سورة المسد

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله تعالى : { تبّتْ يدا أبي لهب } اختلف في سبب نزولها في أبي لهب على ثلاثة أقاويل :

أحدها : ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال : ماذا أُعطَى إن آمنتُ بك يا محمد ؟ قال : ما يعطَى المسلمون ، قال : ما عليهم فضل ؟ قال : وأي شيء تبتغي ؟ قال : تبَّا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء ، فأنزل اللّه فيه : { تبت يدا أبي لهب } .

الثاني : ما رواه ابن عباس أنه لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين } أتى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) الصفا فصعد عليها ، ثم نادى يا صباحاه فاجتمع الناس إليه ، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ قالوا :

نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا ؟ فأنزل اللّه تعالى هذه السورة .

الثالث : ما حكاه عبد الرحمن بن كيسان أنه كان إذا وفد على النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) وفْدٌ انطلق إليهم أبو لهب ، فيسألونه عن رسول اللّه ويقولون : أنت أعلم به ، فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر ، فيرجعون عنه ولا يلقونه ، فأتاه وفد ، ففعل معهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ونسمع كلامه ، فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبّاً له وتعساً ، فأخبر بذلك النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فاكتأب له ، فأنزل اللّه تعالى { تَبّتْ } السورة ، وفي { تبّتْ } خمسة أوجه :

أحدها : خابت ، قاله ابن عباس .

الثاني : ضلّت ، وهو قول عطاء .

الثالث : هلكت ، قاله ابن جبير .

الرابع : صفِرت من كل خير ، قاله يمان بن رئاب .

حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان بن عفان سمع الناس هاتفاً يقول :

لقد خلّوْك وانصدعوا

فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوفوا بنذرِهمُ

فيا تبَّا لما صَعنوا

والخامس : خسرت ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :

تواعَدَني قوْمي ليَسْعوْا بمهجتي

بجارية لهم تَبّا لهم تبّاً

وفي قوله { يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وجهان :

أحدهما : يعني نفس أبي لهب ، وقد يعبر عن النفس باليد كما قال تعالى { ذلك بما قدمت يداك } أي نفسك .

الثاني : أي عمل أبي لهب ، وإنما نسب العمل إلى اليد لأنه في الأكثر يكون بها .

وقيل إنه كني أبا لهب لحُسنه وتلهّب وجنته ، وفي ذكر اللّه له بكنيته دون اسمه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه .

الثاني : لأنه كان مسمى بعبد هشم ، وقيل إنه عبد العزى فلذلك عدل عنه .

الثالث : لأن الاسم أشرف من الكنية ، لأن الكنية إشارة إليه باسم غيره ، ولذلك دعا اللّه أنبياءه بأسمائهم .

وفي قوله { وتَبَّ } أربعة أوجه :

أحدها : أنه تأكيد للأول من قوله { تبت يدا أبي لهب } فقال بعده { وتب } تأكيداً . الثاني : يعني تبت يدا أبي لهب بما منعه اللّه تعالى من أذى لرسوله ، وتب بما له عند اللّه من أليم عقابه .

الثالث : يعني قد تبّ ، قاله ابن عباس .

الرابع : يعني وتبّ ولد أبي لهب ، قاله مجاهد .

وفي قراءة ابن مسعود : تبت يدا أبي لهبٍ وقد تب ، جعله خبراً ، وهي على قراءة غيره تكون دعاء كالأول .

وفيما تبت عنه يدا أبي لهب وجهان :

أحدهما : عن التوحيد ، قاله ابن عباس .

الثاني : عن الخيرات ، قاله مجاهد .

٢

{ ما أَغْنَى عَنْه مالُه وما كَسَب } في قوله { ما أغنى عنه } وجهان :

أحدهما : ما دفع عنه .

الثاني : ما نفعه ، قاله الضحاك .

وفي { مالُه } وجهان :

أحدهما : أنه أراد أغنامه ، لأنه كان صاحب سائمة ، قاله أبو العالية .

الثاني : أنه أراد تليده وطارفه ، والتليد : الموروث ، والطارف : المكتسب .

وفي قوله { وما كَسَبَ } وجهان :

أحدهما : عمله الخبيث ، قاله الضحاك .

الثاني : ولده ، قاله ابن عباس .

وروي عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أنه قال : { أولادكم من كسبكم } وكان ولده عتبة بن أبي لهب مبالغاً في عداوة النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) كأبيه ، فقال حين نزلت { والنجم إذا هوى } كفرت بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى ، وتفل في وجه رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) إلى الشام ، فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : { اللّهم سلط عليه كلباً من كلابك } فأكله الأسد .

وفيما لم يغن عنه ماله وما كسب وجهان :

أحدهما : في عداوته النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) .

الثاني : في دفع النار عنه يوم القيامة .

٣

{ سَيَصْلَى ناراً ذاتَ لَهَبٍ } في سين سيصلى وجهان :

أحدهما : أنه سين سوف .

الثاني : سين الوعيد ، كقوله تعالى { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } و { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا } وفي { يَصْلًى } وجهان :

أحدهما : صلي النار ، أي حطباً ووقوداً ، قاله ابن كيسان .

الثاني : يعني تُصليه النار ، أي تنضجه ، وهو معنى قول ابن عباس ، فيكون على الوجه الأول صفة له في النار ، وعلى الوجه الثاني صفة للنار .

وفي { ناراً ذاتَ لَهَبٍ } وجهان :

أحدهما : ذات ارتفاع وقوة واشتعال ، فوصف ناره ذات اللّهب بقوتها ، لأن قوة النار تكون مع بقاء لهبها .

الثاني : ما في هذه الصفة من مضارعة كنيته التي كانت من نذره ووعيده .

وهذه الآية تشتمل على أمرين :

أحدهما : وعيد من اللّه حق عليه بكفره .

الثاني : إخبار منه تعالى بأنه سيموت على كفره ، وكان خبره صدقاً ، ووعيده حقاً .

٤

{ وامرأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ } وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان .

وفي { حمالة الحطب } أربعة أوجه :

 أحدها : أنها كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) ليلاً ، قاله ابن عباس .

الثاني : أنها كانت تعيِّر رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) بالفقر ، فكان يحتطب فعيرت بأنها كانت تحتطب ، قاله قتادة .

الثالث : أنها كانت تحتطب الكلام وتمشي بالنميمة ، قاله الحسن والسدي فسمي الماشي بالنميمة حمال الحطب لأنه يشعل العداوة كما تشعل النار الحطب ، قال الشاعر :

إنّ بني الأَدْرَمِ حَمّالو الحَطَبْ

هم الوُشاةُ في الرِّضا وفي الغَضَبْ .

عليهمُ اللعْنةُ تَتْرى والحرَبْ .

وقال آخر :

مِنَ البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظهر لأمةٍ

ولم تمشِ بَيْن الحيّ بالحَطَب والرطْبِ .

الرابع : أنه أراد ما حملته من الآثام في عداوة رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) لأنه كالحطب في مصيره إلى النار .

٥

{ في جِيدِها حَبْل مِنْ مَسَدِ } جيدها : عنقها .

وفي { حبل من مسد } سبعة أقاويل :

أحدها : أنه سلسلة من حديد ، قاله عروة بن الزبير ، وهي التي قال اللّه تعالى فيها : { ذرعها سبعون ذراعاً } قال الحسن : سميت السلسلة مسداً لأنها ممسودة ، أي مفتولة .

الثاني : أنه حبل من ليف النخل ، قاله الشعبي ، ومن قول الشاعر :

أعوذ باللّه مِن لَيْل يُقرّبني

إلى مُضاجعةٍ كالدَّلْكِ بالمسَدِ .

الثالث : أنها قلادة من ودع ، على وجه التعيير لها ، قاله قتادة .

الرابع : أنه حبل ذو ألوان من أحمر وأصفر تتزين به في جيدها ، قاله الحسن ، ذكرت به على وجه التعيير أيضاً .

الخامس : أنها قلادة من جوهر فاخر ، قالت لأنفقنها في عداوة محمد ، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة .

السادس : أنه إشارة إلى الخذلان ، يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوطة في جيدها بحبل من مسد .

السابع : أنه لما حملت أوزار كفرها صارت كالحاملة لحطب نارها التي تصلى بها .

روى الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر أنه لما نزلت { تبت يدا } في أبي لهب وامرأته أم جميل أقبلت ولها ولولة وفي يدها قهر وهي تقول :

مُذَمَّماً عَصَيْنَا

وأَمْرَهُ أَبَيْنا

ودِينَه قَلَيْنا .

ورسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) في المسجد ، ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول اللّه قد أقبلت وإني أخاف أن تراك ، فقال : إنها لن تراني ، وقرأ قرآناً اعتصم به ، كما قال تعالى : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } فأقبلت على أبي بكر ، ولم تر رسول اللّه ، فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، فقال : لا ورب هذا البيت ، ما هجاك ، فولت فعثرت في مرطها ، فقالت : تعس مذمم ، وانصرفت .

﴿ ٠