سورة الحديد

مدنية في قول الجمهور ، قال الكلبي هي مكية .

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

سبح للّه ما . . . . .

قوله تعالى { سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } في هذا التسبيح ثلاثة أوجه :

أحدها : يعني أن خلق ما في السموات والأرض يوجب تنزيهه عن الأمثال والأشباه .

الثاني : تنزيه اللّه قولاً مما أضاف إليه الملحدون ، وهو قول الجمهور .

الثالث : أنه الصلاة ، سميت تسبيحاً لما تتضمنه من التسبيح ، قاله سفيان ، والضحاك .

فقوله : { سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَوَاتِ } يعني الملائكة وما فيهن من غيرهم وما في الأرض يعني في الحيوان والجماد ، وقد ذكرنا في تسبيح الجماد وسجوده ما أغنى عن الإعادة .

{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في انتصاره ، { الْحَكِيمُ } في تدبيره .

٢

لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)

٣

{ هُوَ الأَوَّلُ وِالأخِرُ } يريد بالأول أنه قبل كل شيء لقدمه ، وبالآخر لأنه بعد كل شيء لبقائه .

{ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } فيه ثلاثة تأويلات

 أحدها : الظاهر فوق كل شيء لعلوه ، والباطن إحاطته بكل شيء لقربه ، قاله ابن حيان .

الثاني : أنه القاهر لما ظهر وبطن كما قال تعالى : { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِم فََأصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } .

الثالث : العالم بما ظهر وما بطن .

{ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ } يعني بالأول والآخر والظاهر والباطن

. ولأصحاب الخواطر في ذلك ثلاثة أوجه :

أحدها : الأول في ابتدائه بالنعم ، والآخر في ختامه بالإحسان ، والظاهر في إظهار حججه للعقول ، والباطن في علمه ببواطن الامور .

الثاني : الأول بكشف أحوال الآخرة حين ترغبون فيها ، والآخر بكشف أحوال الدنيا حين تزهدون فيها ، والظاهر على قلوب أوليائه حين يعرفونه ، والباطن على قلوب أعدائه حين ينكرونه .

الثالث : الأول قبل كل معلوم ، والآخر بعد كل مختوم ، والظاهر فوق كل مرسوم ، والباطن محيط بكل مكتوم .

٤

هو الذي خلق . . . . .

{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } قال مقاتل : من مطر ، وقال غيره : من مطر وغير مطر .

{ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } قال مقاتل : من نبات وغير نبات .

{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } قال مقاتل : من الملائكة ، وقال غيره : من ملائكة وغير ملائكة .

ويحتمل وجهاً آخر : ما يلج في الأرض من بذر ، وما يخرج منها من زرع ، وما ينزل من السماء من قضاء ، وما يعرج فيها من عمل ، ليعلموا إحاطة علمه بهم فيما أظهروه أو ستروه ، ونفوذ قضائه فيهم بما أرادوه أو كرهوه .

{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم } فيه وجهان

: أحدهما : علمه معكم أينما كنتم حيث لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، قاله مقاتل .

والثاني : قدرته معكم أينما كنتم حيث لا يعجزه شيء من أموركم .

٥

لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ اْلأُمُورُ (٥)

٦

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦)

٧

آمنوا باللّه ورسوله . . . . .

{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } تحتمل هذه النفقة وجهين :

أحدهما : أن تكون الزكاة المفروضة .

والثاني : أن يكون غيرها من وجوه الطاعات .

وفي { ما جَعَلَكْم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } قولان :

أحدهما : يعني مما جعلكم معمرين فيه بالرزق ، قاله مجاهد .

الثاني : مما جعلكم مستخلفين فيه بوراثتكم له عمن قبلكم ، قاله الحسن .

ويحتمل ثالثاً : مما جعلكم مستخلفين على القيام بأداء حقوقه .

٨

وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)

٩

هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩)

١٠

{ وَللّه مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } يحتمل وجهين

: أحدهما : معناه وللّه ملك السموات والأرض .

الثاني : أنهما راجعان إليه بانقباض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق .

{ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } فيه قولان

: أحدهما : لا يستوي من أسلم من قبل فتح مكة وقاتل ومن أسلم بعد فتحها وقاتل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .

الثاني : يعني من أنفق ماله في الجهاد وقاتل ، قاله قتادة .

وفي هذا الفتح قولان :

أحدهما : فتح مكة ، قاله زيد بن أسلم .

الثاني : فتح الحديبية ، قاله الشعبي ، قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الأخر ، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك .

{ وَكُلاًّ وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى } فيه قولان :

أحدهما : أن الحسنى الحسنة ، قاله مقاتل .

الثاني : الجنة ، قاله مجاهد .

ويحتمل ثالثاً : أن الحسنى القبول والجزاء .

١١

{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرضُ اللّه قَرْضاً حَسَناً } فيه خمسة أقاويل :

أحدها : أن القرض الحسن هو أن يقول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه واللّه أكبر ، رواه سفيان عن ابن حيان .

الثاني : أنه النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .

الثالث : أنه التطوع بالعبادات ، قاله الحسن .

الرابع : أنه عمل الخير ، والعرب تقول لي عند فلان قرض صدق أو قرض سوء ، إذا فعل به خيراً أو شراً ، ومنه قول الشاعر :

وتجزي سلاماً من مقدم قرضها

بما قدمت أيديهم وأزلت

الخامس : أنه النفقة في سبيل اللّه ، قاله مقاتل بن حيان

. وفي قوله : { حَسَناً } وجهان :

أحدهما : طيبة بها نفسه ، قاله مقاتل .

الثاني : محتسباً لها عند اللّه ، قاله الكلبي ، وسمي قرضاً لاستحقاق ثوابه ، قاله لبيد :

وإذا جوزيت قرضاً فاجزه

إنما يجزى الفتى ليس الجمل

وفي تسميته { حَسَناً } وجهان :

أحدهما : لصرفه في وجوه حسنة .

الثاني : لأنه لا مَنَّ فيه ولا أذى .

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } فيه وجهان :

أحدهما : فيضاعف القرض لأن جزاء الحسنة عشر أمثالها .

الثاني : فيضاعف الثواب تفضلاً بما لا نهاية له .

{ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } فيه أربعة أوجه :

أحدها : لم يتذلل في طلبه . الثاني : لأنه كريم الخطر .

الثالث : أن صاحبه كريم .

فلما سمعها أبو الدحداح تصدق بحديقة فكان أول من تصدق بعد هذه الآية .

وروى سعيد بن جبير أن اليهود أتت النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) عند نزول هذه الآية ، فقالوا يا محمد ، أفقير ربك يسأل عباده القرض ؟ فأنزل اللّه { لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَولَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّه فَقِيرٌ } الآية .

١٢

{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } وفي نورهم ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضياء يعطيهم اللّه إياه ثواباً وتكرمة ، وهذا معنى قول قتادة .

الثاني : أنه هداهم الذي قضاه لهم ، قاله الضحاك .

الثالث : أنه نور أعمالهم وطاعتهم .

قال ابن مسعود : ونورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم مَن نوره مثل النخلة ، وأدناهم نوراً مَن نوره على إبهام رجله يوقد تارة ويطفأ أخرى .

وقال الضحاك : ليس أحد يعطى يوم القيامة نوراً ، فإذا انتهوا إلى الصراط أطفىء نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن ينطفىء نورهم كما طفىء نور المنافقين ، فقالوا : { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } .

وفي قوله : { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } وجهان :

أحدهما : ليستضيئوا به على الصراط ، قاله الحسن .

والثاني : ليكون لهم دليلاً إلى الجنة ، قاله مقاتل .

وفي قوله : { بِأَيْمَانَهِم } في الصدقات والزكوات وسبل الخير .

الرابع : بإيمانهم في الدنيا وتصديقهم بالجزاء ، قاله مقاتل .

قوله تعالى { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } فيه وجهان :

أحدهما : أن نورهم هو بشراهم بالجنات .

الثاني : هي بشرى من الملائكة يتلقونهم بها في القيامة ، قاله الضحاك .

١٣

{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } الآية . قال ابن عباس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة أظنها بعد فصل القضاء ، ثم يعطون نوراً يمشون فيه .

وفي النور قولان :

أحدهما : يعطاه المؤمن بعد إيمانه دون الكافر .

الثاني : يعطاه المؤمن والمنافق ، ثم يسلب نور المنافق لنفاقه ، قاله ابن عباس .

فيقول المنافقون والمنافقات حين غشيتهم الظلمة .

{ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } حين أعطوا النور الذي يمشون فيه :

{ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي انتظروا ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبرك اليقينا

{ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً } فيه قولان :

أحدهما : ارجعوا إلى الموضع الي أخذنا منه النور فالتمسوا منه نوراً .

الثاني : ارجعو فاعملوا عملاً يجعل اللّه بين أيديكم نوراً .

ويحتمل في قائل هذا القول وجهان :

أحدهما : أن يقوله المؤمنون لهم .

الثاني : أن تقوله الملائكة لهم .

{ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ } فيه ثلاثة أقاويل

 أحدها : أنه حائط بين الجنة والنار ، قاله قتادة .

الثاني : أنه حجاب في الأعراف ، قاله مجاهد .

الثالث : أنه سور المسجد الشرقي ، [ بيت المقدس ] قاله عبد اللّه بن عمرو بن العاص .

{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبلِهِ الْعَذَابُ } فيه قولان

: أحدهما : أن الرحمة التي في باطنه الجنة ، والعذاب الذي في ظاهره جهنم ، قاله الحسن .

الثاني : أن الرحمة التي في باطنه : المسجد وما يليه ، والعذاب الذي في ظاهره : وادي جهنم يعني بيت المقدس ، قاله عبد اللّه بن عمرو بن العاص .

ويحتمل ثالثاً : أن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين .

وفيمن ضرب بينهم وبينه بهذا السور قولان :

أحدهما : أنه ضرب بينهم وبين المؤمنين الذي التمسوا منهم نوراً ، قاله الكلبي ومقاتل .

الثاني : أنه ضرب بينهم وبين النور بهذا السور حتى لا يقدروا على التماس النور .

١٤

{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يعني نصلي مثلما تصلون ، ونغزو مثلما تغزون ، ونفعل مثلما تفعلون .

{ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَكُم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : بالنفاق ، قاله مجاهد .

الثاني : بالمعاصي ، قاله أبو سنان .

الثالث : بالشهوات ، رواه أبو نمير الهمداني .

{ وَتَرَبَّصْتُمْ } فيه تأويلان :

أحدهما : بالحق وأهله ، قاله قتادة .

الثاني : وتربصتم بالتوبة ، قاله أبو سنان .

{ وَارْتَبْتُمْ } يعني شككتم في أمر اللّه

{ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ } فيه أربعة أوجه

أحدها : خدع الشيطان ، قاله قتادة .

الثاني : الدنيا ، قاله ابن عباس .

الثالث : سيغفر لنا ، قاله أبو سنان .

الرابع : قولهم اليوم وغداً .

{ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللّه } فيه قولان

أحدهما : الموت ، قاله أبو سنان .

الثاني : إلقاؤهم في النار ، قاله قتادة .

{ وَغَرَّكُم بِاللّه الْغَرُوْرُ } فيه وجهان

أحدهما : الشيطان ، قاله عكرمة .

الثاني : الدنيا ، قاله الضحاك .

١٥

فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)

١٦

{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها نزلت في قوم موسى عليه السلام قبل أن يبعث النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، قاله ابن حيان .

الثاني : في المنافقين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم ، قاله الكلبي .

الثالث : أنها في المؤمنين من أمتنا ، قاله ابن عباس وابن مسعود ، والقاسم بن محمد .

ثم اختلف فيها على ثلاثة أقاويل :

أحدها : ما رواه أبو حازم عن عون بن عبد اللّه عن ابن مسعود قال : ما كان بين أن أسلمنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا . قال الحسن : يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه .

الثاني : ما رواه قتادة عن ابن عباس أن اللّه استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة ، فقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } الآية .

الثالث : ما رواه المسعودي عن القاسم قال : مل أصحاب رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) مرة فقالوا يا رسول اللّه حدثنا ، فأنزل اللّه تعالى : { نَحنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسنَ الْقَصَصِ } ثم ملوا مرة فقالوا : حدثنا يا رسول اللّه ، فأنزل اللّه { أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه } .

قال شداد بن أوس : كان يروى لنا عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ } .

ومعنى قوله : { أَلَمْ يَأْنِ } ألم يحن ، قال الشاعر

ألم يأن لي يا قلب أن اترك الجهلا

وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا

وفي { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْر اللّه } ثلاثة تأويلات

أحدها : أن تلين قلوبهم لذكر اللّه .

الثاني : أن تذل قلوبهم من خشية اللّه .

الثالث : أن تجزع قلوبهم من خوف اللّه .

وفي ذكر اللّه ها هنا وجهان :

أحدهما : أنه القرآن ، قاله مقاتل .

الثاني : أنه حقوق اللّه ، وهو محتمل .

{ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } فيه ثلاثة أوجه

أحدها : القرآن ، قاله مقاتل .

الثاني : الحلال والحرام ، قاله الكلبي .

الثالث : يحتمل أن يكون ما أنزل من البينات والهدى .

١٧

{ اعلموا أن اللّه يحيى الأرض بعد موتها } فيه ثلاثة أوجه

 أحدها : يلين القلوب بعد قسوتها ، قاله صالح المري .

الثاني : يحتمل أنه يصلح الفساد .

الثالث : أنه مثل ضربه لإحياء الموتى . روى وكيع عن أبي رزين قال : قلت يا رسول اللّه كيف يحيى اللّه الأرض بعد موتها ؟ فقال : { يَا أَبَا رُزَينَ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحَلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضْرَةً ؟ قال : بلى ، قَالَ كَذَلِكَ يُحْيي اللّه المَوتَى } .

١٨

{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } فيه وجهان :

أحدهما : المصدقين للّه ورسوله .

الثاني : المتصدقين بأموالهم في طاعة اللّه .

١٩

{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } أي المؤمنون بتصديق اللّه ورسله .

{ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } فيه قولان :

أحدهما : أن الذين آمنوا باللّه ورسله هم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم ، قاله زيد بن أسلم .

الثاني : أن قوله : { أَوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } كلام تام .

وقوله : { وَالشُّهَدَآءُ عِنَدَ رَبِّهِمْ } كلام مبتدأ وفيهم قولان :

أحدهما : أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب ، قاله الكلبي .

الثاني : أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة .

وفيما يشهدون به قولان :

أحدهما يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية ، وهذا معنى قول مجاهد .

الثاني : يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة إلى أممهم ، قاله الكلبي .

وقال مقاتل قولاً

ثالثاً : أنهم القتلى في سبيل اللّه لهم أجرهم عند ربهم يعني ثواب أعمالهم .

{ وَنُورُهُمْ } فيه وجهان :

أحدهما : نورهم على الصراط .

الثاني : إيمانهم في الدنيا ، حكاه الكلبي .

٢٠

{ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } فيه وجهان

: أحدهما : أكل وشرب ، قاله قتادة .

الثاني : أنه على المعهود من اسمه ، قال مجاهد : كل لعب لهو .

ويحتمل تأويلاً

ثالثاً : أن اللعب ما رغَّب في الدنيا ، واللّهو ما ألهى عن الآخرة .

ويحتمل

رابعاً : أن اللعب الاقتناء ، واللّهو النساء .

{ وَزِينَةٌ } يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الدنيا زينة فانية .

الثاني : أنه كل ما بوشر فيها لغير طاعة .

{ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } يحتمل وجهين :

أحدهما : بالخلقة والقوة .

الثاني : بالأنساب على عادة العرب في التنافس بالآباء .

{ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ } لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأموال والأولاد ، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعات .

ثم ضرب لهم مثلاً بالزرع { كَمَثَلٍ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمََّ يَهِيْجُ } بعد خضرة .

{ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ حُطَاماً } بالرياح الحطمة ، فيذهب بعد حسنه ، كذلك دنيا الكافر .

٢١

{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَبِّكُمْ } فيه أربعة أوجه :

أحدها : النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، قاله أبو سعيد .

الثاني : الصف الأول ، قاله رباح بن عبيد .

الثالث : إلى التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول .

الرابع : إلى التوبة : قاله الكلبي .

{ وَجَنَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ } ترغيباً في سعتها ، واقتصر على ذكر العرض دون الطول لما في العرض من الدلالة على الطول ، ولأن من عادة العرب أن تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله ، قال الشاعر :

كأن بلاد اللّه وهي عريضة

على الخائف المطلوب حلقة خاتم .

{ ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مِن يَشَآءُ } فيه وجهان :

أحدهما : الجنة ، قاله الضحاك .

الثاني : الدين ، قاله ابن عباس .

وفي { مَن يَشَآءُ } قولان :

أحدهما : من المؤمنين ، إن قيل إن الفضل الجنة .

الثاني : من جيمع الخلق ، إن قيل إنه الدين .

٢٢

{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :

أحدهما : الجوائح في الزرع والثمار .

الثاني : القحط والغلاء .

{ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ } فيه أربعة أوجه :

أحدها : في الدين ، قاله ابن عباس .

الثاني : الأمراض والأوصاب ، قاله قتادة .

الثالث : إقامة الحدود ، قاله ابن حبان .

الرابع : ضيق المعاش ، وهذا معنى رواية ابن جريج .

{ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } يعني اللوح المحفوظ

. { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } قال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق المصائب ونقضيها .

٢٣

{ لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } فيه وجهان

: أحدهما : من الرزق الذي لم يقدر لكم ، قاله ابن عباس ، والضحاك .

الثاني : من العافية والخصب الذي لم يقض لكم ، قاله ابن جبير .

{ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ } فيه وجهان

: أحدهما : من الدنيا ، قاله ابن عباس .

الثاني : من العافية والخصب ، وهذا مقتضى قول ابن جبير .

وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : { لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ } قال : ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً ، والخير شكراً .

٢٤

{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } فيه خمسة تأويلات :

أحدها : الذين يبخلون يعني بالعلم ، ويأمرون الناس بالبخل بألا يعلموا الناس شيئاً ، قاله ابن جبير .

الثاني : أنهم اليهود بخلوا بما في التوارة من ذكر محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، قاله الكلبي ، والسدي .

الثالث : أنه البخل بأداء حق اللّه من أموالهم ، قاله زيد بن أسلم .

الرابع : أنه البخل بالصدقة والحقوق ، قاله عامر بن عبد اللّه الأشعري .

الخامس : أنه البخل بما في يديه ، قال طاووس .

وفرق أصحاب الخواطر بين البخيل والسخي بفرقين :

أحدهما : أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك ، والسخي الذي يلتذ بالعطاء .

الثاني : أن البخيل الذي يعطي عند السؤال ، والسخي الذي يعطي بغير سؤال .

٢٥

لقد أرسلنا رسلنا . . . . .

{ وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ } فيه قولان

: أحدهما : أن اللّه أنزله مع آدم . روى عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاث أشياء نزلت مع آدم : الحجر الأسود ، كان أشد بياضاً من الثلج ، وعصا موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع مثل طول موسى ، والحديد ، أنزل معه ثلاثة أشياء : السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة .

الثاني : أنه من الأرض غير منزل من السماء ، فيكون معنى قوله :

{ وَأَنزَلْنَا } محمولاً على أحد وجهين

: أحدهما : أي أظهرناه .

الثاني : لأن أصله من الماء المنزل من السماء فينعقد في الأرض جوهره حتى يصير بالسبك حديداً .

{ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } فيه وجهان

: أحدهما : لأن بسلاحه وآلته تكون الحرب التي هي بأس شديد .

الثاني : لأن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً .

{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } يحتمل وجهين

: أحدهما : ما تدفعه عنهم دروع الحديد من الأذى وتوصلهم إلى الحرب والنصر .

الثاني : ما يكف عنهم من المكروه بالخوف عنه .

وقال قطرب : البأس السلاح ، والمنفعة الآلة .

٢٦

ولقد أرسلنا نوحا . . . . .

{ . . وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأْفَةً وَرَحْمَةً } يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الرأفة اللين ، والرحمة الشفقة .

الثاني : أن الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل .

٢٧

{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } فيه قراءتان :

إحداهما : بفتح الراء وهي الخوف من الرهب .

الثانية : بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان ومعناه أنهم ابتدعوا رهبانية ابتدؤوها .

وسبب ذلك ما حكاه الضحاك : [ أنهم ] بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا النساء واتخذوا الصوامع ، فكان هذا ما ابتدعوه من الرهبانية التي لم يفعلها من تقدمهم وإن كانوا فيها محسنين .

{ مَا كتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي لم تكتب عليهم وفيها ثلاثة أوجه

 أحدها : أنها رفض النساء واتخاذ الصوامع ، قاله قتادة .

الثاني : أنها لحوقهم بالجبال ولزومهم البراري ، وروي فيه خبر مرفوع .

الثالث : أنها الانقطاع عن الناس والانفراد بالعبادة .

وفي الرأفة والرحمة التي جعلها في قلوبهم وجهان :

[ الأول ] : أنه جعلها في قلوبهم بالأمر بها والترغيب فيها .

الثاني : جعلها بأن خلقها فيهم وقد مدحوا بالتعريض بها .

{ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رَضْوَانِ اللّه } أي لم تكتب عليهم قبل ابتداعها ولا كتبت بعد ذلك عليهم .

الثاني : أنهم تطوعوا بها بابتداعها ، ثم كتبت بعد ذلك عليهم ، قاله الحسن .

{ فَمَا رَعَوْهَا حِقَّ رِعَايَتِهَا } فيه وجهان

: أحدهما : أنهم ما رعوها لتكذيبهم بمحمد .

الثاني : بتبديل دينهم وتغييرهم فيه قبل مبعث الرسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، قاله عطية العوفي .

٢٨

يا أيها الذين . . . . .

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللّه وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ } معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد .

{ يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَّحْمَتِهِ } فيه وجهان :

أحدهما : أن أحد الأجرين لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء ، والآخر لإيمانهم بمحمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، قاله ابن عباس .

الثاني : أن أحدهما : أجر الدنيا ، والآخر أجر الآخرة ، قاله ابن زيد .

ويحتمل ثالثاً : أن أحدهما أجر اجتناب المعاصي ، والثاني أجر فعل الطاعات .

ويحتمل رابعاً : أن أحدهما أجر القيام بحقوق اللّه والثاني أجر القيام بحقوق العباد .

{ وَيَجْعَلَ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } فيه قولان

: أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن عباس .

الثاني : أنه الهدى ، قاله مجاهد .

ويحتمل ثالثاً : أنه الدين المتبوع في مصالح الدنيا وثواب الآخرة . وقد روى أبو بريدة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) { ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَينِ : رَجُلٌ آمَنَ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الآخِرِ ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَه أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لَسَيِّدِهِ } .

٢٩

{ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } قال الأخفش : معناه ليعلم أهل الكتاب وأن { لا } صلة زائدة وقال الفراء : لأنْ لا يعلم أهل الكتاب و { لا } صلة زائدة في كلام دخل عليه جحد .

{ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللّه } فيه وجهان

: أحدهما : من دين اللّه وهو الإسلام قاله مقاتل .

الثاني : من رزق اللّه ، قاله الكلبي .

وفيه ثالث : أن الفضل نعم اللّه التي لا تحصى .

﴿ ٠