سورة نوحمكية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١قوله عز وجل : { إنا أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِه } روى قتادة عن أنس أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { أول نبي أُرسل نوح } قال قتادة : بعث من الجزيرة . واختلف في سنه حين بعث : قال ابن عباس : بعث وهو ابن أربعين سنة . وقال عبد اللّه بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة . وقال إبراهيم بن زيد : إنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه في الدنيا . { أنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أن يأتيَهم عَذابٌ أَليمٌ } فيه وجهان : أحدهما : يعني عذاب النار في الآخرة ، قاله ابن عباس . الثاني : عذاب الدنيا ، وهو ما ينزل عليهم بعد ذلك من الطوفان ، قاله الكلبي ، وكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيباً ، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، فيقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . ٢قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) ٣أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) ٤{ يَغْفِرْ لكم مِن ذُنوبكم } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن { من } صلة زائدة ، ومعنى الكلام يغفر ذنوبكم ، قاله السدي . الثاني : أنها ليست صلة ، ومعناه يخرجكم من ذنوبكم ، قاله زيد بن أسلم . الثالث : معناه يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها ، قاله ابن شجرة . { ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسمى } يعني إلى موتكم وأجلكم الذي خط لكم ، فيكون موتكم بغير عذاب إن آمنتم . { إنّ أَجَلَ اللّه إذا جاءَ لا يُؤخَّرُ لو كنتم تَعْلَمونَ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يعني بأجل اللّه الذي لا يؤخر يوم القيامة ، جعله اللّه أجلاً للبعث ، قاله الحسن . الثاني : يعني أجل الموت إذا جاء لم يؤخر ، قاله مجاهد . الثالث : يعني أجل العذاب إذا جاء لا يؤخر ، قاله السدي . وفي قوله : { لو كنتم تعلمون } وجهان : أحدهما : أن ذلك بمعنى إن كنتم تعلمون . الثاني : لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل اللّه إذا جاء لا يؤخر ، قاله الحسن . ٥{ قال رَبِّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي ليلاً ونهاراً } فيه وجهان : أحدهما : دعوتهم ليعبدوك ليلاً ونهاراً . الثاني : دعوتهم ليلاً ونهاراً إلى عبادتك . ٦{ فلم يَزدْهم دُعائي إلاّ فِراراً } يحتمل وجهين : أحدهما : إلا فراراً من طاعتك . الثاني : فراراً من إجابتي إلى عبادتك . قال قتادة : بلغنى أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح ، فيقول لابنه : احذر هذا لا يغرنك فإن أبي قد ذهب بي غليه وأنا مثلك ، فحذرني كما حذرتك . ٧{ وإنِّي كلما دَعَوْتُهم لِتَغَفِرَ لهم } يعني كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ما تقدم من الشرك . { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا دعاءه ليؤيسوه من إجابة ما لم يسمعوه ، قال محمد بن إسحاق : كان حليماً صبوراً . { واستغْشَوا ثيابَهم } أي عطوا رؤسهم وتنكروا لئلا يعرفهم . { وأَصَرُّوا } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أنه إقامتهم على الكفر ، قال قتادة : قدماً قدماً في معاصي اللّه لالتهائهم عن مخافة اللّه حتى جاءهم أمر اللّه . الثاني : الإصرار : أن يأتي الذنب عمداً ، قاله الحسن . الثالث : معناه أنهم سكتوا على ذنوبهم فلم يستغفروا قاله السدي . { واستكْبَروا استكباراً } فيه وجهان : أحدهما : أن ذلك كفرهم باللّه وتكذيبهم لنوح ، قاله الضحاك . الثاني : أن ذلك تركهم التوبة ، قاله ابن عباس ، وقوله { استبكارا } تفخيم . ٨{ ثم إنّي دَعْوتُهم جِهاراً } أي مجاهرة يرى بعضهم بعضاً . ٩{ ثم إني أعْلَنْتُ لهم } يعني الدعاء ، قال مجاهد : معناه صِحْتُ . { وأسَرَرْتُ لهم إسْراراً } الدعاء عن بعضهم من بعض ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه دعاهم في وقت سراً ، وفي وقت جهراً . الثاني : دعا بعضهم سراً وبعضهم جهراً ، وكل هذا من نوح مبالغة في الدعاء وتلطفاً في الاستدعاء . ١٠{ فقلتُ استغْفِروا ربّكم إنّه كان غَفّاراً } وهذا فيه ترغيب في التوبة ، وقد روى حذيفة عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { الاستغفار ممحاة للذنوب } . وقال : الفضيل : يقول العبد استغفر اللّه ، قال : وتفسيرها أقلني . ١١{ يُرْسِلِ السماءَ عليكم مِدْراراً } يعني غيثاً متتابعاً ، وقيل إنهم كانوا قد أجدبوا أربعين سنة ، حتى أذهب الجدب أموالهم وانقطع الولد عن نسائهم ، فقال ترغيباً في الإيمان . ١٢{ ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويَجْعَل لكم جَنّاتٍ ويَجْعَل لكم أنهاراً } قال قتادة : علم نبي اللّه نوح أنهم أهل حرص على الدنيا ، فقال هلموا إلى طاعة اللّه فإن من طاعته درك الدنيا والآخرة . ١٣{ ما لكم لا ترجون للّه وقاراً } فيه خمسة تأويلات : أحدها : ما لكم لا تعرفون للّه عظمة ، قاله مجاهد ، وعكرمة . الثاني : لا تخشون للّه عقاباً وترجون منه ثواباً ، قاله ابن عباس في رواية ابن جبير . الثالث : لا تعرفون للّه حقه ولا تشكرون له نعمه ، قاله الحسن . الرابع : لا تؤدون للّه طاعة ، قاله ابن زيد . الخامس : أن الوقار الثبات ، ومنه ١٤قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } " [ الأحزاب : ٣٣ ] أي اثبتن ، ومعناه لا تثبتون وحدانية اللّه وأنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه ، قال ابن بحر : دلهم على ذلك فقال : { وقد خلقكم أطواراً } في وجهان : أحدهما : يعني طوراً نطفة ، ثم طوراً علقة ، ثم طوراً مضغة ، ثم طوراً عظماً ، ثم كسونا العظام لحماً ، ثم أنشأناه خلقاً آخر أنبتنا له الشعر وكملت له الصورة ، قاله قتادة . الثاني : أن الأطوار اختلافهم في الطول والقصر ، والقوة والضعف والهم والتصرف ، والغنى والفقر . ويحتمل ثالثاً : أن الأطوار اختلافهم في الأخلاق والأفعال . ١٥{ ألمْ تَروْا كيف خَلَق اللّه سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً } فيها قولان : أحدهما : أنهن سبع سموات على سبع أرضين ، بين كل سماء وأرض خلق ، وهذا قول الحسن . والثاني : أنهن سبع سموات طباقاً بعضهن فوق بعض ، كالقباب ، وهذا قول السدي . ١٦{ وجَعَل القَمَرَ فيهنّ نُوراً } فيه قولان : أحدهما : معناه وجعل القمر فيهن نوراً لأهل الأرض ، قاله السدي . الثاني : أنه جعل القمر فيهن نوراً لأهل السماء والأرض ، قاله عطاء . وقال ابن عباس : وجهه يضيء لأهل الأرض ، وظهره يضيء لأهل السماء . { وجَعَل الشّمْسَ سِراجاً } يعني مصباحاً لأهل الأرض ، وفي إضافته لأهل السماء القولان الأولان . ١٧{ واللّه أَنْبَتكُم مِنَ الأرضِ نَباتاً } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يعني آدم خلقه من أديم الأرض كلها ، قاله ابن جريج ، وقال خالد بن معدان : خلق الإنسان من طين ، فإنما تلين القلوب في الشتاء . الثاني : أنبتهم من الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر ، قاله ابن بحر . الثالث : أن جميع الخلق أنشأهم باغتذاء ما تنبته الأرض وبما فيها ، وهو محتمل . ١٨{ ثم يُعيدُكم فيها } يعني أمواتاً في القبور . { ويُخْرِجُكم إخراجاً } لنشور بالبعث . ١٩{ واللّه جَعَل لكم الأرضَ بِساطاً } أي مبسوطة ، وفيه دليل على أنها مبسوطة . ٢٠{ لِتَسْلُكوا منها سُبُلاً فجاجاً } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : طرقاً مختلفة ، قاله ابن عباس . الثاني : طرقاً واسعة ، قاله ابن كامل . الثالث : طرقاً أعلاماً ، قاله قتادة . ٢١{ قال نوحٌ ربِّ إنهم عَصَوْني } قال أهل التفسير : لبث فيهم ما أخبر اللّه به ألف سنة إلا خمسين عاماً داعياً لهم ، وهم على كفرهم وعصيانهم ، قال ابن عباس : رجا نوح الأبناء بعد الآباء ، فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبعة قرون ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، حتى كثر الناس وفشوا . قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين . { واتّبَعوا مَنْ لم يَزِدْه مالُه ووَلدُه إلاّ خَساراً } قرىء ولده بفتح الواو وضمها ، وفيهما قولان : أحدهما : أن الولد بالضم الجماعة من الأولاد ، والولد بالفتح واحد منهم ، قاله الأعمش ، قال الربيع بن زياد : وإن تكَ حَرْبُكم أمست عواناً فإني لم أكُنْ مّمن جَناها ولكن وُلْدُ سَوْدةَ أرَّثوها وحَشّوا نارها لمن اصطلاها ٢٢{ ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً } أي عظيماً ، والكبّار أشد مبالغة من كبير . وفيه وجهان ، أحدهما : ما جعلوه للّه من الصاحبة والولد ، قاله الكلبي . الثاني : هو قول كبرائهم لأتباعهم : ٢٣{ وقالوا لا تَذَرُنَّ آلِهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً } الآية ، قاله مقاتل . وفي هذه الأصنام قولان : أحدهما : أنها كانت للعرب لم يعبدها غيرهم ويكون معنى الكلام : كما قال قوم نوح لأتباعهم لا تذرن آلهتكم ، قالت العرب مثلهم لأولادهم وقومهم لا تذرنّ وداً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ، ثم عاد الذكر بعد ذلك إلى قوم نوح . واختلف في هذه الأسماء ، فقال عروة بن الزبير : اشتكى آدم وعنده بنوه ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان ود أكبرهم وأبرهم به ، وقال غيره : إن هذه الأسماء كانت لرجال قبل قوم نوح ، فماتوا فحزن عليهم أبناؤهم حزناً شديداً ، فزين لهم الشيطان أن يصورهم لينظروا إليهم ففعلوا ، ثم عبدها أبناؤهم من بعدهم . وقال محمد بن كعب : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح فحدث بعدهم من أخذ في العبادة مأخذهم ، فزين لهم إبليس أن يتصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم ، ثم عبدها من بعدهم قوم نوح ، ثم انتقلت بعدهم إلى العرب فعبدها ولد إسماعيل . فأما ود فهو أول صنم معبود ، سمي بذلك لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل من قول ابن عباس وعطاء ومقاتل ، وفيه يقول شاعرهم : حيّاك ودٌّ فإنا لا يحل لنا لهْوُ النساءِ وإنّ الدينَ قد عزمَا . وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر ، في قولهم ، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة ، وقال مقاتل : حي من نجران . قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث وكان من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه لا يهيجونه ، حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فيضربون عليه بناء وينزلون حوله . وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع ، في قول قتادة وعكرمة وعطاء . وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول عطاء ونحوه عن مقاتل . ٢٤{ وقد أَضَلّوُا كثيراً } فيه وجهان : أحدهما : يريد أن هذه الأصنام قد ضل بها كثير من قومه . الثاني : أن أكابر قومه قد أضلوا كثيراً من أصاغرهم وأتباعهم . { ولا تَزِدِ الظّالمينّ إلاَّ ضَلالاً } فيه وجهان : أحدهما : إلا عذاباً ، قاله ابن بحر واستشهد ب قوله تعالى : { إن المجرمين في ضَلالٍ وسُعُرٍ } " [ القمر : ٤٧ ] . الثاني : إلا فتنة بالمال والولد ، وهو محتمل . ٢٥مما خطيئاتهم أغرقوا . . . . . ٢٦{ وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ مِنَ الكافرين دَيّارا } اختلفوا في سبب دعاء نوح على قومه بهذا على قولين : أحدهما : أنه لما نزلت عليه قوله تعالى : { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } " [ هود : ٣٦ ] دعا عليهم بهذا الدعاء ، قاله قتادة . الثاني : أن رجلاً من قومه حمل ولده صغيراً على كتفه ، فمر بنوح ، فقال لابنه : إحذر هذا فإنه يضلك فقال : يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجّهُ ، فحينئذٍ غضب نوح ودعا عليهم . وفي قوله { ديّاراً } وجهان : أحدهما : أحداً ، قاله الضحاك . الثاني : من يسكن الديار ، قاله السدي . ٢٧إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) ٢٨{ ربِّ اغْفِرْ لي ولوالدّيّ } فيه قولان : أحدهما : أنه أراد أباه ، واسمه لمك ، وأمه واسمها منجل ، وكانا مؤمنين ، قاله الحسن . الثاني : أنه أراد أباه وجده ، قاله سعيد بن جبير . { ولمن دَخَل بَيْتِيِ مُؤْمِناً } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يعني صديقي الداخل إلى منزلي ، قاله ابن عباس . الثاني : من دخل مسجدي ، قاله الضحاك . الثالث : من دخل في ديني ، قاله جويبر . { وللمؤمنين والمؤمنات } فيه قولان : أحدهما : أنه أراد من قومه . الثاني : من جميع الخلق إلى قيام الساعة ، قاله الضحاك . { ولا تَزِدِ الظالمينَ } يعني الكافرين . { إلا تباراً } فيه وجهان : أحدهما : هلاكاً . الثاني : خساراً ، حكاهما السدي . |
﴿ ٠ ﴾