سورة الفيل

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله تعالى : { ألمْ تَرَ كيفَ فَعَلَ ربُّكَ بأصْحابِ الفِيل } فيه وجهان :

أحدهما : ألم تخبر فتعلم كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .

الثاني : ألم ترَ آثار ما فعل ربك بأصحاب الفيل ، لأن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) لم ير أصحاب الفيل .

واختلف في مولده عليه السلام من عام الفيل على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن مولده بعد أربعين سنة من عام الفيل ، قاله مقاتل :

الثاني : بعد ثلاث وعشرين سنة منه ، قاله الكلبي وعبيد بن عمير .

الثالث : أنه عام الفيل ، روي ذلك عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) وروي عنه أنه قال : ولدت يوم الفيل .

واختلف في سبب الفيل على قولين :

أحدهما : ماحكاه ابن عباس : أن أبرهة بن الصباح بنى بيعة بيضاء يقال لها القليس ، وكتب إلى النجاشي إني لست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب ، فسمع ذلك رجل من كنانة ، فخرج إلى القليس ودخلها ليلاً فأحدث فيها ، فبلغ ذلك أبرهة فحلف باللّه ليسيرن إلى الكعبة فيهدمها ، فجمع الأحابيش وجنّد الأجناد ، وسار ، ودليله أبو رغال ، حتى نزل بالمغمّس ، وجعل على مقدمته الأسود بن مقصود حتى سبى سرح مكة وفيه مائتا بعير لعبد المطلب قد قلّد بعضها ، وفيه يقول عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف :

لأهمّ أخْزِ الأسود بن مقصودِ

الآخذ الهجمة فيها التقليدْ

بين حراء ، وثبير فالبيد

يحبسها وفي أُولات التطريدْ

فضمّها إلى طماطم سُودْ

قد أجْمعوا ألا يكون معبودْ .

ويهْدموا البيت الحرام المعمود

والمروتين والمشاعر السودْ

اخْفره يا ربِّ وأنت محمودْ

وتوجه عبد المطلب وكان وسيماً جسيماً لا تأخذه العين إلى أبرهة ، وسأله في إبله التي أخذت ، فقال أبرهة : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك وقد زهدت الآن فيك ، قال : ولم ؟ قال : جئت لأهدم بيتاً هو دينك ودين آبائك فلم تكلمني فيه ، وكلمتني في مائتي بعير لك ، فقال عبد المطلب : الإبل أنا ربها ، وللبيت رب سيمنعه ، فقال أبرهة : ما كان ليمنعه مني ، فقال عبد المطلب : لقد طلبته تبّع وسيف بن ذي يزن وكسرى فلم يقدروا عليه ، وأنت ذاك فرد عليه إبله ، وخرج عبد المطلب وعاد إلى مكة ، فأخبر قريشاً بالتحرز في الجبال ، وأتى البيت وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

لاهمّ إنّ العْبدَ يَمْ

نَعُ رحْلَهُ فامْنَع حَلالَكْ .

لا يَغْلبنّ صَليبُهم

ومحالُهم غَدْواً مِحالكْ .

إنْ كنتَ تاركَهم وقب

لَتَنا فأمْرٌ ما بدا لَكَ .

المحال : القوة .

الثاني : ما حكاه الكلبي ومقاتل يزيد أحدهما وينقص أن فتية من قريش خرجوا إلى أرض الحبشة تجاراً ، فنزلوا على ساحل البحر على بيعة النصارى في حقف من أحقافها ، قال الكلبي تسمى البيعة ما سرجيان ، وقال مقاتل : تسمى الهيكل ، فأوقدوا ناراً لطعامهم وتركوها وارتحلوا فهبت ريح عاصف فاضطرمت البيعة ناراً فاحترقت ، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره ، فاستشاط غضباً ، وأتاه أبرهة بن الصبّاح وحجر بن شراحبيل وأبو يكسوم الكِنْديون ، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة ، وكان النجاشي هو الملك ، وأبرهة صاحب الجيش ، وأبو يكسوم نديم الملك وقيل وزيره ، وحجر بن شراحبيل من قواده ، وقال مجاهد : أبو يكسوم هو أبرهة بن الصبّاح ، فساروا بالجيش ومعهم الفيل ، قال الأكثرون : هو فيل واحد ، وقال الضحاك : كانت ثمانية فيلة ، ونزلوا بذي المجاز ، واستاقوا سرح مكة ، وفيها إبل عبد المطلب ، وأتى الراعي نذيراً فصعد الصفا وصاح : واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل ، فخرج عبد المطلب وتوجه إلى أبرهة وسأله في إبله ، فردّها مستهزئاً ليعود لأخذها إذا دخل مكة . واختلف في النجاشي هل كان معهم أم لا ، فقال قوم : كان معهم ، وقال الآخرون : لم يكن معهم .

وتوجه الجيش إلى مكة لإحراق الكعبة ، فلما ولى عبد المطلب بإبله احترزها في جبال مكة ، وتوجه إلى مكة من طريق منى ، وكان الفيل إذا بعث إلى الحرم أحجم ، وإذا عدل به عنه أقدم ، قال محمد بن إسحاق : كان اسم الفيل محمود ، وقالت عائشة : رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين مقعدين يستطعمان أهل مكة .

ووقفوا بالمغمّس فقال عبد اللّه بن مخزوم :

أنت الجليل ربنا لم تدنس

أنت حبست الفيل بالمغمّس

حبسته في هيئة المكركس

وما لهم من فرجٍ ومنفسِ .

المكركس : المطروح المنكوس .

وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر ، فقال عبد المطلب : إن هذه لطير غريبة بأرضنا ، ما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية ، وإنها أشباه اليعاسيب ، وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة ، فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا ، قال عطاء بن أبي رباح : جاءت الطير عشية فبانت ، ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم ، وقال عطية العوفي : سألت عنها أبا سعيد الخدري : فقال : حمام مكة منها .

وأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى اليمن فهلك في الطريق .

وقال الواقدي : أبرهة هو جد النجاشي الذي كان في زمان رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فلما أيقنوا بهلاك القوم ، قال الشاعر :

أين المفر والإله الطالبْ

والأَشرمُ المغلوبُ ليس الغالبْ

يعني بالأشرم أبرهة ، سمي بذلك لأن أرياط ضربه بحربة فشرم أنفة وجبينه ، أي وقع بعضه على بعض .

وقال أبو الصلت بن مسعود ، وقيل بل قاله عبد المطلب :

إنّ آياتِ ربِّنا ناطِقاتٌ

لا يُماري بهنّ إلا الكَفُور .

حَبَسَ الفيلَ بالمغّمس حتى

مَرَّ يعْوي كأنه مَعْقورُ .

٢

{ ألمْ يَجْعَلْ كَيْدَهم في تَضْليل } لأنهم أرادوا كيد قريش بالقتل والسبي ، وكيد البيت بالتخريب والهدم . يحكى عن عبد المطلب بعد ما حكيناه عنه أنه أخذ بحلقة الباب وقال :

يا رب لا نرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا .

إن عدو البيت من عاداكا امنعهم أن يخربوا قراكا .

ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد اللّه على فرس له سريع ، ينظر ما لقوا فإذا القوم مشدخون ، فرجع يركض كاشفاً عن فخده ، فلما رأى ذلك أبوه قال : إن ابني أفرس العرب وما كشف عن فخذه إلا بشيراً أو نذيراً . فلما دنا من ناديهم بحيث يُسمعهم قالوا : ما وراءك ؟ قال : هلكوا جميعاً ، فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم ، فكانت أموال بني عبد المطلب ، وبها كانت رياسة عبد المطلب لأنه احتمل

ما شاء من صفراء وبيضاء ، ثم خرج أهل مكة بعده فنهبوا ، فقال عبد المطلب :

أنتَ مَنعْتَ الحُبْشَ والأَفْيالا

وقد رَعَوا بمكةَ الأَجيالا

وقد خَشِينا منهم القتالا

وكَلَّ أمرٍ لهمن مِعضالا

وشكراً وحْمداً لك ذا الجلالا .

ويحتمل تضليل كيدهم وجهين :

أحدهما : أن كيدهم أضلهم حتى هلكوا .

الثاني : أن هلاكهم أضل كيدهم حتى بطل .

٣

{ وأرْسَلَ عليهم طَيْراً أَبابِيلَ } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنها من طير السماء ، قاله سعيد بن جبير : لم ير قبلها ولا بعدها مثلها ويروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : سمعت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يقول : { إنها طير بين السماء والأرض تعشعش وتفرخ } . القول الثاني : أنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال ، قاله عكرمة .

الثالث : أنها من طير الأرض ، أرسلها اللّه تعالى من ناحية البحر ، مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، قاله الكلبي ، وكانت سوداً ، خضر المناقير طوال الأعناق ، وقيل : بل كانت أشباه الوطاويط ، وقالت عائشة : كن أشباه الخطاطيف .

واختلف في { أبابيل } على خمسة أقاويل :

أحدها : أنها الكثيرة ، قاله الحسن وطاوس .

الثاني : المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً ، قاله ابن عباس ومجاهد .

الثالث : أنها المتفرقة من ها هنا وها هنا ، قاله ابن مسعود والأخفش ، ومنه قول الشاعر :

إن سلولاً عداك الموت عارفة

لولا سلول مشينا أبابيلا

أي متفرقين .

الرابع : أن الأبابيل المختلفة الألوان ، قاله زيد بن أسلم .

الخامس : أن تكون جمعاً بعد جمع ، قاله أبو صالح وعطاء ، ومنه قول الشاعر :

وأبابيل من خيول عليها

كأسود الأداء تحت العوالي .

وقال إسحاق بن عبد اللّه بن الحارث : الأبابيل مأخوذ من الإبل المؤبلة ، وهي الأقاطيع .

واختلف النحويون هل للأبابيل واحد من جنسه ، فذهب أبو عبيدة والفراء وثعلب إلى أنه لا واحد له كالعباديد والسماطيط ، وذهب آخرون إلى أن له واحد ، واختلفوا في واحده ، فذهب أبو جعفر الرؤاسي إلى أن واحدة إبّالة مشددة ، وقال الكسائي : واحدها إبول ، وقال ابن كيسان واحدة إبيّل .

٤

{ تَرْميهم بحجارةٍ مِن سِجّيلٍ } فيه أربعة أقاويل :

أحدها : أن السجيل كلمة فارسية هي سنك وكل ، أولها حجر ، وآخرها : طين ، قال ابن عباس .

الثاني : أن السجيل هو الشديد ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول ابن مقبل :

ورجْلةٍ يضْرِبون البَيْضَ عن عَرَضٍ

ضَرْباً تواصى به الأَبطالُ سِجِّيلاً

الثالث : أن السجيل اسم السماء الدنيا ، فنسبت الحجارة إليها لنزولها منها ، قاله ابن زيد .

الرابع : أنه اسم بحر من الهواء ، منه جاءت الحجارة فنسبت إليه ، قاله عكرمة وفي مقدار الحجر قولان :

أحدهما : أنه حصى الخذف ، قاله مقاتل .

الثاني : كان الحجر فوق العدسة ودون الحمصة ، قاله أبو صالح : رأيت في دار أم هانىء نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة كأنها الجزع ، وقال ابن مسعود : ولما رمت الطير بالحجارة بعث اللّه ريحها فزادتها شدة ، وكانت لا تقع على أحد إلا هلك ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة ، فقال :

فإنكِ لو رأيْتِ ولم تريهِ لدى جِنْبِ المغَمِّسِ ما لَقينا

خَشيتُ اللّه إذ قدْبَثَّ طَيْراً وظِلَّ سَحابةٍ مرَّتْ علينا

وباتت كلُّها تدْعو بحقٍّ كأنَّ لها على الحُبْشانِ دَيْنا

٥

{ فجعَلَهم كعَصْفٍ مأكولٍ } فيه خمسة أقاويل :

أحدها : أن العصف ورق الزَّرع ، والمأكول الذي قد أكله الدود ، قاله ابن عباس .

الثاني : أن العصف المأكول هو الطعام ، وهذا قول حسين بن ثابت .

الثالث : أنه قشر الحنطة إذا أكل ما فيه ، رواه عطاء بن السائب .

الرابع : أنه ورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته ، قاله ابن زيد .

الخامس : أن العصف التين والمأكول القصيل للدواب ، قاله سعيد بن جبير والحسن ، واختلف فيما فعله اللّه بهم ، فقال قوم : كان ذلك معجزة لنبيّ كان في ذلك الزمان ، وقيل إنه كان خالد بن سنان .

وقال آخرون : بل كان تمهيداً وتوطيداً لنبوة محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) لأنه ولد في عامه وقيل في يومه .

﴿ ٠