سورة النصر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله تعالى { إذا جاءَ نَصْرُ اللّه والفتحُ } أما النصر فهو المعونة مأخوذ من قولهم قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها ، قال الشاعر :

إذا انسلَخَ الشهرُ الحرامُ فَودِّعي

بلادَ تميمٍ وانْصُري أرضَ عامِرِ

وفي المعنيّ بهذا النصر قولان :

أحدهما : نصر الرسول على قريش ، قاله الطبري .

الثاني : نصره على كل من قاتله من أعدائه ، فإن عاقبة النصر كانت له

وقيل : إذا جاء نصره بإظهاره إياك على أعدائك ، والفتح : فتحه مكة وقيل المراد حين نصر اللّه المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم . وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإشعار بأن المقدرات متوجهة حين إلى أوقاتها المعينة لها ، فتعرف منها شيئاً فشيئاً ، وقد قرب النصر من قوته فكن مترقباً لوروده مستعداً لشكره .

وفي هذا الفتح قولان :

أحدهما : فتح مكة ، قاله الحسن ومجاهد .

الثاني : فتح المدائن والقصور ، قاله ابن عباس وابن جبير ، وقيل ما فتحه عليه من العلوم .

٢

{ ورأيْتَ الناسَ يَدْخُلون في دِيْنِ اللّه أَفْواجاً } فيهم قولان :

أحدهما : أنهم أهل اليمن ، ورورى عن ابن عباس أن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : { الدين يمانٍ والفقه يمانٍ والحكمة يمانية } وروي عنه عليه السلام أنه قال : { إني لأجد نَفَس ربكم مِن قِبل اليمن } وفيه تأويلان :

أحدهما : أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً .

الثاني : معناه أن اللّه تعالى نفس الكرب عن نبيه بأهل اليمن ، وهم الأنصار .

القول الثاني : أنهم سائر الأمم الذين دخلوا في الإسلام ، قاله محمد بن كعب .

وقال الحسن : لما فتح اللّه على رسوله مكة ، قالت العرب بعضهم لبعض : أيها القوم ليس لكم به ولا بالقوم يد ، فجعلوا يدخلون في دين اللّه أفواجاً أمة أمة .

قال الضحاك : والأمة أربعون رجلاً ، وقال ابن عباس : الأفواج { الزمر } ، وقال الكلبي : الأفواج القبائل .

وروى جابر بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) يقول : { إنّ الناس دخلوا في دين اللّه أفواجاً وسيخرجون أفواجاً } .

{ أفواجاً } جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وقبائل سائر العرب .

{ يدخلون } حال ، على أن { رأيت } بمعنى أبصرت ، أو مفعول ثان على أن رأيت بمعنى علمت .

٣

{ فسبّحْ بحْمد ربِّك واسْتَغْفِره إنه كان توّاباً } في أمره بهذا التسبيح والاستغفار وجهان : أحدهما : أنه أراد بالتسبيح الصلاة ، قاله ابن عباس ، وبالاستغفار مداومة الذكر .

الثاني : أنه أراد صريح التسبيح ، الذي هو التنزيه والاستغفار من الذنوب .

روت عائشة قالت : كان رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول : سبحانك اللّهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك ، فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها ؟ فقال : { جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها } وفي قوله { إنه كان توّاباً } وجهان :

أحدهما : قابل التوبة .

والثاني : متجاوز عن الصغائر .

وفي أمره بهذابعد النصر والفتح وجهان :

أحدهما : ليكون ذلك منه شكراً للّه تعالى على نعمه ، لأن تجديد النعم يوجب تجديد الشكر .

الثاني : أنه نعى إليه نفسه ، ليجد في عمله .

قال ابن عباس : وداعٌ من اللّه ، ووداعٌ من الدنيا ، فلم يعش بعدها إلا سنتين مستديماً التسبيح والاستغفار كما أُمِرَ ، وكان قد لبث أربعين سنة لم يوح إليه ، ورأى رؤيا النبوة سنتين ، ومات في شهر ربيع الأول وفيه هاجر .

وقال مقاتل : نزلت هذه السورة بعد فتح الطائف ، والفتح فتح مكة ،

والناس أهل اليمن ، وهي آية موت النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فلما نزلت قرأها على أبي بكر وعمر ففرحا بالنصر وبدخول الناس أفواجاً في دين اللّه عز وجل ، وسمعها العباس فبكى ، فقال النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { ما يبكيك يا عم ؟ } فقال : نعيت إليك نفسك ، قال : { إنه لكما تقول } . وهذه السورة تسمى التوديع ، عاش النبي بعدها حولاً على قول مقاتل ، وحولين على قول ابن عباس ، ثم حج رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) من قابل ، فنزل { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فعاش بعدها ثمانين يوماً ، ثم نزلت { لقد جاءكم رسول } فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ، ثم نزلت { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه } فعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً .

وقال مقاتل : عاش بعدها سبعة أيام ، واللّه أعلم وصلوات اللّه عليه متتابعة لا تنقطع على مر الأزمان وكر الأوان ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين .

﴿ ٠