سورة البلدبسم اللّه الرحمن الرحيم ١قوله تعالى { لا أُقْسِمُ بهذا البَلَد } ومعناه على أصح الوجوه : أُقْسِم بهذا البلد ، وفي { البلد } قولان : أحدهما : مكة ، قاله ابن عباس . الثاني : الحرم كله ، قاله مجاهد . ٢{ وأنتَ حلٌّ بهذا البَلَدِ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتال أو غيره ، قاله ابن عباس ومجاهد . الثاني : أنت مُحِل في هذا البد غير مُحْرِم في دخولك عام الفتح ، قاله الحسن وعطاء . الثالث : أن يستحل المشركون فيه حرمتك وحرمة من اتبعك توبيخاً للمشركين . ويحتمل رابعاً : وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد ، لأنها نزلت عليه وهو بمكة لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في القتال ، وكانت حرمة مكة فيها أعظم ، والقسم بها أفخم . ٣{ ووالدٍ وما وَلَدَ } فيه أربعة أوجه . أحدها : آدم وما ولد ، قاله مجاهد وقتادة والحسن والضحاك . الثاني : أن الوالد إبراهيم وما ولد ، قاله أبو عمران الجوني . الثالث : أن الوالد هو الذي يلد ، وما ولد هو العاقر الذي لا يلد ، قاله ابن عباس . الرابع : أن الوالد العاقر ، وما ولد التي تلد ، قاله عكرمة . ويحتمل خامساً : أن الوالد النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، لتقدم ذكره ، وما ولد أُمتّه ، لقوله عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم ، فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في تشريفه . ٤{ لقد خَلقنا الإنسانَ في كَبَدٍ } إلى هاهنا انتهى القسم وهذا جوابه . وفي قوله { في كَبَد } سبعة أقاويل : أحدها : في انتصاب في بطن أُمّه وبعد ولادته ، خص الإنسان بذلك تشريفاً ، ولم يخلق غيره من الحيوان منتصباً ، قاله ابن عباس وعكرمة . ٥أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) ٦يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا (٦) الثاني : في اعتدال ، لما بيّنه بعد من قوله { ألم نَجْعَلْ له عَيْنَين } الآيات ، حكاه ابن شجرة . الثالث : يعني من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، يتكبد في الخلق مأخوذ من تكبد الدم وهو غلظه ، ومنه أخذ أسم الكبد لأنه دم قد غلظ ، وهو معنى قول مجاهد . الرابع : في شدة لأنها حملته كرهاً ووضعته كرهاً ، مأخوذ من المكابدة ، ومنه قول لبيد : يا عين هلاّ بكيْتِ أَرْبَدَ إذ قُمْنا وقامَ الخصومُ في كَبَدِ . رواه ابن أبي نجيح . الخامس : لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة ، قاله الحسن . السادس : لأنه خلق آدم في كبد السماء ، قاله ابن زيد . السابع : لأنه يكابد الشكر على السّراء والصبر على الضّراء ، لأنه لا يخلو من أحدهما ، رواه ابن عمر . ويحتمل ثامناً : يريد به أنه ذو نفور وحميّة ، مأخوذ من قولهم لفلان كبَد ، إذا كان شديد النفور والحمية . وفيمن اريد بالإنسان ها هنا قولان : أحدهما : جميع الناس . الثاني : الكافر يكابد شبهات . ٧{ أيَحْسَب أنْ لَنْ يَقْدِر عليه أحَدٌ } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه اللّه أن يبعثه بعد الموت ، قاله السدي . الثاني : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله ، قاله الحسن . الثالث : أيحسب أن لن يذله أحد ، لأن القدرة عليه ذل له . { يقولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً } فيه وجهان : أحدهما : يعني كثيراً . الثاني : مجتمعاً بعضه على بعض ، ومنه سمي اللّبْد لاجتماعه وتلبيد بعضه على بعض . ويحتمل ثالثاً : يعني مالاً قديماً ، لاشتقاقه من الأبد ، أو للمبالغة في قدمه من عهد لَبِد ، لأن العرب تضرب المثل في القدم بلبد ، وذكر قدمه لطول بقائه وشدة ضَنِّه به . وقيل إن هذا القائل أبو الشد الجمحي ، أنفق مالا كثيراً في عداوة رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) والصد عن سبيل اللّه ، وقيل بل هو النضر بن الحارث . وهذا القول يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغياناً منه . الثاني : أن يكون أسفاً عليه ، فيكون ندماً منه . { أيحْسَبُ أن لم يَرَهُ أَحَدٌ } فيه وجهان : أحدهما : أن لم يره اللّه ، قاله مجاهد . الثاني : أن لم يره أحد من الناس فيما أنفقه ، قاله ابن شجرة . ويحتمل وجهاً ثالثاً : أيحسب أن لم يظهر ما فعله أن لا يؤاخذ به ، على وجه التهديد ، كما يقول الإنسان لمن ينكر عليه فعله ، قد رأيت ما صنعت ، تهديداً له فيكون الكلام على هذا الوجه وعيداً ، وعلى ما تقدم تكذيباً . ٨أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) ٩وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) ١٠{ وهَدَيْناه النَّجْدَيْنِ } فيهما أربعة تأويلات : أحدها : سبيل الخير والشر ، قاله علي رضي اللّه عنه والحسن . الثاني : سبيل الهدى والضلالة ، قاله ابن عباس . الثالث : سبيل الشقاء والسعادة ، قاله مجاهد . الرابع : الثديين ليتغذى بهما ، قاله قتادة والربيع بن خثيم . قال قطرب : والنجد هو الطريق المرتفع ، فأرض نجد هي المرتفعة ، وأرض تهامة هي المنخفضة . ويحتمل على هذا الاشتقاق خامساً : أنهما الجنة والنار ، لارتفاعهما عن الأرض . ١١فلا اقتحم العقبة { فلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ } فيها خمسة أقاويل : أحدها : أنها طريق النجاة ، قاله ابن زيد . الثاني : أنها جبل في جهنم ، قاله ابن عمر . الثالث : أنها نار دون الحشر ، قاله قتادة . الرابع : أنها الصراط يضرب على جهنم كحد السيف ، قاله الضحاك ، قال الكلبي : صعوداً وهبوطاً . الخامس : أن يحاسب نفسه وهواه وعدوّه الشيطان ، قاله الحسن . قال الحسن : عقبة واللّه شديدة . ويحتمل سادساً : اقتحام العقبة خالصة من الغرض . وفي معنى الكلام وجهان : أحدهما : اقتحام العقبة فك رقبة ، قاله الزجاج . الثاني : معناه فلم يقتحم العقبة إلا مَنْ فكَّ رقبة أو أطعم ، قاله الأخفش . ١٢ثم قال : { وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ } وهذا خطاب للنبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ليعلمه اقتحام العقبة . ثم بين تعالى ما تقتحم به العقبة . ١٣فقال : { فَكُّ رَقَبَةٍ } فيه وجهان : أحدهما : إخلاصها من الأسر . الثاني : عتقها من الرق ، وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط من رقبته ، وسمي عتقاً فكها لأنه كفك الأسير من الأسر ، قال حسان بن ثابت : كم مِن أسيرٍ فككناه بلا ثَمنٍ وجَزّ ناصية كُنّأ مَواليها وروى عقبة بن عامر الجهني أن النبي عليه السلام قال : من أعتق مؤمنة فهي فداؤه من النار . ويحتمل ثالثاً : أنه أرد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات ، لا يمنع الخبر من هذا التأويل ، وهو أشبه الصواب . ١٤أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)
ثم قال تعالى : { أو إطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبَةٍ } أي مجاعة ، لقحط أو غلاء . ١٥{ يتيماً ذا مَقْرَبةٍ } ويحتمل أن يريد ذا جوار . { أو مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ } فيه سبعة أوجه : أحدها : أن ذا المتربة هو المطروح على الطريق لا بيت له ، قاله ابن عباس ، الثاني : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره ، قاله مجاهد . الثالث : أنه ذو العيال ، قاله قتادة . الرابع : أنه المديون ، قاله عكرمة . الخامس : أنه ذو زمانة ، قاله أبو سنان . السادس : أنه الذي ليس له أحد ، قاله ابن جبير . السابع : أن ذا المتربة : البعيد التربة ، يعني الغريب البعيد عن وطنه ، رواه عكرمة عن ابن عباس . ١٧{ ثُمَّ كانَ مِنَ الذين آمَنوا وَتَوَاصَوْا بالصَّبْر } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : بالصبر على طاعة اللّه ، قاله الحسن . الثاني : بالصبر على ما افترض اللّه عليه ، قاله هشام بن حسان . الثالث : بالصبر على ما أصابهم ، قاله سفيان . ويحتمل رابعاً : بالصبر على الدنيا وعن شهواتها . { وتَواصَوْا بالمَرْحَمَةِ } أي بالتراحم فيما بينهم ، فرحموا الناس كلهم ويحتمل ثانياً : وتواصوا بالآخرة لأنها دار الرحمة ، فيتواصوا بترك الدنيا وطلب الآخرة . ١٨{ أولئك أصحابُ المَيْمَنَةِ } يعني الجنة ، وفي تسميتهم أصحاب الميمنة أربعة أوجه : أحدها : لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيمن ، قاله زيد بن أسلم . الثاني : لأنهم أوتوا كتابهم بأيمانهم ، قاله محمد بن كعب . الثالث : لأنهم ميامين على أنفسهم ، قاله يحيى بن سلام . الرابع : لأنه منزلهم على اليمين ، قاله ميمون . ١٩{ والّذِين كَفَروا بآياتِنا } فيه وجهان : أحدهما : بالقرآن ، قاله ابن جبير . الثاني : هي جميع دلائل اللّه وحُججه ، قاله ابن كامل . { هُمْ أصحابُ المشْأَمةٍ } يعني جهنم ، وفي تسميتهم بذلك أربعة أوجه : أحدها : لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيسر ، قاله زيد بن أسلم . الثاني : لأنهم أُوتوا كتابهم بشمالهم ، قاله محمد بن كعب . الثالث : لأنهم مشائيم على أنفسهم ، قاله يحيى بن سلام . الرابع : لأن منزلهم عن اليسار ، وهو مقتضى قول ميمون . ٢٠{ عليهم نارٌ مُّؤصَدَةٌ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : المؤصدة المطبقة ، قاله ابن عباس وأبو هريرة وقتادة . الثاني : مسدودة ، قاله مجاهد . الثالث : لها حائط لا باب له ، قاله الضحاك . |
﴿ ٠ ﴾