد قوليه ، والشافعي في القديم . والثاني : الذراعان مع المرفقين ، وهو قول ابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، وسالم بن عبد اللّه ، والشافعي في الجديد . والثالث : إلى المنكبين والإبطين ، وهو قول الزهري ، وحكي نحوه عن أبي بكر . واختلفوا في جواز التيمم في الجنابة على قولين : أحدهما : يجوز ، وهو قول الجمهور . والثاني : لا يجوز وهو قول عمر ، وابن مسعود ، والنخعي . واختلفوا في سبب نزول هذه الآية على قولين : أحدهما : نزلت في قوم من الصحابة أصابتهم جراح ، وهذا قول النخعي . والثاني : أنها نزلت في إعواز الماء في السفر ، وهو قول عائشة رضي اللّه عنها . ٤٤قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أنهم قد صاروا لجحودهم صفة رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) كمشتري الضلالة بالهدى . والثاني : أنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانواْ يصنعونه من التكذيب بالرسول ( صلى اللّه عليه وسلم ) . والثالث : أنهم كانوا يأخذون الرشا ، وقد روى ثابت البناني عن أنس بن مالك : أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) لعن الراشي ، والمرتشي ، والرائش ، وهو المتوسط بينهما . ٤٦قوله تعالى : { وَاسْمَعَ غَيْرَ مُسْمَعٍ } فيه قولان : إحداهما : معناه : اسمع لا سمعت ، وهو قول ابن عباس ، وابن زيد . والثاني : أنه غير مقبول منك ، وهو قول الحسن ، ومجاهد . { وَرَاعِنَا لَيَّاً بِأَلْسِنَتِهِم } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أن هذه الكلمة كانت سَبّاً في لغتهم ، فأطلع اللّه نبيّه عليها فنهاهم عنها . والثاني : أنها كانت تجري مجرى الهُزْءِ . والثالث : إنها كانت تخرج مخرج الكِبْر . ٤٧يا أيها الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } يعني اليهود والنصارى . { ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } يعني القرآن . { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } يعني كتبكم . { مِّن قَبْلِ أَن نِّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهآ } فيه قولان : أحدهما : أن طمس الوجوه هو محو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها حتى تمشي القهقرى ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة . والثاني : أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها ، أي في ضلالها ذمّاً لها بأنها لا تصلح أبداً ، وهذا قول الحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح ، والسدي . { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ } أي نمسخهم قردة ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، والسدي . ٤٩قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ، بَلِ اللّه يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } يعني اليهود في تزكيتهم أنفسهم أربعة أقاويل : أحدها : قولهم نحن أبناء اللّه وأحباؤه ، وهذا قول قتادة ، والحسن . والثاني : تقديمهم أطفالهم لإمامتهم زعماً منهم أنه لا ذنوب لهم ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة . والثالث : هو قولهم إن أبناءنا يستغفرون لنا ويزكوننا ، وهذا قول ابن عباس . والرابع : هو تزكية بعضهم لبعض لينالوا به شيئاً من الدنيا ، وهذا قول ابن مسعود . { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } فيه قولان : أحدهما : أي الفتيل الذي شق النواة ، وهو قول عطاء ، وقتادة ، ومجاهد ، والحسن ، وأحد قولي ابن عباس . قال الحسن : الفتيل ما في بطن النواة ، والنقير ما في ظهرها ، والقطمير قشرها . والثاني : أنه ما انفتل بين الأصابع من الوسخ ، وهذا قول السدي ، وأحد قولي ابن عباس . ٥١قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } فيه خمسة أقاويل : أحدها : أنهما صنمان كان المشركون يعبدونهما ، وهذا قول عكرمة . والثاني : أن الجبت : الأصنام ، والطاغوت : تراجمة الأصنام ، وهذا قول ابن عباس . والثالث : أن الجبت السحر ، والطاغوت : الشيطان ، وهذا قول عمر ، ومجاهد . والرابع : أن الجبت الساحر ، والطاغوت الكاهن ، وهذا قول سعيد بن جبير . والخامس : أن الجبت حُيي بن أخطب ، والطاغوت كعب بن الأشرف ، وهو قول الضحاك . ٥٣قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبُ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } وفي النقير ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه الذي يكون في ظهر النواة ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، والضحاك . والثاني : أنه الذي يكون في وسط النواة ، وهو قول مجاهد . والثالث : أنه نقر الرجل الشيء بطرفِ إبهامه ، وهو رواية أبي العالية عن ابن عباس . ٥٤قوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَاءاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ } يعني اليهود . وفي الناس الذين عناهم ثلاثة أقاويل : أحدها : أنهم العرب ، وهو قول قتادة . والثاني : أنه محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) خاصة ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، وعكرمة . والثالث : أنهم النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) وأصحابه ، وهو قول بعض المتأخرين . وفي الفضل المحسود عليه قولان : أحدهما : النبوة ، حسدواْ العرب على أن كانت فيهم ، وهو قول الحسن ، وقتادة . والثاني : أنه إباحته للنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) نكاح من شاء من النساء من غير عدد ، وهو قول ابن عباس ، والضحاك ، والسدي . { فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً } في الملك العظيم أربعة أقاويل : أحدها : أنه ملك سليمان بن داود ، وهو قول ابن عباس . والثاني : النبوة ، وهو قول مجاهد . والثالث : ما أُيِّدُوا به من الملائكة والجنود ، وهو قول همام بن الحارث . والرابع : من أباحه اللّه لداود وسليمان من النساء من غير عدد ، حتى نكح داود تسعاً وتسعين امرأة ، ونكح سليمان مائة امرأة ، وهذا قول السدي . ٥٦قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بئَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِم نَاراً } إلى قوله : { لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } فإن قيل وكيف يجوز أن يُبدّلواْ جلوداً غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا فيعذبوا فيها ؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يُبدَّلواْ أجساماً ، وأرواحاً ، غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت في الدنيا ، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين وعدهم اللّه في الدنيا على كفرهم بالعذاب بالنار . وقد أجاب أهل العلمِ عنه بثلاثة أجوبة : أحدها : أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم ، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب ، فأما الجلد واللحم فلا يألمان فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان عليه وجلدٌ غَيْرُهُ . والجواب الثاني : أنه تُعَادُ تلك الجلود الأولى جديدة [ غير ] محترقة . والجواب الثالث : أن الجلود المُعادَةَ إنما هي سرابيلهم من قبل أن جعلت لهم لباساً ، فسماها اللّه جلوداً ، وأنكر قائل هذا القول أن تكون الجلود تحترق وتعاد غير محترقة ، لأن في حال احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها ، وفي فنائها راحتها ، وقد أخبر اللّه تعالى : أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب . ٥٧وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اْلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاَّ ظَلِيلاً (٥٧) ٥٨إن اللّه يأمركم . . . . . قوله تعالى : { إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } في المعني بذلك أربعة أقاويل : أحدها : أنه عَنَى وُلاَةَ أمور المسلمين ، وهذا قول شهر بن حَوْشَبٍ ، ومكحول ، وزيد بن أسلم . والثاني : أنه أمر السلطان أن يعظ النساء ، وهذا قول ابن عباس . والثالث : أنه خُوْطِبَ بذلك النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) في عثمان بن أبي طلحة ، أن يرد عليه مفاتيح الكعبة ، وهذا قول ابن جريج . والرابع : أنه في كل مَؤْتَمنٍ على شيء ، وهذا قول أُبَيّ بن كعب ، والحسن ، وقتادة . وقد روى قتادة عن الحسن أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَك }. ٥٩يا أيها الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُواْ الْرَّسُولَ وِأُولي الأَمْرِ مِنكُمْ } يعني أطيعوا اللّه في أوامره ونواهيه ، وأطيعوا الرسول . روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { مَنْ أَطَاَعنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللّه وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَا اللّه ، وَمَنْ عَصَا أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي }. وفي طاعة الرسول قولان : أحدهما : اتباع سنته ، وهو قال عطاء . والثاني : وأطيعوا الرسول إن كان حياً ، وهو قول ابن زيد . وفي أولي الأمر أربعة أقاويل : أحدها : هم الأمراء ، وهو قول ابن عباس ، وأبي هريرة ، والسدي ، وابن زيد . وقد روى هشام عن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { سَيَلِيكُم بَعْدِي وُلاَةٌ ، فَيَلِيكُمُ البَرُّ بِبِرِّهِ ، وَبَلِيكُمُ الفَاجِرُ بِفجُورِهِ ، فَاسْمَعُوا لَهُم وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُم ، فإِن أَحْسَنٌواْ فَلَكُم وَلَهُم ، وإنْ أَساءُوا فَلَكُم وَعَليهُم }. واختلف قائلو هذا القول في سبب نزولها في الأمراء ، فقال ابن عباس : نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) في سرية . وقال السدي : نزلت في عمار بن ياسر ، وخالد بن الوليد حين بعثهما رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) في سرية . والقول الثاني : هم العلماء والفقهاء ، وهو قول جابر بن عبد اللّه ، والحسن ، وعطاء ، وأبي العالية . والثالث : هم أصحاب رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، وهو قول مجاهد . والرابع : هم أبو بكر وعمر ، وهو قول عكرمة . وطاعة وَلاَةِ الأمر تلزم في طاعة اللّه دون معصيته ، وهي طاعة يجوز أن تزول ، لجواز معصيتهم ، ولا يجوز أن تزول طاعة رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، لامتناع معصيته . وقد روى نافع عن عبد اللّه عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { عَلَى المرَءِ المُسْلِمِ الطَّاعةُ فِيمَا أَحبَّ أو كَرِهَ إلاََّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ فَلاَ طَاعَةَ }. قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ } قال مجاهد ، وقتادة : يعني إلى كتاب اللّه وسنة رسوله . { إِن كُنتُم تُؤُمِنُونَ بِاللّه وَالْيَومِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأْوِيلاً } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أَحْمَدُ عَاقِبَةً ، وهذا قول قتادة ، والسدي ، وابن زيد . والثاني : أَظَهَرُ حَقاً وأَبْيَنُ صَواباً ، وهو معنى قول مجاهد . والثالث : أحسن من تأويلكم الذي لا يرجع إلى أصل ولا يفضي إلى حق ، وهذا قول الزجاج . ٦٠قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوآ أَن يَكْفُرواْ بِهِ } اختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها نزلت في رجل من المنافقين ورجل من اليهود كان بينهما خصومة ، فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك لأني أعلم أنهم لا يقبلون الرشوة ، وقال المنافق : أحاكمك إلى اليهود منهم كعب بن الأشرف ، لأنه علم أنهم يقبلون الرشوة ، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة ، فأنزل اللّه فيهما هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني المنافق { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني اليهودي . { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } يعني الكاهن ، وهذا قول الشعبي ومجاهد . والثاني : أنها نزلت في رجلين من بني النضير وبني قريظة ، وكانت بنو قريظة في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني النضير أقادوا من القاتل ، وكانت بنو النضير في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني قريظة لم تَقُد من القاتل وأعطوا ديته ستين وَسْقاً من تمر ، فلما أسلم ناس من بني قريظة وبني النضير ، قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة فتحاكمواْ إلى النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، فقال النَّضِيِرِيُّ لرسول اللّه : إنا كنَّا في الجاهلية نعطيهم الدية ستين وَسَقاً من تمر ، فنحن نعطيهم اليوم ذلك ، وقالت بنو قريظة : نحن إخوان في النسب والدين وإنما كان ذلك عليه الجاهلية وقد جاء الإسلام ، فأنزل اللّه تعالى يعيِّرهم بما فعلواْ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } " [ المائدة : ٤٥ ] ، ثم ذكر قول بني النضير { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } " [ المائدة : ٥٠ ] ثم أَخَذَ النَّضِيرِيَّ فقتله بالقرظي ، فتفاخرت النضير وقريظة ودخلواْ المدينة ، فتحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن ، فأنزل اللّه في ذلك { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُم ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ } " [ النساء : ٦٠ ] يعني في الحال ، { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني حين كانوا يهوداً . { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ } يعني أبا بردة الأسلمي الكاهن ، وهذا قول السدي . ٦١وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١) ٦٢قوله تعالى : { فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ . . } الآية في سبب نزولها قولان : أحدهما : أن عمر قتل منافقاً لم يرض بحكم رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، فجاء إخوانه من المنافقين يطالبون بدمه ، وحلفواْ باللّه أننا ما أردنا في المطالبة بدمه إلا إحساناً إلى النساء ، وما يوافق الحق في أمرنا . والثاني : أن المنافقين بعد القَوَدِ من صاحبهم اعتذرواْ إلى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) في محاكمتهم إلى غيره بان قالواْ ما أردنا في عدولنا عنك إلا توفيقاً بين الخصوم وإحساناً بالتقريب في الحكم دون الحمل على مُرّ الحق ، فنزلت هذه الآية . ٦٣قوله تعالى : { أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّه مَا فِي قُلُوبِهِم } يعني من النفاق الذي يضمرونه . { فَأَعْرِضْ عَنهُم وَعِظْهُم } وفي الجمع بين الإعراض والوعظ مع تنافي اجتماعهما في الظاهر - ثلاثة أوجه : أحدها : أعرض عنهم بالعداوة لهم وعِظهم فيما بدا منهم . والثاني : أعرض عن عقابهم وعظهم . والثالث : أعرض عن قبول الأعذار منهم وعظهم . { وَقُل لَّهُم فِي أَنْفُسِهِم قَوْلاً بَلِيغاً } فيه قولان : أحدهما : أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلكم ، فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ ، وهذا قول الحسن . والثاني : أن يزجرهم عما هم عليه بأبلغ الزواجر . ٦٤وما أرسلنا من . . . . . قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ومعنى { شَجَرَ بَينَهُم } أي وقع بينهم من المشاجرة وهي المنازعة والاختلاف ، سُمِّيَ ذلك مشاجرة ، لتداخل بعض الكلام كتداخل الشجر بالتفافها . ٦٥{ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ } وفي الحرج تأويلان : أحدهما : يعني شكّاً وهو قول مجاهد . والثاني : يعني إثماً ، وهو قول الضحاك . واختلف في سبب نزولها على قولين . أحدهما : أنها نزلت في المنافق واليهودي اللَّذين احتكما إلى الطاغوت ، وهذا قول مجاهد ، والشعبي . والثاني : أنها نزلت في الزبير ورجل من الأنصار قد شهد بدراً ، تخاصما إلى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) في شراج من الحرّة كانا يسقيان به نخلاً ، فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) { اسْقِ يا زُبَيرُ ثُمَّ أَرسِل المَاءَ إلَى جَارِكَ } فغضب الأنصاري وقال : يا رسول اللّه آن كان ابن عمتك ، فَتَلَوِّنَ وجه رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) حتى عرف أن قد ساءه ، ثم قال يا زبير : { احْبسِ المَاءَ إلَى الجُدُرِ أو الكَعْبَينِ ثَمَّ خَلِّ سَبِيلَ المَاءِ } فنزلت هذه الآية ، وهذا قول عبد اللّه بن الزبير ، وعروة ، وأم سلمة . ٦٦ولو أنا كتبنا . . . . . قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللّه عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اولَئِكَ رَفِيقاً } أما الصديقون فهو جمع صديق ، وهم أتباع الأنبياء . وفي تسمية الصديق قولان : أحدهما : أنه فِعِّيل من الصِّدْقِ . والثاني : أنه فِعّيل من الصَدَقَة . وأما الشهداء فجمع شهيد ، وهو المقتول في سبيل اللّه تعالى . وفي تسمية الشهيد قولان : أحدهما : لقيامه بشهادة الحق ، حتى قتل في سبيل اللّه . والثاني : لأنه يشهد كرامة اللّه تعالى . في الآخرة . ويشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة إذا ختم له بالقتل في سبيل اللّه . وأما الصالحون فجمع صالح وفيه قولان : أحدهما : أنه كل من صلح عمله . والثاني : هو كل من صلحت سريرته وعلانيته . وأما الرفيق ففيه قولان : أحدهما : أنه مأخوذ من الرفق في العمل . والثاني : أنه مأخوذ من الرفق في السير . وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والسدي أنَّ ناساً توهموا أنهم لا يرون الأنبياء في الجنة لأنهم في أعلى عليين ، وحزنوا وسألوا النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية . ٦٧وَإِذًا َلآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) ٦٨وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨) ٦٩وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ٧٠ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠) ٧١قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُم } فيه قولان : أحدهما : يعني احذرواْ عَدُوَّكم . والثاني : معناه خذواْ سلاحكم فسماه حذراً لأنه به يتقي الحذر . { فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرو جَمِيعاً } والثُّبات : جمع ثُبة ، والثُبةُ العُصْبة ، ومنه قول زهير : لقد أغدو على ثُبةٍ كرام نشاوَى واجدين لما نشاء فيكون معنى لآية فانفروا عُصَباً وفِرقاً أو جميعاً . ٧٢وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢) ٧٣وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧٣) ٧٤قوله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الْدُّنْيَا بِالأَخِرةِ } يعني يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة ، فعبر عن البيع بالشراء . { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } فإن قيل فالوعد من اللّه تعالى على القتال فكيف جعل على القتل أو الغلبة ؟ قيل لأن القتال يفضي غالباً إلى القتل فصار الوعد على القتال وعداً على من يفضي إليه ، والقتال على ما يستحقه من الوعد إذا أفضى إلى القتل والغلبة أعظم ، وهكذا أخبر . ٧٥وما لكم لا . . . . . قوله تعالى : { رَبَّنآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } هي مكة في قول جميع المفسرين ، لما كانواْ عليه ، كما أخبر اللّه به عنهم ، من استضعاف الرجال والنساء والولدان وإفتانهم عن دينهم بالعذاب والأذى . ٧٦ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (٧٦) ٧٧ألم تر إلى . . . . . قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيَل لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } فيمن نزلت هذه الآية فيه أربعة أقاويل : أحدها : أنها نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) بمكة في قتال المشركين فلم يأذن لهم ، فلما كُتِبَ عليهم القتال وهم بالمدينة قال فريق منهم ما ذكره اللّه عنهم ، وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي . والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، وهو قول بعض البصريين . والثالث : أنها نزلت في اليهود . والرابع : أنها من صفة المؤمن لما طُبعَ عليه البشر من المخافة ، وهذا قول الحسن . ٧٨{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } في البروج ها هنا ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها القصور ، وهو قول مجاهد ، وابن جريج . والثاني : أنها قصور في السماء بأعيانها تسمى بهذا الاسم ، وهو قول السدي ، والربيع . والثالث : أنها البيوت التي في الحصون وهو قول بعض البصريين . وأصل البروج الظهور ، ومنه تبرج المرأة إذا أظهرت نفسها . وفي المُشّيَّدَةِ ثلاثة أقاويل : أحدها : المجصصة ، والشيد الجص ، وهذا قول بعض البصريين . والثاني : أن المُشّيَّدَ المطول في الارتفاع ، يقال شاد الرجل بناءه وأشاده إذا رفعه ، ومنه أَشدت بذِكِرْ الرجل إذا رَفَعْتَ منه ، وهذا قول الزجاج . والثالث : أن المُشّيَّد ، بالتشديد : المُطَّول ، وبالتخفيف : المجصَّص . قوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } في القائلين ذلك قولان : أحدهما : أنهم المنافقون ، وهو قول الحسن . والثاني : اليهود ، وهو قول الزجاج . وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة تأويلات : أحدها : البؤس والرخاء . والثاني : الخصب والجدب ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة . والثالث : النصر والهزيمة ، وهو قول الحسن ، وابن زيد . وفي قوله : { مِنْ عِندِكَ } تأويلان : أحدهما : أي بسوء تدبيرك ، وهو قول ابن زيد . والثاني : يعنون بالشؤم الذي لحقنا منك على جهة التطُّير به ، وهذا قول الزجاج ، ومثله قوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } " [ الأعراف : ١٣١ ] . ٧٩قوله تعالى : .{ مَا أَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَآ أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك } اختلف في المراد بهذا الخطاب على ثلاثة أقاويل . أحدها : أن الخطاب متوجه إلى النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) وهو المراد به . والثاني : أنه متوجه إلى النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) والمراد به غيره ، وهو قول الزجاج . والثالث : أنه متوجه إلى الإنسان ، وتقديره : ما أصابك أيها الإنسان من حسنة فمن اللّه ، وهذا قول قتادة . وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة أقاويل : أحدها : أن الحسنة النعمة في الدين والدنيا ، والسيئة المصيبة في الدين والدنيا ، وهذا قول بعض البصريين . والثاني : أن الحسنة ما أصابه يوم بدر ، والسيئة ما أصابه يوم أحد من شج رأسه وكسر رباعيته ، وهو قول ابن عباس ، والحسن . والثالث : أن الحسنة الطاعة ، والسيئة المعصية ، وهذا قول أبي العالية . قوله تعالى : { فَمِن نَّفْسِكَ } قولان : أحدهما : يعني فبذنبك . والثاني : فبفعلك . ٨٠قوله تعالى : { مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه } وإنما كانت طاعة للّه لأنها موافقة لأمر اللّه تعالى . { وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } فيه تأويلان : أحدهما : يعني حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع منهم . والثاني : حافظاً لأعمالهم التي يقع الجزاء عليها فتخاف ألاّ تقوم بها ، فإن اللّه تعالى هو المجازي عليها . ٨١{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يعني المنافقين ، أي أمرنا طاعة . { فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } والتبييت كل عمل دُبِّر ليلاً ، قال عبيد بن همام : أتوني فلم أرض ما بيّتوا وكانواْ أتوْني بأمرٍ نُكُر لأُنْكِحَ أَيِّمَهُمْ منذراً وهل يُنْكِحُ الْعَبْدُ حُرٌّ لحُرْ ؟ وفي تسمية العمل بالليل بياتاً قولان : أحدهما : لأن الليل وقت المبيت . والثاني : لأنه وقت البيوت . وفي المراد ب قوله تعالى : { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } قولان : أحدهما : أنها غيّرت ما أضمرت من الخلاف فيما أمرتهم به أو نهيتهم عنه ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والسدي . والثاني : معناه فدبَّرت غير الذي تقول على جهة التكذيب ، وهذا قول الحسن . { وَاللّه يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } فيه قولان : أحدهما : يكتبه في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه . والثاني : يكتبه بأن ينزله إليك في الكتاب ، وهذا قول الزجاج . ٨٢قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرءَآنَ } أصل التدبر الدبور ، لأنه النظر في عواقب الأمور . { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } في الاختلاف ها هنا ثلاثة أقاويل : أحدها : تناقض من جهة حق وباطل ، وهذا قول قتادة ، وابن زيد . والثاني : من جهة بليغ ومرذول ، وهو قول بعض البصريين . والثالث : يعني اختلافاً في الأخبار عما يُسِرُّونَ ، وهذا قول الزجاج . ٨٣قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } في المعني بهذا قولان : أحدهما : المنافقون ، وهو قول ابن زيد والضحاك . والثاني : أنهم ضعفة المسلمين ، وهو قول الحسن ، والزجاج . { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } وفيهم ثلاثة أقاويل : أحدها : أنهم الأمراء ، وهذا قول ابن زيد ، والسدي . والثاني : هم أمراء السرايا . والثالث : هم أهل العلم والفقه ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن نجيح ، والزجاج . { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فيهم قولان : أحدهما : أنهم أولو الأمر . والثاني : أنهم المنافقون أو ضعفة المسلمين المقصودون بأول الآية ، ومعنى يستنبطونه : أي يستخرجونه ، مأخوذ من استنباط الماء ، ومنه سُمِّي النبط لاستنباطهم العيون . { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } في فضل اللّه ها هنا ثلاثة أقاويل : أحدها : يعني النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) . والثاني : القرآن . والثالث : اللطف والتوفيق . وفي قوله تعالى : { لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } أربعة أقاويل : أحدها : يعني لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم فإنه لم يكن يتبع الشيطان . والثاني : لعلمه الذين يستنبطون إلا قليلاً منكم وهذا قول الحسن وقتادة . والثالث : أذاعوا به إلا قليلاً ، وهذا قول ابن عباس ، وابن زيد . والرابع : لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً مع الاتباع . ٨٤فقاتل في سبيل . . . . . قوله تعالى : { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِنْهَا } في الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة قولان : أحدهما : أنه مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته أو شر بمسألته ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وابن زيد . والثاني : أن الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمنين ، والشفاعة السيئة الدعاء عليهم ، لأن اليهود كانت تفعل ذلك فتوعَّدَهُم اللّه عليه . وفي الكِفْلِ تأويلان : أحدها : أنه الوِزر والإثم ، وهو قول الحسن ، وقتادة . والثاني : أنه النصيب ، كما قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } " [ الحديد : ٢٨ ] وهو قول السدي ، والربيع ، وابن زيد . ٨٥{ وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } فيه خمسة تأويلات : أحدها : يعني مقتدراً ، وهو قول السدي ، وابن زيد . والثاني : حفيظاً ، وهو قول ابن عباس ، والزجاج . والثالث : شهيداً ، وهو قول مجاهد . والرابع : حسيباً ، وهو قول ابن الحجاج ، ويحكى عن مجاهد أيضاً . والخامس : مجازياً ، وأصل المقيت القوت ، فَسُمِّي به المقتدر لأنه قادر على إعطاء القوت ، ثم صار اسماً في كل مقتدر على كل شيءٍ من قوت غيره ، كما قال الزبير ابن عبد المطلب : وذي ضَغَنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عنه وكنتُ على مَسَاءَتِهِ مُقِيتاً ٨٦قوله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَا } في المراد بالتحية ها هنا قولان : أحدهما : أنه الدعاء بطول الحياة . والثاني : السلام تطوع مستحب ، ورده فرض ، وفيه قولان : أحدهما : أن فرض رّدِّهِ عَامٌّ في المسلم والكافر ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد . والثاني : أنه خاص في المسلمين دون الكافر ، وهذا قول عطاء . وقوله تعالى : { بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } يعني الزيادة في الدعاء . { أَوْ رُدُّوهَا } يعني بمثلها ، وروى الحسن أن رجلاً سلَّم على رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال : السلام عليكم فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللّه } ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه ، فقال النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللّه وًبَرَكاَتُهُ } ثم جاء آخر فقال : { السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فقال النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { وَعَلَيْكُم } فقيل : يا رسول اللّه رددت على الأول والثاني وقلت للثالث وعليكم ، فقال : { إِنَّ الأَوَّلَ سَلّمَ وَأَبْقَى مِنَ التَّحِيَّةِ شَيئاً ، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ بِأَحْسَنَ مِمَّا جَاءَ بِهِ ، كَذَلِكَ الثَّانِي ، وإنَّ الثَّالِثَ جَاءَ بِالتَّحِيَّةِ كُلِّهَا ، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ مِثْلَ ذَلِكَ } . وقد قال ابن عباس : ترد بأحسن منها على أهل الإِسلام ، أو مثلها على أهل الكفر ، وروي عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { لا تَبْدَأُواْ اليَهُودُ بِالسَّلاَمِ فَإِنْ بَدَأُوكُم فَقُولُواْ : عَلَيكُم } . { إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : يعني حفيظاً ، وهو قول مجاهد . والثاني : محاسباً على العمل للجزاء عليه ، وهو قول بعض المتكلمين . والثالث : كافياً ، وهو قول البلخي . ٨٧قوله تعالى : { اللّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ } وفي تسمية القيامة قولان : أحدهما : لأن الناس يقومون فيه من قبورهم . والثاني : لأنهم يقومون فيه للحساب . ٨٨قوله تعالى : { فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ } اختلف فيمن نزلت هذه الآية بسببه على خمسة أقاويل : أحدها : أنها نزلت في الذين تخلَّفُواْ عن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يوم أحد ، وقالواْ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ، وهذا قول زيد بن ثابت . والثاني : أنها نزلت في قوم قَدِمُواْ المدينة فأظهروا الإسلام ، ثم رجعواْ إلى مكة فأظهروا الشرك ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد . والثالث : أنها نزلت في قوم أظهرواْ الإِسلام بمكة وكانواْ يعينون المشركين على المسلمين ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة . والرابع : أنها نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقاً ، وهذا قول السدي . والخامس : أنها نزلت في قوم من أهل الإفك ، وهذا قول ابن زيد . وفي قوله تعالى : { وَاللّه أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا } خمسة تأويلات : أحدها : معناه ردهم ، وهذا قول ابن عباس . والثاني : أوقعهم ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً . والثالث : أهلكهم ، وهذا قول قتادة . والرابع : أَضَلَّهم ، وهذا قول السدي . والخامس : نكسهم ، وهذا قول الزجاج . { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّه } فيه قولان : أحدهما : أن تُسَمُّوهم بالهُدى وقد سمّاهم اللّه بالضلال عقوبة لهم . والثاني : تهدوهم إلى الثواب بمدحهم واللّه قد أَضَلَّهم بذمهم . ٨٩وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (٨٩) ٩٠{ . . . . إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لكم . قال عكرمة : نزلت في الهلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بن جُعْثَم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف . قال الحسن : هؤلاء بنو مُدْلِج كان بينهم وبين قريش عهد ، وبين رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) [ وقريش ] عهد ، فحرم اللّه من بني مُدْلِجِ ما حرّم من قريش . { أَوْ جَآؤُكُمْ حَصِرتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } معنى حصرت أي ضاقت ، ومنه حُصِرَ العدو وهو الضيق ، ومنه حصر العداة لأنهم قد ضاقت عليهم مذاهبهم . ثم فيه قولان : أحدهما : أنه إخبارٌ من اللّه عنهم بأن صدورهم حَصِرتْ . والثاني : أنه دعاء من اللّه عليهم بأن تُحصَرَ صدورهم ، وهذا قول أبي العباس . { وَلَوْ شَآءَ اللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } وفي تسليطهم قولان : أحدهما : بتقوية قلوبهم . والثاني : بالإذن في القتال ليدافعواْ عن أنفسهم . { فَإِن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } فيه قولان : أحدهما : الصلح ، وهو قول الربيع . والثاني : الإِسلام ، وهو قول الحسن . { فَمَا جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } قال الحسن ، وقتادة ، وعكرمة : هي منسوخة ب قوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } " [ التوبة : ٥ ] . ٩١ستجدون آخرين يريدون . . . . . قوله تعالى : { ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } هم قوم يظهرون لقومهم الموافقة ليأمنوهم ، وللمسلمين الإسلام ليأمنوهم ، وفيهم أربعة أقاويل : أحدها : أنهم أهل مكة ، وهذا قول مجاهد . والثاني : أنهم من أهل تهامة ، وهذا قول قتادة . والثالث : قوم من المنافقين ، وهذا قول الحسن . والرابع : أنه نعيم بن مسعود الأشجعي . وهذا قول السدي . { كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها } أي كلما ردوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعوا فيه . ٩٢قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً } اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل لأمه قتل الحارث بن زيد من بني عامر بن لؤي ، لأنه كان يعذب عياشاً مع أبي جهل واختلف أين قتله ، فقال عكرمة ومجاهد : قتله بالحرّة بعد هجرته إلى المدينة وهو لا يعلم بإسلامه ، وقال السدي : قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة وهو لا يعلم بإسلامه . والقول الثاني : أنها نزلت في أبي الدرداء حين قتل رجلاً بالشعب فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا اللّه ، فبدر فضربه ثم وجد في نفسه فأتى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فذكر له ، فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { أّلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ } وهذا قول ابن زيد . فأنزل اللّه تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً } يعني وما أّذِنَ اللّه لمؤمن أن يقتل مؤمناً . ثم قال : { إلاَّ خَطَأ } يعني أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس مما جعله اللّه له ، وهذا من الاستثناء الذي يسميه أهل العربية : الاستثناء المنقطع ، ومنه قول جرير : من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ على الأرض إلاّ ريْط بُردٍ مرحّلِ يعني ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد وليس البرد من الأرض . { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وفيها قولان : أحدهما : أنها لا يجزىء عتقها في الكفارة إلا أن تكون مؤمنة بالغة قد صلت وصامت ، وهذا قول ابن عباس ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم . والقول الثاني : أن الصغيرة المولودة من أبوين مسلمين تكون مؤمنة تجزىء في الكفارة ، وهذا قول عطاء ، والشافعي . { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } في الدية وجهان : أحدهما : أنها مجملة أخذ بيانها من رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) . والثاني : أنها معهودة تقدم العمل بها ثم توجه الخطاب إليها فجعل اللّه الرقبة تكفيراً للقاتل في ماله والدية بدلاً من نفس المقتول على عاقلته . { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } فيه قولان : أحدهما : أي إن كان قومه كفاراً وهو مؤمن ففي قتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه ديةُ ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد . قال ابن زيد : لا تؤدى إليهم لأنهم يَتَقوُّونَ بها . والثاني : معناه فإن كان من قومٍ عدو لكم يعني أهل حرب إذا كان فيهم مؤمن فَقُتِلَ من غير علم بإيمانه ففيه الكفارة دون الدية سواء كان وارثه مسلماً أو كافراً وهذا قول الشافعي ، ويكون معنى قوله : { من قوم إلى قوم } ، وعلى القول الأول هي مستعملة على حقيقتها . ثم قال تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنةٍ } فيهم ثلاثة أقاويل : أحدها : هم أهل الذمة من أهل الكتاب ، وهو قول ابن عباس ، يجب في قتلهم الدية والكفارة . والثاني : هم أهل عهد رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) من العرب خاصة ، وهذا قول الحسن . والثالث : هم كل من له أمان بذمة أو عهد فيجب في قتله الدية والكفارة ، وهو قول الشافعي . ثم قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } فيه قولان : أحدهما : أن الصوم بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها دون الدية ، وهذا قول الجمهور . والثاني : أنه بدل من الرقبة والدية جميعاً عند عدمها ، وهذا قول مسروقٍ . ٩٣قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } قال ابن جريج : نزلت في مقيس بن صبابة ، وقد كان رجل من بني فهر قتل أخاه ، فأعطاه النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) الدية وضربها علي بني النجار ، فقبلها ، ثم بعث رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) مقيس بن صبابة ومعه الفهري في حاجة فاحتمل مقيس الفهريَّ وكان أَيِّدا فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين ثم ألقى يغني : قتلت به فِهراً وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { أَظُنُّهُ أَحْدَثَ حَدَثاً ، أَمَا وَاللّه لَئِن كَانَ فَعَلَ لاَ أُؤَمِّنْهُ فِي حِلٍ وَلاَ حَرمٍ فَقُتِلَ عَامَ الفَتْحِ }. وروى سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس عن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { وَمَن يَقْتُلْ مَؤْمِناً مُّتَعمِدّاً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } الآية ، فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحاً . قال وأنَّى له التوبة . قال زيد بن ثابت . فنزلت الشديدة بعد الهدنة بستة أشهر ، يعني قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } بعد قوله : { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه إِلَهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاَّ بِالْحَقِّ } " [ الفرقان : ٦٨ ] . ٩٤يا أيها الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيَّنُواْ } . الآية . قيل إنها نزلت في رجل كانت معه غُنَيْمَاتُ لقيته سريَّة لرسول اللّه صلى اللّه عليهم وسلم ، فقال لهم : السلام عليكم لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فبدر إليه بعضهم فقتله ، فلما أتى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال له : { لِمَ قَتَلْتَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ } قال إنما قالها تعوذاً ، قال : { هَلاَّ شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ } ثم حمل رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ديته إلى أهله وردّ عليهم غنمه . واختلف في قاتله على خمسة أقاويل : أحدها : أنه أسامة بن زيد ، وهو قول السدي . والثاني : أنه المقداد ، وهو قول سعيد ابن جبير . والثالث : أبو الدرداء ، وهو قول ابن زيد . والرابع : عامر بن الأضبط الأشجعي ، وهو قول ابن عمر . والخامس : هو محلِّم بن جثامة الليثي . ويقال إن القاتل لفظته الأرض ثلاث مرات ، فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { إنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِّنهُ وَلَكنَّ اللّه جَعَلهُ لَكُم عِبْرَةً ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَن تُلْقْى عَلَيهِ الحِجَاَرةُ }. { كَذَلِكَ كنتُم مِّن قَبْلُ } أي كفاراً مثلهم . { فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ } يعني بالإسلام . ٩٥لا يستوي القاعدون . . . . . قوله تعالى : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } . في المراغم خمسة تأويلات : أحدها : أنه المتحوَّل من أرض إلى أرض ، وهذا قول ابن عباس والضحاك . ومنه قول نابغة بني جعدة : كطْودٍ يُلاذ بأركانه . . . عزيز المراغم والمطلب والثاني : مطلب المعيشة ، وهو قول السدي ، ومنه قول الشاعر : إلى بلدٍ غير داني المحل . . . بَعيد المُراغم والمطلب والثالث : أن المراغم المهاجر ، وهو قول ابن زيد : والرابع : يعني بالمراغم مندوحة عما يكره . والخامس : أن يجد ما يرغمهم به ، لأن كل من شخص عن قومه رغبة عنهم فقد أرغمهم ، وهذا قول بعض البصريين . وأصل ذلك الرغم وهو الذل . والرّغام : التراب لأنه ذليل ، والرُّغام بضم الراء ما يسيل من الأنف . وفي قوله تعالى : { وَسَعَةً } ثلاث تأويلات : أحدها : سعة في الرزق وهو قول ابن عباس . والثاني : يعني من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى ، وهو قول قتادة . والثالث : سعة في إظهار الدين . ١٠١قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُم فِي الأَرْضِ } أي سرتم ، لأنه يضرب الأرض برجله في سيره كضربه بيده ، ولذلك سُمِّيَ السفر في الأرض ضَرْباً . { فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } اختلف في هذا القصر المشروط بالخوف على قولين : أحدهما : أنه قَصَرَ أركانها إذا خاف ، مع استيفاء أعدادها فيصلي عند المسايفة والتحام القتال كيف أمكنه قائماً وقاعداً ومومياً ، وهي مثل قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ فِرجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } " [ البقرة : ٢٣٩ ] وهذا قول ابن عباس . والثاني : أنه قصر أعدادها من أربع إلى ما دونها ، وفيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أن هذا مشروط بالخوف من أربع إلى ركعتين ، فإن كان آمناً مقيماً لم يقصر ، وهذا قول سعد بن أبي وقاص ، وداود بن علي . والثاني : أنه قَصْران ، فقصر الأمَنْ ، من الأربع إلى ركعتين ، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة ، وهذا قول جابر بن عبد اللّه والحسن . وقد روى مجاهد عن ابن عباس قال : فرض اللّه عز وجل على لسان نبيكم ( صلى اللّه عليه وسلم ) في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة . والثالث : أنه يقصر في سفر خائفاً وآمناً من أربع إلى ركعتين لا غير . روي عن أبي أيوب عن علي عليه السلام قال : سأل قوم من التجار رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قالوا : يا رسول إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل اللّه تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ } ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أُخرى مثلها في أثرها ، فأنزل اللّه تعالى بين الصلاتين { إِن خِفْتُم أَن يَفْتِنَكُم الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُم عَدُوّاً مُبِيْناً } إلى قوله : { عَذَاباً مُّهِيناً } فنزلت صلاة الخوف . ١٠٢قوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } وهذا خطاب للنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أن يصلي في الخوف بأصحابه . واختلف أهل العلم فيه هل خص به النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ؟ على قولين : أحدهما : أنه خاص له وليس لغيره من أمته أن يصلي في الخوف كصلاته ، لأن المشركين عزموا على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم ، فاطلع اللّه نبيه على سرائرهم وأمره بالتحرز منهم ، فكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد ، فلذلك صار هذا خاصاً للنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، وهذا القول محكي عن أبي يوسف . والقول الثاني : أن ذلك عام للنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ولغيره من أمته إذا كان على مثل حاله في خوفه ، لأن ذكر السبب الذي هو الخوف يوجب حمله عليه متى وجد كما فعل الصحابة بعده حين خافوا وهو قول الجمهور . وقوله تعالى : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } يعني مع النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) في الصلاة ، وطائفة بإزاء العدو . ثم قال تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } فيه قولان : أحدهما : أن المأمورين بأخذ السلاح هم الذين مع رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، وهذا قول الشافعي . والثاني : هم الذين بإزاء العدو يحرسون ، وهذا قول ابن عباس . ثم قال تعالى : { فَإِذَا سَجَدُواْ } يعني فإذا سجدت الطائفة التي معك في الصلاة . { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } يعني بإزاء العدو . واختلفوا في قوله تعالى : { مِن وَرَآئِكُمْ } هل ذلك بعد فراغهم من الصلاة وتمامها بالركعة التي أدركوها معه ؟ على قولين : أحدهما : قد تمت بالركعة حتى يصلوا معها بعد فراغ الإمام ركعة أخرى ، وهذا قول من أوجب عليه الخوف ركعتين . ومن قال بهذا اختلفوا هل يتمون الركعة الباقية عليهم قبل وقوفهم بإزاء العدو أو بعده ؟ على قولين : أحدهما : قبل وقوفهم بإزاء العدو ، وهو قول الشافعي . والثاني : بعده وهو قول أبي حنيفة . ثم قال تعالى : { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَك } يريد الطائفة التي بإزاء العدو تأتي فتصلي مع رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) الركعة التي بقيت عليه ، وتمضي الطائفة التي صلّت فتقف موضعها بإزاء العدو . وإذا صلت مع النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) الركعة الباقية عليه ففيه قولان : أحدهما : أن ذلك فرضها وتسلم بسلامه ، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعة . والقول الثاني : أن عليها ركعة أخرى ، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعتين كالأمن ، فعلى هذا متى تفارقه ؟ فعلى قولين : أحدهما : قبل تشهده . والثاني : بعده ، وقد روى القولين معاً سهل بن أبي حَثمة عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) . وهل تتم ركعتها الباقية وقوفها بإزاء العدو ؟ على قولين : أحدهما : تتمها قبل الوقوف بإزائه ، وهو قول الشافعي . والثاني : تقف بإزائه قبل إتمامها حتى إذا أتمت الطائفة الأولى ركعتها عادت فوقفت بإزاء العدو ، ثم خرجت هذه فأتمت ركعتها ، وهذا قول أبي حنيفة . وهذه الصلاة هي نحو صلاة النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) بذات الرقاع . ١٠٣قوله تعالى : { فَإذَا قَضَيتُمُ الصَلاَّةَ فَاذْكُرُواْ اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً } يعني ذكر اللّه بالتعظيم والتسبيح والتقديس بعد صلاته في خوفٍ وغيره : قال ابن عباس : لم يعذر أحد في تركه إلا مغلوباً على عقله . { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } فيه تأويلان : أحدهما : يعني فإذا أقمتم بعد السفر فأتموا الصلاة من غير قصر ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد . والثاني : معناه فإذا أمِنْتم بعد خوفكم فأتموا الركوع والسجود من غير إيماء ولا مشي ، وهذا قول السدي . { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } فيه تأويلان : أحدهما : أي فرضاً واجباً ، وهو قول ابن عباس ، والحسن . والثاني : يعني مؤقتة في أوقاتها ونجومها ، كلما مضى نجم جاء نجم ، وهو قول ابن مسعود ، وزيد بن أسلم . ١٠٤{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَومِ } أي لا تضعفواْ في طلبهم لحربهم . { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ } أي ما أصابهم منكم فإنهم يألمون به كما تألمون بما أصابكم منهم . ثم قال تعالى : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه مَا لاَ يَرْجُونَ } أي هذه زيادة لكم عليهم وفضيلة خُصِصْتُم بها دونهم مع التساوي في الألم . وفي هذا الرجاء اثنان من التأويلات : أحدهما : معناه أنكم ترجون من نصر اللّه ما لا يرجون . والثاني : تخافون من اللّه لا يخافون ، ومنه قوله تعالى : { مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للّه وَقَاراً } " [ نوح : ٣١ ] أي لا تخافون للّه عظمة . ومنه قول الشاعر : لا ترتجي حين تلاقي الذائدا أسبعةً لاقت معاً أم واحداً ١٠٥قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أن الكتاب حق . والثاني : أن فيه ذكر الحق . والثالث : أنك به أحق . { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه } يحتمل وجهين : أحدهما : بما أعلمك اللّه أنه حق . والثاني : بما يؤديك اجتهادك إليه أنه حق . { وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خصيماً } أي مخاصماً عنهم ، وهذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق ، واختلف في سبب نزولها فيه ، فقال السدي : كان قد أودع درعاً وطعاماً فجحده ولم تقم عليه بينه ، فهم رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بالدفع عنه ، فبين اللّه تعالى أمره . ١٠٦وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦) ١٠٧وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧) ١٠٨يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨) ١٠٩هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) ١١٠وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠) ١١١وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١) ١١٢وقال الحسن : إنه كان سرق درعاً وطعاماً فأنكره واتهم غيره وألقاه في منزله ، وأعانه قوم من الأنصار ، وخاصم النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) عنه أو هَمّ بذلك ، فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية إلى قوله : { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } يعني الذي اتهمه السارق وألقى عليه السرقة . وقيل : إنه كان رجلاً من اليهود يقال له يزيد بن السمق . وقيل : بل كان رجلاً من الأنصار يُقال له لبيد بن سهل . وقيل : طعمة بن أبيرق فارتد فنزلت فيه هذه الآية . ١١٥ولحق بمشركي أهل مكة فأنزل اللّه تعالى فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } " الآية [ النساء : ١١٥ ] . ١١٦إن اللّه لا . . . . . قوله تعالى : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } فيه أربعة تأويلات : أحدها : أن الإناث اللات والعزى ومَناة ، وهو قول السدي وابن زيد وأبي مالك . ١١٧والثاني : أنها الأوثان ، وكان في مصحف عائشة : { إِن تَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } . والثالث : الملائكة ، لأنهم كانواْ يزعمون أنهم بنات اللّه ، وهذا قول الضحاك . والرابع : الموات الذي لا روح فيه ، لأن إناث كل شيء أرذله ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة . ١١٩قوله تعالى : { ولأُضِلَّنَّهُمْ } يعني الإيمان . { ولأُمَنِّيَنَّهُمْ } يعني بطول الأمل في الدنيا ليؤثروها على الآخرة . { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الأَنْعَامِ } أي لَيُقَطِّعُنَّهَا نُسكاً لأوثانهم كالبحيرة والسائبة . { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه } فيه ثلاث تأويلات . أحدها : يعني دين اللّه ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وإبراهيم . والثاني : أنه أراد به خصاء البهائم ، وهذا قول ابن عباس ، وأنس ، وعكرمة . والثالث : أنه الوشم ، وهو قول ابن مسعود ، والحسن . قال ابن مسعود : { لَعَنَ اللّه الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ والمتنمِّصَاتِ والمُتَفَلِّجَاتِ للحسُنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللّه } . ١٢٠يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (١٢٠) ١٢١أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١) ١٢٢وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اْلأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اْلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢) ١٢٣قوله تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيَّ أَهْلِ الْكِتَابِ } في الكلام مضمر محذوف وتقديره ليس الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، على قولين : أحدهما : أنهم عبدة الأوثان ، وهو قول مجاهد . والثاني : أنهم أهل الإسلام ، وهو قول مسروق ، والسدي . { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } السوء ما يسوء من القبائح ، وفيه ها هنا ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه الشرك باللّه تعالى ، وهو قول ابن عباس . الثاني : أنه الكبائر ، وهذا قول أُبَيِّ بن كعب . والثالث : أنه ما يلقاه الإنسان في الدنيا من الأحزان والمصائب جزاءً عن سيئاته كما روى محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : لما نزلت هذه الآية : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْرَ بِهِ } شقت على المسلمين وبلغت بهم ما شاء اللّه أن تبلغ فَشَكو ذلك إلى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال : { قَارِبُوا وَسدِّدُواْ فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبةُ يُنْكَبُهَا أو الشَّوْكِةُ يُشَاكُهاَ }. وروى الأعمش عن مسلم قال : قال أبو بكر : يا رسول اللّه ما أشَدَّ هذه الآية { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْرَ بِهِ } فقال : { يَا أَبَا بَكْر إِنَّ المُصِيْبَةَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ }. ١٢٤وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (١٢٤) ١٢٤وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) ١٢٦وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اْلأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (١٢٦) ١٢٧قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الآية . اختلف في سبب نزول هذه الآية على قولين : أحدهما : هو أن سبب نزولها أنهم في الجاهلية كانواْ لا يورثون النساء ولا الأطفال ، فلما فرض اللّه تعالى المواريث في هذه السورة شق ذلك على الناس ، فسألوا رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) عن ذلك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية . قوله تعالى : { اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فيه قولان . أحدهما : يعني المواريث ، وهذا قول ابن عباس بن جبير وقتادة مجاهد وابن زيد . والثاني : أنهم كانواْ لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملكها أولياؤهن ، فلما نزل قوله تعالى : { وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } سألوا رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية . قوله تعالى : { اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } يعني ما فرض لهن من الصداق وهو قول عائشة . { وترغبون أن تنكحوهن } فيه تأويلان : أحدهما : ترغبون عن نكاهن لقبحهن . والثاني : تمسكونهن رغبة في أموالهن وجمالهن ، وهو قول عائشة . ١٢٨وإن امرأة خافت . . . . . قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً } الآية اختلف في سبب نزول هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها نزلت في رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) حين هم بطلاق سودة بنت زمعة فجعلت يومها لعائشة على ألا يطلقها ، فنزلت هذه الآية فيها . وهذا قول السدي . والقول الثاني : أنها عامة في كل امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً . والنشوز : الترفع عنها لبغضها ، والإعراض : أن ينصرف عن الميل إليها لمؤاخذة أو أثرة . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } إمَّا من تَرْكِ مهرٍ أو إسقاط قَسَم . { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فيه تأويلان : أحدهما : يعني خيراً من النشوز والإعراض ، وهو قول بعض البصريين . والثاني : خير من الفرقة ، وهو قول الزجاج . { وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ } فيه تأويلان : أحدهما : أنفس النساء أحضرت الشح عن حقوقهن من أزواجهن وأموالهن ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير . والثاني : أحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه ، وهو قول الحسن . ١٢٩قوله تعالى : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ } يعني بقلوبكم ومحبتكم . { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } فيه تأويلان : أحدهما : ولو حرصتم أن تعدلوا في المحبة ، وهو قول مجاهد . والثاني : ولو حرصتم في الجماع ، وهو قول ابن عباس . { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ } أي فلا تميلواْ بأفعالكم فتُتْبِعُوهَا أهواءَكم . { فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } يعني لا أيِّماً ولا ذات زوْج . ١٣٠قوله تعالى : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } يعني الزوجين إن تفرقا بالطلاق . { يُغْنِ اللّه كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : يغني اللّه كل واحد منهما بالقناعة والصبر عن صاحبه ، ومعنى قوله : { من سعته } أي من رحمته ، لأنه واسع الرحمة . والثاني : يغني اللّه كل واحد منهما عن صاحبه بمن هو خير منه ، ومعنى قوله : { من سعته } أي من قدرته لأنه واسع القدرة . والثالث : يغني اللّه كل واحد منهما بمال يكون أنفع له من صاحبه . ومعنى قوله : { من سعته } أي من غناه لأنه واسع الغنى . ١٣١وللّه ما في . . . . . قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بأَخَرِينَ } روى سهل بن أبي صالح عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه لما نزلت ضرب بيده على ظهر سلمان وقال : { هُمْ قَوْمُ هّذا } يعني عجم الفرس . ١٣٤قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ } ثواب الدنيا النعمة ، وثواب الآخرة الجنة . ١٣٥يا أيها الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } يعني بالعدل { شُهَدَآءَ للّه } يعني بالحق . { وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراراه بما عليه من الحق لخصمه . { أَوِ الْوَالِدَينِ وَالأَقْرَبِينَ } أن يشهد عليهم لا لهم . { إِن يَكُنْ غَنِّياً أَوْ فَقِيراً فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } قال السدي : نزلت في النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) وقد اختصم إليه رجلان : غني وفقير ، فكان ميله مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فأمره اللّه عز وجل أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال : { إِن يَكُنْ غَنِّياً أَوْ فَقِيراً فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } . وقال ابن عباس : نزلت في الشهادة لهم وعليهم . { وَإِن تَلوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } قرأ ابن عباس وحمزة بواو واحدة ، وهي من الولاية أي تلوا أمور الناس أو تتركواْ ، وهذا للولاة والحكام . وقرأ الباقون : { تَلْوُواْ } بواوين . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : هو أن يلوي الإنسان لسانه بالشهادة كما يلوي الرجل ديْن الرجل إذا مطله ، ومنه قول النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) { ولَيُّ الْوَاجِدِ يُبِيْحُ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } وقال الأعشى : يلوونني ديني النهار وأقتضى ديني إذا وقذ النعاس الرُّقدا وتكون على هذه القراءة والتأويل هذا خطاب الشهود . ١٣٦يا أيها الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ } فإن قيل فكيف قيل لهم { ءَامِنُواْ } وحُكِي عنهم أنهم آمنوا ؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة : أحدها : يا أيها الذين آمنواْ بمن قبل محمد من الأنبياء آمنواْ باللّه ورسوله ويكون ذلك خطاباً ليهود والنصارى . الثاني : معناه يا أيها الذين آمنوا بأفواههم أمنواْ بقلوبكم ، وتكون خطاباً للمنافقين . والثالث : معناه يا أيها الذين آمنوا داومواْ على إيمانكم ، ويكون هذا خطاباً للمؤمنين ، وهذا قول الحسن . ١٣٧قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } فيه ثلاثة أقاويل : فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أنهم آمنواْ بموسى ثم كفرواْ بعبادة العجل ، ثم آمنوا بموسى بعد عوده ثم كفرواْ بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى اللّه عليهم وسلم ، وهذا قول قتادة . والثاني : أنهم المنافقون آمنوا ثم ارتدواْ ، ثم آمنوا ثم ارتدواْ ، ثم ماتواْ على كفرهم ، وهذا قول مجاهد . والثالث : أنهم قوم من أهل الكتاب قصدواْ تشكيك المؤمنين فكانواْ يظهرون الإيمان ثم الكفر ثم ازدادواْ كفراً بثبوتهم عليه ، وهذا قول الحسن . واختلف لمكان هذه الآية في استتابة المرتد على قولين : أحدهما : أن المرتد يستتاب ثلاث مرات بدلالة الآية ، فإن ارتد بعد الثلاث قتل من غير استتابة ، وهذا قول علي . والثاني : يستتاب كلما ارتد ، وهو قول الشافعي والجمهور . ١٣٨بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨) ١٣٩اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩) ١٤٠وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠) ١٤١قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } يعني المنافقين . { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّه قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي فأعطونا من الغنيمة . { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } فيه ثلاث تأويلات : أحدها : معناه ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة ونمنعكم من المؤمنين بالتخذيل عنكم . والثاني : معناه ألم نبين لكم أننا على دينكم ، وهذا قول ابن جريج . والثالث : معناه ألم نغلب عليكم ، وهو قول السدي . وأصل الاستحواذ الغلبة ، ومنه قوله تعالى : { اسْتَحْوَذَ عَلَيهُمُ الشَّيْطَانُ } يعني غلب عليهم . وفي قوله تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيْلاً } فيه قولان : أحدهما : يعني حُجّة ، وهذا قول السدي . والثاني : سبيلاً في الآخرة ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس . ١٤٢قوله عز وجل : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّه وَهُوَ خَادِعُهُمْ } معنى { يُخَادِعُونَ اللّه } أي يخادعون نبي اللّه بما يظهرونه من الإيمان ويبطنونه من الكفر ، فصار خداعهم لرسول اللّه صلى اللّه عليهم خداعاً للّه عز وجل . { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } يعني اللّه تعالى ، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : يعني يعاقبهم على خداعهم ، فسمى الجزاء على الفعل باسمه . والثاني : أنه أمر فيهم بأمر المُخْتَدِع لهم بما أمر به من قبول إيمانهم وإن علم ما يبطنون من كفرهم . والثالث : ما يعطيهم في الآخرة من النور الذي يمشون به مع المؤمنين ، فإذا جاؤواْ إلى الصراط طفىء نورهم ، فتلك خديعة اللّه إياهم . { وَإِذَا قَاموا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } يحتمل قولين : أحدهما : متثاقلين . والثاني : مقصَّرين . { يُرَآؤُونَ النَّاسَ } يعني أنهم يقصدون بما يفعلونه من البر رياء الناس دون طاعة اللّه تعالى . { وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّه إِلاَّ قَلِيلاً } فيه قولان : أحدهما : الرياء ، لأنه لا يكون إلا ذِكراً حقيراً ، وهو قول قتادة . والثاني : يسيراً لاقتصاره على ما يظهر من التكبير دون ما يخفي من القراءة والتسبيح ، وإنما قّلَّ من أجل اعتقادهم لا من قلة ذكرهم . قال الحسن : لأنه كان لغير اللّه تعالى . ١٤٣مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) ١٤٤يا أيها الذين . . . . . قوله عز وجل : { لاَّ يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } فيه أربعة تأويلات : أحدها : يعني إلا أن يكون مظلوماً فيدعو على من ظلمه ، وهذا قول ابن عباس . والثاني : إلا أن يكون مظلوماً فيجهر بظلم من ظلمه ، وهذا قول مجاهد . والثالث : إلا من ظلم فانتصر من ظالمه ، وهذا قول الحسن ، والسدي . والرابع : إلا أن يكون ضيفاً ، فينزل على رجل فلا يحسن ضيافته ، فلا بأس أن يجهر بذمه ، وهذه رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد . ثم قال بعد أن أباح بالسوء من القول لمن كان مظلوماً : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ } يعني خيراً بدلاً من السوء ، أو تخفوا السوء ، وإن لم تبدوا خيراً اعفوا عن السوء ، كان أولى وأزكى ، وإن كان غير العفو مباحاً . ١٥٣قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنْ السَّمَاءِ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أن اليهود سألوا محمداً ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً ، كما نزل على موسى الألواح ، والتوراة مكتوبة من السماء ، وهذا قول السدي ، ومحمد بن كعب . والثاني : أنهم سألوه نزول ذلك عليهم خاصة ، تحكماً في طلب الآيات ، وهذا قول الحسن ، وقتادة . والثالث : أنهم سألوه أن ينزِّل على طائفة من رؤسائهم كتاباً من السماء بتصديقه ، وهذا قول ابن جريج . { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّه جَهْرَةً } يحتمل وجهين : أحدهما : أن اللّه تعالى بيَّن بذلك أن سؤالهم للإعْنَاتِ لا للاستبصار كما أنهم سألوا موسى أن يريهم اللّه جهرة ، ثم كفروا بعبادة العجل . والثاني : أنه بيَّن بذلك أنهم سألوا ما ليس لهم ، كما أنهم سألوا موسى من ذلك ما ليس لهم . { فَقَالُواْ أَرِنَا اللّه جَهْرَةً } فيه قولان : أحدهما : أنهم سألوه رؤيته جهرة ، أي معاينة . والثاني : أنهم قالوا : جهرة من القول أّرِنا اللّه ، فيكون على التقديم والتأخير ، وهذا قول ابن عباس . { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } فيه قولان : أحدهما : بظلمهم لأنفسهم . والثاني : بظلمهم في سؤالهم . ١٥٤قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِم } يعني : بالعهد الذي أخذ عليهم بعد تصديقهم بالتوراة ان يعملوا بما فيها ، فخالفوا بعبادة العجل ونقضوه ، فرفع اللّه عليهم الطور ، ليتوبوا ، وإلاَّ سقط عليهم فتابوا حينئذ . { وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } فيه قولان : أحدهما : أنه باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل ، وهو من أبواب بيت المقدس ، وهذا قول قتادة . والثاني : باب حِطَّة فأمروا بدخوله ساجدين للّه عز وجل . { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ } قرأ ورش عن نافع { تَعَدُّوا } بفتح العين وتشديد الدال ، من الاعتداء ، وقرأ الباقون بالتخفيف من عَدَوت . وعدوهم فيه تجاوزهم حقوقه ، فيكون تعديهم فيه - على تأويل القراءة الثانية - ترك واجباته . { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } وهو ميثاق آخر بعد رفع الطور عليهم ، غير الميثاق الأول . وفي قوله تعالى : { غَلِيظاً } قولان : أحدهما : أنه العهد بعد اليمين . والثاني : أن بعض اليمين ميثاق غليظ . ١٥٥فبما نقضهم ميثاقهم . . . . . قوله تعالى : { . . . وَقَولِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } فيه قولان : أحدهما : أنها محجوبة عن فهم الإعجاز ودلائل التصديق ، كالمحجوب في غلافة ، وهذا قول بعض البصريين . والثاني : يعني أنها أوعية للعلم وهي لا تفهم احتجاجك ولا تعرف إعجازك ، وهذا قول الزجاج ، فيكون ذلك منهم على التأويل الأول إعراضاً ، وعلى التأويل الثاني إبطالاً . { بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فيه تأويلان : أحدهما : أنه جعل فيها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع ، وهو قول بعض البصريين . الثاني : ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرشداً ، وهذا قول الزجاج . { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه تأويلان : أحدهما : أن القليل منهم يؤمن باللّه . الثاني : لا يؤمنون إلا بقليل ، وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون جميعهم . ١٥٧قوله عز وجل : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه } ، أما قولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } فهو من قول اليهود ، أخبر اللّه به عنهم . أما { رَسُولَ اللّه } ففيه قولان : أحدهما : أنه من قول اليهود بمعنى رسول اللّه في زعمه . والثاني : أنه من قول اللّه تعالى لا على وجه الإخبار عنهم ، وتقديره : الذي هو رسولي . { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أنهم كانوا يعرفونه فألقى شبهه على غيره ، فظنوه المسيح فقتلوه ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، ووهب ، والسدي . والثاني : أنهم ما كانوا يعرفونه بعينه ، وإن كان مشهوراً فيهم بالذكر ، فارتشى منهم يهودي ثلاثين درهماً ، ودلهم على غيره مُوهِماً لهم أنه المسيح ، فشُبِّهَ عليهم . والثالث : أنهم كانوا يعرفونه ، فخاف رؤساؤهم فتنة عوامِّهم ، فإن اللّه منعهم عنه ، فعمدوا إلى غيره ، فقتلوه وصلبوه ، ومَوَّهُوا على العامة أنه المسيح ، ليزول افتتانهم به . { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } فيه قولان : أحدهما : أنهم اختلفوا فيه قبل قتله ، فقال بعضهم : هو إله ، وقال بعضهم : هو ولد ، وقال بعضهم : هو ساحر ، فشكوا { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاَع الظَّنِّ } الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف . والثاني : ما لهم بحاله من علم - هل كان رسولاً أو غير رسول ؟ - إلا اتباع الظن . { وَمَا قَتَلُوهُ يَقْيناً } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : وما قتلوا ظنَّهم يقيناً كقول القائل : ما قتلته علماً ، وهذا قول ابن عباس ، وجويبر . والثاني : وما قتلوا أمره يقيناً أن الرجل هو المسيح أو غيره ، وهذا قول السدي . والثالث : وما قتلوه حقاً ، وهو قول الحسن . ١٥٨{ بَل رَّفَعَهُ اللّه إِلَيْهِ } فيه قولان : أحدهما : أنه رفعه إلى موضع لا يجري عليه حكم أحد من العباد ، فصار رفعه إلى حيث لا يجري عليه حكم العباد رفعاً إليه ، وهذا قول بعض البصريين . والثاني : أنه رفعه إلى السماء ، وهو قول الحسن . ١٥٩قوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح ، إذا نزل من السماء ، وهذا قول ابن عباس ، وأبي مالك ، وقتادة ، وابن زيد . والثاني : إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت الكتابي عند المعاينة ، فيؤمن بما أنزل اللّه من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن سيرين ، وجويبر . والثالث : إلا ليؤمنن بمحمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) قبل موت الكتابي ، وهذا قول عكرمة . { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } يعني المسيح ، وفيه قولان : أحدهما : أنه يكون شهيداً بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه من أهل عصره . والثاني : يكون شهيداً أنه بلَّغ رسالة ربه ، وأقر بالعبودية على نفسه ، وهذا قول قتادة ، وابن جريج . ١٦٠فبظلم من الذين . . . . . قوله تعالى : { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب للنصارى خاصة . والثاني : أنه خطاب لليهود والنصارى ، لأن الفريقين غلوا في المسيح ، فقالت النصارى : هو الرب ، وقالت اليهود : هو لغير رشدة ، وهذا قول الحسن . والغلو : مجاوزة الحد ، ومنه غلاء السعر ، إذا جاوز الحد في الزيادة ، وغلا في الدين ، إذا فرط في مجاوزة الحق . ١٧١{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّه إِلاَّ الْحَقَّ } يعني في غلوهم في المسيح . { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه } رداً على مَنْ جعله إلهاً ، أو لغير رشدة [ أو ] ساحراً . { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ } في كلمته ثلاثة أقاويل : أحدها : لأن اللّه كَلَّمَه حين قال له كن ، وهذا قول الحسن ، وقتادة . الثاني : لأنه بشارة اللّه التي بشر بها ، فصار بذلك كلمة اللّه . والثالث : لأنه يهتدى به كما يُهْتَدَى بكلام اللّه . { وَرُوحٌ مِّنْهُ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : سُمِّي بذلك لأنه رُوح من الأرواح ، وأضافه اللّه إلى نفسه تشريفاً له . والثاني : أنه سُمِّي روحاً ؛ لأنه يحيا به الناس كما يُحْيَون بالأرواح . والثالث : أنه سُمِّي بذلك لنفخ جبريل عليه السلام ، لأنه كان ينفخ فيه الروح بإذن اللّه ، والنفخ يُسَمَّى في اللغة روحاً ، فكان عن النفخ فسمي به { فَئآمِنُواْ بِاللّه وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ : ثَلاَثَةٌ ، انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } في الثلاثة قولان : أحدهما : هو قول النصارى أب وابن وروح القدس ، وهذا قول بعض البصريين . والثاني : هو قول من قال : آلهتنا ثلاثة ، وهو قول الزجاج . ١٧٢لن يستنكف المسيح . . . . . قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } هو النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، لِمَا معه من المعجز الذي يشهد بصدقه . { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } يعني القرآن سُمِّي نوراً لأنه يظهر به الحق ، كما تظهر المرئيات بالنور . ١٧٣فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (١٧٣) ١٧٤يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤) ١٧٥قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّه وَاعْتَصَمُواْ بِهِ } فيه قولان : أحدهما : اعتصموا بالقرآن ، وهذا قول ابن جريج . والثاني : اعتصموا باللّه من زيغ الشيطان وهوى الإنسان . { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } في الهداية قولان : أحدهما : أن يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة ، وهذا قول الحسن . والثاني : هو الأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة ، وهو قول بعض المفسرين البصريين . ١٧٦قوله تعالى : { يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة } الآية . قال البراء ابن عازب : آخر سورة نزلت كاملة سورة براءة ، وآخر آية أنزلت خاتمة ، سورة النساء { يستفتونك . . } وقال جابر بن عبد اللّه : نزلت هذه الآية فيَّ ، وقد سألت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) حين عادني في مرضي ، ولي تسع أخوات ، كيف أصنع بمالي ؟ فلم يجبني بشيء ، حتى نزلت { يستفتونك } إلى آخر السورة . وقال ابن سيرين : نزلت هذه الآية على النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) هو في مسيرة ، وإلى جبنه حذيفة بن اليمان ، فبلغها رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) حذيفة بن اليمان ، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب ، وهو يسير خلفه . |
﴿ ٠ ﴾