سورة الإسراء

١

قوله عز وجل : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } أما قوله { سبحان } ففيه تأويلان :

أحدهما : تنزيه اللّه تعالى من السوء ، وقيل بل نزه نفسه أن يكون لغيره في إسراء عبده تأثير .

الثاني : معناه برأه اللّه تعالى من السوء ، وقد قال الشاعر :

أقول لمّا جاءني فَخْرُه

سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر

وهو ذكر تعظيم للّه لا يصلح لغيره ، وإنما ذكره الشاعر على طريق النادر ، وهو

من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات . وذكر أبان بن ثعلبة أنها كلمة بالنبطية { شبهانك } . وقد ذكر الكلبي ومقاتل : إن { سبحان } في هذا الموضع بمعنى عجب ، وتقدير الآية : عجب من الذي أسرى بعبده ليلاً ، وقد وافق على هذا التأويل سيبويه وقطرب ، وجعل البيت شاهداً عليه ، وأن معناه عجبٌ من علقمة الفاخر . ووجه هذا التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً فقيل عجب ، ومثله قول بشار :

تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت

وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد

وقد جاء التسبيح في الكلام على أربعة أوجه :

أحدها : أن يستعمل في موضع الصلاة ، من ذلك

قوله تعالى : { فلولا أنه كان من المسبِّحينَ } " [ الصافات : ١٤٣ ] أي من المصلين .

الثاني : أن يستعمل في الاستثناء ، كما قال بعضهم في

قوله تعالى : { ألم أقل لكم لولا تسبحون } " [ القلم : ٢٨ ] أي لولا تستثنون .

الثالث : النور ، للخبر المروي عن رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال { لأحرقت سبحات وجهه } أي نور وجهه .

الرابع : التنزيه ، روي عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه سئل عن التسبيح فقال : { تنزيه اللّه تعالى عن السوء } .

وقوله تعالى : { أسرى بعبده } أي بنبيه محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، والسُّرى : سير الليل ، قال الشاعر :

وليلة ذا ندًى سَرَيت

ولم يلتني مِنْ سُراها ليت

وقوله { من المسجد الحرام } فيه قولان :

أحدهما : يعني من الحرم ، والحرم كله مسجد . وكان ( صلى اللّه عليه وسلم ) حين أُسرى به نائماً في بيت أم هانىء بنت أبي طالب ، روى ذلك أبو صالح عن أم هانىء .

الثاني : أنه أسرى به من المسجد ، وفيه كان حين أسري به روى ذلك أنس بن مالك . ثم اختلفوا في كيفية إسرائه على قولين :

أحدهما : أنه أسريَ بجسمه وروحه ، روى ذلك ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان .

واختلف قائلو ذلك هل دخل بيت المقدس وصلى فيه أم لا ، فروى أبو هريرة أنه صلى فيه بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء ، ثم رجع به إلى المسجد الحرام فصلى فيه صلاة الصبح من صبيحة ليلته .

وروى حذيفة بن اليمان أنه لم يدخل بيت المقدس ولم يُصلّ فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به ، ثم عاد إلى ملكه . والقول الثاني : أن النبي صلى اللّه عليه السلام أسري بروحه ولم يسر بجسمه ، روى ذلك عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : ما فُقِدَ جَسَدُ رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، ولكن اللّه أسرى بروحه .

وروي عن معاوية قال : كانت رؤيا من اللّه تعالى صادقة ، وكان الحسن

يتأول قوله تعالى { وما جَعَلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس } " [ الإسراء : ٦٠ ] أنها في المعراج ، لأن المشركين كذبوا ذلك وجعلوا يسألونه عن بيت المقدس وما رأى في طريقه فوصفه لهم ، ثم ذكر لهم أنه رأى في طريقه قعباً مغطى مملوءاً ماء ، فشرب الماء ثم غطاه كما كان ، ثم ذكر لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل متاعاً ، وأنها تقدُم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق ؛ فخرجوا في ذلك اليوم يستقبلونها ، فقال قائل منهم : هذه واللّه الشمس قد أشرقت ولم تأت ، وقال آخر : هذه واللّه العير يقدُمها جمل أورق كما قال محمد . وفي هذا دليل على صحة القول الأول أنه أسرى بجسمه وروحه .

وقوله تعالى : { إلى المسجد الأقصى } يعني بيت المقدس ، وهو مسجد سليمان بن داود عليهما السلام وسمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام .

ثم قال تعالى : { الذي باركنا حوله } فيه قولان :

أحدهما : يعني بالثمار ومجاري الأنهار .

الثاني : بمن جعل حوله من الأنبياء والصالحين ولهذا جعله مقدساً . وروى معاذ بن جبل عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال { يقول اللّه تعالى : يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي }. { لنريه من آياتنا } فيه قولان :

أحدهما : أن الآيات التي أراه في هذا المسرى أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة ، وهي مسيرة شهر .

الثاني : أنه أراه في هذا المسرى آيات .

وفيها قولان :

أحدهما : ما أراه من العجائب التي فيها اعتبار .

الثاني : من أري من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً .

{ إنه هو السميع البصير } فيه وجهان :

أحدهما : أنه وصف نفسه في هذه الحال بالسميع والبصير ، وإن كانتا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها لأنه حفظ رسوله عند إسرائه في ظلمة الليل فلا يضر ألا يبصر فيها ، وسمع دعاءه فأجابه إلى ما سأل ، فلهذين وصف اللّه نفسه بالسميع البصير .

الثاني : أن قومه كذبوه عن آخرهم بإسرائه ، فقال : السميع يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب ، البصير لما يفعله من الإسراء والمعراج .

﴿ ١