سورة الأنفال

١

قوله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ للّه وَالرَّسُولِ } وهذا الخطاب لرسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) حين سأله أصحابه يوم بدر عن الأنفال .

وفي هذه الأنفال التي سألوه عنها خمسة أقاويل :

أحدها : أنها الغنائم ، وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ،

الثاني : أنها السرايا التي تتقدم الجيش ، وهذا قول الحسن .

الثالث : الأنفال ما ندّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من دابة أو عبد ، وهذا أحد قولي ابن عباس .

الرابع : أن الأنفال الخمس من الفيء والغنائم التي جعلها اللّه تعالى لأهل الخمس ، وهذا قول مجاهد .

الخامس : أنها زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش لما قد يراه من الصلاح .

والأنفال جمع نَفَل ، وفي النفل قولان :

أحدهما : أنه العطية ، ومنه قيل للرجل الكثير العطاء : نوفل ، قال الشاعر :

يأتي الظلامة منه النوفل الزُّفَرُ

فالنوفل : الكثير العطاء . والزفر : الحمال للأنفال ، ومنه سمي الرجل زفر .

والقول الثاني : أن النفل الزيادة من الخير ومنه صلاة النافلة . قال لبيد بن ربيعة :

إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن اللّه ريثي وعجل

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية على أربعة أقاويل :

أحدها : ما رواه ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) { مَنْ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكذَا } فسارع إليه الشبان وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما فتح اللّه تعالى عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، فأنزل اللّه تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الآية .

الثاني : ما روى محمد بن عبيد بن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميةَ وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فجئت به النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقلت : هبه لي يا رسول اللّه ، فقال : { اطْرَحْهُ فِى القَبض } فطرحته ورجعت وبي من الغم ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال : فما تجاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال فقال : { اذْهَبْ فُخُذْ سَيْفَك }.

الثالث : أنها نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً فاختلفوا وكانوا أثلاثاً فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ } الآية . فملّكه اللّه رسوله فقسمه كما أراه اللّه ، قاله عكرمة والضحاك وابن جريج .

والرابع : أنهم لم يعلموا حكمها وشكّوا في إحلالها لهم مع تحريمها على من كان قبلهم فسألوا عنها ليعلموا حكمها من تحليل أو تحريم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .

ثم اختلف أهل العلم في نسخ هذه الآية على قولين :

أحدهما : أنها منسوخة ب

قوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } " [ الانفال : ٤١ ] . الآية ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، والسدي .

والقول الثاني : أنها ثابتة الحكم ومعنى ذلك ؛ قل الأنفال للّه ، وهي لا شك للّه مع الدنيا بما فيها والآخرة ، والرسول يضعها في مواضعها التي أمره اللّه بوضعها فيها ، قاله ابن زيد .

{ فَاتَّقُوا اللّه وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : أن يرد أهل القوة على أهل الضعف .

الثاني : أن يسلِّموا للّه وللرسول ليحكما في الغنيمة بما شاء اللّه .

٢

قوله عز وجل : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : خافت .

الثاني : رَقّتْ .

{ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ ءَايَاتُهُ } يعني آيات القرآن بما تضمنته من أمر ونهي . { زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } فيه وجهان :

أحدهما : تصديقاً .

الثاني : خشية .

{ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يحتمل وجهين :

أحدهما : فيما يخافونه من الشدة في الدنيا .

الثاني : فيما يرجونه من ثواب أعمالهم في الآخرة .

٣

اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)

٤

أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)

٥

قوله عز وجل : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } فيه قولان :

أحدهما : كما أخرجك ربك من مكة إلى المدينة بالحق مع كراهه فريق من المؤمنين كذلك ينجز وعدك في نصرك على أعدائك بالحق .

والثاني : كما أخرجك ربك من بيتك مِن المدينة إلى بدر بالحق كذلك جعل لك غنيمة بدر بالحق .

وفي قوله : { بِالْحَقِّ } وجهان :

أحدهما : أنك خرجت ومعك الحق .

الثاني : أنه أخرجك بالحق الذي وجب عليك .

{ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } فيه وجهان :

أحدهما : كارهون خروجك .

الثاني : كارهون صرف الغنيمة عنهم لأنهم لم يعلموا أن اللّه تعالى قد جعلها لرسوله دونهم .

٦

قوله عز وجل : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } يعني في القتال يوم بدر .

و { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } يحتمل وجهين :

أحدهما : بعد ما تبين لهم صوابه .

الثاني : بعد ما تبين لهم فرضه .

وفي المجادل له قولان :

أحدهما : أنهم المشركون ، قاله ابن زيد .

الثاني : أنهم طائفة من المؤمنين وهو قول ابن عباس ، وابن إسحاق ، لأنهم خرجوا لأخذ العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان فلما فاتهم ذلك أمروا بالقتال فجادلوا طلباً للرخصة وقالوا ما تأهبنا في الخروج لقتال العدو ، فأنزل اللّه تعالى : { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } يعني كأنهم في قتال عدوهم يساقون إلى الموت ، رعباً وأسفاً لأنه أشد لحال من سيق إلى الموت أن يكون ناظراً له وعالماً به .

٧

قوله عز وجل : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } الآية . وسبب ذلك أن عير قريش لما أقبلت من الشام مع أبي سفيان همّ رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بالخروج لأخذها ، وسار فبلغ ذلك قريشاً فخرجت للمنع عنها ، فلما علم النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) بخروجها شاور أصحابه ، فقال سعد بن معاذ : يا رسول اللّه قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أردت فوالذي بعثك إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك ، فسر رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بقول سعد وقال : { سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللّه وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللّه تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الْطَّائِفَتَينِ وَاللّه لَكَأَنِي أَنْظُرُ الآنَ إِلَى مَصَارِعِ الْقَومِ } فذلك معنى قوله { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ } يعني العير التي مع أبي سفيان أو الظفر بقريش الخارجين للمنع منها .

{ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي غير ذات الحرب وهي العير لأن نفوسهم في لقائها أسكن ، وهم إلى ما فيها من الأموال أحوج .

وفي الشوكة التي كُني بها عن الحرب وجهان :

أحدهما : أنها الشدة فكُني بها عن الحرب لما فيها من الشدة ، وهذا قول قطرب . والثاني : أنها السلاح ، وكُني بها عن الحرب لما فيها من السلاح ، من قولهم رجل شاكٍ في السلاح ، قاله ابن قتيبة .

{ وَيُريدُ اللّه أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } فيه قولان :

أحدهما : إظهار الحق بإعزاز الدين في وقته على ما تقدم من وعده .

والثاني : أن الحق في أمره لكم أن تجاهدوا عدوكم .

وفي صفة ذلك وجهان لأصحاب الخواطر .

أحدهما : يحق الحق بالإقبال عليه ويبطل الباطل بالإعراض عنه .

الثاني : يحق الحق بالقبول ويبطل الباطل بالرد .

{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ } معناه ليظهر الحق يعني الإسلام .

{ ويُبْطِلَ الْبَاطِلَ } أي يذهب بالباطل يعني الشرك .

قال الحسن . هذه الآية نزلت قبل قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } وهي في القراءة بعدها .

روى سماك عن عكرمة قال : قيل لرسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يوم بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فقال له العباس وهو أسير في أيديهم : ليس لك ذلك ، فقال : { لم ؟ } فقال : لأن اللّه تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك .

٨

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)

٩

قوله عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : تستنصرون .

الثاني : تستجيرون .

والفرق بين المستنصر والمستجير أن المستنصر : طالب الظفر ، والمستجير : طالب الخلاص .

والفرق بين المستغيث والمستعين أن المستغيث : المسلوب القدرة ، والمستعين الضعيف القدرة .

{ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أي فأعانكم .

والفرق بين الاستجابة والإجابة أن الإجابة ما لم يتقدمها امتناع . { أَنَِّي مُمِدُّكُم بَأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : مع كل ملك ملك ، وهو قول ابن عباس فتكون الألف ألفين . قال الشاعر :

إذا الجوزاء أردفت الثريا

ظننت بآل فاطمة الظنونا

الثاني : معناه متتابعين ، قاله السدي ، وقتادة .

الثالث : معنى مردفين أي ممدّين ، والإرداف إمداد المسلمين بهم ، قاله مجاهد .

١٠

{ وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلاَّ بُشْرَى } فيه وجهان :

أحدهما : أن البشرى هي في مددهم بألف من الملائكة بشروهم بالنصر فكانت هي البشرى التي ذكرها اللّه تعالى .

والثاني : البشرى النصرة التي عملها اللّه لهم .

{ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : بالبشرى .

والثاني : بالملائكة .

واختلفوا في قتال الملائكة معهم على قولين :

أحدهما : لم يقاتلوا وإنما نزلوا بالبشرى لتطمئن به قلوبهم ، وإلا فملك واحد يهلك جميع المشركين كما أهللك جبريل قوم لوط .

الثاني : أن الملائكة قاتلت مع النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) كما روى ابن مسعود أنه سأله أبو جهل : من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص ؟ قال : { مِن قِبَلِ الْمَلاَئِكَةِ } فقال : هم غلبونا لا أنتم .

وقوله : { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّه } لئلا يتوهم أن النصر من قبل الملائكة لا من قبل اللّه تعالى .

١١

قوله تعالى : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسُ أَمَنَةً مِّنْهُ } وذلك أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) وكثيراً من أصحابه غشيهم النعاس ببدر .

قال سهل بن عبد اللّه : النعاس يحل في الرأس مع حياة القلب ، والنوم يحل في القلب بعد نزول من الرأس ، فهوَّمَ رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) حتى ناموا فبشر جبريل رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بالنصر فأخبر به أبا بكر .

وفي امتنان اللّه تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان :

أحدهما : قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد .

الثاني : أن أمَّنَهم بزوال الرعب من قلوبهم ، كما قال : الأمن منيم ، والخوف مسهر .

وقوله تعالى : { أََمَنَةً مِّنْهُ } يعني به الدعة وسكون النفس من الخوف وفيه وجهان :

أحدهما : أمنة من العدو .

الثاني : أمنة من اللّه سبحانه وتعالى .

{ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } لأن اللّه تعالى أنزل عليهم ماء السماء معونة لهم بثلاثة أمور :

أحدها : الشرب وإن كانوا على ماء .

الثاني : وهو أخص أحواله بهم في ذلك المكان وهو أن الرمل تلبد بالماء حتى أمكن المسلمين القتال عليه .

والثالث : ما وصفه اللّه تعالى به من حال التطهير .

وفي تطهيرهم به وجهان :

أحدهما : من وساوس الشيطان التي ألقى بها في قلوبهم الرعب ، قاله زيد بن أسلم .

والثاني : من الأحداث والأنجاس التي نالتهم ، قاله الجمهور .

قال ابن عطاء : أنزل عليهم ماءً طهر به ظواهر أبدانهم ، وأنزل عليهم رحمة نقّى بها سرائر قلوبهم .

وإنما خصه اللّه تعالى بهذه الصفة لأمرين .

أحدهما : أنها أخص صفاته .

والثاني : أنها ألزم صفاته .

ثم قال : { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيَطانِ } فيه قولان :

أحدهما : وسوسته أن المشركين قد غلبوهم على الماء ، قاله ابن عباس .

والثاني : كيده وهو قوله : ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة ، قاله ابن زيد .

{ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } يحتمل وجهين :

أحدهما : ثقة بالنصر .

والثاني : باستيلائهم على الماء .

{ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } فيه قولان :

أحدهما : بالصبر الذي أفرغه اللّه تعالى حتى يثبتوا لعدوهم ، قاله أبو عبيدة .

والثاني : تلبيد الرمل بالمطر الذي لا يثبت عليه قدم ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك .

١٢

قوله عز وجل : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } معناه معينكم ويحتمل أن يكون معناه إني معكم في نصرة الرسول ، فتكون الملائكة لتثبيت المؤمنين ، واللّه تعالى متولي النصر بما ألقاه من الرعب في قلوب المشركين .

{ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : فثبوتهم بحضوركم معهم في الحرب .

والثاني : بقتالكم معهم يوم بدر ، قاله الحسن .

والثالث : بإخبارهم أنه لا بأس عليهم من عدوهم .

{ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } يعني الخوف ، ويحتمل أحد وجهين : إما أن يكون إلقاء الرعب بتخاذلهم ، وإما أن يكون بتكثير المسلمين في أعينهم .

وفي ذلك وجهان :

أحدهما : أنه قال ذلك للملائكة معونة لهم .

والثاني : أنه قال ذلك له ليثبتوا به الذين آمنوا . { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ } فيه خمسة أقاويل :

أحدها : فاضربوا الأعناق ، وفوق صلة زائدة في الكلام ، قاله عطية والضحاك .

وقد روى المسعودي عن القاسم قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لأُُعَذِّبَ بَعَذَابِ اللّه وَإِنَّمَا بُعِثْتُ بِضَرْبِ الأَعْنَاقِ وَشَدِّ الْوَثَاقِ }. والثاني : معناه واضربوا الرؤوس فوق الأعناق ، قاله عكرمة .

والثالث : فاضربوا على الأعناق .

والرابع : فاضربوا على الأعناق .

والخامس : فاضربوا فوق جلدة الأعناق .

{ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني المفاصل من أطراف الأيدي والأرجل والبنان : أطراف الأصابع من اليدين والرجلين .

١٣

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣)

١٤

ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤)

١٥

قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } والزحف : الدنو قليلاً قليلاً .

{ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } يعني بالهزيمة منهم والانصراف عنهم . وفيه قولان :

أحدهما : أن هذا على العموم في تحريم الهزيمة بعد لقاء العدو .

والثاني : مخصوص وهو أن اللّه تعالى أوجب في أول الإِسلام على كل رجل من المسلمين أن يقف بإزاء عشرة من المشركين لا يحل له بعد اللقاء أن ينهزم عنهم وذلك بقوله : { إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَينِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةُ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كَفرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } " [ الأنفال : ٦٥ ] وفيه وجهان :

أحدهما : لا يعلمون ما فرضه اللّه تعالى عليه من الإسلام .

الثاني : لا يعلمون ما فرضه اللّه تعالى عليهم من القتال .

ثم نسخ ذلك عنهم بعد كثرتهم واشتداد شوكتهم فأوجب اللّه تعالى على كل رجل لاقى المشركين محارباً أن يقف بإزاء رجلين بعد أن كان عليه أن يقف بإزاء عشرة تخفيفاً ورخصة وذلك

قوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللّه عَنكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعْفاً } .

قرىء بضم الضاد وفتحها ، وفي اختلاف القراءتين وجهان :

أحدهما : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، قاله الفراء .

والثاني : معناهما مختلف .

وفي اختلافهما وجهان :

أحدهما : أنها بالفتح : الضعف في الأموال ، وبالضم : الضعف في الأحوال .

الثاني : أنها بالفتح : الضعف في النيات ، وبالضم : الضعف في الأبدان . وقيل بعكس الوجهين في الوجهين .

ثم قال : { فَإِن يَكُن مِّنكم مَّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَينِ بِإِذنِ اللّه وَاللّه مَعَ الصَّابِرِينَ } فيه تأويلان :

أحدهما : مع الصابرين على القتال في معونتهم على أعدائهم .

الثاني : مع الصابرين على الطاعة في قبول عملهم وإجزال ثوابهم ، فصار حتماً على من لاقى عدوه من المشركين زحفاً أن لا ينهزم مع القوة على المصابرة حتى يقضي اللّه من أمره ما شاء فأما الهزيمة مع العجز عن المصابرة فإن قاتله أكثر من مثليه جاز أن يُولي عنهم منهزماً ، وإن قاتله مثلاه فمن دون حرم عليه أن يوليّ عنهم منهزماً على صفتين : إما أن يتحرف لقتال وهو أن يهرب ليطلب ، ويفر ليكر فإن الحرب كرٌ وفرٌ ، وهرب وطلب ، وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى ليقاتل معها ، قربت الفئة أو بعدت ، وذلك ظاهر في

١٦

قوله تعالى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّه } أي صار بالمكان الذي يحق عليه غضب اللّه ، مأخوذ من المبوأ وهو المكان .

ومذهب الشافعي وأصحابه وموافقيه أن هذا على العموم ، محكوم به في كل مسلم لاقى عدواً ، وبه قال عبد اللّه بن عباس .

وحكي عن الحسن ، وقتادة ، والضحاك : أن ذلك خاص في أهل بدر ، وبه قال أبو حنيفة .

١٧

قوله عز وجل : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ } يحتمل وجهين :

أحدهما : ولكن اللّه قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم .

والثاني : ولكن اللّه قتلهم بمعونته لكم حين ألقى في قلوبهم الرعب وفي قلوبكم النصر .

وفيه وجه ثالث قاله ابن بحر : ولكن اللّه قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم .

وقيل لم تقتلوهم بقوتكم وسلاحكم ولكن اللّه قتلهم بخذلانهم وقبض أرماحهم .

{ وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى } فيه أربعة أقاويل :

أحدها : ما حكاه ابن عباس ، وعرة ، والسدي : أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قبض يوم بدر قبضة من تراب رماهم بها وقال : { شَاهَتِ الْوُجُوهُ } أي قبحت ومنه قول الحطيئة :

أرى لي وجهاً شوه اللّه خلقه . .

فقُبح من وجهٍ وقبح حامله .

فألقى اللّه تعالى القبضة في أبصارهم حتى شغلتهم بأنفسهم وأظفر اللّه المسلمين بهم ، فهو معنى

قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللّه رَمَى } . الثاني : معناه وما ظفرت إذ رميت ولكن اللّه أظفرك ، قاله أبو عبيدة .

الثالث : وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن اللّه ملأ قلوبهم رعباً .

والقول الرابع : أنه أرد رمى أصحابه بالسهم فأصاب رميهم .

وقوله تعالى : { وَلَكِنَّ اللّه رَمَى } يعني بما أرسله من الريح المعينة لسهامهم حتى سددت وأصابت . والمراد بالرمي الإصابة لأن معى الرمي محمول على الإصابة ، فإن لم يصب قيل رمى فأخطأ . وإذا قيل مطلقاً :

قد رمى ، لم يعقل منه إلا الإصابة . ألا ترى إلى قول امرىء القيس :

فرماها في فرائصها .

فاستغنى بذكر الرمي عن وصفه بالإصابة .

وقال ذو الرمة في الرأي :

رمى فأخطأ والأقدار غالبةٌ . .

فانصاع والويل هجيراه والحربُ

قوله عز وجل : { وَليُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً } قال أصحاب الخواطر : البلاء الحسن ما يورثك الرضا به والصبر عليه .

وقال المفسرون : البلاء الحسن ها هنا النعمة بالظفر والغنيمة .

١٨

ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨)

١٩

قوله عز وجل : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } في قولان :

أحدهما : إن تستنصروا اللّه ، فالفتح النصر ، فقد جاءكم فضل اللّه بنصرنا ، حكاه ابن الأنباري .

والثاني : معناه إن تستنصروا اللّه ، والفتح النصر ، فقد جاءكم نصر اللّه لنا عليكم ، وفي هذا الخطاب قولان .

أحدهما : أنه خطاب للمشركين لأنهم استنصروا يوم بدر بأن قالوا : اللّهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه ، فنصر اللّه تعالى نبيه والمسلمين عليهم .

ثم قال { وَإن تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ } لأن الاستنصار كان عليهم لا لهم . { وَإن تَعُودُواْ نَعُدْ } فيه وجهان :

أحدهما : وإن تعودوا إلى مثل هذا التكذيب نعد إلى مثل هذا التصديق .

والثاني : وإن تعودوا إلى مثل هذا الاستفتاح نعد إلى مثل هذا النصر .

والقول الثاني : أنه خطاب للمؤمنين نصرهم اللّه تعالى يوم بدر حين استنصروه { وَإن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني عما فعلتموه في الأسرى والغنيمة .

{ وإن تَعودوا نعد } فيه وجهان :

أحدهما : وإن تعودوا إلى الطمع نعد إلى المؤاخذة .

الثاني : وإن تعودوا إلى مثل ما كان منكم في الأسرى والغنيمة نعد إلى الإنكار عليكم .

٢٠

يا أيها الذين . . . . .

قوله عز وجل : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أما الدواب فاسم لكل ما دب على الأرض من حيوانها لدبيبه عليها مشياً ، وكان بالخيل أخص . والمراد بِشَرِّ الدواب الكفار لأنهم شر ما دبّ على الأرض من الحيوان .

٢٢

ثم قال : { الصُّمُّ } لأنهم لا يسمعون الوعظ . { الْبُكْمُ } والأبكم هو المخلوق أخرس ، وإنما وصفهم بالبكم لأنهم لا يقرون باللّه تعالى ولا بلوازم طاعته .

{ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } يحتمل وجهين :

أحدهما : لا يعقلون عن اللّه تعالى أمره ونهيه .

والثاني : لا يعتبرون اعتبار العقلاء .

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في بني عبد الدار .

٢٣

قوله عز وجل : { وَلَو عَلِمَ اللّه فِيهِم خَيْراً } يحتمل وجهين :

أحدهما : اهتداء .

الثاني : إصغاء .

{ لأَسْمَعَهُمْ } فيه ثلاثة تأويلات :

أحدهما : لأسمعهم الحجج والمواعظ سماعَ تفهيم وتعليم ، قاله ابن جريج وابن زيد .

الثاني : لأسمعهم كلام الذين طلبوا إحياءهم من قصي بن كلاب وغيره يشهدون بنبوتك قاله بعض المتأخرين .

والثالث : لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه ، قاله الزجاج . { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُم مُّعْرِضُونَ } يحتمل وجهين :

أحدهما : ولو أسمعهم الحجج والمواعظ لأعرضوا عن الإصغاء والتفهم .

والثاني : ولو أجابهم إلى ما اقترحوه لأعرضوا عن التصديق .

٢٤

قوله عز وجل : { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّه وَلِلرَّسُولِ } يعني أجيبوا اللّه والرسول قال كعب ابن سعد الغنوي .

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وإجابة اللّه تعالى هي طاعة أمره ، وإنما خرجت عن هذا اللفظ لأنها في مقابلة الدعاء إليها فصارت إجابة لها .

{ إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } فيه سبعة أقاويل :

أحدها : إذا دعاكم إلى الإيمان ، قاله السدي .

والثاني : إذا دعاكم إلى الحق ، قاله مجاهد .

والثالث : إذا دعاكم إلى ما في القرآن ، قاله قتادة .

والرابع : إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو ، قاله ابن إسحاق .

والخامس : إذا دعاكم إلى ما فيه دوام حياتكم في الآخرة ، ذكره علي بن عيسى .

والسادس : إذا دعاكم إلى ما فيه إحياء أمركم في الدنيا ، قاله الفراء .

والسابع : أنه على عموم الدعاء فيما أمرهم به .

روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : مر رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) على أُبيّ وهو قائم يصلي فصرخ به قال : { يَاأُبيّ } قال فعجل في صلاته ، ثم جاء ، فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { مَا مَنَعَكَ إذْ دَعَوتُكَ أَنْ تُجِيبَنِي ؟ } قال : يا رسول اللّه كنت أصلي ، فقال : { أَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ { اسْتَجِيْبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } } قال بلى يا رسول اللّه ، لا أعود .

{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } فيه لأهل التأويل سبعة أقاويل :

أحدها : يحول بين الكافر والإيمان ، وبين المؤمن والكفر ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير والضحاك .

والثاني : يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل ، قاله مجاهد .

والثالث : يحول بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه ، قاله السدي .

والرابع : معناه أنه قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفى عليه شيء من سره أو جهره فصار أقرب من حبل الوريد ، وهذا تحذير شديد ، قاله قتادة .

والخامس : معناه يفرق بين المرء وقلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت . ذكره علي بن عيسى .

والسادس : يحول بين المرء وما يتمناه بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر ، حكاه ابن الأنباري .

والسابع : يحول بين المرء وما يوقعه في قلبه من رعب خوف أو قوة وأمن ، فيأمن المؤمن من خوفه ، ويخاف الكافر عذابه .

٢٥

قوله عز وجل : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } فيها أربعة أقاويل :

أحدها : أنه المنكر ، أمر اللّه تعالى المؤمنين ألا يقروه بين أظهرهم فيعمهم العذاب قاله ابن عباس .

والثاني : أنها الفتنة بالأموال والأولاد كما قال تعالى { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُم فِتْنَةٌ } " [ الأنفال : ٢٨ ] قاله عبد اللّه بن مسعود .

والثالث : أن الفتنة ها هنا البلية التي يبلى الإنسان بها ، قاله الحسن .

والرابع : أنها نزلت في النكاح بغير وليّ ، قاله بشر بن الحارث .

ويحتمل خامساً : أنها إظهار البدع .

وفي قوله تعالى : { لاَ تُصِيَبنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُم خَاصَّةً } وجهان :

أحدهما : لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا .

الثاني : لا يصيبن عقابُ الفتنة ، فتكون لأهل الجرائم عقوبة ، ولأهل الصلاح ابتلاء .

وفيه وجه ثالث : أنه دعاء للمؤمن أن لا تصيبه فتنة ، قاله الأخفش .

٢٦

قوله عز وجل : { وَاذْكُرُواْ إذْ أنتُم قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ } يريد بذلك قلتهم إذ كانوا بمكة وذلتهم باستضعاف قريش لهم .

وفي هذا القول وجهان :

أحدهما : أن اللّه ذكّرهم بذلك نعمه عليهم .

والثاني : الإخبار بصدق وعده لهم .

{ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } فيه قولان :

أحدهما : يعني بالناس كفار قريش ، قاله عكرمة وقتادة .

والثاني : فارس والروم ، قاله وهب بن منبه .

ثم بيّن ما أنعم به عليهم فقال { فَئَاوَاكُمْ } وفيه وجهان :

أحدهما : أي جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين .

والثاني : فآواكم بالهجرة إلى المدينة ، قاله السدي .

{ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } أي قواكم بنصره لكم على أعدائكم يوم بدر .

{ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني من الحلال ، وفيه قولان :

أحدهما : ما مكنكم فيه من الخيرات .

والثاني : ما أباحكم من الغنائم ، قاله السدي .

وقال الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية في المهاجرين خاصة بعد بدر .

٢٧

قوله عز وجل : { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَآمَنُواْ لاَ تَخُونُوا اللّه وَالرَّسُولَ } فيه قولان :

أحدهما : لا تخونوا اللّه سبحانه والرسول عليه السلام كما صنع المنافقون في خيانتهم ، قاله الحسن والسدي .

والثاني : لا تخونوا اللّه والرسول فيما جعله لعباده من أموالكم .

ويحتمل ثالثاً : أن خيانة اللّه بمعصية رسوله ، وخيانة الرسول ، بمعصية كلماته .

{ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : فيما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم .

الثاني : فيما ائتمن اللّه العباد عليه من الفرائض والأحكام أن تؤدوها بحقها ولا تخونوها بتركها .

والثالث : أنه على العموم في كل أمانة أن تؤدى ولا تخان .

{ وَأَنتُم تَعْلَمُونَ } فيه قولان :

أحدهما : وأنتم تعلمون أنها أمانة من غير شبهة .

والثاني : وأنتم تعلمون ما في الخيانة من المأثم بخلاف من جهل .

قال الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية في أبي لُبابَة بن عبد المنذر أرسله رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) إلى بني قريظة لنزلوا على حكم سعد فاستشاروه وكان قد أحرز أولاده وأمواله عندهم فأشار عليهم أن لا يفعلوا وأومأ بيده إلى حلقة أنه الذبح فأنزل اللّه تعالى هذه الآية إلى قوله :

٢٨

{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُم فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّه عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يحتمل وجهين :

أحدهما : أن ما عند اللّه تعالى من الأجر خير من الأموال والأولاد .

والثاني : أن ما عند اللّه تعالى من أجر الحسنة التي يجازي عليها بعشر أمثالها أكثر من عقوبة السيئة التي لا يجازي عليها إلا بمثلها .

٢٩

قوله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ تَتَّقُواْ اللّه يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } فيه أربعة تأويلات :

أحدها : معنى فرقاناً أي هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ، قاله ابن زيد وابن إسحاق .

والثاني : يعني مخرجاً في الدنيا والآخرة ، قاله مجاهد .

والثالث : يعني نجاة ، قاله السدي .

والرابع : فتحاً ونصراً ، قاله الفراء .

ويحتمل خامساً : يفرق بينكم وبين الكافر في الآخرة .

٣٠

قوله عز وجل { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } وذلك أن قريشاً تآمروا في دار الندوة على رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال عمرو بن هشام : قيدوه واحبسوه في بيت نتربص به ريب المنون . وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم على بعير مطرود تستريحوا منه ومن أذاه لكم . قال أبو جهل : ما هذا برأي ولكن اقتلوه وليجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية . فأوحى اللّه عز وجل بذلك إلى نبيه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فخرج إلى الغار مع أبي بكر رضي اللّه عنه ثم هاجر منه إلى المدينة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .

فهذا بيان

قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } وفيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : ليثبتوك في الوثاق ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة .

والثاني : ليثبتوك في الحبس ، قاله عطاء وعبد اللّه بن كثير والسدي .

والثالث : معنى يثبتوك أي يخرجوك ، كما يقال قد أثبته في الحرب إذا أخرجته ، قاله بعض المتأخرين .

{ أَوْ يُخْرِجُوكَ } فيه وجهان :

أحدهما : أو يخرجوك من مكة إلى طرف من أطراف الأرض كالنفي .

والثاني : أو يخرجوك على بعير مطرود حتى تهلك ، أو يأخذك بعض العرب فتقتلك فتريحهم منك ، قاله الفراء .

٣١

قوله عز وجل { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا } يحتمل وجهين :

أحدهما : قد سمعنا هذا منكم ولا نطيعكم .

والثاني : قد سمعنا قبل هذا مثله فماذا أغناكم .

{ لَوْ نَشَآءَ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } يحتمل وجهين :

أحدهما : مثل هذا في النظم والبيان معارضة له في الإعجاز .

والثاني : مثل هذا في الاحتجاج معارضة له في الاستدعاء إلى الكفر .

{ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } يعني أحاديث الأولين ويحتمل وجهين :

أحدهما : أنه قصص من مضى وأخبار من تقدم .

والثاني : أنه مأخوذ عمن تقدم وليس بوحي من اللّه تعالى .

وقيل إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة ، وقد قلته النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) صبراً في جملة ثلاثة من قريش : عقبه بن أبي معيط ، والمطعم بن عدي ، والنضر بن الحارث وكان أسير المقداد ، فلما أمر رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بقتل النضر قال المقداد : أسيري يا رسول اللّه ، فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { اللّهمْ أَعِنِ المِقْدَادَ } ، فقال : هذا أردت . وفيه أنزل اللّه تعالى الآية التي بعدها .

٣٢

{ وَإِذْ قَالُواْ اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حَجَارَةً مِنَ السَّمَآءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وفي هذا القول وجهان :

أحدهما : أنهم قالوا ذلك عناداً للحق وبغضاً للرسول ( صلى اللّه عليه وسلم ) .

والثاني : أنهم قالوا ذلك اعتقاداً أنه ليس بحق . وفيهم نزل قوله تعالى { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } " [ المعارج : ١ ] وفيهم نزل

قوله تعالى : { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } " [ ص : ١٦ ] . قال عطاء : لقد نزلت في النضر بضع عشرة آية من كتاب اللّه تعالى .

٣٣

قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِم } يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه قال ذلك إكراماً لنبيه وتعظيماً لقدره أن يعذب قوماً هو بينهم . تعظيماً لحرمته .

والثاني : إرساله فيهم رحمة لهم ونعمة عليهم فلم يجز أن يعذبهم وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة بإخراجه عنهم .

{ وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فيه خمسة أقاويل :

أحدها : وما كان اللّه ليعذب مشركي أهل مكة وقد بقي فيهم من المسلمين قوم يستغفرون وهذا قول الضحاك وأبي مالك وعطية .

والثاني : لا يعذبهم في الدنيا وهم يستغفرون فيها فيقولون : غفرانك .

قال ابن عباس : كان المشركون بمكة يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك لبيك لا شريك لك ، فيقول النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { قَدْ قَدْ } فيقولون : إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ، ويقولون غفرانك ، فأنزل اللّه تعالى : { وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قاله أبو موسى ويزيد بن رومان ومحمد بن قيس .

والثالث : أن الاستغفار في هذا الموضع الإسلام ، ومعنى الكلام : وما كان اللّه معذبهم وهم يسلمون ، قاله عكرمة ومجاهد .

والرابع : وما كان اللّه معذب من قد سبق له من اللّه الدخول في الإسلام ، قاله ابن عباس .

والخامس : معناه أنهم لو استغفروا لم يعذبوا استدعاء لهم إلى الاستغفار ، قاله قتادة والسدي وابن زيد .

والسادس : وما كان اللّه معذبهم أي مهلكهم وقد علم أن لهم أولاد وذرية يؤمنون ويستغفرون .

٣٤

وما لهم ألا . . . . .

قوله عز وجل { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ البَيتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } في المكاء قولان :

أحدهما : أنه إدخال أصابعهم في أفواههم ، قاله مجاهد .

والثاني : هو أن يشبك بين أصابعه ويصفر في كفه بفيه فيكون المكاء هو الصفير ، ومنه قول عنترة :

وحليل غنيةٍ تركت مُجدّلا

تمكو فريصته بشدق الأعلم

أي تصفر بالريح لما طعنته .

وأما التصدية ففيها خمسة أقاويل :

أحدهما : أنه التصفيق ، قاله ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وقتادة والسدي ومنه قول عمرو بن الإطنابة :

وظلواْ جميعاً لهم ضجة

مكاء لدى البيت بالتصدية

والثاني : أنه الصد عن البيت الحرام ، قاله سعيد بن جبير وابن زيد .

والثالث : أن يتصدى بعضهم لبعض ليفعل مثل فعله ، ويصفر له إن غفل عنه ، قاله بعض المتأخرين .

الرابع : أنها تفعلة من صد يصد ، وهو الضجيج ، قاله أبو عبيدة . ومنه

قوله تعالى : { إِذَا قَومُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ } " [ الزخرف : ٥٧ ] أي يضجون .

الخامس : أنه الصدى الذي يجيب الصائح فيرد عليه مثل قوله ، قاله ابن بحر .

فإن قيل : فلم سمَّى اللّه تعالى ما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية صلاة وليس منها ؟

قيل عن ذلك جوابان :

أحدهما : أنهم كانوا يقيمون التصفيق والصفير مقام الدعاء والتسبيح فجعلوا ذلك صلاة وإن لم يكن في حكم الشرع صلاة .

والثاني : أنهم كانوا يعملون كعمل الصلاة .

٣٥

{ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ } فيه قولان :

أحدهما : عذاب السيف يوم بدر ، قاله الحسن الضحاك وابن جريج وابن إسحاق .

والثاني : أنه يقال لهم في الآخرة { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ } وفيه وجهان :

أحدهما : فالقوا .

الثاني : فجربوا .

وحكى مقاتل في نزول هذه الآية أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) كان إذا صلى في المسجد الحرام قام من كفار بني عبد الدار بن قصي رجلان عن يمين النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) يصفران كما يصفر المكاء والمكاء طائر ، ورجلان منهم عن يساره يصفقان بأيديهما ليخلطوا عليه صلاته وقراءته ، فنزلت هذه الآية فيهم .

٣٦

قوله عز وجل { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه } فيه قولان :

أحدهما : أنها نفقة قريش في قتال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يوم بدر ، قاله الضحاك . والثاني : أنه أبو سفيان استأجر معه يوم أُحد ألفين من الأحابيش ومنه كنانة

ليقاتل بهم رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، سوى من انحاز إليه من العرب ، قاله سعيد ومجاهد والحكم بن عيينة ، وفي ذلك يقول كعب بن مالك :

وجئنا إلى موج من البحر وسطه

أحابيش منهم حاسرٌ ومقنع

ثلاثة آلافٍ ونحن نَصِيَّة

ثلاثُ مئينٍ إن كثرنا فأربع

{ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسْرَةً } يحتمل وجهين :

أحدهما : يكون إنفاقها عليهم حسرة وأسفاً عليها .

والثاني : تكون خيبتهم فيما أملوه من الظفر عليهم حسرة تحذرهم بعدها .

{ ثُمَّ يُغْلَبُونَ } وعد بالنصر فحقق وعده .

٣٧

قوله عز وجل { لِيَمِيزَ اللّه الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } فيه وجهان :

أحدهما : الحلال من الحرام .

الثاني : الخبيث ما لم تخرج منه حقوق اللّه تعالى ، والطيب : ما أخرجت منه حقوق اللّه تعالى .

يحتمل ثالثاً : أن الخبيث : ما أنفق في المعاصي ، والطيب : ما أنفق في الطاعات .

{ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ } أي يجمعه في الآخرة وإن تفرق في الدنيا { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } أي يجعل بعضه فوق بعض ، ومنه

قوله تعالى : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } " [ النور : ٤٣ ] .

وفي قوله تعالى { فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } وإن كانت الأموال لا تعذّب وجهان :

أحدهما : أن يجعلها عذاباً في النار يعذبون بها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } " [ التوبة : ٣٥ ] الآية .

الثاني : أنه يجعل أموالهم معهم في جهنم لأنهم استطالوا بها وتقووا على معاصي اللّه فجعلها معهم في الذل والعذاب كما كانت لهم في الدنيا عزاً ونعيماً .

٣٨

قوله عز وجل { قَل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يَغْفِرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } يحتمل وجيهن :

أحدهما : إن ينتهوا عن المحاربة إلى الموادعة يغفر لهم ما قد سلف من المؤاخذة والمعاقبة .

والثاني : إن ينتهوا عن الكفر بالإسلام يغفر لهم ما قد سلف من الآثام .

{ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأُوَّلِينَ } تأويله على احتمال الوجهين الأولين :

فعلى الوجه الأول : تأويله : وإن يعودواْ إلى المحاربة فقد مضت سنة الأولين فيمن قتل يوم بدر وأسر ، قاله الحسن ومجاهد والسدي .

وعلى الوجه الثاني : فقد مضت سنة الأولين من الأمم السالفة فيما أخذهم اللّه به في الدنيا من عذاب الاستئصال .

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أهل مكة بعد أن دخلها رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) عام الفتح وقال لهم : { ما ظَنُّكُم بِي وَمَا الَّذِي تَرَونَ أَنِّي صَانِعُ بِكُم ؟ } قالوا : ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا ، فقال ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخْوَتِهِ : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } } [ يوسف : ٩٢ ] فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .

٣٩

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)

٤٠

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)

٤١

قوله عز وجل : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } ذكر اللّه تعالى الفيء في سورة الحشر والغنيمة في هذه السورة .

واختلفوا في الفيء والغنيمة على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن الغنيمة ما ظهر عليه من أموال المشركين والفيء ما ظهر عليه من الأرض ، قاله عطاء بن السائب .

والثاني : أن الغنيمة ما أخذ عنوة ، والفيء ما أخذ عن صلح ، قاله الشافعي وسفيان الثوري .

والثالث : أن الفيء والغنيمة سواء وهو كل مال أخذ من المشركين ، وآية الفيء التي هي في سور الحشر منسوخة بآية الغنيمة التي في سورة الأنفال ، قاله قتادة .

وقوله تعالى { مِّن شَيْءٍ } يريد جميع ما وقع عليه اسم شيء مباح حواه المسلمون من أموال المشركين .

{ فإن للّه خُمُسَهُ }

أحدهما : أنه استفتاح كلام ، فللّه الدنيا والآخرة وما فيهما ، ومعنى الكلام فأن للرسول خمسه ، قاله الحسن وعطاء وقتادة وإبراهيم والشافعي ، وروى نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال : كان رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) إذا بعث سرّية فغنموا خمّس الغنيمة فصرف ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ { وَاعلَمُواْ أَنَّمَا مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } وإنما قوله { فَأَنَّ للّه خُمُسهُ } مفتاح كلام ، وللّه ما في السموات وما في الأرض فجعل سهم اللّه وسهم الرسول واحد .

والثاني : أن سهم اللّه مستحق لبيته ، ومعناه فإن لبيت اللّه خمسه وللرسول وقد روى الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي قال : كان رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يؤتى

بالغنيمة فيقسمها على خمسة تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم اللّه ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل .

وقوله تعالى { وَلِلرَّسُولِ } فيه قولان :

أحدهما : أنه مفتاح كلام اقترن بذكر اللّه وليس للرسول من ذلك شيء كما لم يكن للّه من ذلك شيء ، وأن الخمس مقسوم على أربعة أسهم ، وهذا قول ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة .

والثاني : أن ذلك للرسول وهو قول الجمهور .

واختلفوا في سهم رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بعده على خمسة أقاويل :

أحدها : أنه للخليفة بعده ، قاله قتادة .

والثاني : أنه لقرابة النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) إرثاً ، وهذا قول من جعل النبي موروثاً .

والثالث : أن سهم الرسول ( صلى اللّه عليه وسلم ) مردود على السهام الباقية ويقسم الخمس على أربعة .

والرابع : أنه مصروف في مصالح المسلمين العامة ، قاله الشافعي . والخامس : أن ذلك مصروف في الكراع والسلاح ، وروي أن ذلك فعل أبي بكر وعمر ، رواه النخعي . أما قوله تعالى { وَلِذِي الْقُرْبَى } فاختلف فيه على ثلاثة أقاويل :

 أحدها : أنهم بنو هاشم ، قاله مجاهد .

والثاني : أنهم قريش كلها ، روى سعيد المقري قال : كتب نجدة إلى عبد اللّه بن عباس يسأله عن ذي القربى ، قال : فكتب إليه عبد اللّه بن عباس : كنا نقول إننا هم فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا : قريش كلها ذوو قربى .

الثالث : أنهم بنو هاشم وبنو المطلب ، قاله الشافعي والطبري .

واختلفوا في سهمهم اليوم على أربعة أقاويل :

أحدها : أنه لهم أبداً كما كان لهم من قبل ، قاله الشافعي .

والثاني : أنه لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة .

والثالث : أنه إلى الإمام يضعه حيث شاء .

والرابع : أن سهمهم وسهم رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) مردود على باقي السهام وهي ثلاثة ، قاله أبو حنيفة .

وأما { وَالْيَتَامَى } فهم من اجتمعت فيهم أربعة شروط :

أحدها : موت الأب وإن كانت الأم باقية ، لأن يتم الآدميين بموت الآباء دون الأمهات ويتم البهائم بموت الأمهات دون الآباء . والثاني : الصغر ، لقول رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { لاَ يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ }.

والثالث : الإٍسلام لأنه مال المسلمين .

والرابع : الحاجة لأنه معد للمصالح .

ثم فيهم قولان :

أحدهما : أنه لأيتام أهل الفيء خاصة .

والثاني : أنه لجميع الأيتام .

وأما { الْمَسَاكِينِ } فهم الذين لا يجدون ما يكفيهم .

وأما أبناء السبيل فهم المسافرون من ذوي الحاجات ، والإٍسلام فيهم معتبر . وهل يختص بأله الفيء ؟ على القولين . وقال مالك : الخمس موقوف على رأي الإمام فيمن يراه أحق به ، وإنما ذكرت هذه الأصناف لصدق حاجتها في وقتها .

قوله عز وجل { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } وهو يوم بدر فرق اللّه تعالى فيه بين الحق والباطل .

٤٢

قوله عز وجل : { إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } يعني شفير الوادي ببدر ، الأدنى إلى المدينة .

{ وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } يعني شفير الوادي الأقصى إلى مكة .

وقال الأخفش : عدوه الوادي هو ملطاط شفيره الذي هو أعلى من أسفله ، وأسفل من أعلاه .

{ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } يعني عير أبي سفيان أسفل الوادي ، قال الكلبي : على شاطىء البحر بثلاثة أميال .

{ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : ولو تواعدتم أن تتفقوا مجتمعين لاختلفتم في الميعاد ، بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان من غير قصد لذلك .

والثاني : ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم مع قلة عددكم لتأخرتم فنقضتم الميعاد ، قاله ابن إٍسحاق .

والثالث : ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم من غير معونة اللّه لكم لأخلفتم بالقواطع والعوائق في الميعاد .

قوله عز وجل { . . . لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } فيه وجهان :

أحدهما : ليقتل ببدر من قتل من مشركي قريش عن حجة ، وليبقى من بقي عن قدرة .

والثاني : ليكفر من قريش من كفر بعد الحجة ببيان ما وعدوا ، ويؤمن من آمن بعد العلم بصحة إيمانهم .

٤٣

قوله عز وجل : { إذْ يُرِيكُهُمُ اللّه فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } فيه وجهان :

أحدهما : أن اللّه أرى نبيه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قلة المشركين عياناً ، وقوله { فِي مَنَامِكَ } يريد في عينيك التي هي محل النوم ، قاله الحسن .

والثاني : أنه ألقى عليه النوم وأراه قلتهم في نومه ، وهو الظاهر ، وعليه الجمهور .

وإنما أراه ذلك على خلاف ما هو به لطفاً أنعم به عليه وعلى أمته ، ليكون أثبت لقلوبهم وأقدم لهم على لقاء عدوهم ، ولولا ذلك لما جازت هذه الحالة من اللّه تعالى في نبيه ( صلى اللّه عليه وسلم ) .

{ وَلَوْ أَرَاكَهُمُ كَثِيراً لَّفِشِلْتُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : لاختلفتم في لقائهم أو الكف عنهم .

والثاني : لجبنتم عنهم وانهزمتم منهم .

{ . . . وَلَكِنَّ اللّه سَلَّمَ } يحتمل وجهين :

أحدهما : سلّم من الفشل .

والثاني : لجبنتم عنهم وانهزمتم منهم ولكن اللّه سلم من العدو .

وفيه ثالث : ولكن اللّه سلم أمره فيهم حتى نفذ ما حكم فيهم به من هلاكهم .

٤٤

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ اْلأُمُورُ (٤٤)

٤٥

يا أيها الذين . . . . .

قوله عز وجل { . . . وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } والفشل هو التقاعد عن القتال جبناً .

{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : يريد بالريح القوة ، وضرب الريح لها مثلاً .

والثاني : يريد بالريح الدولة . ومعناه فتذهب دولتكم ، قاله أبو عبيدة .

والثالث : يريد ريح النصر التي يرسلها اللّه عز وجل لنصر أوليائه وهلاك أعدائه قاله قتادة وابن زيد .

ويحتمل رابعاً ، أن الريح الهيبة ، وريح القوم هيبتهم التي تتقدمهم كتقدم الريح . ويكون معنى الكلام . فتذهب ريحكم وهيبتكم .

٤٦

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)

٤٧

{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ } هم قريش حين خرجوا في حماية العير فنجا بها أبو سفيان ، فقال لهم أبو جهل : لا نرجع حتى نرِد بدراً وننحر جزوراً ونشرب خمراً وتعزف علينا القيان ، فكان من أمر اللّه فيهم ما كان .

٤٨

قوله عز وجل { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعْمَالَهُمْ } قال المفسرون : ظهر لهم في

صورة سراقة بن جعشم من بني كنانة فزين للمشركين أعمالهم .

يحتمل وجهين :

أحدهما : زين لهم شركهم .

والثاني : زين لهم قتال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) .

وفيه وجه ثالث : أنه زين لهم قوتهم حتى اعتمدوها .

{ وَقَالَ : لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ } يعني أنكم الغالبون دون المؤمنين .

{ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } يحتمل وجهين :

أحدهما : يعني أني معكم . وفي جواركم ينالني ما نالكم .

الثاني : مجير لكم وناصر . فيكون على الوجه الأول من الجوار ، وعلى الوجه الثاني من الإجارة .

{ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ } يحتمل وجهين :

أحدهما : فئة المسلمين وفئة المشركين .

والثاني : المسلمون ومن أمدوا به من الملائكة . فكانوا فئتين .

{ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ } والنكوص أن يهرب ذليلاً خازياً ، قال الشاعر :

وما ينفعل المستأخرين نكوصهم

ولا ضَرّ أهل السابقات التقدم .

{ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ } يعني من الملائكة الذين أمد اللّه بهم رسوله والمؤمنين .

{ إِنِّي أَخَافُ اللّه } وإنما ذكر خوفه من اللّه تعالى في هذا الموضع ولم يذكره في امتناعه من السجود لآدم لأنه قد كان سأل الإنظار إلى قيام الساعة فلما رأى نزول الملائكة ببدر تصور قيام الساعة فخاف فقال { إِنِّي أَخَافُ اللّه وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ } .

٤٩

قوله عز وجل { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيهم ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنهم قوم في قلوبهم شك كانوا تكلموا بالإسلام وهم بمكة ، قاله ابن عباس ومجاهد .

والثاني : أنهم المشركون ، قاله الحسن .

والثالث : أنهم قوم مرتابون لم يظهروا العداوة للنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) بخلاف المنافقين .

والمرض في القلب كله هو الشك ، وهو مشهور في كلام العرب ، قال الشاعر :

ولا مرضاً أتقيه إني لصائن

لعرضي ولي في الأليّة مفخر

وقوله تعالى { غَرَّ هَؤُلآءِ } يعني المسلمين .

{ دينُهُمْ } يعني الإسلام ، لأن اللّه تعالى قلل المشركين في أعين المسلمين ليتقدموا عليهم ، وقلَّل المسلمين في أعين المشركين ليستهينوا بهم حتى أظفر بهم المسلمين فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا .

٥٠

قوله عز وجل { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } فيه قولان :

أحدهما : يتوفاهم ملك الموت عند قبض أرواحهم ، قاله مقاتل .

والثاني : قتل الملائكة لهم حين قاتلوهم يوم بدر .

{ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدبَارَهُمْ } تأويله على القول الأول : يضربون وجوههم يوم القيامة إذا واجهوهم ، وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار .

وتأويله على القول الثاني يحتمل وجهين :

أحدهما : يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا ، وأدبارهم لما انهزموا .

والثاني : أنهم جاءوهم من أمامهم وورائهم ، فمن كان من أمامهم ضرب وجوههم ، ومن كان من ورائهم ضرب أدبارهم .

٥١

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)

٥٢

كدأب آل فرعون . . . . .

قوله عز وجل { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } يحتمل خمسة أوجه :

أحدها : لم يك مغيراً نعمة أنعمها عليهم بالنصر لهم على أعدائهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الثقة به والتوكل عليه .

والثاني : لم يك مغيراً نعمته عليهم في كف أعدائهم عنهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته والكف عن معصيته .

والثالث : لم يك مغيراً نعمته عليهم في الغنى والسعة حتى يغيروا ما بأنفسهم . من تأدية حق اللّه تعالى منه .

والرابع : لم يك مغيراً نعمته في الثواب والجزاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان .

والخامس : لم يك مغيراً نعمته عليهم في الإرشاد حتى يغيروا ما بأنفسهم من الانقياد .

٥٣

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)

٥٤

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤)

٥٥

إن شر الدواب . . . . .

قوله عز وجل : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ } فيه وجهان :

أحدهما : تصادفهم .

والثاني : تظفر بهم .

{ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنذر بهم من خلفهم ، قال الشاعر من هذيل :

أطوِّف في الأباطح كلَّ يوم

مخافة أن يشرِّد بي حكيم .

٥٦

اَلَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (٥٦)

٥٧

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)

٥٨

قوله عز وجل { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } يعني في نقض العهد .

{ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ } أي فألق إليهم عهدهم حتى لا ينسبوك إلى الغّدر . بهم . والنبذ هو الإلقاء . قال الشاعر :

فهن ينبذن من قول يصبن به

مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

وفي قوله تعالى { عَلَى سَوَآءٍ } خمسة أوجه :

أحدها : على مهل ، قال الوليد بن مسلم .

والثاني : على محاجزة مما يفعل بهم ، قاله ابن بحر .

والثالث : على سواء في العلم حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يريدونه بك .

والرابع : على عدل من غير حيف ، واستشهد بقول الراجز :

فاضرب وجوه الغد والأعداء

حتى يجيبوك إلى السواء

أي إلى العدل .

والخامس : على الوسط واستشهد قائله بقول حسان :

يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد

وذكر مجاهد أنها نزلت في بني قريظة .

٥٩

ولا يحسبن الذين . . . . .

قوله عز وجل { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } فيه خمسة أقاويل :

أحدها : أن القوة ذكور الخيل ، ورباط الخيل إناثها ، وهذا قول عكرمة .

والثاني : القوة السلاح ، قاله الكلبي .

والثالث : القوة التصافي واتفاق الكلمة .

والرابع : القوة الثقة باللّه تعالى والرغبة إليه .

والخامس : القوة الرمي . روى يزيد بن أبي حبيب عن أبي عليّ الهمزاني عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يقول على المنبر : { { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قوة } أَلاَ إِنَّ القُوةَ الرميُ } قالها ثلاثاً .

{ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } على قول عكرمة إناثها خاصة ، وعلى قول الجمهور على العموم الذكور والإناث .

وقد روى عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { ارتبطوا الخيل فَإِنَّ ظُهُورَهَا لَكُم عِزٌّ ، وَأَجْوَافَهَا لَكُم كَنزٌ } . { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : عدو اللّه بالكفر وعدوكم بالمباينة .

والثاني : عدو اللّه هو عدوكم لأن عدو اللّه عدو لأوليائه . والإرهاب : التخويف .

{ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللّه يَعْلَمُهُمْ } فيه خمسة أقاويل :

أحدها : هم بنو قريظة ، قاله مجاهد .

والثاني : أهل فارس والروم قاله السدي .

والثالث : المنافقون ؛ قاله الحسن وابن زيد .

والرابع : الشياطين ، قاله معاذ بن جبل .

والخامس : كل من لا تعرفون عداوته ، قاله بعض المتأخرين .

٦٠

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (٦٠)

٦١

قوله عز وجل { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : وإن مالوا إلى الموادعة فَمِلْ إليها .

والثاني : وإن توقفوا عن الحرب مسالمة لك فتوقف عنهم مسالمة لهم .

والثالث : وإن أظهروا الإسلام فاقبل منهم ظاهر إسلامهم وإن تخلف باطن اعتقادهم .

وفيه ثلاثة أقاويل :

 أحدها : أنها عامة في موادعة كل من سألها من المشركين ثم نسخت بقوله تعالى { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم } " [ التوبة : ٥ ] قاله الحسن وقتادة وابن زيد .

والثاني : أنها في أهل الكتاب خاصة إذا بذلوا الجزية .

والثالث : أنها في قوم معينين سألوا الموادعة فأمر بإجابتهم .

٦٢

وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)

٦٣

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي اْلأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)

٦٤

قوله عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :

أحدهما : حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين اللّه ، قاله الكلبي ومقاتل .

والثاني : حسبك اللّه أن تتوكل عليه والمؤمنون أن تقاتل بهم .

قال الكلبي : نزلت هذه الآية بالبيداء من غزوة بدر قبل القتال .

٦٥

قوله عز وجل { يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرَّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلفاً } يعين يقاتلوا ألفاً قال مجاهد : وهذا يوم بدر جعل على كل رجل من المسلمين قتال عشرة من المشركين فشق ذلك عليهم فنسخ ب

٦٦

قوله تعالى : { الأَنَ خَفَّفَ اللّه عَنكُم } .

وقال ابن بحر : معناه أن اللّه تعالى ينصر كل رجل من المسلمين على عشرة من المشركين ، وقد مضى تفسير هاتين الآيتين من قبل .

٦٧

قوله عز وجل { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } وهذا نزل في أسرى بدر حين استقر رأي النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فيهم بعد مشاورة أصحابه على الفداء بالمال ، كل أسير بأربعة آلاف درهم ، فأنكر اللّه تعالى ذلك عليه وأنه ما كان له أن يفادي الأسرى .

{ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ } فيه وجهان :

أحدهما هو الغلبة والاستيلاء ، قاله السدي .

والثاني : هو كثرة القتل ليُعزَّ به المسلمون ويذل به المشركين . قاله مجاهد .

{ يُرِيدُونَ عَرَضَ الْدُّنْيَا } يعني المال ، سماه عرضاً لقلة بقائه .

{ وَاللّه يُرِيدُ الأَخِرَةَ } يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة .

٦٨

{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني ما أخذتموه من المال في فداء أسرى بدر .

وفي قوله { لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللّه سَبَقَ } أربعة أقاويل :

أحدها : لولا كتاب من اللّه سبق لأهل بدر أن يعذبهم لمسهم فيما أخذوه من فداء أسرى بدر عذاب عظيم ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير .

والثاني : لولا كتاب من اللّه سبق في أنه سيحل لكم الغنائم لمسكم في تعجلها من أهل بدر عذاب عظيم ، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وعبيدة .

والثالث : لولا كتاب من اللّه سبق أن لا يؤاخذ أحداً بعمل أتاه على جهالة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، قاله ابن اسحاق .

والرابع : لولا كتاب من اللّه سبق وهو القرآن الذي آمنتم به المقتضي غفران الصغائر لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .

وكان النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) شاور أبا بكر وعمر في أسرى بدر فقال أبو بكر : هم قومك وعشيرتك فاستبقهم لعل اللّه أن يهديهم ، وقال عمر : هم أعداء اللّه وأعداء رسوله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم ، فمال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، بعد انصرافه عنهم إلى قول أبي بكر وأخذ فدء الأسرى ليتقوى به المسلمون ، وقال : { أَنتُم عَالَةٌ بعيني المُهَاجِرِينَ } فلما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { لَو عُذِّبْنَا فِي هَذَا الأمْرِ يَا عُمَرُ لَمَا نَجَا غَيْرُكَ } ثم إن اللّه تعالى بيَّن تحليل الغنائم والفداء بقوله { فَكُلُوْا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } .

٦٩

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)

٧٠

قوله عز وجل { يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مَِّمَّآ أُخِذَ مِنْكُمْ } يحتمل وجهين :

أحدهما : أحل مما أخذ منكم .

الثاني : أكثر مما أخذ منكم .

قيل إن هذه الآية نزلت لما أسر العباس بن عبد المطلب مع أسرى بدر وأخذ منه رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فداء نفسه وابني أخويه عقيل ونوفل فقال : يا رسول اللّه كنت

مسلماً وأخرجت مكرهاً ولقد تركتني فقيراً أتكفف الناس . قال : { فَأَيْنَ الأَمْوَالُ الَّتِي دَفَعْتَهَا إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ عِنْدَ خُرُوجِكَ } فقال : إن اللّه لزيدنا ثقة بنبوتك . قال العباس . فصدق اللّه وعده فيما آتاني وإن لي لعشرين مملوكاً كل مملوك يضرب بعشرين الفاً في التجارة فقد أعطاني اللّه عز وجل خيراً مما أخذ مني يوم بدر .

٧١

وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)

٧٢

قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } يعني باللّه .

{ وَهَاجَرُواْ } يعني هاجروا وتركوا ديارهم في طاعة اللّه .

{ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِم وَأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّه } والمجاهدة بالمال : النفقة ، والمجاهدة بالنفس القتال ، وهؤلاء هم المهاجرون مع النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) إلى المدينة .

ثم قال { وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَنَصَرُواْ } يعني الأنصار الذين آووا المهاجرين في منازلهم ونصروا النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ونصروهم .

{ أَوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } فيه تأويلان :

أحدهما : أولئك بعضهم أعوان بعض ، قاله الجمهور . والثاني : أولئك بعضهم أولى بميراث بعض . قال ابن عباس : جعل اللّه تعالى الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام .

ثم قال تعالى { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ } يعني ما لكم من ميراثهم من شيء حتى يهاجروا فكانوا يعلمون ذلك حتى أنزل اللّه تعالى { وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كَتَابِ اللّه } يعني في الميراث فنسخت التي قبلها وصار التوارث لذوي الأرحام ، قاله مجاهد وعكرمة والحسن والسدي .

٧٣

قوله عز وجل { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } فيه وجهان :

أحدهما : بعضهم أنصار بعض ، قاله قتادة وابن إسحاق .

والثاني : بعضهم وارث بعض ، قاله ابن عباس وأبو مالك .

{ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ . . . } فيه تأويلان :

أحدهما : إلاَّ تناصروا أيها المؤمنون { تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ } يعني بغلبة الكفار .

{ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } بضعف الإيمان ، قاله ابن اسحاق وابن جرير .

والثاني : إلاّ تتوارثوا بالإسلام والهجرة { تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ } باختلاف الكلمة

٧٤

 . { وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } بتقوية الخارج على الجماعة ، قاله ابن عباس وابن زيد واللّه أعلم . { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٧٤ ) والَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَبِ اللّه إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } ( ٧٥ )

﴿ ٠