سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً

مدنيّة اخرج البخاري عن عائشة قالت ما نزلت سورة البقرة و النّساء الّا و انا عنده و هى مائتان و سبع «١» و ثمانون اية و ستة الف و مائة و احدى و عشرون كلمة و حروفها خمسة و عشرون الف و خمسمائة حرف

(١) عند اهل البصرة اما عند اهل الكوفة فمائتان و ست و ثمان اية- ابو محمد عفا اللّه عنه

_________________________________

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١

الم (١) قيل في المقطعات في أوائل السور انها اسماء السور-

و قيل هى مزيدة للتنبيه على انقطاع كلام و استيناف كلام اخر-

و قيل هى اشارة الى كلمات منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر فقلت لها قفى فقالت لى قاف- اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابى العالية- الالف آلاء اللّه- و اللام لطفه- و الميم ملكه-

و اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عنه الر و حم و ن مجموعها الرحمن-

و عن ابن عباس ان الم معناه انا اللّه اعلم-

و

قال البغوي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس المص انا اللّه اعلم و افصل و الر انا اللّه ارى و المر انا اللّه اعلم و ارى-

و قيل اشارة الى مدد أقوام و آجال بحساب الجمل-

روى البخاري في تاريخه و ابن جرير من طريق ضعيف انه صلى اللّه عليه و سلم لما اناه اليهود تلا عليهم الم البقرة فحسبوا فقالوا كيف ندخل في دين مدته احدى و سبعون سنة- فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا فهل غيره فقال المص و الر- و المر- فقالوا خلطت علينا فلا ندرى بايها نأخذ-

ورد هذه الأقوال بان كونها اسماء السور مستلزم لوقوع الاشتراك في الاعلام من واضع واحد و ذلك ينافى المقصود بالعلمية- و ايضا التسمية بثلاثة اسماء فصاعدا مستنكر و ايضا تسمية بعض السور دون بعض بعيد-

و بان هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للدلالة على الفصل و الاستيناف- و ان كان كذلك كانت على كل سورة- و بان الاقتصار على بعض حروف الكلمة غير مستعمل و اما الشعر فشاذ على ان في الشعر قوله قفى في السؤال قرينة على ان قولها قاف من وقفت بخلاف أوائل السور إذ لا قرينة هناك على ان الالف من الآء اللّه- و اللام لطفه و نحو ذلك-

و ما روى عن بعض الصحابة و التابعين فمصروف عن الظاهر و الا فهى اقوال متعارضة- و تخصيص حرف بكلمة من الكلمات المشتملة على تلك الحروف دون غيرها ترجيح بلا مرجح و بان تبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على فهم اليهودي- الظاهر انه صلى اللّه عليه و سلم تعجب على جهله-

و قيل انه مقسم بها لشرفها من حيث انها بسائط اسماء اللّه تعالى-

و مادة خطابه و هذا التأويل يحوج الى إضمار أشياء لا دليل عليها و اختار البيضاوي ان حروف التهجي لما كانت عنصر الكلام و بسائطه التي يتركب منها افتتحت السور بطائفة منها إيقاظا لمن يتحدى بالقران و تنبيها على ان المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم فلو كان من عند غير اللّه لما عجزوا عن الإتيان بمثله و ليكون أول ما يقرع الاسماع مستقلا بنوع من الاعجاز- فان النطق بأسماء الحروف من الأمي معجزة كالكتابة سيما و قد روعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الفائق في فنه حيث أورد اربعة عشر اسماء نصف عدد أسامي الحروف في تسع و عشرين سورة بعدد الحروف مشتملة على انصاف جميع أنواعها من المهموسة و المجهورة و الشديدة و الرخوة و غيرها كما ذكر تفصيله- و ايضا الكلام غالبا يتركب من تلك الحروف الاربعة عشر دون البواقي-

قال و المعنى ان هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف-

و الحق عندى انها من المتشابهات «١» و هى اسرار بين اللّه تعالى و بين رسوله صلى اللّه عليه و سلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول صلى اللّه عليه و سلم و من شاء افهامه من كمل اتباعه

قال البغوي قال ابو بكر الصديق رضى اللّه عنه في كل كتاب سر و سر اللّه تعالى في القران أوائل السور-

(١) المتشابه فيه قولان

أحدهما انه يرجى نيل المراد منه بضرب من التأويل و التأمل

و الثاني انه لا يرجى نيل المراد منه فعلى القول الاول الرسول و غيره في ذلك سواء و الادلة التي ذكرت هاهنا يؤيد هذا القول

و على القول الثاني هو مختار الحنفية رحمهم اللّه ايضا الرسول و غيره سواء و الادلة المذكورة مخدوشة عندهم فينبغى تفصيل المذهبين و كذا دليل كل من الفريقين مع الجواب عن دليل المخالف حتى ينتظم الكلام-

و قال علىّ رضى اللّه عنه ان لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي- و حكاه الثعلبي عن ابى بكر و عن علىّ و كثير-

و حكاه السمرقندي عن عمرو و عثمان و ابن مسعود رضى اللّه عنهم أجمعين و حكاه القرطبي عن سفيان الثوري- و الربيع بن خثعم- و ابى بكر ابن الأنباري- و ابن ابى حاتم و جماعة من المحدثين- قال السجاوندى المروي عن الصدر الاول في الحروف التهجي انها سر بين اللّه و بين نبيه صلى اللّه عليه و سلم- و قد يجرى بين المحرمين كلمات معميات يشير الى اسرار بينهما-

و قيل انّ اللّه تعالى استأثر بعلم المقطعات و المتشابهات ما فهمه النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا أحد من اتباعه- و هذا بعيد جدّا فان الخطاب للافهام فلو لم يكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل او الخطاب بالهندي مع العربي- و لم يكن القران باسره بيانا و هدى- و يلزم ايضا الخلف في الوعد بقوله تعالى- ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ- فانه يقتضى ان بيان القران محكمه و متشابهه من اللّه تعالى للنبى صلى اللّه عليه و سلم واجب ضرورى-

و روى عن ابن عباس انا من الراسخين في العلم و انا ممن يعلم تأويله-

و كذا قلت المتشابه التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد بحيث لا يدرك بالطلب و لا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع فان بينه النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى ظهر المراد منه سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة و الزكوة و الحج و العمرة و اية الربوا و نحو ذلك و ان لم يوجد البيان و التعليم من النبي صلى اللّه عليه و سلم سميت متشابها على اصطلاحهم-

و المتشابه بهذا المعنى أخص من المتشابه بالمعنى المذكور سابقا فالمقطعات و اليد و الوجه و الاستواء على العرش من هذا القبيل-

و اختلف كلام العلماء في هذا النوع فقيل يمكن تأويله

و قيل لا يمكن تأويله بل يجب الايمان به و تفويض المراد منه الى اللّه سبحانه فقيل استأثر اللّه سبحانه بعلمه ما فهم النبي صلى اللّه عليه و سلم مراده و لا أحد من اتباعه و به قال اكثر العلماء

و قيل بل فهمه النبي صلى اللّه عليه و سلم و من شاء افهامه من اتباعه و هو سر بين اللّه و بين رسوله صلى اللّه عليه و سلم و هو المختار عندى و ما يدل على هذا من اقوال الصحابة مذكور في الكتاب- منه برد اللّه مضجعه عن مجاهد و ادعى المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه (من الامة المرحومة التي لا يدرى أولها خير أم آخرها و لعل آخرها فوجا هى اعرضها عرضا و أعمقها عمقا و أحسنها حسنا) ان اللّه تعالى اظهر عليه تأويل المقطعات و اسرارها لكنها مما لا يمكن بيانها للعامة فانه ينافى كونها سرّا من اسرار اللّه تعالى و اللّه تعالى اعلم-

و قيل انها اسماء اللّه تعالى أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن مردوية في الأسماء و الصفات عن ابن عباس و سنده صحيح-

و روى ابن ماجة عن على رضى اللّه عنه انه كان يقول يا كهيعص اغفر لى- و عن الربيع بن انس كهيعص معناه من يجير و لا يجار عليه-

و قيل انها اسماء القران أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قالوا و لذلك اخبر عنها بالكتاب و القران قلت ان كانت اسماء للّه تعالى كانت دالة على بعض صفاته تعالى- كسائر اسماء الصفات- و كذا ان كانت اسماء للقران كانت دالة على بعض صفات القران كما ان لفظ القران و الفرقان و النور و الحيوة و الروح و الذكر و الكتاب تدل على صفة من صفاته- و على كلا التقديرين فدلالة تلك الألفاظ ليست مما يفهمه العامة بل هى مختصة بفهم المخاطب و من شاء اللّه تعالى تفهيمه- و الحكم بانها من اسماء اللّه تعالى لا يتصور الا بعد فهم معناها- فهذان القولان على تقدير صحتهما راجعان الى ما حققناه انها اسرار بين اللّه تعالى و بين رسوله صلى اللّه عليه و سلم لا يفهمه غيره الا من شاء اللّه من كمل اتباعه و كذلك قوله تعالى- يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ- و قوله تعالى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - و هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ- و نحو ذلك مما يستحيل حملها على ظواهرها التي تتبعها الذين في قلوبهم زيغ من المجسمة- فان كلا منها تدل على صفة من صفات اللّه تعالى بحيث فهمها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بعض الكمل من اتباعه- و توضيح ذلك ان للّه تعالى صفاتا غير متناهية «١»

(١)

قال البغوي انه قال ابن عباس قالت اليهود أ تزعم انا قد أوتينا الحكمة و في كتابك وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقول وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فانزل اللّه هذه الاية يعنى كلمات علمه و حكمته تعالى غير متناهية و من هاهنا قال العلماء معلومات اللّه تعالى غير متناهية و كما ان علومه تعالى غير متناهية و ان كان ذلك اللاتناهى بعدم تناهى تعلقاتها- فكذلك جزئيات سائر صفاته تعالى غير متناهية و ايضا حصر الصفات فيما يعلمه الناس ممنوع كيف و ما ذكر فى المتن من الحديث الصحيح يدل على ان من أسمائه تعالى ما استأثر بعلمه لم يعلّمه أحدا من خلقه فمن الجائز ان يعلم اللّه سبحانه رسوله من أسمائه و صفاته بالمقطعات ما لم يعلمه قبله غيره- عدم تناهى الصفات انما هو بمعنى عدم تناهى تعلقاتها و حمل الكلمات على الصفات مستبعد كل البعد و لا يجب وضع اللفظ بإزاء كل تعلق تعلق حيث يقدح تناهيها في ادراك الصفات بل اللفظ انما يوضع بإزاء معنى كلى تنطبق على جزئيات غير متناهية- ثم عدم وضع اللفظ بإزاء معنى من المعاني لا يوجب عدم درا ذلك المعنى لجواز ان يتصور المعنى من غير توسط اللفظ و لا امتناع التصور بالكنه يوجب عدم اللفظ إذ التصور بالوجه كاف- ان كان استفادة العلم الضروري بهذه الحروف بطريق الدلالة الوضعية عاد الاشكال بأصله إذ تلك الدلالة ليست موجودة لانها ليست بوضع العرب مع ان القران عربى و ان كان لا بطريق الدلالة الوضعية بل بمجرد المقابلة و لزوم الروية يلزم الدرك من الحروف ما لها وضع و كلا الشقين محال قلت واضع الأسماء و اللغات كلها هو اللّه سبحانه دون الناس- و كان ابتداء التعليم من اللّه سبحانه بالإلهام او البيان و الا يلزم التسلسل فعلى هذا يمكن ان يكون هذه الحروف المقطعات في علم اللّه تعالى موضوعة للمعانى دالة عليها بالوضع فالهم اللّه سبحانه نبيه صلى اللّه عليه و سلم معنى تلك الحروف و صفتها كما الهم آدم عليه السلام معانى سائر الأسماء- منه رحمه اللّه [.....]

حيث قال اللّه تعالى- لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي-

و قال عز من قائل- وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّه- و لا شك ان الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني متناهية- و العقول قاصرة عن درك كنه ذات اللّه تعالى و كنه صفاته- و انما يتصور دركه بنوع من المعية الذاتية او الصفاتية الغير المتكيفة- هيهات هيهات عن فهم العوام بل الخواص مع دركهم لا يدركون ذلك الدرك في مرتبة الذات حيث قال رئيس الصديقين شعر- العجز عن درك الإدراك ادراك- و البحث عن سر الذات اشراك- غير ان بعض صفاته تعالى لما شارك صفات الممكنات في الغايات او بعض وجوه المشاكلات عبر عنها بالأسماء التي تدل على صفات في المخلوقات كالحيوة و العلم و السمع و البصر و الارادة و الرحمة و القهر و غيرها فزعم البشر انه فهمها و في الحقيقة لم يفهم الا بعض وجوهها- و بعضها ليست بهذا المثابة- فمنها ما استأثر اللّه تعالى بعلمه- و منها ما افهمه الخواص من خلقه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في دعائه اللّهم انى أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك او أنزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به في علم الغيب عندك- رواه ابن حبان فى صحيحه- و الحاكم في المستدرك و احمد- و ابو يعلى في حديث ابن مسعود لمن أصابه هم-

و الطبراني فى حديث ابى موسى فلعل اللّه سبحانه من ذلك الأسماء الخفية عن العامة التي لم يوضع بإذائها ألفاظ في لغاتهم علّم و الهم بعضها لنبيه صلى اللّه عليه و سلم و من شاء من اتباعه بهذه الحروف و خلق فيهم علما ضروريا مستفادا من هذه الحروف كما علم آدم الأسماء و خلق فيه علما ضروريا من غير سبق علمه بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى كيلا يلزم التسلسل- و يتجلى تلك الأسماء و الصفات على النبي صلى اللّه عليه و سلم بتلاوة هذه الحروف- قال شيخى و امامى قدسنا اللّه بسره السامي انه يظهر بنظر الكشف القران كله كانه بحر ذخار للبركات الالهية و يظهر تلك الحروف في ذلك البحر كانها عيون فوارات تفور و يخرج منها البحر- فعلى هذه المكاشفة لا يبعد ان يجعل هذه الحروف اسماء للقران كانّ القران تفصيل لذلك الإجمال و اللّه اعلم بمراده- و هذا التوجيه لا ينافى ما اختاره البيضاوي فان القران لكل اية منها ظهر و بطن و لكل حد مطلع-

و يروى لكل حرف حد و لكل حد مطلع رواه البغوي من حديث ابن مسعود فكما ان هذه الحروف في الظاهر عنصر للقران و بسائطه و غالب ما يتركب منه- و فيه لطائف الإيراد و وجوه الاعجاز- كذلك المراد من تلك الحروف إجمال للقران و عيون فوارات و اسرار بين اللّه و بين رسوله لا يطلع عليه أحد الا المخاطب او من في معناه و اللّه سبحانه اعلم-.

٢

ذلِكَ الْكِتابُ- اى هذا الكتاب الذي يقرأه محمد صلى اللّه عليه و سلم و يكذّب به المشركون فالمشار اليه ما سبق نزوله من القران على سورة البقرة او القران كله الذي سبق بعضه فذلك مبتدأ و الكتاب خبره اى الكتاب المعهود الموعود- او الكتاب الكامل الذي يستأهل ان يسمى كتابا- او صفة و خبره ما بعده- و قيل هذا فيه مضمر اى هذا الذي يوحى إليك ذلك الكتاب الذي وعدنا انزاله في التورية و الإنجيل- او وعدناك من قبل بقولنا-

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا- فذلك خبر مبتدأ محذوف و الكتاب صفته- و الكتاب مصدر بمعنى المكتوب و اصل الكتب الضم و الجمع يقال للجند كتيبة لاجتماعها سمى به لانه قد جمع في الكتاب حرف الى حرف- او لانه مما يكتب- و الاشارة بذلك و هى للبعيد تعظيما لشأنه لا رَيْبَ فِيهِ لوضوحه و سطوع برهانه بحيث لا يرتاب فيه العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا-

و قيل خبر بمعنى النهى اى لا ترتابوا فيه- و لا لنفى الجنس و فيه خبره- او فيه صفته و للمتقين خبره و هدى نصب على الحال- او الخبر محذوف كما في لا ضير- و فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره و التقدير لا ريب فيه فيه هدى و الاولى ان يقال انها جمل متناسقات يقرر اللاحقة السابقة و لذا لم يعطف- ف ذلِكَ الْكِتابُ ملة تفيد انه الكتاب المنعوت بغاية الكمال حيث لا رَيْبَ فِيهِ-

و كذا قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ- قرا ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل و كذلك كل هاء ضمير الغائب قبلها ساكن يشبعها وصلا بالياء ان كان الساكن ياء و الا بالواو نحو منه كما يشبع القراء كلهم كل هاء قبلها متحرك مكسور ياء نحو به او غير مكسور واوا نحو يضربه له ما لم يلقها ساكن فاذا لقيها ساكن سقط مدة الإشباع لاجتماع الساكنين اجماعا- نحو عليه الكتب و له الحكم غير ان الكلمة إذا كانت ناقصة حذف آخرها لاجل الجزم نحو يؤدّه و نولّه- و نصله- فالقه- و يتّقه- و يأته- و يرضه و بقي ما قبل الهاء متحركا ففيها خلاف القراء نذكرها في مواضعها ان شاء اللّه تعالى فقرا بعضهم بالإشباع نظرا الى تحرك ما قبلها و بعضهم بالاختلاس نظرا الى كون الحركة عارضية و تنبيها على الحرف المحذوف و بعضهم بالسكون لحلوله محل المحذوف

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) اى هو هدى فهو جملة ثالثة يؤكد كونه حقا لا ريب فيه- او يكون كل جملة منها يستتبع السابقة اللاحقة استتباع الدليل للمدلول فانه لما كان بالغا حد الكمال لا يسوغ فيه الريب فيكون البتة هدى- و هدى مصدر بمعنى الدلالة على الطريق الموصل او الدلالة الموصلة الى المقصود بمعنى الهادي- او ذكر مبالغة كزيد عدل- و تخصيص الهدى بالمتقين اما على المعنى الاول فلانهم هم المنتفعون به و ان كانت الدلالة عامة و لذا قال- هُدىً لِلنَّاسِ-

و اما على الثاني فظاهر لانه لا يكون دلالة موصلة الا لمن صقل عقله كالغذاء الصالح ينفع الصحيح دون المريض و لذا قال- شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً- و المتقى من يقى نفسه عما يضره في الاخرة من الشرك و ذلك أدناه- و من المعاصي و ذلك أوسطه- و من الاشتغال بما لا يعينه و يشغله عن ذكر اللّه تعالى و ذلك أعلاه و هو المراد بقوله تعالى- حَقَّ تُقاتِهِ- و قال ابن عمر التقوى ان لا ترى نفسك خيرا من أحد- و قال شهر بن حوشب- المتقى الذي يترك ما لا بأس به- حذرا عما به بأس-

روى الشيخان و ابن عدى عن النعمان بن بشير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- الحلال بين و الحرام بين و بينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه- الا و ان لكل ملك حمى الا و ان حمى اللّه في ارضه محارمه الا و ان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسدت الجسد كله الا و هى القلب- و روى الطبراني في الصغير الحلال بين و الحرام بين فدع ما يريبك الى ما لا يريبك-

قلت صلاح القلب المذكور في الحديث هو المعبّر باصطلاح الصوفية بفناء القلب و هو أول مراتب الولاية و هو المستلزم لصلاح الجسد و الاتقاء عن المشتبهات حذرا من ارتكاب المحرمات- فالتقوى لازم للولاية قال اللّه تعالى- إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ و في الاية سمى المشارف للتقوى متقيا مجازا على طريقة من قتل قتيلا-.

٣

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ- صفة مقيدة للمتقين ان فسر بالتقوى عن الشرك و الا فموضحة مشتملة على اصول الأعمال من الايمان فانه رأس الأمر كله- و الصلاة فانها عماد الدين- و الزكوة فانها قنطرة الإسلام او مادحة- او مبتدأ و خبره أُولئِكَ عَلى هُدىً- قرا ابو جعفر و ابو عمرو و ورش يومنون بالواو بدلا عن الهمزة- و كذلك ابو جعفر يترك كل همزة ساكنة و يبدلها واوا بعد ضمة- و ياء بعد كسرة الا في انبئهم- و نبّئهم- و نبّئنا- و ابو عمرو كلها الا ما كان السكون فيه للجزم نحو يهيّئ او يكون فيه خروج من لغة الى لغة كالمؤصدة- و رءيا-

و ورش كل همزة ساكنة في فاء الفعل الا تؤى- و تؤويه- و لا يترك الهمزة في عين الفعل الا باب الرّؤيا و ما كان على وزن فعل مسكور العين- و الايمان في اللغة التصديق كما في قوله تعالى وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا- و ذلك يكون بالقلب و اللسان و في الشرع التصديق بالقلب و اللسان جميعا بما جاء به النبي صلى اللّه عليه و سلم و علم قطعا- و لا يعتبر التصديق بالقلب بدون اللسان الا في حالة الإكراه- قال اللّه تعالى وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ- و قال يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ- و قال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ- و لا يعتبر التصديق باللسان بدون القلب أصلا قال اللّه تعالى- وَ اللّه يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ-

و اما الأعمال فغير داخلة في الايمان و لذا صح عطف يُقِيمُونَ الصَّلاةَ على يُؤْمِنُونَ و عطف آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ-

روى مسلم في الصحيح عن عمر بن الخطاب قال بينا نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر و لا يعرفه منا أحد حتى جلس الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاسند ركبتيه الى ركبتيه و وضع كفيه على فخذيه و قال يا محمد أخبرني عن الإسلام- قال الإسلام ان تشهد ان لا اللّه الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و تقيم الصلاة و تؤتى الزكوة و تصوم رمضان و تحج البيت ان استطعت اليه سبيلا- قال صدقت فعجبنا له يسئله- و يصدقه- قال أخبرني عن الايمان- قال ان تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الاخر و تؤمن بالقدر خيره و شره- قال صدقت قال فاخبرنى عن الإحسان- قال ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك- قال فاخبرنى عن الساعة- قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل- قال فاخبرنى عن اماراتها- قال ان تلد الامة ربتها- و ان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان- قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لى يا عمر أ تدري من السائل-

قلت اللّه و رسوله اعلم- قال فانه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم- و رواه ابو هريرة مع اختلاف و فيه- إذا رايت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض في خمس لا يعلمهن الا اللّه ثم قرا إِنَّ اللّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ الاية- متفق عليه و هذا الحديث تدل على ان الإسلام اسم لما ظهر من الأعمال- و كذا قوله تعالى- قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا-

و يطلق الإسلام ايضا على الايمان كما في قوله تعالى قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فهو في اصطلاح الشرع مشترك فى المعنيين- و الغيب مصدر وصف به للمبالغة كالشهادة قال اللّه تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ و المراد به ما غاب عن أبصارهم من ذات اللّه و صفاته و الملائكة و البعث و الجنة و النار و الصراط و الميزان و عذاب القبر و غير ذلك فهو واقع موقع المفعول به للايمان و الباء صلة- او بمعنى الفاعل وقع حالا من فاعل يؤمنون يعنى يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين في حضور المؤمنين خاصة دون الغيبة و قيل عن المؤمن به-

روى عن ابن مسعود انه قال ان امر محمد صلى اللّه عليه و سلم كان بيّنا لمن راه و الذي لا اللّه غيره ما من أحد قط أفضل ايمانا من ايمان بغيب ثم قرا الم ذلِكَ الْكِتابُ الى قوله الْمُفْلِحُونَ- وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يحافظون على حدودها و شرائطها و أركانها و صفاتها الظاهرة من السنن و الآداب و الباطنة من الخشوع و الإقبال- من اقام العود إذا قومه- او يديمونها و يواظبون عليها- من قامت السوق إذا نفقت و أقمتها إذا جعلتها نافقة و الصلاة أصله الدعاء و سميت بها لاشتمالها عليه قرا ورش بتغليظ اللام إذا تحرك بالفتح بعد الصاد- او الطاء- و الظاء- نحو الصّلوة- و مصلّى- و أظلم- و الطّلاق- و معطّلة- و بطل- و نحو ذلك

و قرا الباقون بالترقيق الا في لفظه اللّه خاصة إذا انفتح او انضم ما قبله فيفخمونه «١» أجمعون-

(١) فى الأصل فيفخمون

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) الرزق في اللغة الحظ قال اللّه تعالى وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ- و يطلق على كل ما ينتفع به الحيوان و الانفاق في الأصل الإخراج عن اليد و الملك و منه نفاق السوق حيث يخرج فيه السلعة و المراد به صرف المال في سبيل الخير هذه الاية في المؤمنين من مشركى العرب-.

٤

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعنى القران وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من التورية و الإنجيل و سائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة و السلام- هم المؤمنون من اهل الكتاب- كذا اخرج ابن جرير عن ابن مسعود و ابن عباس رضى اللّه عنهما- فعلى هذا الآيتان تفصيل للمتقين- او المراد بهم هم الأولون من قبيل قوله شعر الى الملك القوم و ابن الهمام- و ليت الكتيبة في المزدحم- على معنى انهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل جملة و إتيان الشرائع و بين الايمان بما لا طريق اليه غير السمع او من قبيل عطف الخاص على العام كقوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ- تعظيما لشأنهم- روى الشيخان عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيه و أمن بمحمد الحديث- و الانزال نقل الشي ء من الأعلى الى الأسفل و يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها كجبرئيل- او المراد العلو و السفل في الرتبة انزل من علم اللّه تعالى الى علم البشر يقصر ابو جعفر و ابن كثير و يعقوب و السوسي كل مد وقع بين كلمتين و قالون و الدوري يمد و يقصر و الباقون بمدونها و لذا سمى هذا المد المنفصل مدا جائزا بخلاف المتصل الواقع في كلمة واحدة نحو السّماء فانهم اتفقوا على مده فيسمى واجبا لكنهم اختلفوا في مقدار المتصل و المنفصل فابن كثير و ابو عمرو و قالون يمدون على قدر ثلث حركات و ابن عامر و الكسائي على قدر اربع حركات و عاصم على قدر خمس حركات و ورش و حمزه على قدر ست حركات هذا في المد الذي يقع بعد المدة همزه- اما إذا وقع بعده ساكن نحو وَ لَا الضَّالِّينَ و الم فجميع القراء اتفقوا على مده على قدر ست حركات و يسمى مدا لازما- الا إذا كان الساكن لعارض الوقف فاتفقوا على ان القاري مخير في مده على قدر حركتين او اربع حركات اوست حركات و فيما كان الساكن في الأصل مضموما نحو نَسْتَعِينُ يمدونها الى سبع «١» حركات- و اللّه اعلم-

(١) لا فرق عند القراء في المضموم و غيرها

وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) اى بالدار الاخرة سميت الدنيا لدنوّها- و الاخرة لتاخرها فهما صفتان في الأصل غلبتهما الاسمية فصارا اسمين- و الإيقان إتقان العلم بنفي الشك عنه نظرا و استدلالا- فلا يسمى اللّه موقنا- قرا ورش بنقل حركت الهمزة الى اللام و حذف الهمزة و كذلك كل ما وقع الهمزة أول كلمة- و السابق عليه حرف ساكن غير مدولين من اخر كلمة اخرى فانه يلقى حركت الهمزة على الساكن قبلها و يحذفها سواء كان الساكن نون تنوين او لام تعريف او غير ذلك نحو مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا- و مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا- و كُفُواً أَحَدٌ- و بِالْآخِرَةِ الْأَرْضِ- الْأُولى - و استثنى اصحاب يعقوب عن ورش من ذلك كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ- و اختلفوا فى الْآنَ في موضعين و عاداً الْأُولى - ثم ورش يمد مدّا قصيرا و متوسط او طويلا على هذه المدة- و كذا على كل مدة وقع بعد الهمزة سواء كانت الهمزة ثابتة نحو أمن- و أوحى- و إيمانا- او محذوفة بعد نقل الحركة نحو بالاخرة- و قل اوحى- و من أمن او مبدلة نحو هؤلاء الهة فقرا ورش هؤلاء يالهة بالابدال و المد او مسهلة نحو جاء ال- الا ياء إسرائيل تحرزا عن ثلث مدات في بنى إسرائيل- و بعضهم لا يرون لورش المد الا في الثابتة-

و قرا حمزة من رواية خلف بالسكتة على اللام و كذا على كل ساكن غير مدة وقع اخر الكلمة و بعده همزة يسكت عليه سكتة لطيفة من غير قطع نحو من أمن- و هل اتيك- و عليهم ءانذرتهم ابني آدم و خلوا الى شيطينهم- الاخرة- الأرض- و عنه السكتة على لام التعريف و شى ء و شيئا لا غير- و قدم الضمير للحصر اى هم الموقنون بالاخرة دون غيرهم من اهل الكتاب لعدم مطابقة اعتقادهم الواقع حيث قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً او نَصارى و نحو ذلك-.

٥

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ- الجملة في محل الرفع ان جعل أحد الموصولين منفصلا عن المتقين كانه نتيجة للاحكام بالصفات المذكورة فان اسم الاشارة كاعادة الموصوف بصفاته- ففيه إيذان بان تلك الصفات موجبة لهذا الحكم- و في كلمة على إيذان على تمكنهم و و استقرارهم على الهداية- و نكر هدى للتعظيم و أكّد التعظيم بان اللّه معطيه و موفقه وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) اى الفائزون بالمطلوب هذا اللفظ و ما يشاركه في الفاء و العين من فلق و فلذ و فلى يدل على الشق و القطع كانّ المفلح انشق من غيره و صار بينهما بون بعيد- او صاروا مقطوعا لهم بالخير في الدنيا و الاخرة كرر اسم الاشارة تنبيها على ان اتصافهم بتلك الصفاة يقتضى كل واحدة من الاثرتين و وسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين بخلاف قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ- أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ- و هم ضمير يفصل الخبر عن الصفة و يؤكد النسبة و يفيد الاختصاص- او مبتدأ و المفلحون خبره و الجملة خبر أولئك- و تمسك المعتزلة بان الحصر تدل على خلود مرتكب الكبيرة في النار- ورد بان المراد المفلحون الكاملون في الفلاح و يلزم منه عدم كمال الفلاح لمن ليس مثلهم لا عدم الفلاح مطلقا- ثم لما ورد ذكر خاصة- عباد اللّه و أوليائه في ضمن ذكر الكتاب او مستقلا ان جعل الموصول منفصلا عن المتقين- عقبهم أضدادهم المردة و لم يعطف لاختلاف السياق-.

٦

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- الكفر لغة ستر النعمة و في الشرع ضد الايمان و ستر نعمة اللّه-

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ- خبران- و سوآء اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر- و ما بعده مرفوع على الفاعلية كانه قيل مستو عليهم إنذارك و عدمه-

او خبر لما بعده بمعنى انه إنذارك و عدمه سيان عليهم- و الفعل وقع مخبرا عنه باعتبار المعنى التضمني اى الحدث مجازا- و انما عدل عن المصدر الى الفعل لايهام التجدد- و الهمزة و أم جردتا عن معنى الاستفهام و ذكر التقرير معنى الاستواء و تأكيده- و الانذار التخويف من عذاب اللّه و اقتصر عليه لان دفع الضرر أهم من جلب النفع- قرا ورش بابدال الهمزة الثانية الفا- و قالون و ابن كثير و ابو عمرو يسهّلون الثانية بين بين لكن قالون يدخل الفا بينهما مع التسهيل- و هشام يدخل الفا بينهما من غير تسهيل- و الباقون يحققون الهمزتين من غير إدخال- و كذلك المقال في كل همزتين مفتوحتين في كلمة واحدة- و ذكر في التيسير مذهب هشام كقالون-

و اما إذا اختلفتا بالفتح و الكسر فى كلمة نحواء ذا كنّا ترابا فالحرميان و ابو عمرو يسهلون الثانية و قالون و ابو عمرو يدخلان قبلها الفا و الباقون يحققون الهمزتين و اختلف الرواية عن هشام في إدخال الالف بينهما ففى رواية يدخل مطلقا- و في رواية لا الا في سبعة مواضع- أ إنّكم في الأعراف و فصلت أ إنّ لنا لاجرا في الأعراف و الشعراء- و في مريم أَ إِذا ما مِتُّ- و في الصّافّات أَ إِنَّكَ و أَ إِفْكاً- و إذا اختلفتا بالفتح و الضم فى كلمة فالحرميان و ابو عمرو يسهلون الثانية- و قالون يدخل بينهما الفا- و هشام كقالون في ص أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ و في القمر أَ أُلْقِيَ- و كالجمهور في ال عمران قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ و الباقون يحققون و لا رابع لها-

لا يُؤْمِنُونَ (٦) جملة مفسرة لاجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها او حال مؤكدة او بدل عنه- او خبر انّ و الجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم-.

٧

خَتَمَ اللّه عَلى قُلُوبِهِمْ- فلا تعى خيرا- و القلب هو المضغة و قد يطلق على المعرفة و العقل قال اللّه تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ- اعلم ان اللّه تعالى خالق الأشياء كلها اعراضها و جواهرها- و الأسباب اسباب عادية يخلق اللّه تعالى عقيبها المسببات فاللّه سبحانه بعد استعمال الحواس من السمع و البصر و غيرهما يخلق علما بالمحسوسات و بعد استعمال الذهن فى ترتيب المقدمتين يخلق علما بالنتيجة جريا على عادته- و لو شاء لا يخلق و يتعطل الحواس و يتخبظ الذهن- و لو شاء يحصل العلم بالمحسوس و لا يفيد ذلك العلم اثرا في القلب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء- ثم قال اللّهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك- رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمرو- فاللّه سبحانه لمّا لم يردان يطهر قلوب الكفار صرفهم عن التفكر في الآيات و لم يخلق فى قلوبهم تأثرا بالايمان و اليقين بعد رؤية الآيات و المعجزات و عبر عن ذلك و عن عدم التأثر بالختم- و الطبع- و الاغفال- و الاقساء- و الغشاوة مجازا- او مثل قلوبهم و مشاعرهم بأشياء ضرب عليها الحجاب- او يقال ان المراد بالختم ما يخلق اللّه تعالى من السواد على القلوب باقتراف المعاصي-

روى البغوي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فان تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منها و ان زاد زادت حتى تعلو قلبه- فذلكم الرين الذي ذكر اللّه في كتابه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ-

قلت و سواد القلب المذكور هو المعبر فيما مر من الحديث بفساد القلب- حيث قال و إذا فسدت فسدت الجسد و هو ضد صلاح القلب و لما كان حال ذنب المؤمن كذلك فما بال الكافر- و عبر عن احداث هذه الهيئة بالطبع- و الاغفال و الاقساء و نحوها- و الختم في اللغة الكتم- سمى به الاستيثاق من الشي ء بضرب الخاتم عليه لانه كتم له- و البلوغ آخره سمى به نظرا الى انه اخر فعل يفعل في إحرازه-

وَ عَلى سَمْعِهِمْ- اى أسماعهم وحده للامن عن اللبس و اعتبار الأصل فانه مصدر في أصله و المصادر لا يجمع- معطوف على قلوبهم لقوله تعالى وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً- و لمّا كان درك السمع و القلب من جميع الجهات جعل مانعهما من جنس واحد و هو الختم بخلاف البصر فانه مختص بالمقابلة فجعل مانعها الغشاوة المختصة بجهة المقابلة-

وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ- جمع بصر و هو ادراك العين و قد يطلق مجازا على القوة الباصرة و على العضو و كذا السمع امال ابو عمرو و الدوري عن الكسائي كل الف بعده راء مجرور في لام الفعل نحو و على أبصارهم وصلا و وقفا و كذا اثارهم- و النّار- و الغار- و بقنطار- و بدينار- و الأبرار- و شبهه و تابعهما ابو الحارث فيما تكررت فيه الراء من ذلك نحو الأشرار- الأبرار-

و قرا ورش كل ذلك بين بين و تابعه حمزة فيما كان الراء فيه مكررا و على قوله القهّار حيث وقع و دار البوار لا غير- و امال ابن ذكوان الى حمارك و الحمار في البقرة و الجمعة لا غير- و الغشاوة ما يشتمل على الشي ء فيغطيه مرفوع على انه مبتدأ او فاعل للظرف

وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧) فى الاخرة و العذاب من أعذب الشي ء إذا امسك اى عقابا يمنع الجاني عن المعاودة ثم اتسع فاطلق على كل الم و ان لم يكن عقابا مانعا

و قيل من التعذيب بمعنى ازالة العذب- و العظيم ضد الحقير يعنى إذا قيس مع ما يجانسه قصر عنه جميعه-.

٨

وَ مِنَ النَّاسِ روى عن ابى عمرو امالة فتح النّاس في موضع الجر حيث وقع بخلاف عنه و صلا و وقفا مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّه وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ اى بيوم القيامة نزلت في المنافقين عبد اللّه بن ابى بن سلول- و معتب بن قشير- و جدّ بن قيس و أصحابهم و أكثرهم من اليهود- و الناس أصله أناس فحذفت الهمزة و عوض عنها حرف التعريف و لذا لا يجمع بينهما- جمع انسان- و قيل اسم جمع إذ لم يثبت فعال من ابنية الجمع- مشتق من انس لانهم يستأنسون بينهم- او انس لانهم ظاهرون مبصرون- كما سمّى الجنّ لاجتنانهم و اللام فيه للجنس و من موصوفة إذ لا عهد- و قيل للعهد و المعهود هم الذين كفروا- او من موصولة أريد بها ابن ابى و أمثاله حيث دخلوا في الكفار المختوم على قلوبهم و اختصوا بزيادة الخداع- و تخصيص الذكر بالايمان باللّه و اليوم الاخر لما هو مقصود الأعظم من الايمان

وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) انكار لما ادعوه و كان أصله و ما أمنوا حتى يطابق قولهم في تصريح الفعل دون الفاعل لكنه عكس مبالغة في التكذيب لان إخراجهم من المؤمنين ابلغ من نفى الايمان في ماضى الزمان و لذلك أكد النفي بالباء.

٩

يُخادِعُونَ اللّه وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الخدع ان توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه- من قولهم خدع الضب إذا توارى في حجره و أصله الإخفاء- و خداعهم مع اللّه اى مع رسوله بحذف المضاف- او من حيث ان معاملتهم مع الرسول معاملتهم مع اللّه من حيث انه خليفته قال عز و جل- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّه- و قال عز من قائل- الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّه يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ- و هو بمعنى يخدعون و صيغة المفاعلة للمبالغة فان الفعل مع المقابل ابلغ او ان صورة صنيعهم مع اللّه من اظهار الايمان مع ابطان الكفر و صنع اللّه معهم بإجراء احكام الإسلام عليهم مع انهم أخبث الكفار و امتثال الرسول صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين امر اللّه في إخفاء حالهم و اجراء احكام الإسلام عليهم صورت صنيع المتخادعين و هو بيان ليقول او استيناف بذكر ما هو الغرض منه-

وَ ما يَخْدَعُونَ- قراءة الحرميين و ابى عمرو و ما يخادعون

إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فانه لا يخفى على اللّه خافية- و هو يطلع نبيه صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين فهم غروا أنفسهم حيث او هموا أنفسهم انهم أمنوا من العذاب و الفضيحة فضرر خداعهم راجع إليهم دون غيرهم-

وَ ما يَشْعُرُونَ (٩) اى لا يحسّون لتمادى غفلتهم- الشعور الاحساس بالمشاعر الى الحواس جعل رجوع الضرر إليهم كالمحسوس الذي لا يخفى الا على ماؤف الحواس.

١٠

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- لا المرض ما يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال و يضعفه و يفضيه الى الهلاك- و يطلق على الاعراض النفسانية من الجهل و الحسد و الكفر و سوء العقيدة مجازا فانه مانع من نيل الفضائل و مفضى الى الهلاك الابدى- و هم كانوا على أخبث الاعراض النفسانية و كانوا ايضا متالمين على فوت الرياسة و استعلاء شأن المحسودين من المؤمنين

فَزادَهُمُ اللّه مَرَضاً بتقوية تلك الاعراض الخبيثة بالختم و الرين- و إنزال الآيات- فكلما كفروا باية ازدادوا كفرا- او نصر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تفضيحهم- قرا حمزة بامالة زاد و كذا جاء و شاء- و ران- و خاف- و خاب- و طاب- و حاق- حيث «١» وقع و زاغ- فى و النجم و زاغوا في الصف لا غير- سواء اتصلت هذه الافعال بضمير اولا إذا كانت ثلاثية ماضية و تابعه ابن ذكوان على امالة جاء و شاء حيث وقعا و زاد هاهنا خاصة و قيل حيث وقع

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) اى مولم وصف به العذاب مبالغة

(١) ضاق ايضا منهم-

بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) ما مصدرية- قرا الكوفيون بالتخفيف اى بكذبهم في قولهم امنّا- و الباقون بالتشديد اى بتكذيبهم الرسول صلى اللّه عليه و سلم في السّرّ-.

١١

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ- الفساد ضد الصلاح يعمان كل ضار و نافع- و فسادهم في الأرض هيجان الحروب بمخادعة المسلمين و ممالاة الكفار عليهم بإفشاء الاسرار و تعويق الناس عن الايمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران- قرا الكسائي و هشام- قيل- و غيض- و جى ء- و حيل- و سيق- و سيئت و سى ء بالاشمام و وافق ابن عامر في الأربع الاخيرة و وافق نافع في الأخيرين- و المراد بالاشمام هاهنا ان ينحا بكسر فائها نحو الضمة و اليا نحو الواو- و قيل بضم الفاء مشبعة- و قيل مختلسا- و قيل بل ايماء بالشفتين الى ضمة مقدرة مع اخلاص الكسرة- و الاول أصح و الباقون بالكسرة

قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) و هم كاذبون ردّ للناصح على سبيل المبالغة بكلمة انما او قالوا ذلك فيما بينهم تصور و الفساد بصورة الصلاح لما زين لهم سوء أعمالهم.

١٢

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) ردّ لما ادعوه ابلغ ردّ كما ادّعوه لانفسهم مع تعريض للمؤمنين بأبلغ الوجوه بالاستيناف و حرف التنبيه المفيدة للتحقيق و كلمة ان و تعريف الخبر و ضمير الفصل و الاستدراك بلا يشعرون.

١٣

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعنى المهاجرين و الأنصار- او من أمن من اليهود كعبد اللّه بن «١» سلام- هذا من تمام النصح- فان الاعراض عن الفساد و الإتيان بشرائع الايمان كمال الإنسان- و كما أمن الناس في محل النصب على المصدرية و ما مصدرية او كافة كما في ربّما

قالُوا فيما بينهم أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ و السفه خفة العقل و ضده الحلم-

(١) و عن ابن عباس- كما أمن ابو بكر و عمر و عثمان و على- منه نور اللّه مرقده

و قيل السفيه من تعمد بالكذب- و انما سفهوهم اعتقادا لفساد رأيهم او تحقيرا لشأنهم

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فانهم مع ما كانوا يرون من المعجزات و يعرفون من التورية أهملوا عقولهم و أنكروا الرسول صلى اللّه عليه و سلم فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ و فيه رد و مبالغة كما سبق- قرا الحرميان و ابو عمرو السّفهاء الا في الوصل خاصة بتسهيل الهمزة الثانية- و كذا كل ما اجتمعا في كلمتين و اختلف حركتهما نحو من الماء او ممّا- و شهداء إذ حضر- و من يشآء الى صراط- و جاء امّة و حكم التسهيل ان يجعل بين الهمزة و بين الحرف الذي منه حركتها ما لم ينفتح و ينكسر ما قبلها او ينضم فانها تبدل مع الكسرة ياء مفتوحة و و مع الضمة واو مفتوحة و المكسورة المضموم ما قبلها تبدل واوا مكسورة و الباقون يحققونهما

وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) انما ذكر هاهنا لا يعلمون و فيما قبله لا يشعرون لان الوقوف على امور الدين يحتاج الى فكر و اما الفساد فيدرك بالحس و ادنى التفات-.

١٤

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كايمانكم بيان لمعاملتهم مع المؤمنين و الكفار و ما صدرت به القصة سبق لبيان مذهبهم و تمهيد نفاقهم

وَ إِذا خَلَوْا من خلوت بفلان و اليه إذا انفردت معه- او من خلاك دم اى عداك و منه القرون الخالية

إِلى شَياطِينِهِمْ اى روسائهم قال ابن عباس- و هم خمسة نفر من اليهود كعب بن اشرف بالمدينة- و ابو بردة في بنى اسلم و عبد الدار في جهينة- و عوف بن عامر في بنى اسد- و عبد اللّه بن السوداء بالشام- و الشيطان المتمرد العاتي من الجن و الانس قال اللّه تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ و قال مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ- او المراد الكهنة و لا يكون كاهن الا و معه الشيطان تابع له و الشيطان- مشتق من شطن اى بعد يقال بيرشطون اى بعيد العمق سمى لامتداده في الشر و بعده من الخير- او من شاط اى بطل و من أسمائه الباطل- و حينئذ النون زائدة

قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ فى الدين و الاعتقاد خاطبهم بالجملة الاسمية المؤكدة بان للدلالة على تحقيق ثباتهم على ما كانوا

إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) تأكيد لما قبله لان المستهزئ بالشي ء المستخف به مصر على خلافه- او بدل منه لانه من حقّر الإسلام فقد عظّم الكفر- او استيناف كانّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا انّا معكم ان صح ذلك فما لكم تدعون الايمان فاجابوا- و الاستهزاء السخرية و الاستخفاف- هزأت و استهزأت كاجبت و استجبت بمعنى و أصله الخفة ناقة تهزئ اى تسرع قرا ابو جعفر مستهزون- و يستهزون- و استهزوا- و ليطفوا ليواطوا- و يستنبؤنك و خطون- و خاطين- و متّكون- و متّكين- فمالون- و المنشون- بترك الهمزة فيهن.

١٥

اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ اى يجازيهم على استهزائهم سمى الجزاء به للمقابلة

قال البغوي قال ابن عباس- هو ان يفتح لهم باب من الجنة فاذا انتهوا اليه سد عنهم و ردوا الى النار- و قيل هو ان يجعل للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فاذا وصل المنافقون اليه حيل بينهم و بين المؤمنين قال اللّه تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ الاية- قال الحسن- معناه ان اللّه يظهر على المؤمنين نفاقهم انتهى-

و اخرج ابن ابى الدنيا في كتاب الصمت عن الحسن- ان المستهزءين بالناس يفتح لاحدهم باب الى الجنة فيقال هلم هلم فيجى ء فاذا أتاه غلق دونه فما يزال كذلك الحديث- و هذا مرسل جيد و انّما استونف و لم يعطف ليدل على ان اللّه تعالى كاف في مجازاتهم لا حاجة للمومنين ان يعارضوهم و لم يقل اللّه مستهزئ بهم لتجدد الاستهزاء بهم حينا بعد حين- أَ وَ لا يَرَوْنَ «١» أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً او مَرَّتَيْنِ-

وَ يَمُدُّهُمْ يتركهم و يمهلهم- من مدّ الجيش إذا زاده و قوّاه أصله الزيادة- و المد و الامداد واحد غير ان المد كثير امّا يستعمل في الشر و الامداد في الخير كما في أمددناكم باموال و بنين-

(١) فى القرآن أ فلا ترون المؤلف عفا اللّه عنه.

فِي طُغْيانِهِمْ- اى تجاوز الحد في العصيان و الكفر- أماله الكسائي حيث وقع-

يَعْمَهُونَ (١٥) يترددون- العمه في البصيرة كالعمى في البصر.

١٦

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا استبدلوا الضَّلالَةَ- الكفر- بِالْهُدى بالايمان-

فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ التجارة طلب الربح اى الفضل على رأس المال بالبيع و الشراء- و أسند الربح إليها مجازا لتلبسها بالفاعل او لانها سبب الريح كالفاعل

وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) بالتجارة إذ المقصود من التجارة حصول الربح مع سلامة رأس المال- و هم ضيعوا رأس المال و هى الفطرة و ما حصلوا الفضل بإدراك الحق و نيل الكمال-.

١٧

مَثَلُهُمْ- المثل- و المثل- و المثيل- بمعنى النظير- ثم قيل للقول السائر الممثل مضربة بمورده و لا يضرب الا ما فيه غرابة ثم استعير لكل حال غريب اى حالهم الغريب

كَمَثَلِ الَّذِي اى الذين كما في قوله و خضتم كالّذى خاضوا و انما جاز ذلك دون القائم مقام القائمين لانه غير مقصود بالوصف بل الجملة التي هى صلة- و لانه ليس باسم تام بل كالجزء منه و حقه ان لا يجمع و ليس الذين جمعه بل ذو زيادة تدلّ على زيادة المعنى و لذا جاء بالياء ابدا-

اسْتَوْقَدَ ناراً فلما أَضاءَتْ النار- ما حَوْلَهُ اى المستوقد-

ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ جواب لمّا و لم يقل بنارهم لان النور هو المقصود- و اسناد الفعل الى اللّه لان الكل بفعله- او لان الإطفاء حصل بسبب خفى- او سماوى- او للمبالغة- او الجواب محذوف للايجاز و عدم الالتباس كما في قوله تعالى- فلما «١» ذَهَبُوا بِهِ- و الجملة استيناف جواب سائل يقول ما بالهم شبّههم «٢»- بحال من استوقد فانطفت ناره- او بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان و الضمير على هذين الوجهين للمنافقين-

(١) فى الأصل و لمّا

(٢) فى الأصل شبّهتهم

وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) ذكر الظلمة و جمعها و نكرها و وصفها بانه لا يتراى فيها شى ء للمبالغة في بيان شدته كانها ظلمات متراكمة- و لما تضمن ترك معنى صير جرى مجرى افعال القلوب- و ترك مفعول لا يبصرون- كانّ الفعل غير متعد بمعنى لا يقع منهم الابصار- و الاية مثل ضربه اللّه لمن أتاه ضربا من الهدى فاضاعه و لم يتوصل به الى نعيم الابد فبقى متحيرا متحسرا تقريرا و توضيحا لما تضمنته الاية الاولى- فانهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر- او مثل لايمانهم من حيث انه يعود عليهم بحقن الدماء و الأموال و مشاركة المسلمين في المغانم- و الاحكام بالنار و لذهاب اثره باهلاكهم في الاخرة او افشاء حالهم في الدنيا بإطفاء اللّه إياه.

١٨

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ اى هم صم بكم عمى- يعنى الّذى استوقد نارا- لما ذهب اللّه بنورهم و تركهم في ظلمات ادهشتهم و اختلت حواسهم فالكلام على الحقيقة- و ان كان ضمير بنورهم راجعا الى المنافقين فالمعنى انهم لما لم يصيخوا الى الحق و أبوان ينطقوا به و ان يتبصّروا الآيات و يتفكّروا فيه صاروا كانهم انتفت مشاعرهم و قواهم- و إطلاقها عليهم من قبيل التمثيل دون الاستعارة- لان المستعار له يعنى كلمة هم و ان كان محذوفا لفظا لكنه منطوق حكما ففات شرط الاستعارة- و الاية نتيجة التمثيل.

فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) اى هم متحيرون فلا يدرون كيف يرجعون الى حيث ابتدءوا منه- او انهم لا يعودون عن الضلالة الى الهدى الذي ضيعوه.

١٩

او كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ- اى كاصحاب صيب و هو فيعل من الصوب بمعنى النزول يقال للمطر لنزوله و فيه مبالغة- فان الصوب فرط الانسكاب و الصيغة للمبالغة و التنكير للتفخيم- و كلمة او للتساوى في الشك ثم اتسع فيها فاطلق للتساوى من غير شك يعنى التشبيه بالقصتين سواء- فانت مخير في التشبيه بايتهما شئت- كما قيل أنت مخير في خصال الكفارة- و تعريف السماء للدلالة على ان الغمام مطبق بافاق السماء كلها فان كل أفق منها يسمى سماء و قيل معناه السحاب فان ما علاك سماء- و اللام لتعريف الجنس لكن الظواهر دالة على ان المطر من السماء قال اللّه تعالى- وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً- و قال- مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ-

و اخرج ابن حبان عن الحسن- انه سئل عن المطر من السماء أم من السحاب قال من السماء انما السحاب علم-

و اخرج ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن خالد بن معدان قال- المطر يخرج من تحت العرش فينزل من سماء الى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا- فيجتمع في موضع يقال له الأثرم فيجى ء السحاب السود فيدخله فيشربه فيسوقه اللّه حيث شاء- و اخرجا عن عكرمة قال ينزل المطر من السماء السابعة-

فِيهِ اى الصيب او السماء- و السماء يذكر و يؤنث قال اللّه تعالى- السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ- و- انْفَطَرَتْ-

ظُلُماتٍ ظلمة تتابع القطر و السحاب و الليل-

وَ رَعْدٌ و هو الصوت الذي يسمع منه-

وَ بَرْقٌ و هو النار التي تخرج منه و هما مصدران و لذلك لم يجمعا- قال على- و ابن عباس و اكثر المفسرين الرعد اسم ملك يسوق السحاب و البرق لمعان سوط من نار يزجر به الملك السحاب- و قيل الصوت زجر السحاب و قيل تسبيح الملك- قال مجاهد الرعد اسم الملك و يقال لصوته- و جعل المطر مكانا للرعد و البرق لانهما في منحدره- و ارتفاعهما بالظرف-

يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ الضمير راجع الى اصحاب صيب فانه منوى معنى-

امال الكسائي آذانهم- و آذاننا- و طغيانهم حيث وقع- و اطلق الأصابع موضع الأنامل مبالغة و الجملة استيناف كانه قيل كيف حالهم مع ذلك الشدة

مِنَ أجل الصَّواعِقِ متعلق بيجعلون- و الصعق شدة الصوت بحيث يموت من يسمعها او يغشى عليه- و يطلق على الموت و الغشي الحاصل بها-

قال اللّه تعالى- فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ- و الصواعق جمع صاعقة و التاء للمبالغة- او مصدرية- و يقال لكل عذاب مهلك صاعقة- و المراد به هاهنا قصفة رعد هائل مع نار لا تمر بشى ء الا أهلكته- او المراد به الرعد

حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له ليجعلون-

وَ اللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به- و لا يخلصون من عذابه بالخداع- يميل ابو عمرو و الكسائي في رواية الدوري فتحة الكاف من الكفرين إذا كان بعد الراء ياء حيث وقع

و قرا ورش ذلك بين بين.

٢٠

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استيناف كانه قيل ما حالهم مع تلك الصواعق- و كاد لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد لفقد شرط او مانع فهى خبر محض بخلاف عسى فانه رجاء و إنشاء- و الخطف الاستلاب بسرعة

كُلَّما تدل على التكرار أَضاءَ لَهُمْ لازم بمعنى لمع- او المفعول محذوف اى نور لهم ممشى

مَشَوْا فِيهِ لحرصهم على المشي دون الوقوف و لذلك ذكر كلما مع الاضاءة دون الاظلام-

وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وقفوا- و اظلم ايضا جاء لازما و متعديا-

وَ لَوْ شاءَ اللّه ان يذهب بسمعهم بقصيف الرعد و أبصارهم بوميض البرق- حذف لدلالة الجواب

لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ فان الرعد و البرق و ان كانا في الظاهر سببين لذهاب السمع و البصر لكن تأثير الأسباب كلها في الحقيقة بمشية اللّه تعالى- فالسبب الحقيقي هو المشية و الجواهر و الاعراض و افعال العباد كلها مخلوقة للّه تعالى- مرتبطة بمشيته

إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (٢٠) تصريح و تقرير لما سبق و الشي ء مصدر شاء يطلق بمعنى الفاعل اى الشاءى- ...

فيتناول الباري تعالى قال اللّه تعالى- قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّه- و بمعنى المفعول اى الشي ء وجوده و هو الممكن و منه قوله تعالى- خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ- فهو على عمومه- و حمزه يسكت على الياء من شى ء و شيئا في الوصل خاصة- و القدرة التمكن من إيجاد الشي ء- و القادر هو الذي ان شاء فعل و ان شاء لم يفعل «١» و في القدير مبالغة- قلما يوصف به غير الباري تعالى-

(١) الاول و ان لم يشأ لم يفعل لان عدم الفعل ليس لاجل المشية بل عدم المشية كاف فيه- منه رحمه اللّه

تمثيل لحال المنافقين من الحيرة و الشدة بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف و برق خاطف و خوف من الصواعق- او يقال شبّه المنافقين باصحاب الصيب- و الدين القويم و القران بالصيب- و قال- فيه ظلمت- يعنى مانعة من السير عليه و هى المحن و المكاره من العبادات و الجهاد و ترك الشهوات روى مسلم و احمد و الترمذي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات-

و روى الترمذي و ابو داود- و النسائي عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال- لما خلق اللّه الجنة قال لجبرئيل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها و الى ما أعد اللّه تعالى لاهلها فيها ثم جاء فقال اى رب و عزتك لا يسمع بها أحد الا دخلها- ثم حفها بالمكاره ثم قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال اى رب و عزتك لقد خشيت ان لا يدخلها أحد- قال فلما خلق اللّه النار قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها قال فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال اى رب و عزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها- فحفها بالشهوات ثم قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها- فذهب فنظر إليها فقال اى رب و عزتك لقد خشيت ان لا يبقى أحد الا دخلها- و قال اللّه تعالى- إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ و فيه رعد يعنى آيات مخوفة من عذاب اللّه و برق يعنى فتوح و مغانم كثيرة يأخذونها فيسهل به السير على الطريق و يدفع ظلمة المكاره او الحجج الواضحة الداعية الى السلوك على الطريق المستقيم و المسهلة للمكاره- يجعلون اى المنافقون أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ من أجل الرعد و الصّواعق قائلين- لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ- حذر الموت بالمحن و المشقات ان أمنوا- و بالقتال ان جاهدوا كما قال في حالهم- فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ- او لانهم يزعمون ان سدهم آذانهم عن سماع آيات العذاب ينجيهم من عذاب اللّه كما ان الأحمق إذا هوله الرعد و يخاف صواعقه يسد آذانه مع انه لا خلاص له منها بسد الاذان و كما ان الإرنب إذا راى صائدا مقبلا و لا يرى منه مفرا يغمض عينيه زعما منه ان عدم رؤيته ينجيه من قتله-

وَ اللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ لا يفوتهم ما كتب عليهم من المحن و العذاب في الدنيا بالفضيحة و غيرها و في الاخرة بالعذاب السرمدي- اولا يفيدهم و لا ينجيهم سد الاذان من الآيات المخوفة عن وقوع العذاب كما لا ينجى الأرنب تغميض العين من الصائد بل يعينه عليه- يكاد البرق- اى الفتوح و المغانم و شوكة الإسلام لاجل حرصهم على الدنيا

يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ او الحجج الواضحة يخطف أبصارهم المؤفة و آرائهم الزائغة التي بها يبصرون الباطل حقا و الحق باطلا- على ما زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ- فحينئذ يرون الحق حقا و الباطل باطلا فيؤمنوا كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ البرق و ظهر الفتح و الدولة للمسلمين و راوا حجة الإسلام واضحة مشوا فيه و اتبعوا سبيل المؤمنين- و إذا اظلم البرق اى لم يظهر الفتح و أدركوا المحنة نسوا الحجة الواضحة و قاموا و وقفوا عن سلوك و الطريق- نظيره قوله تعالى- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ- وَ لَوْ شاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ المؤفة بقصيف الرعد و أعطاهم السمع و الابصار الصحيحة- نظيره قوله تعالى-

وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ- اخرج ابن جرير من طريق السّدى الكبير عن ابى مالك عن ابن عباس و عن مرة عن ابن مسعود- و ناس من الصحابة- قال كان رجلان من المنافقين من اهل المدينة هربا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى المشركين فاصابهما هذا المطر الذي ذكر اللّه فيه رعد شديد و صواعق و برق فجعلا كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق ان ندخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما- و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه- و إذا لم يلمع لم يبصرا- فاتيا مكانهما يمشيان فجعلا يقولان ليتنا قد أصبحنا فتأتى محمدا صلى اللّه عليه و سلم فنضع أيدينا في يده فاتياه فاسلما و وضعا أيديهما في يده و حسن إسلامهما- فضرب اللّه شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة- و كان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى اللّه عليه و سلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى اللّه عليه و سلم ان ينزل فيهم او يذكروا بشى ء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان «١» الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما-

(١) فى الأصل ذانك المنافقين الخارجين يجعلان ١٢

كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ و كانوا إذا كثرت أموالهم و ولدهم و أصابوا غنيمة او فتحا مشوا فيه و قالوا ان دين محمد صلى اللّه عليه و سلم حينئذ صدق و استقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا و كانوا إذا هلكت أموالهم و ولدهم و أصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد صلى اللّه عليه و سلم و ارتدوا كفارا- كما قام ذانك المنافقان حين اظلم عليهما البرق- انتهى رواية ابن جرير-

قلت و يحتمل ان يكون الظلمات عبارة عن المتشابهات التي لا سبيل للاراء الى دركها- و البرق عن المحكمات التي تساعده الآراء- فالمؤمنون من اهل السنة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا- و الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ سدوا آذانهم عن وعيد حرمة ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ حذر الموت- و هو القول بما لا يساعده آراؤهم و لا يوافق مذهبهم حيث يزعمونه موتا و جعلوا القران تابعا لارائهم الكاسدة- فكلّما أضاء لهم و أدرك عقولهم مشوا فيه و أمنوا به و إذا اظلم عليهم و لم تساعده عقولهم قاموا عن الايمان به و وقفوا لديه و ابتغوا تأويله على حسب آرائهم الكاسدة- فمنهم من لم يدرك عقله موجودا لا يكون جسما و لا يكون كمثله شى ء أنكر التنزيه و صار مجسما- و منهم من أنكر الروية- و منهم من أنكر عذاب القبر و وزن الأعمال و الصراط و نحو ذلك- و منهم من أنكر كون القران كلام اللّه غير مخلوق فصاروا اثنتين و سبعين فرقة- روافض- و خوارج- و اهل الاعتزال و المجسمة و نحو ذلك قائلين نومن ببعض الكتاب و نكفر ببعض-

وَ لَوْ شاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ حيث جعلوا كتاب اللّه تعالى تابعا لارائهم و على هذا التقدير قوله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّه وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ شامل لاثنين و «١» سبعين فرقة من اهل الأهواء الذين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يدّعون الايمان و يقولون آمَنَّا بِاللّه وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بجميع ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و سلم و انزل اللّه تعالى فى كتابه و تواتر به الاخبار-

(١) مجرد هذا القول و ان كان شاملا لكن بعض المعطوفات عليه مثل قوله وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الاية مختص بمن يجوز التقية في مذهبه من اهل الأهواء دون من يجاهر بها- فلا يصح الشمول لجميع الفرق-

قلت عدم شمول بعض المعطوفات لجميع الفرق لا ينافى نزول الآيات في جميع اهل الأهواء كما ان قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ شامل للرجعيات و البائنات و قوله تعالى وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ مختص بالرجعيات- و ايضا المختص ببعض الفرق انما هو وجوب التقية و اما جواز التقية عند استيلاء المخالفين و خوف القتل فغير مختص حتى انه جاز عند اهل السنة ايضا التقية عند استيلاء الكفار و خوف القتل حيث قال اللّه تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً و قال اللّه تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ- و لا شك ان اللّه سبحانه لكن اهل الحق اهل السنة و الجماعة في البلاد و جعل اهل الأهواء مغلوبين مقهورين غالبا خائفين على أنفسهم و أموالهم فكلهم يقولون بحضور اهل السنة خوفا منهم على حسب عقائدهم- منه رحمه اللّه

يُخادِعُونَ اللّه وَ الَّذِينَ آمَنُوا- بتأويلاتهم النصوص- وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ بل يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ- فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و زيغ- فَزادَهُمُ اللّه مَرَضاً و زيغا حيث القى الشيطان في قلوبهم التأويلات الفاسدة- وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ على اللّه و يكذّبون ظاهر النصوص-

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتحريف الكلم عن مواضعه و تعويج الدين القويم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعنى اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم و اهل بيته و جمهور الناس و هم اهل السنة و الجماعة فانهم اكثر الناس و للاكثر حكم الكل و يد اللّه على الجماعة رواه الترمذي عن ابن عباس مرفوعا-

قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ فانه لا يساعد عقائدهم الآراء قالوا ذلك في شأن الصحابة صريحا كالروافض و الخوارج ينسبون اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم و اهل بيته الى السفه و الكفر او قالوا ذلك دلالة حيث خالفوهم و زعموا ان تلك العقائد غير معقولة- وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الاية بيان لما في تلك المذاهب من التقية خوفا من الذين استخلفهم اللّه تعالى في الأرض غالبا- و مكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم على حسب وعده-

و قوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً يحتمل ان يكون مثلا للفريقين من المنافقين و اهل الأهواء و ايمان اهل الأهواء و لمعان نوره مقتصر على ما حول المستوقد و قربه يعنى فى الدنيا حيث يلتبس الحق بالباطل فاذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم- و يحتمل ان يكون مثلا للمنافقين خاصة و اصحاب الصيب مثل اهل الأهواء و كلمة او للتوزيع كما في قوله تعالى أَنْ يُقَتَّلُوا او يُصَلَّبُوا او تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ او يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ- و اللّه تعالى اعلم

فان قيل كيف يتصور حمل هذا المثل على اهل الأهواء و لم يكونوا في زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم-

قلت خطابات القران عامة للموجودين و من سيوجد اجماعا- أ ليس قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ في حق اهل الأهواء-

فان قيل نزول هذه الآيات كان في حق المنافقين كما تدل عليه الأحاديث و تفاسير السلف-

قلت نعم لكن خصوص المورد لا يقتضى تخصيص عموم اللفظ- فالايات و ان كانت نازلة في حق المنافقين لكنها بعموم ألفاظها شاملة لاهل الأهواء و اللّه تعالى اعلم-.

٢١

يا أَيُّهَا النَّاسُ- خطاب لجميع الناس من اهل الخطاب عموما الموجودين و من سيوجد تنزيلا لهم منزلة الموجودين لما تواتر من دينه صلى اللّه عليه و سلم ان مقتضى أحكامه و خطابه شامل للقبيلتين تابت الى يوم القيمة و كذا كل جمع او اسم جمع محلى باللام و يدل عليه استدلال الصحابة بعمومها شائعا قال ابن عباس- يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب اهل مكة و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب اهل المدينة فان اهل مكة لمّا كان أكثرهم كفارا و المؤمنون كانوا هناك قليلا خاطب بما يعم القبيلتين- و اهل المدينة لما كان أكثرهم مؤمنون خاطبهم بعنوان الايمان إظهارا لشرفهم

اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فان التربية باعثة للعبادة و شكر المنعم و ان كان اللّه تعالى في نفسه مستحقا لها- و الخطاب بوجوب العبادة شامل للمؤمنين و الكفار- فالكفار مأمورون بها بعد إتيان شرطه من الايمان-

و قال ابن عباس- ما ورد في القران من العبادة فمعناه التوحيد فالكفار مأمورون بإتيانها و المؤمنون بالثبات عليها-

الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة جرت للتعظيم و التعليل- و الخلق إيجاد الشي ء على غير مثال سبق-

وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يتناول كل ما تقدم الإنسان- و الجملة خرجت مخرج المقرر عندهم لاعترافهم به قال اللّه تعالى- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه- او لتمكنهم من العلم بأدنى تأمل

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) حال من فاعل اعبدوا اى راجين الوقاية من عذاب اللّه- و حكم اللّه من ورائكم يفعل ما يشاء فان الايمان يقتضى الخوف و الرجاء او راجين ان تدخلوا في زمرة المتقين على ان التقوى هو التنزه عن المحرمات المستلزم لاتيان الواجبات بل التبرؤ عن كل شى ء سوى اللّه تعالى- او من مفعول خلقكم يعنى مرجوا منكم التقوى اى في سورة من يرجى منه نظرا الى كثرة الدواعي اليه- و قيل تعليل اى لكى تتقوا-

قال البيضاوي و هو ضعيف لم يثبت في اللغة- قال سيبويه- لعلّ و عسى حرفا ترج- و هى من اللّه تعالى واجب-

قلت ان كان كذلك لزم وجود التقوى من الناس «١» كلهم و ليس كذلك اللّهم الا ان يقال المراد خلقكم واجبا صدور التقوى منكم و لو من بعضكم- و تعليل العبادة بالنعم السابقة تدل على ان الثواب فضل من اللّه تعالى غير مستحق بالعبادة فانه كالاجير استوفى اجره قبل عمله و على ان الطريق الى معرفته تعالى النظر فى صنعه يعنى الى معرفة صفاته- و اما معرفة ذاته فامر وهبى-.

(١) لا يخفى ان مدلول لعل على تقدير كونه للوجوب لزوم وجود التقوى من كلهم فلا محذور فيه لامران فليفهم قلت العبادة عبارة عن إتيان امور تدل على الخضوع من الواجبات و المندوبات و التقوى عبارة عن الاجتناب عما نهى اللّه و كلا الامرين متفاوتان كما يدل عليه ترتيب التقوى على العبادة و لا لزوم بينهما فان من الناس من يأتى بالعبادات و يفرط فيها حتى يبلغ الزهد و لا ينتهى انتهاء كليا عما نهى عنه قال اللّه تعالى وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّه فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها- فلزوم وجود التقوى من العابدين كلهم ايضا ممنوع الا ترى الى بعض الزهاد من الجهال يعملون الرياضات الشاقة و العبادات و يتركون الجمع و الجماعات- منه رحمه اللّه

٢٢

الَّذِي جَعَلَ اى صيّر لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً اى بساطا ذلولا يمكن عليها القرار صفة ثانية او مدح منصوب او مرفوع او مبتدأ خبره فلا تجعلوا-

وَ السَّماءَ اسم جنس يقع على الواحد و الكثير- بِناءً مصدر سمى به المبنى يعنى قبّة مضروبة عليكم-

وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فان المطر ينزل من السماء الى السحاب و منه الى الأرض عطف على جعل-

فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ خروج الثمار بقدرة اللّه تعالى لكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ظاهرا عادة- و من للتبعيض او التبيين- و رزقا مفعول بمعنى المرزوق و لكم صفة له- او رزقا مصدر للتعليل و لكم مفعوله اى رزقا إياكم-

فَلا تَجْعَلُوا للّه أَنْداداً اى أمثالا تعبدونهم كعبادة اللّه- او أضدادا و اللّه برى ء من المثل و الضد- و الجملة متعلق باعبدوا- نهى معطوف عليه او نفى منصوب بإضمار أن جواب له- او منصوب بلعل كما في قوله تعالى-

لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ- و المعنى ان تتقوا ان لا تجعلوا للّه أندادا- او متعلق بالذي جعل ان كان استينافا على انه نهى وقع خبرا على تأويل مقول فيه لا تجعلوا و الفاء للسببية ادخلت لتضمن المبتدأ معنى الشرط و المعنى من جعلكم بهذه النعم ينبغى ان لا يشرك-

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) حال من ضمير تجعلوا- و مفعول تعلمون مطرح- اى حالكم انكم من اهل العلم و الرأى لو تأملتم ادنى تأمل ما أشركتم- و المقصود منه التوبيخ دون التقييد او المفعول محذوف اى و أنتم تعلمون اى ان خالق هذه الأشياء واحد حيث تعترفون قال اللّه تعالى- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه- ثم لما بين اللّه سبحانه طريق معرفته التوحيد و هو النظر في صنعه- بين طريق معرفة رسالة النبي صلى اللّه عليه و سلم و حقيّة القران المشتمل على جميع الايمائيات فقال.

٢٣

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ شك مِمَّا نَزَّلْنا يعنى نجما نجما بحسب الوقائع- و هذا موجب لريبهم قياسا على كلام الشعراء و قولهم لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً- فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه- ازاحة للشبهة و إلزاما للحجة

عَلى عَبْدِنا- محمد صلى اللّه عليه و سلم أضاف الى نفسه تنويها لذكره- و تنبيها على انقياده لحكمه-

فَأْتُوا امر تعجيز بِسُورَةٍ و هى قطعة من القران معلومة الاول و الاخر منقولة من سور المدنية لانها محيطة بطائفة من القران- او من السورة بمعنى الرتبة فانه يحصل بها للقارى رتبة و شرف- و المراد بقدر سورة و هى ثلث آيات قصار-

مِنْ مِثْلِهِ صفة سورة اى كائنة من مثله- و الضمير لما نزل و من للتبعيض او للتبيين او زائدة- اى مثله في البلاغة و حسن النظم- او لعبدنا و من للابتداء اى كائنة من مثل هذا الرجل الأمي- او صلة فاتوا و الاول اولى كيلا يوهم إمكان صدوره من غير الأمي و القران معجز في نفسه- لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً- وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ و استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها و تزعمون انها تشهد لكم يوم القيامة او ادعوا ناسا يحضرونكم- مِنْ دُونِ اللّه اى دون أوليائه يعنى فصحاء العرب ليشهدوا لكم ما أتيتم به مثله فان العاقل لا يرضى لنفسه ان يشهد بصحة ما اتضح فساده-

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) انه من كلام البشر و الجواب محذوف دل عليه ما قبله.

٢٤

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فيما مضى وَ لَنْ تَفْعَلُوا معترضة بين الشرط و الجزاء- و فيه اخبار بالغيب اعجاز اخر

فَاتَّقُوا اى لما ظهر انه معجز فامنوا به و اتقوا بالايمان النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا اى ما يوقد به النار النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ او المضاف محذوف اى وقودها احتراق الناس و الحجارة اخرج عبد الرزاق- و سعيد بن منصور- و ابن جرير- و ابن المنذر- و الحاكم و صححه و البيهقي و غيرهم عن ابن مسعود و ابن جرير عن ابن عباس

و اخرج مثله ابن ابى حاتم عن مجاهد و ابى جعفر و لم يحك خلافا في الصدر الاول- انها حجارة الكبريت الأسود- و قيل جميع الحجارة لتدل على عظم تلك النار-

و قيل أراد به الأصنام- و ذكر اللّه تعالى ان و هى للشك مكان إذا- فانه تعالى لم يكن شاكا تهكما بهم او خطابا معهم على حسب ظنهم فان العجز قبل التأمل لم يكن متحققا عندهم

أُعِدَّتْ اى هيئت لِلْكافِرِينَ (٢٤) استيناف او حال بإضمار قد من النار لا من ضمير وقودها للفصل بالخبر- عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال- ناركم جزء من سبعين جزء من نار جهنم- متفق عليه و عن النعمان بن بشير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أهون اهل النار عذابا من له نعلان و شرا كان من نار يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل ما يرى ان أحدا أشد منه عذابا و انه لاهونهم عذابا- متفق عليه- و عن ابى هريرة رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أوقد على النار الف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها الف سنة حعى ابيضت- ثم أوقد عليها الف سنة حتى اسودت فهى سوداء مظلمة- رواه الترمذي- و عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول- أنذرتكم النار أنذرتكم النار- فما زال بقولها حتى لو كان في مقامى هذا سمعه اهل السوق و حتى سقطت خميصة كانت عليه عند رجليه- رواه للدارمى و في الاية و الأحاديث دليل على ان النار موجودة الان-.

٢٥

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على الجملة السابقة على ما جرت به العادة الالهية من تشفيع الترهيب بالترغيب و بالعكس لا عطف الفعل نفسه حتى يطلب المشاكلة او على فاتّقوا يعنى فامنوا فاتقوا النار و استبشروا بالجنة و لم يخاطبهم بالبشارة صريحا تفخيما لشأنهم بعد الايمان و التقوى و إيذانا بانهم احقّاء ان يبشروا و يهنئوا- و البشارة الخير السّارّ- و اما قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فعلى التهكم و قيل يستعمل في الخير و الشر لكن في الخير اغلب

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و هى من الصفات الغالبة الجارية مجرى الأسماء و الأعمال الصالحة ما حسّنه الشرع- و تأنيث الصالحات على تأويل الخصلة-

قال البغوي قال معاذ رض- العمل الصالح الذي فيه اربعة أشياء العلم و النية و الصبر و الإخلاص- و قال عثمان بن عفان و عملوا الصّلحت اى أخلصوا الأعمال عن الرياء- و فيه دليل على ان الأعمال خارج عن الإيمان- و اشعار بان السبب التام في استحقاق البشارة الجمع بين الوصفين

أَنَّ لَهُمْ منصوب بنزع الخافض و إفضاء الفعل اليه او مجرور بإضماره

جَنَّاتٍ جمع جنة بمعنى البستان سميت لاجتنانها بالأشجار-

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اى تحت أشجارها و مساكنها الْأَنْهارُ اى ماؤها على الإضمار- او المجاز او أسند الجري إليها مجازا- و في الحديث انهار الجنة تجرى من غير أخدود- أخرجه ابن المبارك- و ابن جرير و البيهقي- و اللام للجنس

كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا صفة ثانية لجنات او خبر مبتدأ محذوف اى فهم قالوا او جملة مستانفة تزيح حال أثمارها- و كلّما منصوب على انه ظرف لقالوا و رزقا مفعول به- و من الاولى و الثانية للابتداء او الثانية للبيان وقعتا موقع الحال اى كل حين رزقوا اى أطعموا مرزوقا مبتدأ من الجنة مبتدأ من ثمرة او ذلك المرزوق ثمرة فصاحب الحال الاولى رزقا و صاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال- و هذا اشارة الى نوع ما رزقوا المستمر بتعاقب افراده- او كان المضاف في الخبر محذوفا اى هذا مثل الذي رزقنا فحذف المثل اشعارا على استحكام الشبه كانه هو بعينه

مِنْ قَبْلُ اى من قبل هذا يعنى في الدنيا جعلت متشابهة بثمار الدنيا كيلا يتنفر الطباع عن غير المألوف- و يظهر المزية- و قيل الثمار في الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم و الداعي لهم على تكرار هذا القول كلما رزقوا فرط تبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة و التشابه البليغ في الصورة-

وَ أُتُوا بِهِ بالرزق مُتَشابِهاً و على الاول الضمير راجع الى ما رزقوا في الدارين- و الجملة اعتراض يقرر ما سبق- قال ابن عباس و مجاهد متشابها في الألوان مختلفا في الطعوم- و قال الحسن و قتادة متشابها يشبه بعضها بعضا في الجودة يعنى ثمار الجنة كلها خيار لا رذالة فيها- روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- اهل الجنة يأكلون و يشربون و لا يبولون و لا يتغوّطون و لا يمتخطون و لا يبزقون يلهمون الحمد و التسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء و رشحهم المسك- رواه مسلم- و للاية محمل اخر ان يكون المعنى هذا ثواب الذي رزقنا من قبل في الدنيا من المعارف و الأعمال نظيرة في الوعيد ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- روى الترمذي عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء و انها قيعان و ان غراسها هذه يعنى التسبيح و التحميد و التكبير- قوله تعالى و أتوا به بالرزق متشابها اى مماثلا لمعارفهم و طاعاتهم في الشرف و المزية متفاوتا على حسب تفاوت أعمالهم- روى الترمذي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام- و عن عبادة بن الصامت نحوه و فيه ما بين كل درجتين كما بين السماء و الأرض- ذكره صاحب المصابيح في الصحاح و رواه الترمذي

وَ لَهُمْ فِيها اى في الجنان أَزْواجٌ نساء من حور العين و قال الحسن- هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا-

مُطَهَّرَةٌ من الغائط و البول و الحيض و البصاق و المخاط و المنى و كل قذر و من مساوى الأخلاق فان التطهير يستعمل في الأجسام و الافعال و الأخلاق- و المطهرة ابلغ من طاهرة و متطهرة للاشعار بان اللّه طهرهن- و الزوج يقال للذكر و الأنثى و في الأصل يقال لماله قرين من جنسه كزوج الخف-

وَ هُمْ فِيها فى الجنان خالِدُونَ (٢٥) دائمون لا يموتون فيها و لا يخرجون منها-

لما ذكر اللّه سبحانه نعماء الجنة أزال عنهم خوف الزوال فانه منغض للنعمة روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- ان أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درّى في السماء اضاءة لا يبولون و لا يتغوّطون و لا يتفلون ... و لا يمتخطون امشاطهم الذهب و رشحهم المسك و مجامرهم الالوة و أزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء- متفق عليه و عن ابى سعيد رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أول زمرة تدخل الجنة يوم القيمة صورة وجوهم صورة القمر ليلة البدر و الزمرة الثانية على لون احسن الكواكب فى السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة ... يرى مخ سوقهن دون لحومها و دمائها و حللّها-

رواه الترمذي و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو ان امرأة من نساء اهل الجنة اطلعت على الأرض لاضاءت ما بينهما- و لملئت ما بينهما ريحا- و لنصيفها على راسها خير من الدنيا و ما فيها- رواه البخاري- و عن اسامة بن زيد يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- الأهل من مشمر للجنة و ان الجنة لا خطر لها هى و رب الكعبة نور يتلالا و ريحانة تهتز و قصر مشيد و نهر مطرد .. و ثمرة نضيجة و زوجة حسناء جميلة و حلل كثيرة و مقام ابد في دار سليمة و فاكهة و خضرة و صبرة و نعمة في محلة عالية بهيئة- قالوا نعم يا رسول اللّه نحن المشمرون لها قال قولوا ان شاء اللّه رواه البغوي-

و روى عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اهل الجنة جرد- مرد كحلى لا يفنى شبابهم و لا يبلى ثيابهم-

و روى مسلم نحوه- و عن على رضى اللّه عنه قال ان في الجنة لسوقا ليس فيها بيع و لا شرى الا الصور من الرجال و النساء و إذا اشتهى الرجل صورة دخلها و ان فيها لمجتمع حور العين ينادين بصوت لم يسمع الخلائق بمثلها نحن الخالدات فلا نبيد ابدا- و نحن الناعمات فلا نبوس ابدا و نحن الراضيات فلا نسخط فطوبى لمن كان لنا و كناله او نحن له- رواه البغوي- و روى الترمذي نحوه عنه مرفوعا و روى احمد بن منيع عن ابى معاوية نحوه مرفوعا-

و روى مسلم عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم و ثيابهم فيزدادون حسنا و جمالا فيرجعون الى أهليهم و قد ازدادوا حسنا و جمالا فنقول لهم أهلوهم و اللّه لقد ازددتم بعدنا حسنا و جمالا فيقولون و أنتم و اللّه لقد ازددتم بعدنا حسنا و جمالا-

قلت و لما كان مطمح نظر اهل الدنيا في النعماء منحصرا على المساكن و المطاعم و المناكح اقتصر اللّه تعالى و نبيه صلى اللّه عليه و سلم غالبا في الذكر عليها و في الحقيقة نعماء اهل الجنة أجل و أعلى- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر- و اقرؤا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ- متفق عليه و عنه مرفوعا- موضع سوط في الجنة خير من الدنيا و ما فيها- متفق عليه و عن ابى سعيد مرفوعا- يقول اللّه أحل عليكم رضوانى فلا أسخط بعده ابدا- متفق عليه- و روى مسلم في حديث طويل عن جابر بن عبد اللّه مرفوعا فيرفع الحجاب فينظرون الى وجه اللّه فما اعطو شيئا أحب إليهم من النظر الى ربهم ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ- و عن ابن عمر- قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ادنى اهل الجنة منزلة لمن ينظر الى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة الف سنة و أكرمهم على اللّه من ينظر الى وجهه غدوة و عشية ثم قرا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ- رواه احمد و الترمذي- اخرج ابن جرير عن السدى الكبير بأسانيده انه لما ضرب اللّه تعالى هذين المثلين للمنافقين قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً و قوله او كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ- قال المنافقون اللّه أعلى و أجل من ان ان يضرب هذه الأمثال فانزل اللّه سبحانه.

٢٦

إِنَّ اللّه لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً و قيل ان اللّه تعالى ذكر الهة المشركين فقال و إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً و ذكر كيدهم فجعله كبيت العنكبوت فقالوا ارايت اللّه ذكر الذباب و العنكبوت أخرجه الواحدي من طريق عبد الغنى عن ابن عباس و عبد الغنى واه جدّا- و الاية مدنية و معارضة المشركين كانت بمكة- فالاول أصح اسنادا و معنى- و الحياء انقباض النفس من القبيح مخافة الذم و هو الوسط بين الوقاحة و هو الجراة و عدم المبالاة بالقبائح و الخجل و هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا- و إذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث- ان اللّه يستحيى من ذى الشيبة المسلم ان يعذبه- أخرجه البيهقي في الزهد عن انس- و ابن ابى الدنيا عن سلمان- و حديث ان اللّه حيى كريم إذا رفع اليه العبد يديه ان يردهما صفرا-

رواه ابو داود و الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه عن سلمان فالمراد به الترك اللازم للانقباض- و إيراد لفظ الحياء هاهنا مع انه ترك مخصوص بالقبيح- و ضرب المثل ليس بقبيح مبنى على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة و استقر في أذهانهم نحو جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها- و ضرب المثل احتمال و أصله وقع شى ء على اخر- و ان بصلتها مجرور عند الخليل بإضمار من- و منصوب عند سيبويه بافضاء الفعل اليه بعد حذفها- و ما ابهامية يزيد للنكرة إبهاما و يسد عنها طريق التقييد- او مزيدة وضعت لان يذكر مع غيرها فتزيد له قوة- و البعوض فعول من البعض بمعنى القطع غلب على صغار البق كانها بعض البق و التاء للوحدة- و هو عطف بيان لمثلا- او مفعول ليضرب- و مثلا حال او هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل-

فَما فَوْقَها عطف على بعوضة- و معناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب و العنكبوت يعنى لا يستحيى عن ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو اكبر منه- او ما فوقها في الحقارة يعنى ما دونها في الجثة

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اى المثل او ان يضرب هو الْحَقُّ الثابت على ما ينبغى الذي لا يجوز إنكاره يقال ثوب محقق اى محكم نسجه فان الشي ء الحقير لا بد ان يمثل بالحقير- كالعظيم بالعظيم و ان كان الممثل أعظم من كل عظيم كائنا

مِنْ رَبِّهِمْ و اما الَّذِينَ كَفَرُوا فلا يعلمون ذلك لكمال جهلهم

فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللّه بِهذا مَثَلًا ما استفهامية مبتدأ و ذا بمعنى الذي مع صلته خبره- او المجموع اسم واحد بمعنى اى شى ء منصوب المحل على المفعولية- و الارادة صفة ترجح أحد المقدورين على الاخر و في هذا استحقار و مثلا منصوب على التميز او الحال

يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً جواب ما ذا اى إضلال كثير و إهداء كثير- و كثرة كل فريق بالنظر الى أنفسهم و وضع الفعل موضع المصدر للاشعار بالحدوث و التجدد يعنى كلما نزلت اية فامنت به قوم فاهتدوا و كفرت به قوم فضلوا-

وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الخارجين عن حد الايمان و عن امر اللّه تعالى يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها و الفسق في اصطلاح الشرع ارتكاب الكبيرة و له درجات ثلث أعلاها الكفر بما يجب الايمان به فان الكفر أعظم الكبائر و هو المراد بالفسق في القران غالبا- ثانيها انهماك الكبائر- ثالثها ارتكاب الكبيرة او الإصرار على الصغيرة مستقبحا إياها.

٢٧

الَّذِينَ صفة للفاسقين للذم و تقرير الفسق- او للتقييد ان كان المراد بالفاسقين أعم من الكفار و العصاة

يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه الذي عهد إليهم في التورية ان يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و يبينوا نعته و لا يكتمونه او الذي عهد إليهم بقوله- أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى - و النقض في الأصل فسخ تركيب الحبل يستعمل في ابطال العهد لان العهد يستعار له الحبل لما فيه ارتباط المتعاهدين-

مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ- اى العهد- و الميثاق مصدر بمعنى الوثوق- او اسم لما وثق به العهد من الآيات و الكتب و من للابتداء فان ابتداء النقض بعد الميثاق

وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّه بِهِ أَنْ يُوصَلَ- ان يوصل بدل من الضمير المجرور اى امر اللّه بان يوصل الايمان بالأنبياء كلهم و يقال لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ- و هم يقطعونه و يقولون نؤمن ببعض الكتاب و نكفر ببعض- او يقطعون كل ما امر اللّه به ان يوصل كالارحام و غيرها

وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي و الكفر بالقران و بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و يهلكون الحرث و النسل

أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) المغبونون حيث اشتروا الفساد بالصلاح- و لما ذكر أوصاف الكفار و مقالاتهم الخبيثة خاطبهم على سبيل الالتفات باستفهام إنكاري عن الحالة التي يقع عليها الكفر لان كل حالة معتورة عليهم من الأحوال الموت و الحيوة بعدها- و الموت بعدها- و الحيوة بعدها و الرجوع الى اللّه تعالى و غيرها من الأحوال حادثة صادرة من الواجب الوجود مقتضية للايمان به تعالى نعمة من اللّه مقتضية لشكره دون كفرانه ففيه انكار و توبيخ على كفرهم بأبلغ الوجوه فقال.

٢٨

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه مع فيام الدلائل على وجوده وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً- عناصر و اغذية و اخلاطا و نطفا و علقات و مضغات و أجساد «١» ابلا روح- و فيه دليل على ان الإنسان و ان كان مركبا من الاجزاء العشرة- خمسة منها من عالم الخلق- العناصر الاربعة و النفس الحيواني

(١) فى الأصل أجساد

المنبعثة عنها و خمسة من عالم الأمر- القلب و الروح و السر و الخفي و الأخفى كما يظهر بالفراسة «١» الصحيحة الاسلامية لكن العمدة فيها العناصر الاربعة لا سيما عنصر التراب و لذا قال اللّه تعالى- خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ- و يقول الكافر اى الشيطان ا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً

(١) الفراسة الصحيحة الاسلامية انما يدل على ان هنالك شيئا غير الجسد يسمى بالقلب تارة و بالروح اخرى و بالسر مرة و بالخفي اخرى فهى جهات و اعتبارات للنفس لا انها حقائق- مجازة بجبالها و اجزاء اولية من الإنسان بل الآيات و الأحاديث و الآثار كلها ناطقة بانحصار الإنسان في جزئين جسم و روح و ان تركب الجسم من اجزاء اخر ثانوية و الروح اعتبر باعتبارات فافهم- لا يخفى ان الثواب و العقاب في القبر انما هو للمكلف المطيع او العاصي و بسائط الاجزاء ليست بمكلفات و لو جاز الجزاء للاجزاء المكلف من دون التأليف لجاز يوم القيامة ايضا فلا يحتاج الى الحشر و غاية ما يثبت من الآيات و الأحاديث ان لبسائط الاجزاء شعورا او حياة بمعنى الإدراك لا ان لها تكليفا و جزاء و ثوابا و عقابا بل يستفاد منها انها غير مكلفة و لا ينال منها العصيان فلابد من تتميم مد الكلام ليصح-

قلت دلالة الآيات و الأحاديث على انحصار الإنسان في الجزئين ممنوع بل قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا تدل على ان الروح امر مجرد ليس من قبيل الأجسام و لا يحيط به علم العوام و حديث براء بن عازب و ابى هريرة و غيرهما مرفوعا إذا حضر المؤمن أنت ملائكة الرحمة بحرير بيضاء و أكفان الجنة فيقولون أيتها النفس الطيبة اخرجى الى مغفرة اللّه و رضوانه فتخرج تسيل كما تسيل الماء من السقاء فيجعلونها في ذلك الكفن-

و إذا حضر الكافر يقول أيتها النفس الخبيثة اخرجى الى منحط اللّه و غضبه فيجعلونها في المسوح يدل على ان النفس امر جسمانى حتى يجعل في الحرير او المسوح و من هذا قال المحققون ان النفس جسم لطيف منبعث من العناصر الاربعة سار في سائر البدن فالروح يتعلق و يمتلى في النفس كما تمتلى الشمس في المراءة و يتصرف في البدن بتوسط النفس لاجل سريانها فيه و عند الموت ينزع النفس من البدن فحينئذ ينقطع تعلق الروح بالبدن و لا يزال تعلق الروح بالنفس ابدا و هى اى النفس تعذب في القبر و يتالم به الروح و هى المشار اليه بانا و هى المكلف بالتكليفات الشرعية لكن يشترط سريانها في البدن هذا و اما تعدد لطائف عالم الأمر فالشرع عنه ساكت و يثبت ذلك بكشف الأولياء و كلامهم فيه مختلف منهم من لم بظهر عليه منها الا واحد فزعم انه شى ء واحد يسمى تارة بالقلب و تارة بالروح و نحو ذلك كما قال المعترض و منهم من ظهر عليه منها اثنان او ثلثة او اربعة و ظهر على المجدد رض خمسة لكل منها كالات على حدة فمن شاء زيادة الوقوف فليطالع كلام المجدد رض و المعتبر انما هو شهادة الإثبات و الاختلاف مبنى على حدة البصيرة و رفعة الدرجة و فوق كل ذى علم عليم- منه نور اللّه مرقده-

- و لذا اختص الإنسان بروية اللّه سبحانه دون غيره- و يزعمون المشاهدة القلبية كالمطروح في الطريق-

فَأَحْياكُمْ بتأليف الأرواح الخمسة و توديعها فيكم و عطف بالفاء لعدم التراخي بين الاحياء و الموت اللازم للعناصر-

ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد انقضاء اجالكم- وعد الاماتة الاولى من النعم لان الوجود بعد العدم خير محض فلمناسبة بالموجود الحقيقي- و الاماتة الثانية لكونها وصلة الى الحيوة الابدية

ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم ينفخ في الصور

و اما في القبر فليس بحياة فان الحيوة عبارة عن تأليف الاجزاء العشرة و ليست في القبور- و انتفاؤها لا ينافى الثواب و العذاب في القبر فانهما على بسائط الاجزاء و لا سبيل الى إنكاره لمن يؤمن بقوله تعالى- وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ- و قوله تعالى- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ- و قوله صلى اللّه عليه و سلم- ان الجبل ينادى الجبل باسمه اى فلانا هل مربك أحد ذكر اللّه فاذا قال نعم استبشر الحديث- رواه الطبراني عن ابن مسعود- و قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها- و ليس المراد التسبيح و السجود بدلالة الحال لان قوله تعالى وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ قوله تعالى وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ- يأبى عنه

ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) بعد الحشر فيجزيكم بأعمالكم- قرا يعقوب ترجعون في كل القران بفتح التاء و الياء على صيغة المبنى للفاعل- و الاية مدنية خطاب بالكفار و المنافقين من اليهود العالمين بالبعث و النشور- و ان كان خطابا لمنكرى البعث فذلك لتمكنهم من العلم بالبعث بعد نصب الدلائل على صدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم و للتنبيه على ان من أحياهم اولا قادر على ان يحييهم ثانيا.

٢٩

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ اى لانتفاعكم في الدنيا في مصالحكم بوسط او بغير وسط و في دينكم بالاستدلال و الاعتبار

ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بيان للنعمة الاخرى مرتبة على الاولى

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قال ابن عباس و اكثر المفسرين من السلف اى ارتفع الى السماء- فهو من المتشابهات نحو الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - و قال ابن كيسان و الفراء و جماعة النحويين اى اقبل على خلق السماء و قصد من قولهم استوى اليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير ان يلوى على شى ء-

قال البيضاوي كلمة ثم لعله لتفاوت ما بين الخلقتين و فضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا- لا للتراخى في الوقت فانه يخالف ظاهر قوله تعالى وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها- فانه تدل على تأخر دحوى الأرض المتقدم على خلق ما فيها من خلق السماء و تسويتها و ذكر البغوي في تفسير قوله تعالى وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها- انه قال ابن عباس خلق اللّه الأرض بأقواتها من غير ان يدحوها قبل السماء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ثم دحى الأرض بعد ذلك-

و قيل معناه و الأرض مع ذلك دحيها كقوله تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ اى مع ذلك- و ذكر البغوي في حم السجدة- خلق الأرض في يومين يوم الأحد و الاثنين و قدر فيها أقواتها في يومين يوم الثلثاء و الأربعاء فهما مع الأحد و الاثنين اربعة ايام فقال وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ... فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ يوم الخميس و الجمعة- و هذا هو المستفاد من اقوال السلف و اللّه تعالى اعلم-

فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ اى خلقهن مستويات لا فطور فيها و لا صدوع- و هن ضمير السماء ان فسرت بالاجرام لانه جمع او في معنى الجمع و سبع سموت بدل منه- و الا فمبهم تفسيره ما بعده كقولهم ربّه رجلا-

فان قيل أ ليس اصحاب الارصاد اثبتوا تسعة أفلاك كلية منها الفلك الا طلس فلك الافلاك و فلك الثوابت الفلك التاسع «١» لا جزء لهما-

(١) الصحيح الثامن لعله تحريف من الناسخ ١٢ [.....]

و اثبتوا للافلاك السبعة اجزاء منها ما هو مركب من ثلثة أفلاك خارج المركز و فيه الكوكب و مثمما حاويا و متمما محويا و منها ما هو مركب من خمسة خارج المركز و متممين حاويين و كذا محويين و أفلاك اخر غير مجوفة ارتكزت فيها الكواكب المتحيرة يسمونها- فلك التدوير-

قلت انما اثبتوا عدد الافلاك بعدد حركات الكواكب- فانهم لما راوا جميع الكواكب و الشمس دائرة في يوم و ليلة اثبتوا فلك الافلاك حاوية على جميع الافلاك محركة لكلها بالقسر من المشرق الى المغرب- و لما راوا حركة جميع الكواكب سوى السبعة على نسق واحد و حركات السبعة على أنحاء مختلفة في السرعة و البطء و في العرض من البروج الشمالية الى الجنوبية و بالعكس اثبتوا على حسب حركاتها اعداد الافلاك- و لما راوا حركة السيارات غير الشمس تارة سريعة و تارة بطية و تارة الى المشرق و تارة الى المغرب و تارة متوقفة «١»

(١) لا يظهر جهة التوقف على هذه المقدمة فانه لو فرض الانفصال فيما بين سطوحها لا وجبت الحركات أفلاكا متفاصلة بعددها نعم لزوم تحرك المحوى من تحرك الحاوي انما يتم على التلاصق دون التفاصل و هو امر اخر وراء تعدد الافلاك-

و لذا يسمونها متحيرة أثبتوا التدويرات- فارتقى عدد الافلاك الى قريب من ثلثين- من أراد الاطلاع عليه فليرجع الى علم الهيئة- و هذا اعنى اثبات الافلاك على حسب حركات الكواكب باطل مبنى على امور باطلة- منها ادعاؤهم بامتناع الخرق و الالتيام على الاجرام الفلكية- و منها ان الافلاك كلها متلاصقة بعضها ببعض كتلاصق قشور البصل بعضها على بعض- و ذلك يستلزم تحرك الافلاك جميعها بحركة فلك الافلاك قسرا و غير ذلك- و كل ذلك باطل فان انشقاق السماء جائز عقلا واجب سمعا- قال اللّه تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ- و نحو ذلك و كذا عدم تلاصق السموات و بعد ما بين كل سمائين ثابت شرعا عن ابى هريرة قال بينما نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم جالس و أصحابه إذا اتى عليهم سحاب فقال نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم هل تدرون ما هذا قالوا اللّه و رسوله اعلم قال هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها اللّه الى قوم لا يشكرونه و لا يدعونه- ثم قال هل تدرون ما فوقكم قالوا اللّه و رسوله اعلم قال فانها الرقيع سقف محفوظ و موج مكفوف ثم قال هل تدرون ما بينكم و بينها قالوا اللّه و رسوله اعلم قال بينكم و بينها خمسمائة عام ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك قالوا اللّه و رسوله اعلم قال سما ان بعد ما بينهما خمس مائة سنة ثم قال كذلك حتى عدّ سبع سموات ما بين كل سمائين ما بين السماء و الأرض- ثم قال هل تدرون

قلت وجه التوقف على كون الافلاك متلاصقة انهم زعموا ان لكل كوكب و كذا للشمس و القمر حركتان حركة قسرية تابعة لحركة الفلك التاسع بها يتم دورانها في يوم و ليلة و عليها ابتناء الليل و النهار-

و حركة طبعية الى المشرق بها يظهر اختلاف حركاتها و عليها ابتناء اختلاف الفصول و اختلاف الشهور و غير ذلك بل لكل كوكب بالقسر حركات شتى أحدها ما ذكر بقسر فلك الافلاك ثانيها بعدد المتممات الحاوية و المحوية و حركة الطبعي للمتحيرات انما هى حركة تدويراتها و ما ليس له تدوير فالحركة الطبعي حركة فلكها الذي ذلك الكوكب مرتكز فيه و الحركة القسرية لا يتصور بدون التلاصق و عندى في تحقيق هذا المقام مقال لا يسعه المقام و حاصله ان الكواكب و الشمس و القمر كلها في السماء الدنيا و لكل منها حركة على حدة مختلفة كل في فلك يسبحون سباحة السمك في الماء ليس شى ء منها بقسر فلك اخر- و يرتبط باختلاف حركات الكواكب اختلاف الليل و النهار و الفصول و غير ذلك و لهذا الكلام طول لا يسعه المقام- منه رحمه اللّه ما فوق ذلك قالوا اللّه و رسوله اعلم قال ان فوق ذلك العرش و بينه و بين السماء بعد ما بين السمائين- ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا اللّه و رسوله اعلم قال انها الأرض- ثم قال هل تدرون ما تحت ذلك قالوا اللّه و رسوله اعلم قال ان تحتها ارض اخرى ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع ارضين بين كل ارضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال و الذي نفس محمد بيده لو انكم دليتم بحبل الى الأرض السفلى لهبط على اللّه ثم قرا هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ- رواه احمد و الترمذي و قال الترمذي- قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الاية تدل على انه أراد لهبط على علم اللّه و قدرته و سلطانه- و علم اللّه في كل مكان و هو على العرش كما وصف نفسه في كتابه-

قلت قوله «١» صلى اللّه عليه و سلم لهبط على اللّه من المتشابهات كما انه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى من المتشابهات و لعل مراده صلى اللّه عليه و سلم لهبط على عرش اللّه بحذف المضاف

(١) غرض الترمذي ايضا انه من المتشابهات و انه ماول لكنه ذكر تأويلا لا يتوقف على كروية الافلاك و العرش و ايضا تأويله مطرد في جميع ما ورد من أمثاله في الأحاديث و الآثار فالفضل المتقدم-

وقراءة الاية تدل على ان المراد ما ذكره الترمذي فليفهم قلت نعم غرض الترمذي ايضا انه من المتشابهات وانه ماول وما ذكر الترمذي من التأويل لا يتوقف على كروية الافلاك وايضا تأويله مطّرد- لكن غرض المصنف ان كروية الافلاك المشهود عليها ببداهة الحسن ودوران الشمس والقمر لا ينافى هذا الحديث بل هذا التأويل الذي ذكرت يصاعده- فالتأويل الذي به يطابق النقل الحس والعقل اولى وليس فيه رد القول الترمذي وليس بيان احتمال آخر كما تدل عليه كلمة لعل- ولم يقل بل الصواب ونحو ذلك حتى يظهر منه رد قول الترمذي والله اعلم- منه رحمه اللّه

و هذا يدل على كون العرش و كذا ما فيه من السموات السبع كرويا حاويا لجميع جهات الأرض حتى انكم لو دليتم بحبل الى الأرض السفلى لهبط على السموات السبع و على عرش اللّه- و الصوفية العلية كما اثبتوا معيّة لا كيف لها و تجليات »٢» خاصا للّه سبحانه على قلب المؤمن و هو عرش اللّه سبحانه فى العالم الصغير- و اثبتوا تجليا مخصوصا بالكعبة الحسناء بيت اللّه و اختصاصا برب هذا البيت كذلك اثبتوا تجليا خاصا رحمانيا على العرش و هو قلب للعالم الكبير و ذلك التجلي هو المومى اليه بقوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و من ثم قيل تجوزا لهبط على اللّه- كما قال اللّه تعالى- يسعنى قلب عبدى المؤمن-

(٢) أقول لا معنى للتجلى عند التحقيق الا ظهور الصفات من العلم والقدرة وغيرها على وجه يكون مكشافا وعنوانا للذات فلا نزاع فيما بين الصوفية وغيرهم الا في اللفظ-

قلت حمل كلام العقلاء على النزاع اللفظي بعيد من العقلاء- منه رحمه اللّه

و روى الترمذي و ابو داود من حديث العباس و فيه- ان بعد ما بينهما يعنى السماء و الأرض اما واحدة و اما اثنان او ثلث و سبعون سنة و السماء التي فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه و أسفله كما بين سماء الى سماء ثم فوق ذلك ثمانية او عال بين أظلافهن و دركهن مثل

و قراءة الاية تدل على ان المراد ما ذكره الترمذي فليفهم قلت نعم غرض الترمذي ايضا انه من المتشابهات و انه ماول و ما ذكر الترمذي من التأويل لا يتوقف على كروية الافلاك و ايضا تأويله مطّرد- لكن غرض المصنف ان كروية الافلاك المشهود عليها ببداهة الحسن و دوران الشمس و القمر لا ينافى هذا الحديث بل هذا التأويل الذي ذكرت يصاعده- فالتأويل الذي به يطابق النقل الحس و العقل اولى و ليس فيه رد القول الترمذي و ليس بيان احتمال آخر كما تدل عليه كلمة لعل- و لم يقل بل الصواب و نحو ذلك حتى يظهر منه رد قول الترمذي و اللّه اعلم- منه رحمه اللّه ما بين سماء الى سماء ثم على ظهورهن العرش بين أسفله و أعلاه ما بين سماء الى سماء ثم اللّه فوق ذلك-

قلت هذا الاختلاف الوارد في الأحاديث في مسافة البعد اما باختلاف اعتبار السائرين- او المراد كثرة البعد لا تعيين المسافة- و قوله اما واحدة و اما اثنان او ثلث شك الراوي- و اللّه اعلم طال الكلام و حاصل المرام ان علم الهيئة باطل أساسا و بناء- و الجائز عقلا و الثابت شرعا ان الكواكب كلها مرتكزة في السماء الدنيا- قال اللّه تعالى وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ- كُلٌّ فِي فَلَكٍ اى فلك واحد يسبحون- حسب ارادة اللّه تعالى فى السرعة و البطوء و الجهة كما يسبح السمك في الماء فحينئذ لا حركة للسموات و اللّه اعلم- قال اللّه تعالى

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (٢٩) فيه تعليل كانه قال لكونه عالما بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على النمط الأتم الأكمل الانفع- قرا ابو جعفر و ابو عمرو و الكسائي و قالون و هو و هى بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو كما هاهنا و نحو و هى تجرى بهم- او قاء او لام نحو فهو وليّهم- انّ اللّه لهو الولىّ- فهى كالحجارة- لهى الحيوان- زاد الكسائي و قالون كلمة ثم نحو ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ- و

قال البغوي ان في ان يملّ هو ايضا اسكن الكسائي و قالون لكن المشهور عند القراء عدم الإسكان هناك بالإجماع كذا قال الشاطبي-.

٣٠

وَ اذكر إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ- تعداد لنعمة ثالثة- فان خلق آدم و تفضيله على الملائكة نعمة تعم ذريته و فيه حث على الإتيان باوامره تعالى- و الانتهاء عن مناهيه

قال البغوي خلق اللّه السماء و الأرض و الملائكة و الجن و اسكن الملائكة السماء- و الجن الأرض- فمكثوا زمانا طويلا في الأرض-

ثم ظهر فيهم الحسد و البغي فافسدوا و اقتتلوا- فبعث اللّه إليهم جندا من الملائكة يقالهم الجن و هم خزان الجنان اشتق لهم اسما من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم و مرشدهم و أكثرهم علما- فهبطوا الى الأرض و طردوا الجن الى شعوب الجبال و جزائر البحور و سكنوا الأرض و خفف اللّه عنهم العبادة- و اعطى اللّه إبليس ملك الأرض و ملك سماء الدنيا و خزانة الجنة فكان يعبد اللّه تارة في الأرض و تارة في السماء و تارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه ما أعطاني اللّه هذا الملك الا لانى أكرم الملائكة عليه فقال اللّه تعالى له و لجنده

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- و مما ذكر البغوي يظهران إبليس كان من الملائكة كما يدل عليه ظاهر الاستثناء-

فان قيل روى مسلم عن ابى هريرة قال- أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيدي فقال خلق اللّه التربة يوم السبت و خلق فيها الجبال يوم الأحد و خلق الشجر يوم الاثنين و خلق المكروه يوم الثلثاء و خلق النور يوم الأربعاء و بث فيها الدواب يوم الخميس- و خلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في اخر الخلق و اخر ساعة من النهار فيما بين العصر الى الليل-

و هذا الحديث يدل على ان خلق آدم بعد خلق الأرض يوم سابعة فكيف يتصور مكث الجن زمانا طويلا في الأرض ثم طردهم الى شعوب الجبال و سكونة إبليس و جنوده من الملائكة زمانا طويلا- ثم قوله تعالى لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً-

قلت لا دليل في الحديث على ان المراد بالجمعة التي خلق فيها آدم أول جمعة بعد خلق الأرض لعل ذلك الجمعة بعد مضى الدهور- و لو لا هذا التأويل لزم خلق السموات و الأرض في سبعة ايام و الثابت بالقران خلق السموات و الأرض في ستة ايام و اللّه اعلم- و المراد بالخليفة آدم عليه السلام فانه خليفة اللّه في ارضه لاقامة أحكامه و تنفيذ قضاياه و هداية عباده و جذبهم الى اللّه و اعطائهم مراتب قربه تعالى و ذلك لا لاحتياج من اللّه تعالى الى الخليفة بل لقصور المستخلف عليهم عن قبول فيضه و تلقى امره بغير وسط- و كذلك كل نبى بعده خليفة اللّه

قالُوا تعجبا و استخبارا عن مراشد أمرهم لا اعتراضا و حسدا فانهم عباد مكرمون

أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ- و هم ذرية آدم- و انما عرفوا ذلك بأخبار من اللّه تعالى

وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ حال مقررة لجهة الاشكال و المعنى أ تستخلف العصاة و نحن معصومون احقّاء بالخلافة- و التسبيح تبعيد اللّه عن السوء من سبح في الأرض و الماء اى بعد- و بحمدك في موضع الحال اى متلبسين «١» بحمدك على ما وفقتنا لتسبيحك

(١) فى الأصل ملتبسون-

وَ نُقَدِّسُ لَكَ- و التقديس ايضا بمعنى التسبيح و يقال قدس إذا طهر اى بعد عن الاقذار- و اللام زائدة اى نقدسك- او المعنى نقدس اى نطهر أنفسنا عن الذنوب لاجلك- كانهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك بالتسبيح و سفك الدماء بالتقديس- سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اى الكلام أفضل قال ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه و بحمده- رواه مسلم في صحيحه من حديث ابى ذر- و هو صلوة الخلق و عليها يرزقون رواه ابن ابى شيبة عن جابر و البغوي عن الحسن

قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) قرا نافع و ابن كثير و ابو عمر و انّى بفتح الياء و الباقون بالسكون- ان الملائكة كانوا يعلمون بأخبار من اللّه تعالى ان من البشر صالحين و عصاة و كفارا فلا جرم زعموا ان الملائكة أفضل منهم لكونهم كلهم معصومين لا يَعْصُونَ اللّه ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فاستخلافهم اولى و استخلاف البشر موجب للفساد كما وقع من شرارهم- و لم يعلموا ان اللّه تعالى يستودع في قلوب بعضهم- محبة ذاتية منه تعالى موجبة للمعية الذاتية و المحبوبية الصرفة كما نطق به رأس المحبوبين- المرء مع من أحب- رواه الشيخان من حديث ابن مسعود و انس و ابن حبان عن انس و في الحديث القدسي- لا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحببته فاذا أجبته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به الحديث- و يكون لهم قرب و منزلة من اللّه تعالى لا يتصور لغيرهم- بحيث يكون التقرب الى عباد اللّه الصالحين موجبا للتقرب اليه تعالى

روى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- ان اللّه تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى قال يا رب كيف أعودك و أنت رب العالمين قال اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلم تعده اما علمت انك لوعدته لوجدتنى عنده- يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى الحديث- اعلم انه قد تقرر عند الأكابر من الصوفية ان ضوء الشمس كما يتحملها الأرض لكثافتها دون غيرها من عناصر الخلق كذلك التجلي الذاتي لا يتحملها الا عنصر التراب و اما غيرها من العناصر فلنوع من الكثافة التي فيها يتحمل التجليات الصفاتية دون الذاتية و اما لطائف عالم الأمر فلا نصيب لها الا من التجليات الظلية- و الإنسان لما كان مركبا من اللطائف العشرة التي هى اجزاء العالم الكبير و لم يجتمع في شى ء من افرادها الا بعضها كان هو أهلا للخلافة و حاملا للامانة التي عرضها اللّه تعالى عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً على نفسه بتحمل ما لم يتحمله غيره جهولا لعظمة المحمول و مسمى بالعالم الصغير صورة و اكبر من الكبير معنى- حيث قال اللّه تعالى لا يسعنى ارضى و لا سمائى و لكن يسعنى قلب عبدى المؤمن- فخلق اللّه تعالى آدم من أديم الأرض اى وجهها بان قبض من جميع ألوانها و عجنت بالمياه المختلفة و سواه و نفخ فيه الروح اخرج احمد و ابو داود و الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردوية و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوا آدم منهم الأحمر و الأبيض و بين ذلك- و السهل و الحزن- و الخبيث و الطيب-

قلت و الحكمة فيه استجماع استعداده-

قال البغوي- لمّا قال اللّه تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالت الملائكة- ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقا أكرم منا عليه- و ان كان فنحن اعلم منه لانا خلقنا قبله و راينا ما لم يره- فاظهر اللّه تعالى فضله عليهم.

٣١

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماء َ كُلَّها قال اهل التفسير المراد اسماء الخلائق-

قال البغوي قال ابن عباس و مجاهد و قتادة علمه اسم كل شى ء حتى القصعة و القصيعة- و قيل اسم ما كان و يكون الى يوم القيمة- و قال الربيع بن انس اسماء الملائكة-

و قيل اسماء ذريته- و قيل صفة كل شى ء قال اهل التأويل علم آدم جميع اللغات ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة-

قلت و هذه الأقوال ليست بمرضية عندى فان مدار الفضل على كثرة الثواب و مراتب القرب من اللّه تعالى دون هذه الأمور-

و لو كان هذه الأمور مدارا لفضله لزم فضله على خاتم النبيين صلى اللّه عليه و سلم فانه قال أنتم اعلم بامور دنياكم- و لم يكن عالما بجميع اللغات- و عندى ان اللّه تعالى علم آدم الأسماء الالهية كلها-

فان قيل الأسماء الالهية غير متناهية قال اللّه تعالى لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي- و قال سبحانه وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّه- فكيف يحيط به علم البشر الممكن المتناهي- و قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- أسئلك بكلّ اسم سميت به نفسك او أنزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به في علم الغيب عندك- رواه ابن حبان- و الحاكم- و ابن ابى شيبة و الطبراني- و احمد في حديث ابن مسعود و ابى موسى الأشعري يدل على ان اللّه تعالى استأثر عنده ببعض الأسماء لم يعلّمها أحدا-

قلت المراد «١»

(١) على هذا لا يظهر فضيلة آدم عليه السلام بالنسبة الى الملا الا على و الكروبيين فان ولاية الملا الا على و من في طبقتهم ارفع بكثير على اكثر الولايات البشرية لا سيما الولاية الاسرائيلية فانها شقيقة الولاية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة و التحية- و كل ذلك مصرح به في مكتوبات الشيخ الاجل الرباني مجدد الالف الثاني قدس اللّه روحه-

ان اللّه تعالى علم آدم الأسماء كلها علما اجماليا فانه لما حصل له معية بالذات تعالت و تقدست حصل له بكل اسم من أسمائه و صفة من صفاته مناسبة تامة و معية بحيث انه كلما توجه الى اسم من أسمائه و صفة من صفاته يتجلى له ذلك الاسم و الصفة كما انه إذا حصل لرجل ملكة في علم من العلوم كان بحيث كلما يتوجه الى مسئلة من مسائله يحضر تلك المسألة- و ليس المراد العلم التفصيلي حتى يلزم المحذور-

فان قيل لم يقل بما قلت أحد من المفسرين- فهو قول في القران بالرأى و ذلك غير جائز- روى البغوي بطرق عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قال في القران برأيه- و في رواية من قال في القران بغير علم فليتبوأ مقعده من النار-

قلت

قال البغوي قال شيخنا الامام قد جاء الوعيد فى حق من قال في القران برأيه و ذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم يعنى التفسير و هو

قلت الظاهر من كلام المجدد رضى اللّه عنه ان ولاية الملائكة ارفع درجة من ولاية الأنبياء و ليس افضلية الأنبياء على الملائكة الا بالنبوة فان الولايات كلها راجعة الى تجليات الصفات- و التجليات الذاتية مختصة بالنبوة و مهبط التجلي الذاتي عنصر الطين و لخلو الملائكة من عنصر الطين اختص النبوة بالبشر و بالنبوة تفضلت الأنبياء على الملائكة و بها لبس خلعة الخلافة و بها و بالقرب الذاتي علم آدم الأسماء كلها علما اجماليا و اللّه اعلم- منه رحمه اللّه الكلام في اسباب نزول الاية و شأنها- و قصتها و ذلك لا يجوز الا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل-

و اصل التفسير من التفسرة و هى الدليل من الماء الذي ينظر فيها الطبيب فيكشف عن علة المريض كذلك المفسر يكشف عن شأن الاية و قصتها- فاما التأويل و هو صرف الاية الى معنى محتمل موافق لما قبلها و ما بعدها غير مخالف للكتاب و السنة من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لاهل العلم- و اشتقاق التأويل من الاول و هو الرجوع يقال أولته فال اى صرفته فانصرف-

روى البغوي عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال انزل القران على سبعة أحرف لكل اية منها ظهر و بطن و لكل حد مطلع- و روى الطبراني عنه بلفظ- انزل القران على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر و بطن و لكل حرف حد و لكل حد مطلع-

قال البغوي- قوله لكل حد مطلع- اى مصعد يصعد اليه من معرفة علمه- يقال المطلع الفهم- و قد يفتح اللّه على المتدبر و المتفكر في التأويل و المعاني ما لا يفتح على غيره وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ انتهى حاصل كلامه «١»-

(١) قال الشيخ شهاب الدين السهروردي رضى اللّه عنه في العوارف- يخالج اسرى ان يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعنى- و غامض السر في الاية لكن المطلع ان يطلع عند كل اية على شهود المتكلم بها لانها مستودع وصف من أوصافه و نعت من نعوته فيتجدد له التجليات بتلاوة الآيات و سماعها-

و قال المجدد رضى اللّه عنه في مكتوبه المائة و العشرين من المجلد الثالث- انه يخطر ببالي ان الظهر نظم القران البالغ الى حد الاعجاز و البطن تفسيره و تأويله على اختلاف صفاء الفهم على دقيق المعاني و غامض السر و الحد نهاية مراتب الكلام و هو شهود المتكلم بها و هو التجلي النعتى المنبئ عن عظيم الجلال و المطلع ما فوق ذلك التجلي النعتى و هو التجلي الذاتي المعرى عن النسبة و الاعتبارات فلابد من الخطوتين خطوة من النظم الدال الى المدلول الذي هو الصفة و الخطوة الثانية من الصفة الى الموصوف- و ما ذكر الشيخ السهروردي قدس سره الا الخطوة الاولى و أتم بها هذا السير و قال الشيخ في العوارف- نقل عن جعفر الصادق رضى اللّه عنه انه خر مغشيا عليه و هو في الصلاة فسئل عن ذلك فقال ما زلت اردد الاية حتى سمعتها من المتكلم بها- منه رحمه اللّه للتعظيم-

قلت و ما مر من اقوال المفسرين ليس شيئا منها مرفوعا- و لا مما لا يدرك بالرأى حتى يكون في معنى المرفوع بل تأويلات لمعنى الأسماء على حسب آرائهم و من ثم ترى الاختلاف و ما ذكرت لك كذلك-

و ايضا قول ابن عباس علّمه اسم كل شى ء حتى القصعة و القصيعة- و ما قيل علّمه اسماء ما كان و ما يكون و اسماء ذريته و صفة كل شى ء لا ينافى تعليمه الأسماء الالهية و هى أفضل مما كان و يكون هو الاول ما كان شى ء قبله و الاخر لا يكون في ء بعده و الظاهر لا شى ء فوقه و الباطن لا شى ء دونه-

و انما اقتصر ابن عباس على ذكر اسماء الممكنات خطابا لافهام العوام و كذلك شأن الأكابر يتكلمون الناس على قدر عقولهم و اللّه اعلم

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ قال المفسرون الضمير راجع الى المسميات المذلول عليها ضمنا إذ التقدير اسماء المسميات فحذف المضاف اليه و عوض عنه اللام كما في قوله تعالى اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً و تذكير الضمير لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء- و إذا قلت المراد بالأسماء الأسماء الالهية فالضمير راجع الى آدم و جمع الضمير او المراد بآدم هو و اللّه كما يقال ربيعة و مضر- كذا

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ فى سورة يونس-

و لعل اللّه سبحانه عرض عليهم آدم و نسمات الأنبياء من ذريته حين أخرجهم من ظهره و أخذ منهم الميثاق و اشهدهم على أنفسهم و أخذ من النبيين من محمد صلى اللّه عليه و سلم و من نوح و ابراهيم و موسى و عيسى بن مريم عليهم الصلاة و السلام أخذ منهم ميثاقا غليظا و هذا انسب من إرجاع الضمير الى المسميات- لان المسميات غير مذكورة فيما قبل- و الضمير للمذكرين العقلاء فلابد فيه من تكلفات-

و قرا ابى بن كعب عرضها-

و قرا ابن مسعود عرضهنّ- و على تينك القراءتين الضمير راجع الى الأسماء-

فَقالَ تبكيتا لهم و تنبيها على عدم صلاحيتهم للخلافة

أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المشار اليه هى المسميات على تقرير المفسرين و على ما قلت المشار اليه آدم و اللّه و الاضافة لادنى ملابسة اى الأسماء التي علمت هؤلاء- حديث كنت نبيا و آدم بين الروح و الجسد- رواه الطبراني عن ابن عباس و ابو نعيم في الحلية و ابن سعد عن ابى الجدعاء يدل على ان اللّه سبحانه علمه ما علمه و اصطفاه نبيّا بالتجليات الذاتية المختصة بالأنبياء أصالة حين كان آدم بين الروح و الجسد يعنى حين تركب روح آدم بجسده فان التجليات الذاتية البحتية كانت مشروطة بالجسد الترابي فاذا صار لادم جسد و استقر نسمات ذريته في ظهره صاروا أهلا لها-

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) انى لا اخلق خلقا الا و كنتم أكرم علىّ منه و أفضل و اعلم- قرا قنبل و ورش بجعل الهمزة الثانية من هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ياء ساكنة- و قالون و البزي يجعلان الاولى ياء مكسورة و ابو عمرو يسقطها و الباقون «١» يحققون الهمزتين و كذا في كل همزتين مكسورتين اجتمعتا من كلمتين-

(١)

و قرا ابو جعفر و رويس بتحقيق الاولى و تسهيل الثانية-

و في رواية عن ورش انه يجعل الثانية ياء مكسورة هاهنا و في النور عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً و اما في غيرهما فكقنبل- و اما إذا اجتمعتا مفتوحتين من كلمتين نحو جاءَ أَجَلُهُمْ فورش و قنبل يجعلان الثانية مدة كما في المكسورة- و قالون و البزي و ابو عمرو يسقطون الاولى و الباقون يحققون الهمزتين و اما إذا اجتمعتا مضمومتين من كلمتين و ذلك في موضع واحد في الأحقاف أَوْلِياءُ أُولئِكَ فحكمه حكم المكسورة ورش و قنبل يجعلان الثانية واوا ساكنة و قالون و البزي يجعلان الاولى واوا مضمومة و ابو عمرو يسقطها و الباقون يحققونهما.

٣٢

قالُوا إقرارا بالعجز و اعترافا لفضل البشر و استحقاقهم الخلافة و اظهار الشكر نعمة ما كشف لهم الحكمة في خلقه

سُبْحانَكَ اى نسبحك سبحانا عن خلو افعالك عن الحكم و المصالح

لا عِلْمَ لَنا ابو محمد لا نحيط بشى ء من علمك

إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بخلقك

الْحَكِيمُ (٣٢) فى أمرك و له معنيان و هو القاضي العدل و المحكم للامر لا يتطرق اليه الفساد فلما اعترفوا بعجزهم أنعم اللّه عليهم و.

٣٣

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ الضمير في بأسمائهم على قول المفسرين راجع الى المسميات- و اما على ما قلت فراجع الى الملائكة اى انبئهم بالأسماء التي في وسعهم تعلمها- او التي قدرنا لهم تعلمها- و لم يقل باسمائكم لان تعلم الأسماء كلها لا يمكن الا اجمالا بالوصول الى حضرت الذات و ذلك مختص بالبشر دون الملائكة

فلما أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيه استذكار لقوله- أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قرا الحر ميان و ابو عمرو انّى بفتح الياء و كذلك يفتحون كل ياء إضافته بعدها الف قطع مفتوحة الا أحرفا معدودة تذكر في مواضعها ان شاء اللّه تعالى- و يفتح نافع و ابو عمرو عند الالف المكسورة ايضا الا أحرفا معدودة تذكر ان شاء اللّه تعالى و الباقون لا يفتحون الا أحرفا معدودة تذكر ان شاء اللّه تعالى

وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ قال الحسن و قتادة يعنى قولهم أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها-

وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) قالا قولهم لن يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منا-

قال البغوي قال ابن عباس- هو ان إبليس مر على جسد آدم و هو ملقى بين مكة و الطائف لا روح فيه فقال لامر ما خلق هذا ثم دخل في فيه و خرج من دبره و قال انه خلق لا يتماسك لانه أجوف ثم قال للملائكة الذين معه ان فضل عليكم و أمرتم بطاعته ماذا تصنعون قالوا نطيع امر ربنا- فقال إبليس في نفسه و اللّه لئن سلطت عليه لاهلكنه و لئن سلط علىّ لا عصينه فقال اللّه تعالى

وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعنى ما تبديه الملائكة من الطاعة

وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعنى ما كتم إبليس من المعصية و في الاية دليل على ان خواص البشر و هم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة و هم الرسل منهم كما ذهب اهل السنة و الجماعة اليه- و اما ما قالوا ان عوام البشر اعنى الأولياء منهم الصالحون المتقون أفضل من عوام الملائكة فثابت بالسنة- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المؤمن أكرم على اللّه من بعض ملائكته- رواه ابن ماجة- و عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمّا خلق اللّه آدم و ذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون و يشربون و ينكحون و يركبون فاجعل لهم الدنيا و لنا الاخرة قال اللّه تعالى لا اجعل من خلقته بيدي و نفخت فيه من روحى كمن قلت له كن فكان- رواه البيهقي في شعب الايمان- و يدل على أفضليتهم اختصاصهم برؤية اللّه سبحانه في الجنة دون الملائكة-

فان قيل روية اللّه سبحانه في الجنة غير مختص بالأولياء بل يكون لجميع المؤمنين و ان كانت على قدر تفاوت درجاتهم فمنهم من يراه غدوة و عشية و منهم من يراه كل جمعة او بعد سنة او نحو ذلك فيلزم من ذلك افضلية جميع المؤمنين و ان كانوا فساقا على عوام الملائكة فان المؤمنين كلهم يدخلون الجنة و لو بعد العذاب قال اللّه تعالى- فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ- و قال عليه الصلاة و السلام يخرج من النار من قال لا اللّه الا اللّه و في قلبه وزن برة من خير او من ايمان و يخرج من النار من قالها و في قلبه وزن ذرة من خير او من ايمان- متفق عليه من حديث انس- و قال ما من عبد قالها ثم مات على ذلك الا دخل الجنة و ان زنى و ان سرق- و ان زنى و ان سرق- و ان زنى و ان سرق- على رغم انف ابى ذر- رواه مسلم من حديث ابى ذر- و القول بافضلية الفساق على المعصومين لا يجوز عقلا و لا شرعا قال اللّه تعالى- أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ-

قلت دخول الجنة للفساق لا يتصور الا بعد المغفرة سواء كانت المغفرة بعد العقاب بمصائب الدنيا او بعذاب في القبر او بعذاب فى النار او بغير شى ء من ذلك بالتوبة او بغير التوبة فضلا من اللّه تعالى و بعد المغفرة لم يبق فسق و لا معصية بل التحقوا بالأولياء المتقين الصلحاء و ان كانت مراتب الأولياء أعلى و أجل فحينئذ لا محذور في أفضليتهم على الملائكة و اللّه اعلم- و ايضا في الاية دليل على ان علوم الملائكة و كمالاتهم تقبل الزيادة و انهم يستفيدون من البشر-

و اما قوله تعالى- وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ- فمقتضاه عدم الترقي من مقام الى مقام- يعنى من مقام الأسماء و الصفات الى مقام الذات فانه لا يجوز وصولهم الى مقام الذات بخلاف البشر فان له ترقيات من مقام الحجب و الحرمان الى مقام الظلال و منها الى مقام الصفات و الأسماء و الشئونات و منها الى مقام الوصول الى الذات و في ذلك الوصول درجات و اعتبارات لا يسعه المقال و المقام-.

٣٤

وَ اذكر إِذْ

قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ- قرا ابو جعفر للملائكة اسجدوا بضم التاء بإعطاء حركت همزة الوصل و كذلك قل ربّ احكم بضم الباء و الباقون بالكسر- و السجود في الأصل التذلل و في الشرع وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة- و المأمور به اما المعنى الشرعي فالمسجود له يكون بالحقيقة هو اللّه تعالى- و جعل آدم قبلة تفخيما لشأنه و اعترافا لما أنكروا اولا من فضله- و يدل على ارادة هذا المعنى الشرعي ما رواه احمد و مسلم من حديث ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا قرا ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى و يقول يا ويله امر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة و أمرت بالسجود فعصيت فلى النار- و اللام في لادم حينئذ بمعنى الى كما في قول حسان في مدح الصديق (شعر)

أ ليس أول من صلى لقبلتكم و اعرف الناس بالقران و السنن او جعل آدم سببا لوجوب السجود توبة لما صدر عنهم صورة الاعتراض-

و اللام حينئذ للسببية نحو صل لدلوك الشمس

و اما المعنى اللغوي و هو التواضع و التذلل لادم تحية و تعظيما كسجود اخوة يوسف

قال البغوي- هذا القول أصح قال و لم يكن فيه وضع الوجه على الأرض انما كان انحناء فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام-

قلت لعلهم انما أمروا بتعظيم آدم شكرا له و أداء لحقه في التعليم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه- رواه احمد و الترمذي و صححه من حديث ابى سعيد-

فَسَجَدُوا يعنى الملائكة كلهم أجمعين إِلَّا إِبْلِيسَ هذا يدل على ان إبليس كان من الملائكة لصحة الاستثناء كما مر عن ابن عباس فعلى هذا لا يكون الملائكة كلهم معصومين بل الغالب منهم العصمة كما ان بعضا من الانس معصومون و الغالب منهم عدم العصمة-

و قيل كان جنيا نشأ بين الملائكة و مكث فيهم ألوف سنين فغلبوا عليه و يحتمل كون الجن ايضا مامورين بالسجود مع الملائكة لكنه استغنى عن ذكرهم بذكر الملائكة لان الأكابر لما أمروا بالسجود فالاصاغر اولى- و لعل ضربا من الملائكة كانوا متحدى الحنس بالشياطين مختلفين بالعوارض و ما روى مسلم عن عائشة خلقت الملائكة من نور و خلقت الجن من مارج من نار و خلق آدم مما وصف لكم- يحمل على اختلاف حقيقة بعض الملائكة من حقيقة الجن دون بعضهم و هم الذين لا يوصفون بالذكورة و الأنوثة و لا يتوالدون- او يقال النّار و النور حقيقة واحدة و الامتياز بينهما بالتهذيب و الصفاء و بدونه-

و قوله تعالى وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً- و هو قولهم الملائكة بنات اللّه دليل على اتحاد حقيقتهما و اللّه اعلم بحقيقة الحال-

أَبى امتنع من السجود وَ اسْتَكْبَرَ من ان يعظّم آدم- او يتخذه وصلة في عبادة ربه- وَ كانَ فى علم اللّه او صار

مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) باستقباحه امر اللّه تعالى إياه بالسجود لادم اعتقادا منه انه أفضل من آدم حيث قال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لا بترك الواجب وحده-.

٣٥

وَ

قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ-

قال البغوي ان آدم لم يكن له في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق اللّه زوجته حواء من قصيرى شقه الأيسر فلما هب من نومه راها جالسة عند رأسه كاحسن ما خلق اللّه فقال لها من أنت قالت زوجتك خلقنى اللّه لك تسكن الىّ و اسكن إليك- و انما لم يخاطبهما اولا تنبيها على انه هو المقصود بالحكم

وَ كُلا مِنْها رَغَداً واسعا كثيرا حَيْثُ شِئْتُما اين شئتما

وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) منع عن قرب الشجرة مبالغة في النهى عن أكله لان قرب الشي ء يورث داعية و ميلانا الى ذلك الشي ء فيلهيه عما هو مقتضى العقل و الشرع- فالاقتراف بما هو يقرب الى المعصية مكروه و الشجرة هى السنبلة على قول ابن عباس و محمد بن كعب- و العنب على قول ابن مسعود و التين على قول ابن جريح و الكافور على قول علىّ و قال قتادة شجرة العلم و فيها من كل شى ء- فقيل وقع النهى على جنس من الشجرة-

و قيل على شجرة مخصوصة- و الظَّالِمِينَ اى الضّارّين أنفسكما بالمعصية و اصل الظلم وضع الشي ء في غير موضعه.

٣٦

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها اى اصدر زلتهما عن الشجرة اى بسبب الشجرة و من أجل أكلها- او ازلّهما اى اذهبهما اى أبعدهما عن الجنة و يعضده قراءة حمزة فازالهما اى نحاهما- و الشيطان من الشطن بمعنى البعد سمى به لبعده من الخير و الرحمة- و اختلفوا في انه كيف لقى إبليس آدم بعد ما قيل له فَاخْرُجْ ... فَإِنَّكَ رَجِيمٌ-

قال البغوي ان إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس آدم و حواء فمنعته الخزنة- فاتته الحية و كانت صديقة لابليس و كانت من احسن الدواب لها اربع قوائم كقوائم البعير و كانت من خزان الجنة فسالها إبليس ان يدخله في فمها فادخلته فمرت به على الخزنة و هم لا يعلمون فادخلته الجنة- و كذا اخرج ابن جرير عن ابن مسعود و ابن عباس و ابى العالية و وهب بن منبه و محمد بن قيس-

و قال الحسن انما راهما على باب الجنة لانهما كانا يخرجان منها- و

قال البغوي و قد كان آدم لما دخل الجنة قال لو ان خلدا- فلما دخل الشيطان الجنة وقف بين آدم و حواء و هما لا يعلمان انه إبليس فبكى و ناح نياحة احزنتهما و هو أول من ناح- فقالا ما يبكيك قال ابكى عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما و اغتما فقال إبليس هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ فابى ان يقبل منه فقاسمهما باللّه إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فاغترا و ما ظنا ان أحدا يحلف باللّه كاذبا- فبادرت حواء الى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها- و كان سعيد بن المسيب يحلف باللّه ما أكل آدم من الشجرة و هو يعقل و لكن حواء سقته الخمر فلما أسكر قادته إليها فاكل-

فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم قال ابن عباس و قتادة قال اللّه تعالى لادم الم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب و لكن ما ظننت ان أحدا يحلف بك كاذبا-

و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال اللّه تعالى يا آدم ما حملك على ما صنعت- قال يا رب زينته لى حواء قال فانى أعقبتها ان لا تحمل الا كرها و لا تضع الا كرها و ديتها في الشهر مرتين- فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة و على بناتك-

وَ

قُلْنَا اهْبِطُوا اى انزلوا الى الأرض يعنى آدم و حواء و إبليس و الحية-

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حال استغنى عن الواو بالضمير اى متعادين- روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال- لا اعلم الا رفع الحديث انه كان يأمر بقتل الحيات و قال من تركهن خشية او مخافة ثائر فليس منا- و في رواية- ما سالمناهن منذ حاربناهن- و روى عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان بالمدينة جنا قد اسلموا فان رايتم منهم شيئا فاذنوه ثلثة ايام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فانه شيطان-

وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ موضع قرارا و استقرار

وَ مَتاعٌ اى تمتع إِلى حِينٍ (٣٦) الى انقضاء اجالكم-.

٣٧

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قرا ابن كثير آدم بالنصب و كلمت بالرفع يعنى جاءت الكلمات آدم من ربه و كانت سبب توبته-

و قرا الباقون بالعكس اى تعلّم- و الكلمات

رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الاية- كذا قال سعيد بن جبير و مجاهد و الحسن و قيل غير ذلك من كلمات الدعاء و الاستغفار و التضرع قال ابن عباس- بكى آدم و حواء مائتى سنة و لم يأكلا و لم يشربا أربعين يوما- و لم يقرب آدم حواء مائة سنة و روى عن يونس بن حباب و علقمة بن مرثد قالا و لو ان دموع اهل الأرض جمعت لكان دموع داود اكثر حيث أصاب الخطيئة- و لو ان دموع داود مع دموع اهل الأرض جمعت لكان دموع آدم اكثر- قال شهر بن حوشب بلغني انه مكث ثلاثمائة سنين لا يرفع رأسه حياء من اللّه عز و جل-

فَتابَ عَلَيْهِ اى قبل توبته- و التوبة عبارة عن الاعتراف بالذنب و الندم عليه و العزم على ان لا يعود- و اكتفى بذكر آدم لان حواء كانت تبعا له في الحكم و لذلك طوى ذكر النساء في اكثر القران و السّنن

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرجاع على عباده بالمغفرة- و اصل التوبة الرجوع فمن العبد الرجوع من المعصية و من اللّه الرجوع عن العقوبة الى المغفرة

الرَّحِيمُ (٣٧) المبالغ في الرحمة.

٣٨

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً- قيل الهبوط الاول من الجنة و الثاني من السماء الى الأرض- و قيل كرر للتأكيد او لاختلاف المقصود فان المقصود من الاول العقاب على المعصية و من الثاني التكليف- و جميعا حال في اللفظ تأكيد في المعنى فلا يستدعى اجتماعهم

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الفاء للعطف و ان حرف شرط و ما زائدة أكدت به ان- و لذلك حسن تأكيد الفعل بالنون و ان لم يكن فيه معنى الطلب يعنى ان يأتى لكم منى هدى يعنى رسول و كتاب- الخطاب به الى ذرية آدم

فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الشرط الثاني مع جزائه جزاء للشرط الاول و انما جاء بان حرف الشك لانه محتمل في نفسه غير واجب عقلا- امال الكسائي هداى و مثواى- و محياى- حيث وقع و رءياك في أول يوسف خاصة-

و ابو عمرو ورش قرا رءياك خاصة بين بين-

قال البيضاوي كرر لفظ الهدى و لم يضمر لانه أراد بالثاني أعم من الاول و هو ما اتى به الرسل و اقتضاه العقل اى تبع ما أتاه مراعيا فيه ما شهده العقل-

فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) على ما خافوا فان الخوف على المتوقع و الحزن على الواقع- او المعنى لا خوف عليهم فى الاخرة بحلول مكروه و لا هم يحزنون في الاخرة بفوات محبوب نفى عنهم العذاب و اثبت لهم الثواب على ابلغ الوجوه- قرا يعقوب فلا خوف بالفتح باعمال لا و الآخرون بالرفع و التنوين.

٣٩

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على من تبع كانه قال و من لم يتبع هداى بل كفروا به

وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالقران و غيره من الكتب أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يوم القيامة

هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩) لا يخرجون منها و لا يموتون فيها- فى القصة دليل على ان الجنة مخلوقة و انها في جهة عالية و ان عذاب النار للكفار مخلد تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام قالوا كان آدم نبيا و ارتكب المنهي عنه- و أجيب بانه لم يكن نبيا حينئذ و المدعى يطالب بالبرهان- او كان النهى للتنزيه و انما سمى نفسه ظالما و خاسرا لانه ظلم نفسه و خسر حظه بترك الاولى- او انه فعل ناسيا لقوله تعالى- فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً- لعله لما قاله إبليس ما نهاكما ربّكما و قاسمهما أورث فيه ميلانا طبعيا ثم انه كف نفسه عنه مراعاة لحكم اللّه الى ان نسى ذلك و زال شعوره بشرب الخمر فحمله الطبع عليه و انما عوتب بترك التحفظ عن اسباب النسيان- و لعله و ان حط عن الامة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم-

و يحتمل ان يكون رفع الخطاء و النسيان خاصة لهذه الامة- و سيجيئ المسألة اخر السورة- او فعله بسبب خطاء في اجتهاده حيث ظن النهى للتنزيه- او الاشارة الى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها و كان المراد في النهى الاشارة الى النوع و انما جرى عليه ما جرى على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة كتناول السم على الجهل و اللّه اعلم- و لما ذكر اللّه تعالى دلائل التوحيد و النبوة و خاطب الناس عامة و عدّ انعاماته العامة- خاطب بنى إسرائيل خاصة و ذكّرهم النعماء التي اختصت بهم لان السورة مدنية و كان غالب الخطاب في المدينة مع اليهود لانهم كانوا اهل علم و الناس تبع لهم فلو اعترفوا بالنبوة اعتراف غيرهم بتقليدهم و كان حجة على غيرهم- فقال.

٤٠

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اى أولاده و الابن من البناء لانه مبنى أبيه و لذلك ينسب المصنوع الى الصانع- و يقال ابو الحرب و بنت فكر- و إسرائيل لقب يعقوب عليه السلام و معناه بالعبرية عبد اللّه و ايل هو اللّه- و قيل صفوة اللّه-

و قرا ابو جعفر إسرائيل بغير همزة

اذْكُرُوا احفظوا- و الذكر يكون بالقلب و باللسان فانه دليل على ذكر القلب و قيل اشكروا لان فى الشكر ذكرا- قال الحسن- ذكر النعمة شكرها-

نِعْمَتِيَ لفظها واحد و معناها جمع الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ- قيد النعمة بهم حتى يحملهم على الرضاء و الشكر- و اما النعمة على غيرهم فقد يوجب الغيرة و الحسد قال قتادة هى النعم التي خصت بها بنوا إسرائيل من فلق البحر و انجائهم من فرعون باغراقه و تظليل الغمام في التيه- و إنزال المن و السلوى- و بعث الأنبياء فيهم- و جعلهم ملوكا و إنزال التورية و غيرها- و قال غيره هى جميع النعم على العباد

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي بالايمان و الطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بالاثابة- و العهد يضاف الى المعاهد و المعاهد- و لعل اولا أضاف الى الفاعل و ثانيا الى المفعول فان اللّه تعالى عهد إليهم بالايمان و وعدهم بالثواب- او في كليهما أضاف الى المفعول اى أوفوا بما عاهدتمونى أوف بما عاهدتكم- اخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال- أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم أوف بعهدكم في رفع الاصار و الاغلال-

قال البغوي قال الكلبي عهد اللّه الى بنى إسرائيل على لسان موسى انى باعث في بنى إسماعيل نبيا اميا فمن تبعه و صدّق بالنور الذي يأتى به غفرت له ذنبه و أدخلته الجنة و جعلت له أجرين اثنين و هو قوله وَ إِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى في امر محمد صلى اللّه عليه و سلم-

قلت و هذا قوله تعالى في جواب ما قال موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ- الى قوله ... الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ- الاية-

و قال قتادة و مجاهد أراد بها ما ذكر في المائدة وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً الى ان قال لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الاية-

و قال الحسن هو قوله وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ- فهو شريعة التورية-

قلت و ان هذين القولين راجعان الى ما قال ابن عباس و الكلبي فان في الاول و آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ- و كذلك شريعة التورية حاكمة بالايمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و الا فهى منسوخة

وَ إِيَّايَ منصوب بفعل مقدر بعده يفسّره

فَارْهَبُونِ (٤٠) فخافون في نقض العهد و في كل فعل و ترك- و الرهبة خوف معه تحرز- و هذا أكد في إفادة التخصيص من ايّاك نعبد لما فيه من تقديم المفعول و تكريره و تكرير الفعل تقديرا و لفظا و الفاء الجزائية- تقدير الكلام ان كنتم راهبين فاياى ارهبوا فارهبونى- و الاية متضمنة للوعد و الوعيد دالة على وجوب الشكر و الوفاء بالعهد و ان المؤمن ينبغى ان لا يخاف أحدا الا اللّه- اثبت يعقوب الياءات المحذوفة في الخط مثل فارهبون فاتّقون- و اخشون كلها و جملتها احدى و ستون ياء لا غير- و اثبت نافع في رواية ورش منها في الوصل سبعا و أربعين و في رواية قالون عشرين-

و اختلف عن قالون في اثنين و هما التّلاق- و التّناد- فى غافروا ثبت ابن كثير في الوصل و الوقف احدى و عشرين و اختلف عنه في ست تقبّل دعاء في ابراهيم- يدع الدّاع في القمر- بالواد- و أكرمن- و أهانن في الفجر فاثبت الخمس البزي في الحالين- و اثبت قنبل انّه من يتّق في يوسف في الحالين و بالواو في الفجر في الوصل فقط و فيه خلاف عنه و اثبت ابو عمرو من ذلك في الوصل خاصة أربعا و ثلثين و خير في أكرمن و أهانن-

و اثبت الكسائي ياءين يوم يأت في هود و ما كنّا نبغ في الكهف لا غير- و اثبت حمزة في الوصل خاصة و تقبّل دعاء في ابراهيم- و في الحالين أ تمدّونن في النمل لا غير و حذف كلهن عاصم و اختلف عنه في يائين في النمل فما ءاتان اللّه فتحها حفص فى الوصل و أثبتها ساكنة في الوقت و في الزخرف يعباد لا خوف فتحها ابو بكر في الوصل و أسكنها في الوقف و شعبة بحذف الاولى كحفص في الاخرى- و اثبت ابن عامر في رواية هشام ثمّ كيدون في الأعراف و في رواية ابن ذكوان في الكهف فلا تسئلنى- و سياتى جميع ما ورد من ذلك الاختلاف في أماكنها ان شاء اللّه تعالى-.

٤١

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ يعنى القران عطف تفسيرى على أوفوا او تخصيص بعد التعميم فان الايمان هو العمدة في الوفاء بالعهود

مُصَدِّقاً اى موافقا في القصص و بعث النبي صلى اللّه عليه و سلم و نعته و في الوعد و الوعيد و الدعوة الى التوحيد- و الايمان بالأنبياء بلا تفريق بينهم و بما جاءوا به من ربهم و الى امتثال الأوامر و الانتهاء عن المناهي- او شاهدا على كونها من اللّه تعالى

لِما مَعَكُمْ من الكتب الالهية التورية و غيرها- و في التقييد بكون القران مصدّقا لمّا معهم تنبيه على ان اتباعها يوجب الايمان به و لذلك عرّض بقوله

وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ- بل الواجب ان تكونوا أول من أمن به كما ان ورقة بن نوفل لما كان عالما بالتورية صار أول من أمن به- فالمراد به التعريض دون الحقيقة كقولك اما انا فلست بجاهل فلا يقال كيف نهوا عن التقدم في الكفر مع سبق مشركى مكة فيه- او المراد و لا تكونوا أول كافر من اهل الكتاب او أول من كفر بما معه فان الكفر بالقران كفر بما يصدقه-

قلت او المراد بالاولية الاولية بالذات «١» يعنى كونهم سببا لكفر غيرهم فان ايمان العلماء و الأحبار و الرؤساء سبب لايمان غيرهم و كفرهم سبب لكفر غيرهم- فلذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- الا ان شر الشرار شرار العلماء- و ان خير الخيار خيار العلماء رواه الدارمي من حديث الأحوص بن حكيم عن أبيه-

(١) لا يخفى ان الاولية بالذات يستلزم التقدم بحسب الزمان او المعية بحسبه فالاشكال بسبق مشركى مكة فيه باق كما كان و يحتاج في بيان سببية كفرهم لكفر غيرهم من التخصيص باتباعهم و هو تطويل للمسافة بلا طائل قلت كفر اهل الكتاب سبب لكفر غيرهم من الأميين حيث يزعمون لو كان الإسلام حقّا لما تركه اهل الكتاب فهو سبب لثبات مشركى مكة على كفرهم- فسبق كفر مشركى مكة بالزمان لا ينافى اولية كفر اهل الكتاب بالذات و كونه سببا لكفرهم يعنى لثباتهم على الكفر و اللّه اعلم- منه رحمه اللّه.

و المعنى لا تكونوا سببا لكفر اتباعكم فيكون عليكم اثم الأريسيين و أول كافر خبر من ضمير الجمع بتأويل أول فريق- او بتأويل أول فريق- او بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر كقولك كسانا حلة- و أول افعل لا فعل له من لفظه- و قيل أصله أوال من وال على وزن سأل أبدلت همزته واوا من غير قياس او ااول من أول قلبت الهمزة واوا و أدغمت-

قال البغوي نزلت الاية في كعب بن اشرف و أصحابه من علماء اليهود

وَ لا تَشْتَرُوا اى لا تستبدلوا بِآياتِي اى بالايمان بايات القران اولا تستبدلوا بايات التورية ببيان نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم

ثَمَناً اى عرضا من الدنيا قَلِيلًا فان اعراض الدنيا و ان جلت فهى قليلة رذيلة بالاضافة الى ما يفوتهم من حظوظا لاخرة و ذلك ان رؤساء اليهود و علماءهم كانت لهم مأكلة يصيبونها من سفلتهم و جهّالهم يأخذون كل عام منهم شيئا معلوما من ذروعهم و ضروعهم و نقودهم فخافوا فواتها ان بينوا صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم و اتبعوه- فاختاروا الدنيا على الاخرة و غير و انعته و كتموا اسمه

وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) بالايمان و اختيار الاخرة على الدنيا- و هذا مثل فايّاى فارهبون- غير ان في الاية

السابقة خطاب لعوام بنى إسرائيل و لذا فصلت بالرهبة التي هى مقدمة التقوى و في الثانية خطاب لعلمائهم و لذلك فصلت بالتقوى الذي هو منتهى الأمر-.

٤٢

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ اى لا تخلطوا- و اللبس الخلط و قد يلزمه جعل الشي ء مشتبها بغيره- يعنى لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم بالباطل الذي تكتبونه بايديكم من التغير حتى لا يمين بينهما- و قال مقاتل ان اليهود أقرّوا ببعض صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم و كتموا بعضا ليصدّقوا فى ذلك فالحق إقرارهم و بيانهم و الباطل كتمانهم-

وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ مجزوم داخل تحت حكم النهى اى لا تكتموا- او منصوب بإضمار ان بعد الواو للجمع اى لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل و كتمان الحق

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) انه نبى مرسل و انكم تكتمون صفته فانه أقبح فان الجاهل قد يعذر-.

٤٣

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ اى صلوة المسلمين و زكاتهم- فيه دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع- و الزكوة مشتق من زكا الزرع إذ انما- او من تزكّى اى تطهر فان فيه تطهير المال و تنميته قال اللّه تعالى- يَمْحَقُ اللّه الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ-

وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) مع المصلين محمد صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه- ذكر بلفظ الركوع و هو ركن من اركان الصلاة لان صلوة اليهود لم يكن فيه ركوع- و فيه حث على الصلاة بالجماعة

(مسئلة) الجماعة ركن عند داود- و قال احمد فريضة و ليست بركن و عند الجمهور سنة مؤكدة قريب من الواجب يترك سنة الفجر مع كونها أكد السنن عند خوف فواتها- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة الجماعة تفضل صلوة الفرد بسبع و عشرين درجة- متفق عليه من- حديث ابن عمر.

٤٤

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ- اى بالطاعة و فيه تقرير مع توبيخ و تعجيب و البرّ التوسع في الخير مشتق من البر و هو الفضاء الواسع يتناول كل خير-

قال البغوي نزلت في علماء اليهود و ذلك ان الرجل منهم كان يقول لقريبه و حليفه من المسلمين إذا ساله عن امر محمد صلى اللّه عليه و سلم اثبت على دينه فان امره حق و قوله صدق- و كذا اخرج الواحدي عن ابن عباس- و قيل هو خطاب لاحبارهم حيث أمروا اتباعهم بالتمسك بالتورية و هم خالفوا التورية و غيروا نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم فيه-

وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركونها من البر كالمنسيات-

وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ التورية و فيها نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم و صفته و فيها الوعيد على العناد و مخالفة القول العمل و ترك البر

أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) قبح صنعكم او أ فلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون قبح عاقبته- و العقل في الأصل الحبس و منه عقال الدابة- فان العقل يمنع الإنسان عما يضره يعنى ما تفعلون مخالف للعلم و العقل-

روى البغوي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال رايت ليلة اسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم و هم يتلون الكتاب-

و روى ايضا عن اسامة بن زيد قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول- يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق اقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع اهل النار عليه فيقولون اى فلان ما شأنك الست كنت تأمرنا بالمعروف و تنهانا عن المنكر قال كنت أمركم بالمعروف و لا اتيه و أنهاكم عن المنكر و اتية-

قال البيضاوي المراد بالآية حث الواعظ على تزكية النفس و تكميله لا منع الفاسق عن الوعظ فان الإخلال بأحد الامرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالاخر-

قلت فمعنى قوله تعالى. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّه أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ان معصية العالم اكبر مقتا عند اللّه من معصية الجاهل لا ان امره بالمعروف ممقوت- و اللّه اعلم ثم لمّا أمرهم اللّه تعالى بما شق عليهم من ترك الرياسة و الاعراض عن الدنيا ارشدهم بما يعينهم على ذلك و يكفيهم في إنجاح حوائجهم فقال.

٤٥

وَ اسْتَعِينُوا على ما يستقبلكم من الحوائج و انواع البلاء

بِالصَّبْرِ بانتظار النجح و الفرح توكّلا على اللّه و حبس النفس عن الجزع فانه لا يغنى من القدر شيئا و حبس النفس عن المعاصي و على الطاعات فانه تعالى يقول ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ-

و قال مجاهد أراد بالصبر الصوم و منه سمى شهر رمضان شهر الصبر و ذلك ان الصوم يزهده في الدنيا و الصلاة يرغبه في الاخرة-

وَ الصَّلاةِ قيل الواو بمعنى على اى استعينوا بالصبر على الصلاة- قال اللّه تعالى- وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها- او هى بمعناها و للصلوة مدخلا فى دفع الهموم و إنجاح الحوائج-

روى احمد و ابو داود و ابن جرير من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان انه عليه الصلاة و السلام- كان إذا خرّ به امر فزع الى الصلاة- و يجوز ان يراد بها الدعاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من كانت له حاجة الى اللّه او الى أحد من بنى آدم فليتوضأ و ليحسن وضوءه ثم ليصل ركعتين ثم يثنى على اللّه و يصلى على النبي صلى اللّه عليه و سلم- و ليقل لا اللّه الا اللّه الحليم الكريم سبحان اللّه رب العرش العظيم الحمد للّه رب العلمين أسئلك موجبات رحمتك و عزائم مغفرتك و الغنيمة من كل بر و السلامة من كل اثم لا تدع لى ذنبا الا غفرته و لا هما الا فرجته و لا حاجة هى لك رضا الا قضيتها يا ارحم الراحمين- رواه الترمذي من حديث عبد اللّه بن ابى اوفى- و الحاكم في المستدرك نحوه-

وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ اى الاستعانة بهما- او جملة ما أمروا بها و نهوا عنها- او كل واحد من الخصلتين كما في قوله تعالى- كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها اى كل واحدة منهما او الصلاة ان كانت الواو في و الصّلوة بمعنى على و قيل خصت الصلاة برد الضمير إليها لعظم شأنها- او استجماعها ضروبا من الصبر كما قال اللّه تعالى- وَ اللّه وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ- ان رضاء الرسول داخل في رضاء اللّه تعالى و قيل معناه استعينوا بالصبر و انه لكبير و بالصلوة و انها لكبيرة اى ثقيلة شاقة فحذف أحدهما اختصارا

إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) و الخشوع السكون و منها الخشعة للرملة المتطأمنة- و هو في الصوت و البصر قال اللّه تعالى- خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ- و قال- خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ- و الخضوع اللين و الانقياد- و لذلك يقال الخشوع بالجوارح و الخضوع بالقلب- و المراد المؤمنين الساكنين الى طاعة اللّه تعالى الخائفين المتواضعين-.

٤٦

الَّذِينَ يَظُنُّونَ اى يتوقعون لقاء اللّه او يستيقنون به-

قال البغوي- الظن من الاضداد يكون شكا و يقينا يعنى مشترك بينهما- او يقال اطلق على اليقين مجازا لما شابهه في الرجحان قلت و في إيراد لفظ الظن هاهنا دون العلم و اليقين اشعار بان من كان غالب ظنه انه ملاقى اللّه و ان اللّه تعالى مجازيه على اعماله فالعقل الصحيح يهوّن عليه الصبر على الطاعة و عن المعصية مخافة الضرر الا ترى ان من كان غالب ظنه ان ماء القدح مسموم فهو يصبر على مشقة العطش و لا يشرب من ذلك الماء و كذا من كان غالب ظنه ان ما في القدح يورث الشفاء و القوة فهو يصبر على مرارته و يشربه- فكيف من كان يؤمن باللّه و بجزائه فانه يستحقر المشقة نظرا الى تحصيل رضائه و عظم جزائه بل يستلذ بامتثال امر المحبوب و توقع لقائه و من ثم قال عليه الصلاة و السلام جعلت قرة عينى في الصلاة- أخرجه الحاكم و النسائي-

أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ اى معاينوه يرونه في الاخرة- و الصلاة معراج المؤمن تكون للعبد وسيلة الى رؤية اللّه قال اللّه تعالى وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً و عن ربيعة بن كعب قال كنت أبيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاتيته بوضوئه و حاجته فقال لى سل فقلت أسئلك مرافقتك في الجنة قال او غير ذلك قال هو ذاك قال فاعنّى على نفسك بكثرة السجود- رواه مسلم و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- اقرب ما يكون العبد الى الرب و هو ساجد- رواه مسلم و قيل المراد باللقاء الصيرورة و الحشر اليه-.

وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) فيجازيهم بأعمالهم- و ملاحظة الرجوع الى اللّه يهون الصبر عليه و لذلك سن للمصاب قول إِنَّا للّه وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ-.

٤٧

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرره للتأكيد و تذكير التفضيل و هو أجل النعم و ربطه بالوعيد الشديد

وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ يريد تفضيل ابائهم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام و بعده ما لم يغيروا دينهم- فضلهم اللّه تعالى بما سنح عليهم من النبوة و الكتاب و الايمان و العلم و الأعمال الصالحة و الملك و العدالة و مناصرة الأنبياء و انما عد نعمة عليهم لان فضل الآباء يوجب شرفا في الأبناء- و فيه حثهم على تحصيل ذلك الفضل إذ لم يكن فضلهم الا باتباع الوحى و الأنبياء و الكتاب و يمكنهم تحصيله باتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم و القران و فيه اتباع موسى و التورية

عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) اى على عالمى زمانهم كذا اخرج ابن جرير عن مجاهد و ابى العالية و قتادة- او على من لم يستجمع ذلك الفضائل من العالمين.

٤٨

وَ اتَّقُوا يَوْماً اى ما فيه من العذاب لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ كافرة- للايات و الأحاديث الدالة على الشفاعة لاهل الكبائر و عليه انعقد الإجماع

شَيْئاً من الحقوق فنصبه على المفعولية او لا تجزى شيئا من الجزاء فنصبه على المصدرية- و قيل لا تغنى شيئا من الإغناء و قيل لا تكفى شيئا من الشدائد- و العائد محذوف تقديره لا تجزى فيه و من لم يجوز حذف العائد قال اتسع فيه فحذف الجار و أجري مجرى المفعول به ثم حذف

وَ لا يُقْبَلُ قرا ابن كثير و ابو عمرو و يعقوب بالتاء المنقوطة من فوق و الباقون بالياء فان الفاعل مؤنث غير حقيقى يجوز فيه التذكير و التأنيث

مِنْها اى من العاصية او من الشافعة

شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ اى فدية و قيل البدل و أصله التسوية

وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) يمنعون من عذاب اللّه تعالى- و الضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة فى سياق النفي الدالة على العموم و الكثرة- أريد بالآية نفى ان يدفع العذاب عن أحد من الكفار أحد بوجه من الوجوه- فانه اما ان يكون قهرا فهو النصرة- او بلا قهر مجانا و هو الشفاعة- او بأداء ما كان عليه و هو ان يجزى عنه او بغيره و هو ان يعطى عنه عدلا- و الاية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم ان آباءهم يشفعهم-.

٤٩

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ- اى اسلافكم تفصيل لما أجمله من النعم عطف على نعمتى عطف الخاص على العام و فيه منة عليهم حيث نجوا بنجاتهم

مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ اى اتباعه و اهل دينه أصله اهل بدليل اهيل خص بالاضافة الى العظماء من الأنبياء و الملوك- و فرعون لقب لملك العمالقة و كان فرعون موسى وليد بن مصعب بن الريان عمّر اكثر من اربعمائة سنة- و فرعون يوسف ريان و كان بينهما اكثر من اربعمائة سنة-

يَسُومُونَكُمْ يكلفونكم و يذيقونكم- و اصل السوم الذهاب في طلب الشي ء و قيل معناه يصرفونكم في اصناف العذاب كالابل السائمة في البرية و ذلك ان فرعون جعل بنى إسرائيل أصنافا في الأعمال يبنون و يحرثون- و يحملون الأثقال- و يؤدون الجزية و النساء يغزلن لهم

سُوءَ الْعَذابِ اى أشده و سواه و هو مصدر ساء يسوء- مفعول ليسومونكم و الجملة حال من الضمير في نجينكم- او من ال فرعون- او منهما جميعا

يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ بيان ليسومونكم و لذلك لم يذكر بالعطف بل على البدل

وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ-

قال البغوي و ذلك ان فرعون راى في منامه كانّ نارا أقبلت من بيت المقدس و أحاطت بمصروا حرقت لكل قبطى بها و لم يتعرض لبنى إسرائيل فهاله ذلك و سال الكهنة عن رؤياه فقالوا يولد في بنى إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك و زوال ملكك- كذا اخرج ابن جرير عن السدى-

قال البغوي- فامر فرعون بقتل كل غلام يولد في بنى إسرائيل و جمع القوابل فقال لهن لا يولد غلام من بنى إسرائيل الا قتل و لا جارية الا تركت حتى قيل انه قتل في طلب موسى اثنى عشر الف صبى- و قال وهب- بلغني انه ذبح تسعون الفا «١»-

(١) فى الأصل تسعون الف

ثم اسرع الموت في مشيخة بنى إسرائيل فدخل رءوس القبط على فرعون و قالوا ان الموت قد وقع في بنى إسرائيل فيذبح صغارهم و يموت كبارهم فيوشك ان يقع العمل علينا فامر فرعون ان يذبحوا سنة و يتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها و موسى في السنة التي يذبحون فيها

وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ البلاء معناه الاختبار فتارة تكون بالشدة و العذاب يختبر مصابرتهم- و تارة بالنعمة و الرخاء يختبر به شكرهم قال اللّه تعالى- وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً- فالواجب الشكر عند الرخاء و الصبر عند الشدة- و المشار اليه بذلكم اما انجاؤهم من ال فرعون فالمراد به الثاني- و اما سومهم سوء العذاب فالمراد به الاول

مِنْ رَبِّكُمْ بتسليط فرعون او ببعث موسى و توفيقه تخليصكم عَظِيمٌ (٤٩) صفة بلاء-.

٥٠

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فلقناه بدخولكم- و قيل معناه فرقنا لكم و ذلك انه لما دنا هلاك فرعون و امر اللّه موسى ان يسرى ببني إسرائيل امر موسى قومه ان يسيروا بالليل و يسرّجوا فى بيوتهم-

و اخرج اللّه كل ولد زنا في القبط من بنى إسرائيل إليهم و بالعكس و القى الموت على القبط و اشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا و طلعت الشمس و خرج موسى في ستمائة الف او اكثر- و كانوا دخلوا مصر مع يعقوب اثنين و سبعين إنسانا- فلما أرادوا السير في الليل ضرب عليهم التيه فلم يدراين يذهبون- فسال مشيخة بنى إسرائيل فقالوا ان يوسف لما حضره الموت أخذ على اخوته عهدا ان لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فسالهم عن قبره فلم يعلموا فنادى موسى انشد اللّه كل من يعلم موضع قبر يوسف الا أخبرني به و من لم يعلم به فصمت أذناه عن قولى- فلم يسمع الا عجوز فقالت لو دللت أ تعطيني كل ما سالتك فابى و قال حتى اسئل ربى فامره اللّه- فقالت لا أستطيع المشي فاخرجنى من مصر و في الاخرة لا تنزل في غرفة من الجنة الا نزلتها معك قال نعم- قالت «١» انه في جوف النيل فدما اللّه فحسر عنه فاخرجه في صندوق و حمله و دفنه بالشام-

(١) فى الأصل قال

فساروا و موسى على ساقتهم و هارون على مقدمتهم- و امر فرعون قومه ان لا يخرجوا في طلب بنى إسرائيل حتى يصيح الديك فو اللّه ما صاح ديك تلك الليلة- فخرج فرعون و على مقدمته هامان في الف الف و سبعمائة الف- و كان فيهم سبعون الفا من دهم- فسارت بنوا إسرائيل الى البحر و الماء في غاية الزيادة- فاذا هم بفرعون حين أشرقت فتحيروا-

فلما تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ موسى كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فاوحى اللّه اليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ و ظهر فيه اثنا عشر طريقا بعدد الأسباط و ارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل و أرسل اللّه الريح و الشمس على قعر البحر حتى يبس الطرق و خاضت كل سبط بنى اسراءيل في طريق و لا يرى بعضهم بعضا بحجاب الماء فخافوا على إخوانهم بالغرق- فاشتبك الماء بإذن اللّه حتى يرى بعضهم من بعض و يسمع فعبروا سالمين.

فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ- و ذلك ان فرعون لما راى البحر منفلقا قال هذا من هيبتى حتى أدرك عبيدى الآبقين- و كان فرعون على حصان أدهم و لم يكن في خيل فرعون أنثى فجاء جبرئيل على فرس أنثى فاقتحم البحر فلما اشتم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في اثرها و هم لا يرونه و لا يملك فرعون من امره شيئا و اقتحم الخيول جملة خلفه في البحر و جاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم و يقول الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم و كان بين طرفى البحر اربعة فراسخ و هو بحر قلزم بحر من بحار فارس قال قتادة بحر من وراء مصر يقال له اساف و ذلك بمراء من بنى إسرائيل فذالك قوله تعالى

وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) الى مصارعهم-.

٥١

و إذ وعدنا- قرا ابو جعفر و ابو عمرو وعدنا و وعدنكم حيث وقع بلا الف و الباقون واعدنا بالألف و معناهما واحد نحو عاقبت اللص- و قال الزجاج كان من اللّه الأمر و من موسى القبول و من ثم ذكر المواعدة- و قيل وعد اللّه الوحى و وعده موسى «١» المجي ء الى الطور

مُوسى قرا حمزة و الكسائي بالامالة و كذا يميلان كل ما كان من الأسماء و الافعال من ذوات الياء نحو موسى و عيسى و يحيى و الموتى- و طوبى- و أخرى- و كسالى و أسارى- و يتمى و فرادى و نصرى- و الأيامى و الحوايا و بشرى و ذكرى- و ضيزى و شبهها مما الفه للتانيث و كذلك العمى و الهدى و الضّحى و الرّؤيا- و مأويه و ماويكم- و مثويه- و مثويكم و ما كان مثله من المقصور و كذلك الأدنى- و ازكى و اولى و أعلى و شبهها من الصفات و كذا نحو اتى و سعى و زكّى- فسوّى- و يخفى و يرضى- و يهوى و شبهها من الافعال مما الفه منقلبة من ياء و كذلك اما لا انّى التي بمعنى كيف نحو انّى شئتم و انّى لك- و كذلك متى و بلى و عسى حيث كان و كذلك ما أشبهه مما هو مرسوم بالياء ما خلا حمس و هى حتّى و لدى و على و الى و ما زكى فانها مفتوحات اجماعا- و كذلك مفتوح بالإجماع جميع ذوات الواو من الأسماء و الافعال نحو الصّفا و سنا برقه و بدا و دنا و عفا و علا و شبهها ما لم يقع بين ذوات الياء فى سورة اواخر ايها ياء او تلحقه زيادة نحو تدعى- و تبلى- فمن اعتدى و من استعلى و انجيكم و نجّينا و نجّيكم- و زكّيها و شبهها فانها بالزيادة التحقت بذوات الياء-

و قرا ابو عمرو بالامالة مما تقدم ما كان فيها راء بعدها ياء و ما كان راس اية في سورة او اخر ايها على ياء هاء و الف او كان على وزن فعلى بفتح الفاء «٢» او الكسر او الضم و لم يكن فيه راء قراها بين اللفظين و ما عدا ذلك بالفتح-

و قرا ورش جميع ذلك بين بين الا ما كان في سورة او اخر ايها على هاء و الف فانه أخلص الفتح فيه- و امال ابو بكر رمى في الأنفال و أعمى في الموضعين في سبحان و تابعه ابو عمرو على امالة أعمى في الاول لا غير و فتح ما عدا ذلك و امال حفص مجريها في هود لا غير-

(١) في الأصل الموسى

(٢) فى الأصل بفتح العين و هو سبق قلم او من الناسخ-

و روى عن ابى عمرو يويلتى يحسرتى و انّى إذا كان استفهاما بين اللفظين و يا سفى بالفتح- و كلما ذهب الالف الممال لاجتماع الساكنين و صلا لا يمال وصلا و يمال وقفا نحو هدى للمتّقين- و موسى الكتب فعند الوقف على هدى و موسى يمال لا وصلا-

و روى اليزيدي عن ابى عمرو امالة الراء مع الساكن و صلا نحو يرى و يرى الذين أمنوا- و النّصرى المسيح- و الكبرى اذهب- و القرى الّتى و شبهها- و تفرد الكسائي بامالة أحيا- فاحيا به- و أحياها حيث وقع و خطيكم- و خطيهم و خطينا- و رؤيا و رءياى- و مرضات اللّه و مرضاتى حيث وقع و حقّ تقته في ال عمران قد هدان في الانعام و من عصانى في ابراهيم- و ما أنسانيه في الكهف و آتاني الكتب و أوصاني بالصّلوة في مريم ممّا آتان اللّه في النمل- و محياهم في الجاثية- دحيها فى النازعت- تلها و طحيها في و الشمس و سجى في و الضحى و اتفق الكسائي مع حمزة في امالة يحيى- و لا يحيى-

و امات و أحيا إذا كان منسوقا بالواو و لا غير و الدّنيا و العليا و الحوايا- و الضّحى و ضحيها و الرّبوا و انّنى هدينى و آتاني في هود و لو انّ اللّه هدينى- و منهم تقة- و مزجية و اناه و تابعهما هشام في امالة اناه فقط و فتح الباقون جميع ذلك-

أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثلثون من ذى القعدة و عشر من ذى الحج- لما عادوا الى مصر بعد هلاك فرعون وعد اللّه موسى ان ينزل عليه التورية فقال موسى انّى ذاهب الى ربّى و واعدهم أربعين ليلة و استخلف هارون و جاء جبرئيل على فرس الحيوة لا يصيب شيئا الا احيى ليذهب بموسى الى ربه فلما راى السامري موضع الفرس يخضر و كان رجلا صائغا من اهل باجرمى

و قيل من اهل كرمان و كان منافقا اظهر الإسلام و كان من قوم يعبدون البقر أخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرئيل و كان بنوا إسرائيل استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعلة عرس لهم فاهلك اللّه فرعون و بقيت الحلي عندهم- فلما فصل موسى قال السامري ان الحلي التي استعرتم من قوم فرعون غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفرة و ادفنوا فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه- و قال السدى أمرهم بها هرون- فاخذ السامري و صاغها عجلا في ثلثة ايام و القى فيها القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبرئيل فخرجت عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر يخور خورة و يمشى- فقال السامري هذا إل هكم و إله موسى فنسى- و كان «١» بنوا إسرائيل عدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضت عشرون يوما و لم يرجع موسى قالوا مات فوقعوا في الفتنة بروية العجل و أضلهم السامري-

(١) فى الأصل و كانت.

و قيل كان موسى وعد لهم ثلثين ليلة ثم زيدت العشرة و فيها فتنتهم فعبدوا العجل كلهم الا هارون مع اثنى عشر الف رجل-

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الها- اظهر ابن كثير و حفص الذال من أخذت و اتّخذت و ما و رويس بخلاف عنه- ابو محمد كان من لفظه حيث وقع و الباقون يدغمونها مِنْ بَعْدِهِ اى موسى يعنى بعد ذهابه

وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ضارون أنفسكم واضعون العبادة في غير موضعه.

٥٢

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ حين تبتم- و العفو محو الجريمة من عفا إذا درس- مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاتخاذ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) لكى تشكرون- قيل الشكر هو الطاعة و يكون بالقلب و اللسان و الجوارح قال الحسن- شكر النعمة ذكرها- و قال سيد الطائفة جنيد شكر النعمة صرفها في رضاء المنعم-

و قيل حقيقة الشكر العجز عن الشكر-

قال البغوي حكى عن موسى قال- الهى أنعمت علىّ النعم السوابغ و أمرتني بالشكر و انما شكرى إياك نعمة منك- قال اللّه تعالى يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوقه علم حسبى من عبدى ان يعلم انّ ما به من نعمة فهو منى- و قال داود سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.

٥٣

وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى التورية. وَ الْفُرْقانَ قيل هى التورية ذكرها باسمين و قال الكسائي الفرقان نعت الكتاب و الواو زائدة يعنى الفارق بين الحق و الباطل

و قيل أراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المحق و المبطل- او الشريعة الفارقة بين الحلال و الحرام

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) بتدبر الكتاب-.

٥٤

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل

يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أضررتم أنفسكم

بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا فارجعوا إِلى بارِئِكُمْ اى من خلقكم بريّا من التفاوت و ميّز بعضكم عن بعض بصور و هيات مختلفة- و اصل التركيب لخلوص الشي ء من غيره اما على سبيل التقضي نحو برى ء المريض و المديون او الإنشاء نحو برا للّه آدم من الطين قرا ابو عمرو بارئكم في الحرفين و يأمركم- و يأمرهم- و ينصركم- و يشعركم باختلاس حركة الاعراب و قيل بالإسكان فيصير الهمزة ياء «١» على مذهبه

و قرا الباقون بتمام الحركة

(١) و المختار بل الصحيح عدم الابدال و اليه ذهب المحققون جميعا- ابو محمد [.....]

و امال الكسائي بارئكم بالحرفين و البارئ المصوّر- و سارعوا- و يسارعون و يسارع حيث وقع و الجار في الموضعين و جبّرين في الموضعين و الجوار في الشورى و الرحمن و كورت و من انصارى الى اللّه في المكانين و كمشكوة في النور

و قرا ورش الجار و الجبّارين بين بين-

فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ اى ليقتل البري ء منكم المجرم تماما لتوبتكم- و يجوز ان يكون الفاء لتفسير التوبة يعنى فاقتلوا أنفسكم هذه توبتكم

ذلِكُمْ اى القتل خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ لانه طهرة من الشرك و وصلة الى الحيوة الابدية و البهجة السرمدية- فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر بامر اللّه- فجلسوا في الافنية محتبين و قيل من حل حبوته او مد طرفه الى قاتله- او اتقاه بيد او رجل فهو ملعون مردود توبته وسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه و أباه و أخاه و قريبه و صديقه فلم يمكنهم المضي لامر اللّه تعالى قالوا يا موسى كيف نفعل فارسل اللّه ضبابة يعنى بخارا متصاعدا من الأرض او سحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا و كانوا يقتلون الى المساء فلما كثر القتل دعا موسى و هارون و بكيا و تضرعا و قالا يا رب هلكت بنوا إسرائيل فكشف اللّه السحابة و أمرهم ان يكفوا عن القتل فتكشف عن ألوف من القتلى-

روى عن على انه قال كان عدد قتلى سبعين الفا فاشتد ذلك على موسى فاوحى اللّه تعالى اليه اما يرضيك ان ادخل القاتل و المقتول في الجنة و كان من قتل منهم شهيدا و من بقي مكفرا عنه ذنوبه

فَتابَ عَلَيْكُمْ فتجاوز عنكم متعلق بمحذوف- فان كان من كلام موسى فتقديره ان فعلتم القتل فقد تاب اللّه عليكم- و الا فتقديره على طريقة الالتفات من الغيبة الى الخطاب ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم-

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ القابل للتوبة يكثر قبولها او يكثر توفيق التوبة الرَّحِيمُ (٥٤).

٥٥

وَ إِذْ قُلْتُمْ حين امر اللّه موسى ان يأتيه في ناس من بنى إسرائيل معتذرين اليه من عبادة العجل فاختار سبعين رجلا من خيارهم- و قال لهم صوموا و تطهروا و طهروا ثيابكم ففعلوا فخرج بهم الى طور سيناء فقالوا له اطلب لنا نسمع كلام ربنا- فلما دنا موسى من الجبل وقع عليهم عمود الغمام و تغشى الجبل كله فدخل في الغمام و قال لهم حين دخلوا في الغمام خروا سجدا- و كان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد ان ينظر اليه فضرب دونهم الحجاب فسمعوه و هو يكلم بأمره و ينهاه- و أسمعهم اللّه انى انا اللّه لا اله الا انا ذو بكة أخرجتكم من ارض مصر بيد شديدة فاعبدونى و لا تعبدوا غيرى- فلما فرغ موسى و انكشف الغمام و اقبل إليهم-

قالوا يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ اى لاجل قولك- او لن نقر لك ان اللّه الذي اعطاك التورية و كلمك او انك نبى

حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً- عيانا و هى في الأصل مصدر جهرت بالقراءة- استعير للمعاينة و نصبها على المصدر لانها نوع من الرؤية او الحال من الفاعل او المفعول به

فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ اى الموت و قيل نار جاءت من السماء فاحرقتهم

وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ينظر بعضكم الى بعض ما أصابكم بنفسه او اثره- فلما هلكوا جعل موسى عليه السلام يبكى و يتضرع و يقول ماذا أقول لبنى إسرائيل و قد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا- فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم اللّه تعالى رجلا بعد رجل بعد ما ماتوا يوما و ليلة ينظر بعضهم الى بعض كيف يحيون فذلك قوله تعالى.

٥٦

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم و البعث اثارة الشي ء من محله

مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ قال قتادة أحياهم ليستوفوا بقية اجالهم و أرزاقهم و لو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا الى يوم القيامة

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) نعمة البعث او ما كفرتموه لما رايتم بأس اللّه بالصاعقة-.

٥٧

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ الغمام من الغم أصله التغطية و هو يغطى وجه الشمس لما لم يكن لهم في التيه كنّ يسترهم فشكوا الى موسى عليه السلام فارسل اللّه غما ما ابيض رقيقا أطيب من غمام المطر فظلّهم من الشمس- و جعل لهم عمدا من نور تضى ء لهم بالليل إذا لم يكن قمر-

وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ فى التيه قيل هو الخبز الرقاق- و الأكثرون على انه الترنجبين

و قال مجاهد هو شى ء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد فقالوا يا موسى قتلنا هذا لمن بحلاوته فادع لنا ربك يطعمنا اللحم فانزله اللّه

وَ السَّلْوى و هو طائر يشبه السمانى- و قيل هو السمانى بعث اللّه تعالى سحابة فمطرت السمانى في عرض ميل و طول رمح في السماء بعضه على بعض و كان ينزل المن و السلوى كل صباح من طلوع الفجر الى طلوع الشمس فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يومه و ليلته فاذا كان يوم الجمعة أخذ ما يكفيه ليومين و لم يكن ينزل يوم السبت و

قلنا لهم

كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ حلالات لذيذات

ما رَزَقْناكُمْ و لا تدخروا لغد ففعلوا فقطع اللّه ذلك عنهم و فسد ما ادخروه- روى احمد و الشيخان عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- لولا بنوا إسرائيل لم يخبث الطعام و لم يخنز اللحم- و لو لا حواء لم تخن أنثى زوجها-

وَ ما ظَلَمُونا فيه اختصار و أصله فظلموا بكفران النعمة و ما ظلمونا

وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) باستيجابهم عذابى و قطع مادة الرزق الذي ينزل عليهم بلا مشقة في الدنيا و لا حساب في الاخرة-.

٥٨

وَ إِذْ

قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ قال ابن عباس هى أريحا و هى قرية الجبارين كان فيها بقية عاد يقال لهم العمالقه-

و قال مجاهد بيت المقدس- و قيل ايليا و قيل الشام

فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً- واسعا نصبه على المصدر او الحال من الواو اى موسعا عليكم-

وَ ادْخُلُوا الْبابَ اى بابا من أبواب القرية و كان لها سبعة أبواب

سُجَّداً اى خضعا منحنين قال وهب اى إذا دخلتموه فاسجدوا للّه شكرا-

وَ قُولُوا حِطَّةٌ اى مسئلتنا حطة اى تحط عنا خطايانا- قال ابن عباس قولوا لا اللّه الا اللّه لانها تحط الذنوب-

نَغْفِرْ لَكُمْ من الغفر و هو الستر قرا نافع بالياء المضموم و فتح الفاء-

و قرا ابن عامر بالتاء المضموم و في الأعراف قرا كلاهما. و يعقوب بالتاء المضموم و الباقون بالنون المفتوح و كسر الفاء فيهما

خَطاياكُمْ أصله خطاى ء على وزن ذبايح أبدلت الياء الزائدة همزة و اجتمعت الهمزتان فابدلت الثانية ياء عند سيبويه و عند الخليل قدمت الهمزة على الياء فصار خطاءى- و على التقديرين أبدلت الياء الفا و كانت الهمزة بين الفين فابدلت ياء-

وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) ثوابا- جعل الامتثال ثوبته للمسى ء و زيادة ثواب للمحسنين- أخرجه عن صورة الجواب إيهاما بان الامتثال يفعله المحسن البتة-.

٥٩

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ظاهر الاية تدل على ان بنى إسرائيل لم يبدّلوا كلهم و لذا لم يضمروا بل بدّل بعضهم بما أمروا به من التوبة و الاستغفار طلب ما يشتهون من اعراض الدنيا- روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قيل لبنى إسرائيل ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم و قالوا حبة في شعيرة

فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا- كرره مبالغة في تقبيح أمرهم و اشعارا بان الانزال عليهم بسبب ظلمهم بوضع غير المأمور به في موضعه- و إتيانهم موجب هلاكهم-

قلت و لعله لتخصيص ذلك العذاب بالذين ظلموا منهم دون سائرهم رِجْزاً عذابا اخرج ابن جرير عن ابن عباس كل شى ء في القران من الرجز عنى به العذاب- و الرجز فى الأصل ما يعاف عنه و يتنفر عنه الطبع و كذلك الرجس مِنَ السَّماءِ قيل أرسل عليهم طاعون فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون الفا-

و اخرج ابن جرير عن ابن زيد- الطاعون رجز نزل على من كان قبلكم

بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) اى يخرجون من امر اللّه تعالى-.

٦٠

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ- لما عطشوا في التيه فسالوا موسى

فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ و كانت من أس الجنة طولها عشرة اذرع على طول موسى و لها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا حملها آدم من الجنة فتوارثت الأنبياء حتى وصلت الى شعيب فاعطاها موسى

الْحَجَرَ اللام فيه للعهد قال ابن عباس كان حجرا مربعا مثل رأس الرجل كان يضعه في مخلاته- و قال عطاء- كان للحجر اربعة وجوه لكل وجه ثلث أعين لكل سبط عين- قال سعيد بن جبير هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه ليغتسل ففرّ بثوبه «١» و مر به على ملإ من بنى إسرائيل حين رموه بالادرة- فلما وقف أتاه جبرئيل فقال ان اللّه عزّ و جلّ يقول ارفع هذا الحجر فلى فيه قدرة و لك فيه معجزة- فرفعه و وضعه في مخلاته- و قصة فرار الحجر في الصحيحين و ليس فيهما انه لما وقف أتاه جبرئيل الى آخره-

(١) فى الأصل ثوبه-

و اخرج عبد بن حميد عن قتادة انه كان حجرا من الطور يحملونه معهم- قيل كان الحجر من الرخام و قيل كان من الكدان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع كل حفرة عين ماء عذب فاذا فرغوا و أراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء- و كان يسقى كل يوم ستمائة الف- او كان اللام للجنس كما قال وهب- انه لم يكن حجرا معينا بل كان موسى يضرب اى حجر كان فينفجر عيونا- قال عطاء- كان موسى يضربه ثنتى عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربة مثل ثدى المرأة يعرق منه ثم ينفجر الأنهار ثم يسيل-

فَانْفَجَرَتْ متعلق بمحذوف تقديره فان ضربت انفجرت او فضرب فانفجرت- قال اكثر المفسرين انفجرت- و انبجست بمعنى واحد و قال ابو عمرو انبجست عرقت و انفجرت سالت

مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً على عدد الأسباط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل سبط

مَشْرَبَهُمْ موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه- و

قلنا لهم

كُلُوا من المن و السلوى وَ اشْرَبُوا من الماء فهذا كله

مِنْ رِزْقِ اللّه الذي يأتيكم بلا مشقة وَ لا تَعْثَوْا العثى أشد الفساد

فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) حال مؤكدة و

قال البيضاوي- انما قيد لان العثى و ان غلب في الفساد فانه قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المتعدى بفعله- و منه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر الغلام و خرقه السفينة-

قلت و يمكن ان يراد بالعثى مطلق التبذير كما في حديث عمر قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كسرى و قيصر يعثيان فيما يعثيان فيه و أنت هكذا يعنى يبذّران المال تبذيرا- و حينئذ قوله تعالى مفسدين تقييد-.

٦١

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ يعنى ما رزقوا في التيه من المن و السلوى و أرادوا بالواحد ما لا يتبدل و لا يتغير ألوانه

فَادْعُ لَنا رَبَّكَ سله يُخْرِجْ لَنا مجزوم في جواب ادع

مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من للتبعيض و أسند الفعل الى الأرض مجازا اقامة للقابل مقام الفاعل

مِنْ بَقْلِها و هو ما أنبته الأرض من الخضر وَ قِثَّائِها وَ فُومِها قال ابن عباس الفوم الخبز و قال عطاء الحنطة

وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها الظرف بيان وقع موقع الحال و قيل بدل باعادة الجار

قالَ لهم اللّه او موسى

أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى اخس و اردا- و اصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد في الشرف و الرفعة

بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعنى المن و السلوى فانه أفضل و اشرف لكونه بلا تعب في الدنيا و حساب في الاخرة و انفع للبدن فان أبيتم الا ذلك فانزلوا من التيه

و اهْبِطُوا مِصْراً من الأمصار و قال الضحاك هو مصر فرعون و انصرف لسكون أوسطه-

فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اى أحيطت بهم احاطة القبة بمن ضربت عليه او الصقت بهم من ضرب الطين على الحائط مجازاة لهم على كفران النعمة

الذِّلَّةُ الهوان وَ الْمَسْكَنَةُ اى الفقر فانه يقعد المرء عن الحركة و يسكنه فترى اليهود و ان كانوا مياسير كانهم فقراء بلباس الذلة و قيل هى فقر القلب و الحرص على المال

وَ باؤُ رجعوا و لا يستعمل الا في الشر بِغَضَبٍ مِنَ اللّه ذلِكَ الغضب

بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه بالإنجيل و القران و آيات التورية التي في نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم

وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ قرا نافع بهمزة النّبيئين- و النّبى ء- و الأنبياء- و النّبوءة- و ترك قالون الهمز في الأحزاب للنّبىّ ان أراد- و بيوت النّبىّ الّا ان يؤذن في الوصل خاصة بناء على أصله في الهمزتين المكسورتين- و إذا كان مهموزا فمعناه المخبر من أنبأ ينبئ و نبأ ينبى ء و الباقون بترك الهمز- فحينئذ ترك الهمزة اما ان يكون للتخفيف لكثرة الاستعمال او يكون معناه الرفيع من النّبوة و هى المكان المرتفع

بِغَيْرِ الْحَقِّ- يعنى في اعتقادهم إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز القتل و انما حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا- و انما قلت ذلك لان قتل النبي لا يكون الا بغير الحق روى ان اليهود قتلت سبعين نبيا في يوم واحد أول النهار

ذلِكَ اى الكفر و القتل و انما جاز الاشارة الى اثنين بالمفرد بتأويل ما ذكر و الذي حسّن ذلك ان تثنية المضمرات و المبهمات و جمعها ليست على الحقيقة و لذلك جاز الذي بمعنى الجمع

بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) يعنى كثرة المعاصي و الاعتداء فيه افضاهم الى الكفر و قتل الأنبياء و قيل كرر الاشارة للدلالة على ان لحوق الغضب بهم كما هو بسبب الكفر كذلك بالمعاصي و اعتداء حدود اللّه-.

٦٢

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم بألسنتهم أعم من ان يؤمنوا بقلوبهم او لم يؤمنوا فدخل فيهم المنافقون

وَ الَّذِينَ هادُوا اى تهوّدوا- يقال هاد إذا دخل في اليهودية و يهود اما عربى من هاد بمعنى تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل- او لقولهم انّا هدنا إليك و اما معرّب يهودا سموا بذلك اسم اكبر أولاد يعقوب

وَ النَّصارى جمع نصران كندمان و الياء في النصراني للمبالغة كما في أحمري سموا بذلك لانهم نصروا المسيح او لانهم نزلوا مع المسيح في قرية يقال لها ناصرة او نصران-

وَ الصَّابِئِينَ قرا اهل المدينة بغير الهمزة و الباقون بالهمزة و أصله الخروج يقال صبا فلان إذا خرج من دين الى اخر- و صبا ناب البعير إذا خرج-

و هم خرجوا من كل دين- قال عمرو ابن عباس هم قوم من اهل الكتاب- فقال عمر يحل ذبائحهم و قال ابن عباس لا يحل ذبائحهم و لا مناكحتهم-

و قال مجاهد هم قوم نحو الشام بين اليهود و المجوس من اهل الكتاب- و قال الكلبي هم بين اليهود و النصارى- و قال قتادة ...

هم قوم يقرءون الزبور و يعبدون الملائكة و يصلّون الى الكعبة أخذ و من كل دين شيئا

مَنْ آمَنَ منهم بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ مع محمد صلى اللّه عليه و سلم بالقلب و اللسان-

و قيل المراد بالذين أمنوا المخلصين من امة محمد صلى اللّه عليه و سلم-

و قيل هم المؤمنون من الأمم الماضية-

و قيل هم الذين أمنوا قبل البعث و هم طلاب الدين مثل حبيب النجار- و قس بن ساعدة- و زيد بن عمرو بن نفيل- و ورقة بن نوفل- و البراء الشنّى- و ابى ذر الغفاري و سلمان الفارسي- و بحيرا الراهب- و وفد النجاشي فمنهم من أدرك النبي صلى اللّه عليه و سلم و تابعه و منهم من لم يدركه قال الخطيب الّذين أمنوا بإبراهيم

وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ الذين كانوا على دين موسى و عيسى قبل النسخ- و حينئذ المراد بمن أمن اى مات منهم على الايمان-

قلت و يمكن ان يكون من أمن اشارة الى الذين «١» كمل ايمانهم بتصفية القلب و تزكية النفس و القالب و هم الصوفية- كما في قوله عليه السلام... لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده و ولده و الناس أجمعين- رواه الشيخان و احمد و النسائي و ابن ماجة عن انس

(١) لكن يلفو حينئذ ذكر العمل الصالح لان كمال الايمان بتصفية لقلب و تزكية النفس و القالب ليس وراءه مرتبة يعز عنها بالعمل الصالح-

قلت العمل الصالح لازم لتصفية القلب و تزكية النفس و القالب و مترتب عليه لاغيره قال عليه السلام ان في جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله فجاز العطف و ذكر العمل الصالح- منه رحمه اللّه مرفوعا-

و حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه. رواه الشيخان و احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن انس- و حديث لا يبلغ العبد حقيقة الايمان- حتى يحزن من لسانه- رواه الطبراني و صححه-

قال البغوي و يجوز ان يكون الواو مضمرة اى و من أمن بعدك-

وَ عَمِلَ صالِحاً على حسب امر اللّه تعالى

فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وعد لهم يعنى الجنة لجميع المؤمنين و مراتب القرب و التسنيم و عينا يشرب بها المقربون الكاملين

وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) حين يخاف الكفار من العقاب و يحزن المقصرون على تضيع العمر و تفويت الدرجات و من مبتدأ خبره فلهم أجرهم و الجملة خبر انّ- او بدل من اسم ان و خبره فلهم أجرهم- و الفاء لتضمن المسند اليه معنى الشرط و منع سيبويه دخولها في خبر ان- ورد بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ.

٦٣

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ باتباع موسى و العمل بالتورية

وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ و هو الجبل بالسريانية-

قال البغوي و ذلك ان اللّه تعالى انزل التورية على موسى عليه السلام فامر موسى قومه ان يقبلوها و يعملو باحكامها فابوا ان يقبلوها للاصار و الاغلال التي فيها و كانت شريعة ثقيلة فامر اللّه تعالى جبرئيل فقلع جبلا على قدر عسكرهم و كان فرسخا في فرسخ فرفعه فوق رءوسهم مقدار قامة الرجل كالظلة و قال لهم ان لم تقبلوا التورية أرسلت هذا الجيل عليكم- كذا اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس و قال عطاء عن ابن عباس رفع اللّه فوق رءوسهم الطور و بعث نارا من قبل وجوههم و أتاهم البحر الملح من خلقهم انتهى- و

قلنا لهم

خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من التورية بِقُوَّةٍ بجد و اجتهاد وَ اذْكُرُوا و ادرسوا

ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) لكى تتقوا المعاصي- او رجاء منكم ان تكونوا متقين- او لكى تتقوا من الهلاك في الدنيا و العذاب في الاخرة- فلما راوا ان لا مهرب قبلوا و سجدوا و جعلوا يلاحظون الجبل و هم سجود- فصارت سنة في اليهود يسجدون على انصاف وجوههم و يقولون بهذا السجود رفع العذاب عنا.

٦٤

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الوفاء بالميثاق

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ، يعنى بالامهال و تأخير العذاب- و يمكن ان يراد لو لا فضل اللّه عليكم ببعثة محمد صلى اللّه عليه و سلم حيث جعله رحمة للعالمين فبوجوده صلى اللّه عليه و سلم أمهل الكفار و اخر عنهم العذاب و رفع عنهم الخسف و المسخ

لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) المغبونين المعذبين في الحال كما كنتم معذبين الهالكين بوقوع الطور لو لم تقبلوا حكم اللّه حينئذ.

٦٥

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللام موطية للقسم- و السبت في الأصل القطع لان اللّه تعالى قطع فيها الخلق- او لان اليهود أمروا بقطع الأعمال فيه و التجرد للعبادة و القصة انهم كانوا زمن داود عليه السلام نحوا من سبعين «١» الفا بأرض حاضر البحر يقال لها ايلة حرم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت و ابتلاهم بانه إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر الا اجتمع هناك يخرجون خراطيمهم من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها- و يوم لا يسبتون لا تأتيهم فاحتالوا للصيد و حفروا حياضا و شرعوا إليها الجداول فاذا كان يوم السبت اقبل الموج بالحيتان الى الحياض فلا يقدرن على الخروج منها لبعد عمقها و قلة مائها فيصطادون يوم الأحد-

(١) فى الأصل الف

و قيل كانوا ينصبون الحبائل و الشصوص يوم الجمعة و يخرجونها يوم الأحد- و صار اهل القرية ثلثة اصناف صنف امسك و نهى و صنف امسك و لم ينه و صنف انتهك الحرمة- و كان الناهون اثنى عشر الفا فلما ابى المجرمون قبول نصحهم لعنهم داود و غضب اللّه عليهم

فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا امر تكوين قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) باعدين مطرودين.

٦٦

فَجَعَلْناها اى تلك العقوبة نَكالًا عبرة تنكل اى تمنع المعتبر و منه النكل للقيد

لِما بَيْنَ يَدَيْها اى لمعاصريهم وَ ما خَلْفَها اى من بعدهم فما بمعنى من او لاجل ما تقدم من ذنوبهم و ما تأخر- و قيل فيه تقديم و تأخير تقديره فجعلناها و ما خلفها اى ما أعد لهم من العذاب في الاخرة نكالا لمّا بين يديها من ذنوبهم

وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) للمؤمنين من امة محمد صلى اللّه عليه و سلم.

٦٧

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أول هذه القصة قوله تعالى وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها- و انما قدمت عليه ليدل بالاستقلال على نوع اخر من مساويهم و هو الاستهزاء بالأمر و الاستقصاء في السؤال و ترك المسارعة الى الامتثال- و القصة انه كان في بنى إسرائيل رجل غنىّ اسمه عاميل و له ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال له موته قتله ليرثه و حمله الى قرية اخرى و ألقاه بفنائهم- ثم أصبح يطلب ثاره و جاء بناس يدّعى عليهم القتل- فسالهم موسى عليه السلام فجحدوا فاشتبه الأمر على موسى فسالوه ليبين لهم بدعائه فقال موسى

إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً- مأخوذ من البقر بمعنى الشق و هى تبقر الأرض للحراثة قالُوا استبعادا لما قاله و استخفافا به

أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً مصدر بمعنى المفعول اى مهزوّا بنا- او حمل مبالغة او بحذف المضاف اى اهل هزو- قرا حفص هزوا- و كفوا بضم الزاء و الفاء من غير همز- و حمزة بإسكان الزاء و الفاء «١» و بالهمز و صلا فاذا وقف أبدل الهمزة واوا على أصله «٢» و الباقون بالضم و الهمزة-

قالَ موسى

(١) قرا يعقوب ايضا كفؤا بإسكان الفاء-

(٢) اصل الحمزة في أمثاله النقل و إسقاط الهمزة-

أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) فان الاستهزاء و الجواب لا على وفق السؤال من عادة الجهال- نفى عن نفسه ما رمى به على طريقة البرهان

و اخرج فى صورة الاستعاذة استعظاما له- فلما علم القوم ان ذبح البقرة عزم من اللّه عز و جل و كان حصول المقصود من ذبح البقرة مستبعدا عندهم و زعموا انها بقرة عظيمة الشأن فاستوصفوها و لم يكن ذلك الا لفرط حماقتهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو ذبحوا اى بقرة أرادوا لاجزتهم و لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم- رواه سعيد بن منصور عن عكرمة مرسلا و أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا و كان للّه تعالى فيه حكمة-

و ذلك انه كان في بنى إسرائيل رجل صالح له ابن طفل و كان له عجل اتى بها الى غيضة و قال اللّهم انى استودعك هذه العجل لابنى حتى يكبر و مات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عوانا و كانت تهرب من كل من راها- فلما كبر الابن كان بارا بوالدته و كان يقسّم الليلة ثلاثة أثلاث يصلى ثلثا و ينام ثلثا و يجلس عند رأس امه ثلثا فاذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتى به الى السوق فيبيعه بما شاء اللّه ثم يتصدق بثلثه و يأكل ثلثه و يعطى والدته ثلثه فقالت له امه يوما ان أباك ورثك عجلة استودعها اللّه في غيضة كذا فانطلق فادع اللّه ابراهيم و إسماعيل و إسحاق عليهم السلام ان يردها عليك و علامتها انك إذا نظرت إليها تخيل إليك ان شعاع الشمس يخرج من جلدها- و كانت تلك البقرة تسمّى المذهّبة لحسنها و صفرتها- فاتى الفتى الغيضة فراها ترعى فصاح بها و قال اعزم عليك باله ابراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب- فاقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها- فتكلمت بإذن اللّه تعالى و قالت ايها الفتى البار بوالدته اركبنى فان ذلك أهون عليك- فقال الفتى ان أمي لم تأمرنى و لكن قالت خذ بعنقها- فقالت البقرة باله بنى إسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر علىّ ابدا فانطلق فانك لو أمرت الجبل ان ينقلع من أصله و ينطلق معك لفعل لبرك بامك- فسار الفتى الى امه فقالت له انك فقير لا مال لك و شق عليك الاحتطاب بالنهار و القيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة- قال بكم أبيعها- قالت- بثلاثة دنانير و لا تبع بغير مشورتى-

و كانت ثمن البقرة ثلثة دنانير- فانطلق بها الى السوق فبعث اللّه ملكا ليرى خلقه قدرته و ليختبر كيف بره بامه و كان به خبيرا فقال الملك- بكم تبيع هذه البقرة قال بثلاثة دنانير و اشترط عليك رضا والدتي- فقال له الملك خذ ستة دنانير و لا تستأمر والدتك- فقال الفتى لو أعطيتني و زنها ذهبا لم أخذ الا برضا أمي فردها الى امه و أخبرها فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضى منى- فانطلق بها الى السوق و اتى الملك فقال استأمرت أمك- فقال الفتى انها أمرتني ان لا أنقصها من ستة على ان استأمرها-

فقال الملك انى أعطيك اثنى عشر على ان لا تستأمرها- فابى الفتى و رجع الى امه و أخبرها بذلك- فقالت ان الذي يأتيك ملك يأتى في صورة آدمي ليختبرك فاذا اتى فقل له أ تأمرنا ان نبيع هذه البقرة أم لا- ففعل- فقال له الملك اذهب الى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فان موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منكم لقتيل يقتل في بنى إسرائيل فلا تبيعوها الا بملا مسكها دنانير- فامسكوها و قدر اللّه تعالى على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها- فما زالوا يستوصفون حتى وصف لهم تلك مكافاة له على بره بوالدته فضلا منه و رحمة- فذلك قوله تعالى.

٦٨

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ اى ما حالها- كان حقه ان يقول اى بقرة- او كيف هى لان السؤال بما يكون عن الجنس غالبا لكنهم لما راوا ظهور القتل بذبح اى فرد من جنس البقرة مستبعدا و زعموا انها بائنة عن سائر البقرات بونا بعيدا حتى يكون كانه جنس اخر أجروه مجرى ما لا يعرفون حقيقته-

قالَ موسى إِنَّهُ اى الشأن يَقُولُ يعنى اللّه تعالى إِنَّها اى البقرة المأمور بها-

فان قيل عود الضمر إليها تدل على ان المراد من أول الأمر كانت بقرة معينة و يلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب-

قلت تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز- و انما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة- و ايضا عود الضمير إليها لا يدل على ان المراد كان من أول الأمر ذلك- كيف و المطلقة تدل على الإطلاق و لا دليل هناك على التقييد و من ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو ذبحوا اى بقرة اجزتهم لكن يدل على جواز تقييد المطلق المأمور به بعد ما كان جاريا على إطلاقه و يكون التقييد في حكم النسخ ان كان متراخيا كما في ما نحن فيه و يجوز النسخ قبل إتيان المأمور به كما في خمسين صلوة وجبت ليلة الاسراء و يكون تخصيصا ان لم يكن متراخيا كما في قوله تعالى

فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في قراءة الجمهور في كفارة اليمين- و ثلثة ايّام متتابعات في قراءة ابن مسعود رضى اللّه عنه- و لذلك ذهب ابو حنيفة الى ان المطلق لا يجوز حمله على المقيد ان كانتا في حادثتين كما في قوله تعالى تحرير رقبة في كفارة الظهار و رقبة مؤمنة في كفارة القتل- و كذا ان كانا فى حادثة واحدة و كان الإطلاق و التقييد في السبب نحو قوله صلى اللّه عليه و سلم أدوا عن كل حر و عبد و في حديث اخر أدوا عن كل حر و عبد من المسلمين- فعندنا يجب صدقة الفطر عن عبد مسلم بالحديثين جميعا و عن عبد كافر بالحديث الاول فقط لكن ان كانا في الحكم و الحادثة الواحدة «١» يحمل المطلق على المقيد البتة إذ لا سبيل الى الجمع بينهما الا به و المطلق يحتمل التقييد و لذا

قلنا بوجوب التتابع في صيام الكفارة في اليمين-

(١) فى الأصل واحدة-

روى ابن جرير عن ابى هريرة انه لما نزلت

وَ للّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قال عكاشة بن محصن أكل عام فاعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى أعاد ثلثا فقال لا و لو قلت نعم لوجبت و لو وجبت لما استطعتم- و هذا يدل على ان المطلق يحتمل التقييد

بَقَرَةٌ لا فارِضٌ مسنة لا تلد يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض بمعنى القطع كانها انقطعت سنها

وَ لا بِكْرٌ صغيرة لم تلد قط و تركيب البكر للاولية و منه الباكورة و حذفت الهاء منهما للاختصاص بالإناث كالحائض-

عَوانٌ اى نصف قال الجمهور العوان التي نتجت مرارا يقال عونت المرأة إذا زادت على الثلثين-

بَيْنَ ذلِكَ اى ما ذكر من الفارض و البكر فانه يضاف الى متعدد

فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) اى ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به او أمركم اى مأموركم- و فيه حث الى المسارعة فى الامتثال و توبيخ على تكرار السؤال.

٦٩

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها- فاقع تأكيد لصفرة لونها مرفوع على الفاعلية قال ابن عباس شديد الصفرة و قال الحسن الصفراء السوداء- و ليس بشى ء فان الفقوع خلوص الصفرة و لذلك يؤكد به فيقال اصفر فاقع كما يقال اسود حالك- و احمر قانى- و اخضر ناضر و ابيض تقق للمبالغة

تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) إليها «٢»- اى تعجبهم و السرور لذة في القلب عند حصول نفع او توقعه.

(٢) فى الأصل إليهم زائد

٧٠

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ تكرير للسوال الاول و استكشاف و قوله إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا اعتذار عنه اى البقرة الموصوفة بما ذكر كثيرة فاشتبه علينا ما يحصل به مقصودنا و لم يقل تشابهت لتذكير لفظ البقر

وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ (٧٠) الى ذبحها او الى القاتل و احتج به أصحابنا على ان الحوادث بارادة اللّه تعالى و المعتزلة و الكرامية على حدوث الارادة و أجيب بأن التعليق باعتبار التعلق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو لم يستثنوا لما بينت لهم اخر الابد- رواه البغوي عن ابى هريرة و أخرجه ابن جرير معضلا.

٧١

قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ اى غير مذللة بالعمل

تُثِيرُ الْأَرْضَ تقلبها للزراعة وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ لا زائدة و الفعلان صفتا ذلول يعنى لا ذلول مثيرة و ساقية

مُسَلَّمَةٌ سلمها اللّه تعالى من العيوب او أهلها من العمل

لا شِيَةَ فِيها اى لون يخالف لون جلدها- و هى في الأصل مصدر على وزن عدة من وشى يشى و شيا و شية فهو واش إذا خلط بلونه لونا اخر قال الجزري الوشي النقش

قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ اى بحقيقة وصف البقرة و تمام بيانها- و طلبوها بكمال أوصافها فلم يجدوها الا مع الفتى فاشتروها بملا مسكها ذهبا

فَذَبَحُوها فيه اختصار تقديره فحصلوا البقرة فذبحوها

وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) لكثرة مراجعاتهم او لاختلافهم فيما بينهم او لخوف الفضيحة في ظهور القاتل او لعدم وجدانها بتلك الصفات او لغلاء ثمنها.

٧٢

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هذا أول القصة فَادَّارَأْتُمْ فِيها اى تدارأتم و تدافعتم يحيل بعضكم على بعض و يدفع عن نفسه

وَ اللّه مُخْرِجٌ اى مظهر اعمل لانه حكاية مستقبل كما أعمل باسط ذراعيه لانه حكاية حال ماضية

ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فان القاتل يكتم القتل.

٧٣

فَقُلْنا اضْرِبُوهُ عطف على ادّارءتم و بينهما اعتراض و الضمير المنفس بتأويل الشخص

بِبَعْضِها اى ببعض البقرة اى بعض كان و فيه اختصار تقديره فضرب فحيى قال ابن عباس- ضربوه بالعظم الذي يلى الغضروف و هو المقتل- و قيل بعجب الذنب و قيل بلسانها و قيل بفخذه الايمن فقام القتيل حيا بإذن اللّه تعالى و أوداجه تشخب دما و قال قتلنى فلان- ثم سقط ميتا فحرم قاتله الميراث و في الحديث ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة

كَذلِكَ مثل احياء ذلك القتيل يُحْيِ اللّه الْمَوْتى خطاب لمن حضر حيوة القتيل او نزول الاية و الظاهر هو الاول بدليل قوله

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ايها الحمقاء من بنى إسرائيل فان القادر على احياء نفس قادر على احياء الأنفس كلها- و لعله تعالى انما لم يحيه ابتداء و شرط فيه ما شرط لما جرى عادته تعالى في الدنيا بتعليق الأشياء بالأسباب الظاهرة و لما فيه من التقرب و أداء الواجب و نفع اليتيم و التنبيه على ان من حق الطالب ان يقرب قربة- و المتقرب ينبغى ان يتحرى الأحسن و يغالى في ثمنه اخرج ابو داود عن عمر رضى اللّه عنه انه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار.

٧٤

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة و المراد به خروج الرحمة و اللين و الخير عن قلوبهم و يترتب عليه طول الأمل و نسيان الذكر و اتباع الشهوات و كلمة ثم لاستبعاد القسوة بعد موجبات الرقة

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعنى احياء القتيل او جميع ما عد من الآيات قال الكلبي قالوا بعد ذلك نحن لم نقتله

فَهِيَ فى القساوة كَالْحِجارَةِ او بل هى

أَشَدُّ أزيد منها قَسْوَةً او انها مثلها بل مثل ما هو أشد منها قسوة فحذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه- و في أشد من المبالغة في القساوة ما ليس في أقسى- و يكون او للتخيير في التشبيه او للترديد بمعنى من عرف حالها شبهها بالحجارة او بما هو أقسى منها و ترك ضمير المنفصل عليه لعدم اللبس- و انما ذكر الحجارة دون الحديد و النحاس لان الحديد و نحوها تلين بالنار دون الحجارة ثم بين وجه الخير في الحجارة دون القلب القاسي فقال

وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ يعنى عيونا دون الأنهار فينتفع بها عباد اللّه بخلاف قلوب الكفار حيث لا منفعة فيها أصلا

وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ من أعلى الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللّه و قلوبكم لا تلين و لا تخشع-

فان قيل الحجر جماد فكيف يتصور منه الخشية

قال البيضاوي الخشية مجاز عن انقيادها للاوامر التكوينية-

قلت و هذا ليس بشى ء فان الانقياد للاوامر التكوينية موجود في قلوب الكفار ايضا قال اللّه تعالى خَتَمَ اللّه عَلى قُلُوبِهِمْ- فهم انقادوا للختم و قال- وَ للّه يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً- و عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك-

رواه مسلم- و التحقيق ما

قال البغوي ان مذهب اهل السنة و الجماعة ان للّه تعالى علما في الجمادات و سائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره- فلها صلوة و تسبيح و خشية قال اللّه تعالى- وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ - و قال- وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ- و قد مر الكلام في هذا الباب في ذكر عذاب القبر في تفسير قوله تعالى ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ

قال البغوي روى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان على ثبير و الكفار يطلبونه فقال الجبل انزل عنى فانى أخاف ان تؤخذ على فيعاقبنى اللّه تعالى بذلك- و قال له جبل حراء الىّ الىّ يا رسول اللّه و روى البغوي بسنده عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ قبل ان ابعث و انى لا عرفه الان هذا حديث صحيح أخرجه مسلم-

قال و صح عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلع له أحد فقال هذا جبل يحبنا و نحبه- و عن ابى هريرة قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الصبح ثم اقبل على الناس بوجهه فقال بينا رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت انا لم نخلق لهذا انما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس سبحان اللّه بقرة تتكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانى او من به و ابو بكر و عمرو ماهما ثم- و قال بينا رجل في غنم له إذ عدا الذئب على الشاة منها فادركها صاحبها فاستنقذها فقال الذئب فمن لها يوم السبع يوم لا راعى لها غيرى فقال الناس سبحان اللّه ذئب تتكلم فقال او من به و ابو بكر و عمر و ما هما ثم متفق عليه و صح عن ابى هريرة قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على حراء و ابو بكر و عمر و عثمان و على و طلحة و الزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم اهدأ فما عليك الا نبى او صديق او شهيد أخرجه مسلم-

و روى بسنده عن على قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال و الشجر فلم نمر بشجرة و لا جبل الا قال السلام عليك يا رسول اللّه- و روى بسنده عن جابر بن عبد اللّه يقول كان النبي صلى اللّه عليه و سلم استند الى جذع نخلة من سوارى المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية تحن كحنين الناقة حتى سمعها اهل المسجد حتى نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاعتنقها فسكنت- و قال قال ...مجاهد لا ينزل الحجر من أعلى الى أسفل الا من خشية اللّه تعالى

وَ مَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) وعيد قرا ابن كثير يعملون بالياء التحتانية و الباقون بالتاء الفوقانية.

٧٥

أَ فَتَطْمَعُونَ الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين

أَنْ يُؤْمِنُوا يعنى اليهود لَكُمْ اى لاجل دعوتكم او يصدقوكم

وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه يعنى التورية

ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ اى فهموه بلا ريب كنعت محمد صلى اللّه عليه و سلم و اية الرجم

وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) انهم كاذبون هذا قول مجاهد و قتادة- و عكرمة- و السدى و جماعة او المراد قد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه و هذا ما قال ابن عباس انها نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات ربه فهم لمّا رجعوا بعد ما سمعوا كلام اللّه الى قومهم فاما الصادقون منهم فادوا كما سمعوا و قالت طائفة منهم سمعنا يقول في اخر كلامه ان استطعتم ان تفعلوا فافعلوا و ان شئتم فلا تفعلوا فهذا تحريفهم و هم يعلمون انه الحق.

٧٦

وَ إِذا لَقُوا يعنى من اليهود الذين كانوا يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم و قد مر ذكرهم من قبل

الَّذِينَ آمَنُوا من اهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم

قالُوا آمَنَّا يعنى صدقنا في أنفسنا بان رسولكم هو المبشر به في التورية فاتبعوه و أمنوا به- و قال ابن عباس المراد بهم المنافقون من اليهود

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كايمانكم

وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الى كعب بن الأشرف و وهب بن يهود او غيرهم من رؤساء اليهود لاموهم على ذلك و

قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ و علمه و بيّنه في التورية

لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة انهم كانوا يعلمون بصدق محمد صلى اللّه عليه و سلم و يأمروننا باتباعه و مع ذلك كفروا به علانية او سرّا- و أشار البيضاوي الى البحث في هذا التقرير و قال و قيل عند ربّكم في القيامة و فيه نظر إذا لا خفاء لا يدفعها-

قلت نعم الإخفاء لا يدفعها لكنهم لكمال حماقتهم قالوا هذا كما قالوا ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ مع ادعائهم بانزال التورية على موسى- و قد مر في قصصهم من أقوالهم و أفعالهم بعد ما راووا الآيات البينات من موسى عليه السلام ما لا يقولها إلّا مجنون- و كما ان اصحاب الصيب يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ مع ان جعلهم الأصابع في الاذان لا يجديهم من الصواعق شيئا و يؤيد هذا التفسير تذئيل الاية أَ فَلا تَعْقِلُونَ و الاية الذي بعده- او المراد لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ اى ليحتج اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم عليكم بما انزل ربكم في كتابه جعل محاجتهم بكتاب اللّه و حكمه محاجة عنده مجازا- كما يقال عند اللّه كذا و يراد به في كتابه و حكمه كذا- او كان بحذف المضاف اى عند كتاب ربكم- او عند رسول ربكم- و ارتضى البيضاوي هذه التأويلات-

و حمل الاية على مقال المنافقين دون من يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم من المجهرين بالكفر قلت و هذه التأويلات مع ما فيها من التكلفات مشكلة لان احتجاج المؤمنين على المنافقين لا يتصور في الدنيا فانهم مستسلمون فى الظاهر لا يتصور معهم الخصومة الا في الاخرة- و قيل انهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم اللّه على الجنايات فقال بعضهم لبعض أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ اى بما انزل اللّه عليكم من العذاب نظيره قوله تعالى لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ اى أنزلنا عليهم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ اى ليرووا الكرامة لانفسهم عليكم عند ربكم قال اللّه تعالى

أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٨٦) ايها الحمقاء من اليهود ان احتجاج المؤمنين عليكم عند اللّه لا يتوقف على تحديثكم به في الدنيا- او خطاب للمؤمنين متصل بقوله تعالى أَ فَتَطْمَعُونَ او كان من تمام كلام اللائمين و تقديره أَ فَلا تَعْقِلُونَ انهم يحاجوكم.

٧٧

أَ وَ لا يَعْلَمُونَ هؤلاء اللائمين

أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (٧٧) فاخفاؤهم نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم لا يدفع عنهم الاحتجاج- و يحتمل ان يكون ضمير يعلمون الى المنافقين فان نفاقهم و ان كان النبي صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنون لا يعلمونه فا اللّه يعلمه و يجازيهم عليه- او الى اليهود أجمعين فان اللّه تعالى يعلم اسرار بعضهم بالكفر و إعلان بعضهم و إخفاء نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم و تحريف الكلم و سائر ما يعملون من موجبات غضب اللّه و عذابه في السر و العلانية.

٧٨

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ اى جهاتهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ التورية

إِلَّا أَمانِيَّ استثناء منقطع- و الأماني جمع امنية و هى في الأصل ما يقدّره الإنسان في نفسه من منىّ و المراد الأكاذيب التي افتروها أحبارهم كذا قال مجاهد و قتادة- قال الفراء الأماني الأحاديث المفتعلة و منه قول عثمان رضى اللّه عنه ما تمنيت منذ أسلمت اى ما كذبت- او المراد الّا ما تمناه أنفسهم من غير حجة مثل قولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً او نَصارى - و قولهم- لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ كذا قال الحسن و ابو العالية- او المراد به الا ما يقرءون الكتاب بألسنتهم غير عارفين بمعاني الكتاب منه قوله تعالى إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ كذا قال ابن عباس- قرا ابو جعفر أماني بتخفيف الياء في كل القران و الباقون بالتشديد

وَ إِنْ هُمْ ما هم إِلَّا قوم يَظُنُّونَ (٨٨) بالتقليد لا علم عندهم.

٧٩

فَوَيْلٌ اى تحسر و هلك قال الزجاج ويل كلمة يقولها كل واقع في هلكة- و قال ابن عباس شدة العذاب- و قال سعيد بن المسيب ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال جهنم لانماغت و لذابت من شده حره- و روى البغوي بسنده عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الويل «١» واد في جهنم يهوى به الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره و الصعود جبل من تار جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فهو كذلك «٢»

(١) اخرج الترمذي و غيره بسند حسن عن ابى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره- منه رحمه اللّه

(٢) في الأصل الويل في جهنم.

لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ المحرف بِأَيْدِيهِمْ تأكيد كقوله كتبته بيمينى-

ثمّ يقولونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّه لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا عرضا من اعراض الدنيا فانه و ان جل فهو قليل بالنسبة الى ما استوجبوه من العذاب-

و ذلك ان أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم فعمدوا الى صفته في التورية و كانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر اكحل العينين ربعة- تغيروها و كتبوا طوال ازرق سبط الشعر- فاذا سالهم سفلتهم عن صفته قرءوا ما كتبوه فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه

فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المحرف

وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) من المال و الأعمال.

٨٠

وَ قالُوا اى اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً- المس إيصال الشي ء بالبشرة بحيث يتاثر به الحاسة- قال ابن عباس كانت اليهود يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة و انما نعذب بكل الف سنة يوما- و قال قتادة و عطاء يعنون أربعين يوما التي عبد فيها اباؤهم العجل- و قال الحسن و ابو العالية قالوا ان ربّنا عتب علينا في امر فاقسم ليعذبنا أربعين يوما فلن تمسنا النار الا أربعين يوما تحلة القسم- فقال اللّه تعالى لتكذيبهم

قُلْ يا محمد أَتَّخَذْتُمْ استفهام انكار- قرا ابن كثير و حفص بإظهار الذال في اتخذتم و أخذتم و ما كان مثله من لفظه و ادغم الباقون

عِنْدَ اللّه عَهْداً عهده إليكم ان لا يعذب الا هذا المقدار

فَلَنْ يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ جواب شرط محذوف اى ان اتخذتم عهدا فلن يخلف- و فيه دليل على ان الخلف في وعد اللّه محال و انه من الرذائل قال ابن مسعود عهدا بالتوحيد يدل عليه الا

مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعنى قول لا اللّه الا اللّه يعنى ما قلتم الا اله الا اللّه حتى يكون لكم عند اللّه عهدا

أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) كذبا- أم يحتمل ان تكون متصلة و منقطعة.

٨١

بَلى اثبات لما نفوه من مساس النار زمانا طويلا

مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً معصية و الكسب استجلاب النفع و تعليقه بالسيئة على سبيل التهكم نحو فبشّرهم بعذاب اليم

وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ اى استولت عليه و شملت جملة أطرافه حتى صار كالمحاط بها لا يخلوا عنها شى ء من جوانبه- فهذا لا يصدق الا على الكفار لا على من في قلبه وزن ذرة من ايمان و من ثم قال ابن عباس و الضحاك و ابو العالية و الربيع و جماعة هى الشرك الذي يموت عليه صاحبه- فلا يصح للمعتزلة و الخوارج الاحتجاج بها على ادعاء خلود مرتكب الكبيرة النار- قرا اهل المدينة خطيئته بالجمع و الباقون بالإفراد-

و قرا حمزة في الوقف بابدال الهمزة ياء و الإدغام و كذلك كلما تحركت الهمزة المتوسط و ما قبلها ياء ساكنة زائدة نحو هنيئا- مريئا- بريؤن- خطيئة- خطيئتكم و شبهها- و اما إذا كان قبلها ساكن «١»

(١) فى الأصل ساكنا

غيرها حركتها ان لم يكن الفا بحركة الهمزة و ألقيت الهمزة نحو شيئا و خطئا- و المشئمة- و تجئرون و يسئلون- و سئل- و الظّمان- و القرءان- و مذءوما و مسئولا و سيئت و الموءودة- و ان كان الساكن الفا سواء كانت مبدلة او زائدة جعلت الهمزة بعدها بين بين و أنت مخير في مد الالف و قصرها نحو نسائكم- و ابنائكم و ماء و غثآء- و سواء- و آباؤكم- و هاؤم اقرءوا و من آبائهم- و ملئكته- و إذا كان قبل الهمزة متحركا فانفتحت و انكسر ما قبلها او انضم أبدلتها مع الكسرة ياء و مع الضمة واوا نحو ننشئكم- و انّ شانئك و لؤلؤا و يؤدّه- و الا جعلتها بين بين ما لم يكن صورتها ياء نحو انبّئكم و سنقرئك فانك تبدلها ياء مضمومة

و اما إذا كانت الهمزة توسطت ساكنة فهى تبدل حرفا خالصا حال تسهيلها نحو المؤمنون و يؤفكون و الرّؤيا-

فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها في الاخرة كما انهم ملازموا أسبابها في الدنيا

هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)

٨٢

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)

٨٣

وَ إِذْ أَخَذْنا فى التورية مِيثاقَ العهد الشديد

بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّه قرا ابن كثير و حمزة و الكسائي لا يعبدون بالياء على الغيبة و الباقون بالتاء على الخطاب- و هذا اخبار في معنى النهى كقوله تعالى لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ فحسن عطف أحسنوا و قولوا عليه-

و

قال البغوي معناه ان لا تعبدوا فلما حذف ان صار الفعل مرفوعا و على هذا بدل من الميثاق او معمول له بحذف الجار- قرا أبيّ بن كعب لا تعبدوا على النهى-

و قيل انه جواب قسم دل عليه المعنى تقديره حلّفناهم لا يعبدون-

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً متعلق بمحذوف اى تحسنون بالوالدين او أحسنوا بالوالدين و يكون معطوفا على لا تعبدون- او و وصيناهم بالوالدين إحسانا فيكون معطوفا على أخذنا- و الإحسان بهما البر بهما و العطف عليهما و امتثال أمرهما ما لم يخالف امر اللّه تعالى-

وَ ذِي الْقُرْبى عطف على الوالدين و القربى كالحسنى مصدر

وَ الْيَتامى جمع يتيم و هو الطفل الّذى لا اب له

وَ الْمَساكِينِ جمع مسكين مفعيل من السكون كانّ الفقر المسكنة و الإحسان بهم الرحمة عليهم و أداء حقوقهم

وَ قُولُوا لِلنَّاسِ معطوف على أحسنوا او تقديره

قلنا لهم قولوا عطفا على أخذنا

حُسْناً اى قولا حسنا قرا حمزة و الكسائي و يعقوب حسنا بفتح الحاء و السين على انه صفة و الباقون على المصدر و الحمل على المبالغة كزيد عدل- و هذا شامل لكل كلام محمود خبر صادق في شأن محمد صلى اللّه عليه و سلم و بيان صفته كما قال ابن عباس و سعيد بن جبير و غيره او امر بمعروف و نهى عن منكر كما قال الثوري او قول لين في المعاشرات او شهادة بحق او غير ذلك مما يثاب عليه

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن العهد فيه التفات عن الغيبة الى الخطاب خاطب به الموجودين في زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم و من قبلهم على التغليب

إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يعنى الذين أمنوا منهم كعبد اللّه بن سلام

وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) اى قوم عادتهم الاعراض عن وفاء العهود و المعنى ثم تولّت آباؤكم الا قليلا منهم حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه و أسند الفعل اليه و حينئذ المعنى و أنتم معرضون كاعراض ابائكم.

٨٤

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على نحو ما سبق من لا تعبدون اى لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل و الاجلاء و انما جعل قتل الرجل او إخراجه غيره قتل نفسه و إخراجه لاتصاله نسبا و دينا كذا يطلقون في محاوراتهم و قيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم و إخراجكم من دياركم و قيل معنى لا تخرجوا لا تسيؤا في الجوار فتلجؤهم بسوء جواركم

ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بهذا العهد وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) على أنفسكم بالميثاق فهو تأكيد- او المعنى و أنتم ايها الموجودون تشهدون على اقرار اسلافكم فحينئذ أسند الإقرار إليهم مجازا-.

٨٥

ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق أنتم مبتدأ و هؤلاء خبره و المعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون كقولك أنت ذلك الرجل الّذى فعل كذا- نزّل تغيير الصفة منزلة تغيير الذات و الجملة بعده حال و العامل فيه معنى الاشارة- او بيان لجملة أنتم هؤلاء او يقال أنتم مبتدأ و هؤلاء تأكيد و الخبر الجملة بعده او يقال هؤلاء بمعنى الذي و الجملة صلته و المجموع خبر أنتم او يقال أنتم يا هؤلاء تقتلون

تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ قرا عاصم و حمزة و الكسائي بتخفيف الظاء بحذف تاء التفاعل و كذا في التحريم و الباقون بالإدغام بين التاء من التاءين و الظاء- و التظاهر التعاون من الظهر حال من فاعل يخرجون او مفعوله او كليهما

وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى قرا حمزة اسرى و كلاهما جمع أسير

تُفادُوهُمْ اى تبادلوهم بمعنى مفاداة الأسير بالأسير

و قرا ابن كثير و ابو عمرو و ابن عامر و حمزة و ابو جعفر «١» تفدوهم بفتح التاء اى بالمال و تنقذوهم و قيل معنى القراءتين واحد قال السدّى ان اللّه تعالى أخذ على بنى إسرائيل في التورية ان لا يقتل بعضهم بعضا و لا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم و أيما عبد و امة وجدتموهم من بنى إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه و أعتقوه- فكانت قريظة حلفاء الأوس و النضير حلفاء الخزرج و كانوا يقتتلون في حرب سمين فيقاتل بنو قريظة و حلفاؤهم النضير و حلفاءهم-

(١) قرا ابو جعفر كالنافع فعده مع ابن كثير و غيره لعله من الناسخ او من سباق قلم- ابو محمد و ابو بكر بالغيبة على ان الضمير لمن و الباقون بالخطاب.

و إذا غلبوا خرّبوا ديارهم و أخرجوهم منها- و إذا اسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه و ان كان الأسير من عدوهم فتعيرهم العرب و يقول كيف تقاتلونهم و تفدونهم- قالوا انا أمرنا ان نفديهم فيقولون فلم تقاتلونهم قالوا انا نستحيى ان يستذل حلفاؤنا فعيرهم اللّه تعالى بقوله

تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ الاية فهم خالفوا في ثلثة من الاحكام ترك القتل و الإخراج و المظاهرة و أخذوا واحدا اى الافداء

وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ الضمير للشان او راجع الى ما دل عليه يخرجون من المصدر- او الى محذوف تقديره و ان يأتوكم اسرى تفدوهم مع ما صدر منكم إخراجهم

وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ- و على التقديرين إخراجهم تأكيد- او الضمير مبهم يفسره قوله تعالى

إِخْراجُهُمْ و وجه اتصال هذه الجملة بما سبق انهم حين انقيادهم للحكم بالافداء ارتكبوا المحرم و هو الإخراج فطاعتهم لا يخلو عن المعصية فضلا عن معصيتهم الخالصة- و بهذا يظهر وجه تخصيص تحريم الإخراج بالاعادة دون تحريم القتل و

قال البيضاوي ان الجملة متعلق بقوله تعالى تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ و ما بينهما اعتراض و حينئذ لا يظهر وجه تخصيص ذكر تحريم الإخراج و اللّه اعلم

أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ يعنى وجوب الفداء

وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ يعنى حرمة القتل و الإخراج-

قال مجاهد يقول ان وجدته في يد غيرك فديته و أنت تقتله بيدك

فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ اى الايمان ببعض الكتاب و الكفر بالبعض

مِنْكُمْ يا معشر اليهود إِلَّا خِزْيٌ عذاب و هو ان و اصل الخزي ذل يستحيى منه

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فكان خزى قريظة القتل و السبي و خزى النضير الاجلاء الى أذرعات و أريحا و ضرب الجزية هناك عليهم و على غيرهم-

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ اى النار المخلد

وَ مَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) قرا ابن كثير و نافع

٨٦

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا استبدلوا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ يهون

عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) لا يمنعون من عذاب اللّه-.

٨٧

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ اى أرسلنا قفاه رسلا تترى فقوله من بعده تأكيد لمعنى قفينا لتضمنه معنى البعدية يعنى يوشع و اشموئيل و شمعون و داؤد و سليمان و أيوب و شعيا و ارميا و عزيرا «١» و حزقيل- و اليسع- يونس و زكريا- و يحيى و الياس و غيرهم صلوات اللّه عليهم أجمعين-.

(١) فى الأصل عزير

وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الدلالات الواضحات من إبراء الأكمه و الأبرص و احياء الموتى و غير ذلك او المراد الإنجيل

وَ أَيَّدْناهُ قويناه- بِرُوحِ الْقُدُسِ قرا ابن كثير بسكون الدال و الآخرون بضمها- و المراد بالروح جبرئيل- او الروح الذي نفخ في عيسى- و القدس الطهارة مصدر بمعنى الفاعل اى الطاهر- و هو اللّه تعالى اضافه الى نفسه تكريما- نحو بيت اللّه و ناقة اللّه نظيره

فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا- او الاضافة على طريقة حاتم الجود فيكون الطهارة في المعنى صفة للروح و طهارة جبرئيل و عيسى لاجل عصمتهما و لطهارة عيسى عن مس الشيطان عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من بنى آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم و ابنها- متفق عليه و لانه لم يشتمل عليه أصلاب الفحول و لا أرحام الطوامث- و تائيد عيسى بجبرئيل انه امر ان يسير معه حيث سار حتى صعد به الى السماء- و قيل المراد بالروح اسم اللّه الأعظم الذي كان عيسى يحيى به الموتى و يرى الناس العجائب و قيل المراد به الإنجيل نظيره

أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا- فان كتاب اللّه تعالى سبب لحيوة القلوب و على هذين التأويلين اضافة الروح الى اللّه و توصيفه بالطهارة ظاهرة-

قال البغوي فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه السلام قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت و لا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت- فأتنا بما اتى به عيسى ان كنت صادقا فقال اللّه تعالى

أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اى بما لا تحبه يقال هوى بالكسر إذا أحب و بالفتح إذا سقط معطوف على الجمل السابقة- و وسطت الهمزة بين الفاء و ما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا و تعجيبا من شأنهم- و يحتمل ان يكون استينافا و الفاء للعطف على مقدر كانّ السائل يقول فما فعلوا بهم فاجاب فكفروا بهم و قال توبيخا أ كفرتم بهم فكلما جاءكم الاية

اسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الايمان و اتباع الرسل

فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كعيسى و محمد و غيرهما عليهم الصلوات و السلام و الفاء للسببية او للتفصيل-

وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) اى قتلتم مثل زكريا و يحيى و شعيا و غيرهم ذكر بلفظ المضارع على حكايت الحال الماضية استحضارا لها في النفوس فان الأمر فظيع و مراعاة للفواصل و للدلالة على انكم تريدون قتل محمد عليه السلام حيث سحرتموه و تقاتلونه لكى تقتلوه- عن عائشة قالت- سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى انه ليخيل اليه انه فعل الشي ء و ما فعله حتى إذا كان ذات يوم عندى دعا اللّه و دعاه ثم قال أشعرت يا عائشة ان اللّه تعالى قد أفتاني فيما استفتيته جاءنى رجلان جلس أحدهما عند رأسى و الاخر عند رجلى ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال مطبوب قال و من طبه قال لبيد بن الأعصم اليهودي قال فيما ذا قال في مشط و مشاطة و جف طلعة ذكر قال فاين هو قال في بئر ذروان- فذهب النبي صلى اللّه عليه و سلم في أناس من أصحابه الى البئر فقال هذه البئر التي أريتها- و كان ماؤها نقاعة الحناء و كان نخلها رؤس الشياطين فاستخرجه- متفق عليه

قلت و يجوز ان يكون تقتلون بمعناه الاستقبالى اى و فريقا تقتلون في المستقبل يعنى محمدا صلى اللّه عليه و سلم فانه مات شهيد الاجل الشاة المسمومة التي أهدتها يهودية من اهل خيبر و حينئذ يكون ذكر من مضى قتلهم من الأنبياء متروكا- او مقدرا تقديره و فريقا قتلتم و فريقا تقتلون- عن جابر رضى اللّه عنه- ان يهودية من اهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذراع فاكل منها و أكل رهط من أصحابه معه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارفعوا ايديكم و أرسل الى اليهودية فدعاها فقال- سممت هذه الشاة- فقالت من أخبرك قال أخبرتني هذه في يدى الذراع- قالت نعم قلت ان كان نبيا فلن يضره و ان لم يكن نبيا استرحنا منه فعفا عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لم يعاقبها و توفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة و احتجم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة- رواه ابو داؤد و الدارمي و عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول فى مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما زال أجد الم الطعام الذي أكلت بخيبر و هذا او ان وجدت «١»

(١) اضافه الى الفعل بتأويل المصدر- منه رحمه اللّه

انقطاع أبهري من ذلك السم- رواه البخاري

فان قيل المقتولون منهم داخلون فيمن كذّبهم اليهود فما وجه تخصيص التكذيب بفريق منهم-

قلت يظهر بتخصيص التكذيب بفريق منهم انهم لم يكذبوا فريقا منهم مثل يوشع و عزير و لا يضركون بعضهم داخلا في كلا الفريقين إذ العطف بالواو و اللّه اعلم.

٨٨

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع الا غلف و هو الّذى عليه غشاوة خلقية فلا تعى و لا تفقه ما تقول نظيره قوله تعالى قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ- كذا قال مجاهد و قتادة- و قيل أصله غلف بضم اللام خفف و يؤيده قراءة الأعرج و ما قرا ابن عباس بضم اللام و هو جمع غلاف اى قلوبنا اوعية لكل علم فلا نحتاج الى علمك كذا قال ابن عباس و عطاء و قال الكلبي معناه اوعية لكل علم فهى لا يسمع حديثا إلا وعته الا حديثك فلا يعقله و لا تعيه و لو كان فيه خيرا لوعته و فهمته فرد اللّه قولهم اى ليس قلوبهم مغشاة في اصل الخلقة كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابوه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه الحديث متفق عليه من حديث ابى هريرة- و ليست اوعية للعلم ايضا

بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه اى طردهم و ابعدهم عن كل خير و خذلهم

بِكُفْرِهِمْ كما قال اللّه تعالى فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ- فانى لهم دعوى العلم و الاستغناء

فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) نصب قليلا على الحال و ما مزيدة للمبالغة و معناه فيؤمنون حال كونهم اقل قليل اى لا يؤمن منهم الا اقل قليل فان من أمن من المشركين اكثر ممن أمن من اليهود كذا قال قتادة- او منصوب على المصدرية يعنى إيمانا قليلا يؤمنون- او بنزع الخافض اى بقليل مما وجب الايمان به يؤمنون و هو ايمانهم ببعض الكتاب- و قال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلا و لا كثيرا كقول الرجل للاخر ما اقل ما تفعل كذا اى لا تفعله أصلا- فالقلة مجاز عن العدم.

٨٩

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه يعنى القران

مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعنى التورية و جواب لمّا محذوف دل عليه جواب لمّا الثانية

وَ كانُوا اى اليهود مِنْ قَبْلُ اى قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم

يَسْتَفْتِحُونَ يستنصرون عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا اى على مشركى العرب و يقولون اللّهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في اخر الزمان الذي نجد صفته في التورية- و كانوا ينصرون و كانوا يقولون لاعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما

قلنا فنقتلكم معه قتل عاد و ثمود و ارم او المعنى ان اليهود كانوا يفتحون على المشركين نعت النبي صلى اللّه عليه و سلم و يعرّفونهم ان نبيا يبعث منهم و قد قرب زمانه و السين حينئذ للمبالغة- و الاشعار ان الفاتح كانه يسئل عن نفسه ذلك

فلما جاءَهُمْ ما عَرَفُوا ما موصولة فاعل جاء و العائد محذوف اى ما عرفوه يعنى محمدا صلى اللّه عليه و سلم اعرفوه بنعته في التورية

كَفَرُوا بِهِ حسدا او خوفا على المال و الرياسة

فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) اى عليهم- اتى بالمظهر للدلالة على سبب استحقاقهم اللعنة فاللام للعهد و يجوزان يكون للجنس و هم داخلون فيهم.

٩٠

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ما بمعنى شيئا تميز لفاعل بئس المضمر فيه و اشتروا صفته بمعنى باعوا و أنفسهم مفعول اشتروا الى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم من الاخرة- او المعنى اشتروا به أنفسهم في ظنهم حيث خلصوها عن الذل بترك الرياسة

أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّه هو المخصوص بالذم

بَغْياً مفعول له ليكفروا «١» «٢» دون اشتروا للفصل- و اصل البغي الطلب و الفساد يقال بغى يبغى بغيا إذا طلب و بغى الجرح إذا فسد- و يطلق الباغي على الظالم لانه مفسد و على الخارج على الامام لانه مفسد و طالب للظلم و على الحاسد فانه يظلم المحسود و يطلب ازالة نعمته-

(١) فى الأصل مفعول له يكفرون [.....]

(٢) فيه تسامح لانه غير داخلة في الضابطة لانه في قرارة ابن كثير و من معه بفتح الاول- لعله رحمه اللّه أراد به و ما ننزله و صدر من سباق قلم هذا-

و المعنى انهم يكفرون حسدا و طلبا لما ليس لهم و فسادا في الأرض

أَنْ يُنَزِّلَ اللّه القران متعلق ببغيا بتقدير اللام- قرا ابن كثير و ابو عمرو ينزل و بابه إذا كان مستقبلا مضموم الاول بالتخفيف من الانزال حيث وقع و استثنى ابن كثير و ما ننزّله في الحجر- و ننزّل من القران- و حتّى تنزّل علينا في الاسراء و استثنى ابو عمرو على أن ينزّل اية في الانعام- و الذي في الحجر ما ننزّل الملئكة الّا بالحقّ مجمع عليه بالتشديد- و الباقون بالتشديد من التنزيل في الجميع غير ان حمزة و الكسائي يخففان ينزل الغيث في موضعين أحدهما فى لقمان و الثاني في الشورى

مِنْ فَضْلِهِ بلا سبق عمل يقتضيه- عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعنى محمدا صلى اللّه عليه و سلم

فَباؤُ بِغَضَبٍ بسبب كفرهم بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران

عَلى غَضَبٍ قد سبق عليهم بكفرهم بعيسى و الإنجيل و ترك العمل بالتورية و عبادة العجل و قولهم عزير ابن اللّه و الاعتداء في السبت و غير ذلك

وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) يراد به إذلالهم بخلاف عذاب العصاة من المؤمنين فانه لتطهيرهم عن الذنوب.

٩١

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللّه من القران و سائر الكتب الالهية

قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا اى التورية

وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ حال عن الضمير في قالوا- و الوراء فى الأصل مصدر جعل ظرفا و يضاف الى الفاعل فيراد ما يتوارى به و هو خلفه- و الى المفعول و يراد به ما يواريه و هو قدامه و لذلك عدّ من الاضداد- و قد يطلق بمعنى سواء كقوله تعالى فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ اى سواه

وَ هُوَ الْحَقُّ الضمير لما وراءه يعنى القران و الإنجيل

مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من التورية حال مؤكدة فيه رد لمقالهم- فانه لمّا كفروا بما يوافق التورية فقد كفروا بها-

قُلْ لهم يا محمد فَلِمَ أصله لما حذف الالف فرقا بين الخبر و الاستفهام كقولهم- فيم- و بم- و عمّ-

تَقْتُلُونَ اى قتلتم و انما أسند إليهم مع انه فعل ابائهم لانهم راضون به و هم في صدد قتل نبيهم-

أَنْبِياءَ اللّه مِنْ قَبْلُ اى قبل هذا

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) بالتورية و التورية تحكم بانه إذا جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ- و تنهى عن تكذيبهم فضلا عن قتلهم و الجزاء محذوف دل عليه ما قبله.

٩٢

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ قرا ابو عمرو و حمزة و الكسائي و هشام بإدغام دال قد في الجيم حيث وقع- و كذا حيث وقع في الذال نحو لقد ذّرانا- و الزاء نحو لقد زيّنّا- و السين نحو قد سمع- و الشين نحو قد شّغفها- و الضاد المعجمة نحو فقد ضلّ- و الظاء المعجمة نحو فقد ظلم- و اما الطاء المهملة فلم يقع في القران بعد دال قد و الا لادغمت- و كذا ادغموا غير هشام «١» فى الصاد المهملة حيث وقع نحو لقد صرّفنا- و تابعهم ابن ذكوان فى الاربعة في الذال و الزاء و الضاد و الظاء لا غير و ورش في الأخيرين فقط

و قرا ابن كثير و عاصم و قالون بغير ادغام في الاحرف الثمانية كلها و يدغم الدال في الدال اجماعا نحو قد دخلوا- و كذا في التاء اجماعا نحو قد تبيّن الا ان الحسين روى عن نافع الإظهار عند التاء

مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالدلالات الواضحات و هى تسع ايت بيّنت و غيرها من المعجزات

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الها مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد مجيى موسى او ذهابه الى الطور

(١) ادغم هشام في الصاد ايضا بلا خلاف لكن له في الظاء في سورة ص اظهار من طرق الشاطبية-

وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) حال بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته- او اعتراض بمعنى و أنتم قوم عادتكم الظلم- و سياق الاية و ما بعدها للرد عليهم فى قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا- و التنبيه على ان طريقتهم مع الرسول صلى اللّه عليه و سلم طريقة ابائهم مع موسى لا لتكرير القصة.

٩٣

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ و

قلنا لهم

خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا يعنى استجيبوا و أطيعوا سميت الطاعة و الاستجابة سمعا إطلاقا للسبب على المسبب

قالُوا سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا أمرك قال اهل المعاني انهم لم يقولوا هذا بألسنتهم و لكن لمّا تلقوه بالعصيان نسب ذلك الى القول قلت و هو الظاهر فانهم لو قالوا ذلك لم يرفع عنهم الطور-

وَ أُشْرِبُوا يعنى تداخل كما يتداخل الصبغ الثوب

فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ اى حبه بِكُفْرِهِمْ اى بسبب كفرهم- و ذلك انهم لفرط حماقتهم كانوا مجسمة او حلولية و لم يروا جسما اعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سوّل لهم السّامرىّ

قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بالتورية و المخصوص محذوف يعنى هذا الأمر او ما تفعلون من القبائح الظاهرة القباحة المذكورة في الآيات الثلث

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) تقدير للقدح في دعواهم و الجواب محذوف يدل عليه ما قبله تقديره ان كنتم مؤمنين بالتورية فبئسما يأمركم به ايمانكم بها هذا الأمر لان المؤمن لا يتعاطى الا ما يقتضيه إيمانه لكن الايمان لا يأمر به فلستم بمؤمنين بها او ان كنتم مؤمنين بالتورية ما فعلتم تلك القبائح لكنكم فعلتم فلستم بمؤمنين- و لما كانت اليهود يدّعون دعاوى باطلة مثل قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ- و لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً او نَصارى - و نَحْنُ أَبْناءُ اللّه وَ أَحِبَّاؤُهُ كذّبهم اللّه تعالى بقوله.

٩٤

قُلْ لهم يا محمد إِنْ كانَتْ لَكُمُ خبر كان الدَّارُ الْآخِرَةُ اسمها

عِنْدَ اللّه ظرف خالِصَةً يعنى خاصة بكم منصوب على الحال من الدار

مِنْ دُونِ النَّاسِ سائرهم و اللام للاستغراق او الجنس- او المسلمين و اللام للعهد

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ يعنى فاسئلوه لانه من أيقن انه من اهل الجنة و من أحباء اللّه تعالى تمنى التخلص إليها من الدار ذات الشوائب و اشتاق الى لقاء اللّه تعالى اخرج ابن المبارك في الزهد و البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تحفة المؤمن الموت-

و الديلمي عن جابر مثله و عن الحسين بن على مرفوعا مثله بلفظ الموت ريحانة المؤمن- و قال حبان بن الأسود الموت جسر يوصل الحبيب الى الحبيب- و هذه الاية و الأحاديث تدل على ان القبر أول منزل من منازل الاخرة رواه الترمذي و ابن ماجة عن عثمان مرفوعا- و على ان الوصل بلا كيف مع اللّه تعالى يحصل بعد الموت قبل القيامة فوق ما كان حاصلا في الدنيا و لو لا ذلك لما كان في تمنى الموت فائدة و لم يكن الموت جسرا موصلا الى الحبيب-

و قيل معنى الاية ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة فهى نظيرة اية الابتهال- روى عن ابن عباس انه صلى اللّه عليه و سلم قال لو تمنوا الموت لغض كل انسان منهم بريقه و ما بقي على وجه الأرض يهودى الا مات أخرجه البيهقي في الدلائل و كذا أخرجه البخاري و الترمذي عنه مرفوعا بلفظ لو تمنوا الموت لماتوا

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن جرير عنه موقوفا نحوه-

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) فيما ادعيتم و الجزاء محذوف دل عليه ما قبله- (فصل) هل يجوز التمني بالموت و الدعاء به- و الجواب انه ان كان لضرّ نزل به في مال او جسم او اهل او ولد فلا يجوز لحديث انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به فان كان و لا بد متمنيا فليقل اللّهم أحيني ما كانت الحيوة خيرا لى و توفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى- متفق عليه و في رواية لهما إذا مات أحدكم انقطع عمله و انه لا يزيد عمره إلا خيرا- و عن ابى هريرة مرفوعا لا يتمنين أحدكم الموت امّا محسنا فلعل ان يزداد و اما مسيئا فلعل ان يستعتب رواه البخاري و عنه لا يتمنى أحدكم الموت و لا يدع به من قبل ان يأتيه انه إذا مات انقطع عمله و انه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا رواه مسلم و روى النهى عن تمنى الموت احمد و البزار و البيهقي عن جابر و المروزي عن القاسم مولى معاوية و عن ابن عباس- و احمد و ابو يعلى و الحاكم و الطبراني عن أم الفضل و احمد عن ابى هريرة كلهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و لا بد ان يعلم ان المنهي عنه انما هو التمني للموت باللسان و السؤال به دون التمني بالقلب و الرغبة اليه فان الكف عنه غير مقدور فلا تكليف عليه- و اما ان كان التمني لخوف الفتنة في الدين فلا بأس به-

اخرج مالك و البزار عن ثوبان في دعائه صلى اللّه عليه و سلم و إذا أردت بالناس فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون-

و اخرج مالك عن عمر رضى اللّه عنه انه قال اللّهم قد ضعفت قوتى و كبر سنى و انتشر رعيتى فاقبضنى إليك غير مضيع و لا مقصد- فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض-

و اخرج الطبراني عن عمرو بن عنبسة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يتمنى أحدكم الموت الا ان لا يثق بعمله فان رايت في الإسلام ست خصال فتمنوا الموت و ان كانت نفسك في يدك فارسلها اضاعة الدم و امارة الصبيان و كثرة الشرط و امارة السفهاء و بيع الحكم و نشوء يتخذ القران مزامير-

و اخرج ابن عبد البر في التمهيد انه تمنى الموت فلما قيل له لم تتمنى و قد نهى عنه فقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول بادروا بالموت ستا امرة السفهاء و كثرة الشرط و بيع الحكم و استخفافا بالدم و قطيعة الرحم و نشوء يتخذون القران مزامير-

و اخرج الحاكم عن ابن عمر و ابن سعد عن ابى هريرة نحوه- و قد تمنى بالموت لخوف الفتنة بعض السلف- رواه ابن سعد عن خالد بن معدان- و ابن عساكر و ابو نعيم عنه و عن مكحول و ابن ابى الدنيا عن ابى الدرداء- و ابن ابى شيبة و ابن ابى الدنيا عن ابى جحيفة- و ابن ابى الدنيا و الخطيب و ابن عساكر عن ابى بكرة- و ابن ابى شيبة و البيهقي عن ابى هريرة- و الطبراني و ابن عساكر عن العرباض بن السارية-

و اما ان كان التمني شوقا الى لقاء اللّه تعالى فذلك محمود- اخرج ابن عساكر عن ذى النون المصري قال الشوق أعلى المقامات و أعلى الدرجات إذا بلغها العبد استبطأ الموت شوقا الى ربه و حبا الى لقائه و النظر اليه شعر أروم و قد طال المدى منك نظرة- و كم من دماء دون مرماى ظلت قلت و هو المقصود بالخطاب الى اليهود حيث قال إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّه خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ شوقا الى لقاء ربكم ان كنتم صدقين

و روى ابن سعد و الشيخان عن عائشة قالت كنت اسمع انه لا يموت نبى حتى يخير بين الدنيا و الاخرة قالت أصابت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شديدة فى مرضه فسمعته يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فظننت انه خير و روى النسائي عنها قالت أغمي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو في حجرى فجعلت امسحه و ادعوا له بالشفاء بهذه الكلمات اذهب البأس رب الناس فافاق فانتزع يده من يدى فقال بل اسئل اللّه الرفيق الأعلى-

و اخرج الطبراني ان ملك الموت جاء الى ابراهيم ليقبض روحه فقال ابراهيم يا ملك الموت هل رايت خليلا يقبض روح خليله- فعرج ملك الموت الى ربه فقال قل له هل رايت خليلا يكره لقاء خليله فرجع فقال اقبض روحى الساعة- و قال يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ- و عن على رضى اللّه عنه انه قال لا أبالي أسقط على الموت او أسقط الموت على- أخرجه ابن عساكر في تاريخه و عن عمار رضى اللّه عنه انه قال بصفين الان الاقى الاحبة محمدا صلى اللّه عليه و سلم و حزبه- أخرجه الطبراني في الكبير و ابو نعيم في الدلائل و قال حذيفة حين احتضر جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم- أخرجه ابن سعد عن الحسن-

فان قيل روى احمد عن ابى امامة قال جلسنا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكّرنا و رققنا فبكى سعد بن ابى وقاص فاكثر البكاء فقال يا ليتنى مت فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا سعد أ عندي تتمنى الموت فردد ذلك ثلث مرات ثم قال يا سعد ان كنت خلقت للجنة فما طال عمرك و حسن عملك فهو خير لك- و هذا الحديث يدل على ان تمنى الموت لا يجوز و ان لم يكن لاجل ضرّ نزل به في ماله او جسمه او نحو ذلك فان سعدا لم يتمن الا لخوف عذاب اللّه-

قلت نعم لكن الموت لا يغنى من عذاب اللّه شيئا بل لا بد لذلك من الاستغفار و المبادرة في الأعمال الصالحة و الاجتناب عن المعاصي و من ثم نهاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن تمنى الموت-

و التحقيق في ذلك ان التمني بالموت عنه خوف المعصية و التقصير في الطاعة جائز قطعا لا ريب فيه- و اما من غير ذلك بل شوقا الى لقاء المحبوب فقد وقع عن بعض السلف عند الاحتضار كما روينا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عن خليل الرحمن عليه السلام و عن عمار و حذيفة و غيرهم انه إذا حضرهم الموت و لم يبق لهم طمع في ازدياد الأعمال اشتاقوا الى لقاء ذى الجلال- عن عبادة ابن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه و من كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه فقالت عائشة او بعض أزواجه انا لنكره الموت قال ليس ذلك و لكن المؤمن إذا حضره الموت بشر «١» برضوان اللّه و كرامته فليس شى ء أحب اليه مما امامه فاحب لقاء اللّه فاحب اللّه لقاءه و ان الكافر إذا حضر بشر بعذاب اللّه و عقوبته فليس شى ء اكره اليه مما امامه فكره لقاء اللّه فكره اللّه لقاءه- متفق عليه-

(١) البشارة برضوان اللّه عنا اقتراب الموت للاولياء اما يكون بالكشف و كلام الهاتف و نحو ذلك و اما يكون بذوقهم كثرة نزول البركات عليهم في ذلك الحالة و اما عند رؤية ملائكة الموت و ملائكة الرحمة و اما البشارة للكافر بالعذاب فلا يكون الا عند رؤية ملائكة الموت و العذاب- منه رحمه اللّه

و اما في حالة الصحة فلم يرد عن السلف التمني بالموت الا عند خوف الفتنة و التقصير كما روينا عن عمر رضى اللّه عنه و يحمل عليه ما روى عن على رضى اللّه عنه او عند غلبة الحال و ذلك في الأولياء غالبا دون الأنبياء و من في معنا هم من اصحاب الصحو من الصديقين و الأولياء فانهم مع شدة شوقهم الى لقاء الرحمن يغتنمون ازدياد الحسنات شعر فانى في الوصال عبيد نفسى- و في الهجران مولى للموالى و اما اليهود فلشدة جهلهم و عنادهم لما كانوا يدّعون انهم أحباء اللّه تعالى و انهم غير محتاجين الى الأعمال قيل لهم ان كنتم صادقين في دعواكم لا بد لكم من تمنى المنى و لما كانوا كاذبين في دعواهم رد اللّه تعالى عليهم قولهم و قال.

٩٥

وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً فى هذه الجملة اخبار بالغيب و معجزة على اليهود

بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران و تحريف التورية و غير ذلك من الأعمال- و لما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان فمعز الدولة لقدرته بها عامة صنائعه و منها اكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة و عن القدرة اخرى

وَ اللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) تهديد لهم و تنبيه على انهم ظالمون في دعواهم.

٩٦

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ اللام لام القسم و النون لتأكيد القسم و تجد من افعال القلوب مفعوله الاول ضمير الغائب و مفعوله الثاني احرص- و بتنكير حيوة أريد فرد من افرادها و هى المتطاولة

وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا- معطوف على الناس من حيث المعنى كانه قال احرص من الناس و من الذين أشركوا او على احرص و يكون متعلقا بمحذوف دل عليه ما قبله يعنى احرص من الذين أشركوا- و افرادهم بالذكر مع دخولهم في الناس للمبالغة و الاهتمام كما في عطف جبرئيل على الملائكة فان حرص المشركين شديد إذ لم يعرفوا الا الحيوة الدنيا و زيادة حرصهم على الدنيا مع اعراضهم عن الاخرة و هم عالمون بالجزاء بخلاف المشركين دليل على كمال مصابرتهم على النار ففيه زيادة توبيخ

يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قيل لو مصدرية بمنزلة ان الّا انها لا تنصب فهو مفعول يود

و

قال البيضاوي لو بمعنى ليت و كان أصله لو اعمّر فاجرى على الغيبة لقوله يود كقولك حلف باللّه ليفعلن- فحينئذ كلمة التمني حكاية لو دادهم فحذف مفعول يود لما يدل عليه ما بعده و فيه بيان لزيادة حرصهم على سبيل الاستيناف و يحتمل ان يكون جملة يود صفة لمبتدأ محذوف و الظرف المستقر يعنى من الذين أشركوا خبره تقديره و من الّذين أشركوا أناس يودّ أحدهم لو يعمّر الف سنة-

و المراد من الذين أشركوا اليهود القائلون عزير ابن اللّه- و قال ابو العالية و الربيع أراد بالذين أشركوا المجوس فان تحية بينهم- زى هزار سال- فقال سبحانه اليهود احرص الناس فهم احرص من المجوس و المجوس يريد تعمير الف سنة- و اصل سنة سنوة بدليل سنوات و قيل سنهة-

وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ بمباعده مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ضمير هو راجع الى أحدهم و ان يعمر فاعل مزحزحه و المعنى و ما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره او الى مصدر يعمر و يعمر بدل منه- او ضمير مبهم ان يعمر تفسيره-

فان قيل طول العمر في الدنيا مباعد للعذاب الأخروي البتة فكيف يحكم بعدم التبعيد-

قلت لما كان الف سنة بل تمام عمر الدنيا بالنسبة الى الاخرة المؤبدة كساعة من النهار او كلمح البصر بالنسبة الى الزمان المتناهي لم يعتد التبعيد الحاصل بتعمير الف سنة تبعيدا إذ المراد بنفي تبعيده من العذاب تبعيده بالعمل الصالح ففيه زيادة توبيخ حيث لا يزيدهم طول عمرهم الا العذاب

وَ اللّه بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٢) فيجازيهم- قرا يعقوب بالتاء للخطاب مع اليهود و الباقون بالياء للغيبة انتهى-

اخرج اسحق بن راهويه في مسنده و ابن ابى شيبة- و ابن ابى حاتم- و ابن جرير من طرق عن الشعبي عن عمر انه كان يأتى اليهود فيسمع من التورية فيتعجب كيف يصدق ما في القران قال فمر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقلت نشدتكم باللّه أ تعلمون انه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال عالمهم- نعم نعلم انه رسول اللّه قلت فلم لا تتبعونه قالوا سالناه من يأتيه بنبوته فقال عدونا جبرئيل لانه ينزل بالغلظة و الشدة و الحرب و الهلاك-

قلت فمن سلمكم من الملائكة قالوا ميكائيل ينزل بالقطر و الرحمة-

قلت و كيف منزلتهما من ربهما قالوا أحدهما عن يمينه و الاخر بالجانب الاخر-

قلت فانه لا يحل لجبرئيل انه يعادى ميكائيل و لا يحل لميكائيل ان يسالم عدو جبرئيل و انى اشهد انهما و ربهما سلم لمن سالموا و حرب لمن حاربوا- ثم أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم و انا أريد ان أخبره فلما لقيته قال الا أخبرك بايات نزلت علىّ فقرا.

٩٧

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ حتى بلغ الكفرين قلت يا رسول اللّه و اللّه ما قمت من عند اليهود الا إليك لا خبرك بما قالوا لى و قلت لهم فوجدت اللّه قد سبقنى- و اسناده صحيح الى الشعبي و اعتضد الطرق بعضها ببعض لكن الشعبي لم يدرك عمر

و اخرج ابن جرير من طريق السدى عن عمر- و من طريق قتادة عن عمرو هما ايضا منقطعان

و اخرج ابن ابى حاتم من طريق اخر عن عبد الرحمن بن ابى ليلى ان يهوديا لقى عمر بن الخطاب فقال ان جبرئيل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا فقال عمر من كان عدوّا للّه و ملائكته و رسله و جبريل و ميكيل فان اللّه عدوه- قال فنزلت على لسان عمر- و قد نقل ابن جرير الإجماع على ان سبب نزول الاية ذلك-

و روى البخاري عن انس قال سمع عبد اللّه بن سلام مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو في ارض يحترف فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال انى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبى ما أول اشراط الساعة- و ما أول طعام اهل الجنة- و ما ينزع الولد الى أبيه و الى امه- قال أخبرني بهن جبرئيل آنفا قال نعم قال ذلك عدو اليهود من الملائكة فقرا هذه الاية- قال الشيخ ابن حجر ظاهر السياق ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قرا الاية ردا على قول اليهود و لا يستلزم ذلك نزولها حينئذ و هذا هو المعتمد-

و اخرج احمد و الترمذي و النسائي من طريق بكير بن شهاب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال أقبلت اليهود الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا أبا القاسم انا نسئلك عن خمسة أشياء فان انبأتنا بهن عرفنا انك نبى فذكر الحديث-

و فيه انهم سالوا عما حرم إسرائيل على نفسه و عن علامة النبي و عن الرعد و صوته و كيف تذكر المرأة و تؤنث و عمن يأتيه بخبر السماء الى ان قالوا فاخبرنا من صاحبك قال جبرئيل قالوا ذلك ينزل بالحرب و القتال و العذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة و النبات و القطر لكان فنزلت و

قال البغوي بلا سند انه قال ابن عباس ان حبرا من الأحبار يقال له عبد اللّه بن صوريا قال للنبى صلى اللّه عليه و سلم اى ملك يأتيك من السماء قال جبرئيل قال ذاك عدونا من الملائكة و لو كان ميكائيل لا منابك ان جبرئيل عادانا مرارا انزل على نبينا ان بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بخت نصر و أخبرنا بوقته فبعثنا رجلا ليقتل بخت نصر حين كان غلاما مسكينا ببابل فدفع عنه جبرئيل و كبر بخت نصر و خرب بيت المقدس- و قال مقاتل قالت اليهود ان جبرئيل عدونا لانه امر ان يجعل النبوة فينا فجعل في غيرنا-

قلت و لعل القصتين وقعتا معا قبل نزول الاية لقى عمر مع اليهود فكلهم ما كلمهم و لقى اليهود مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في ذلك الوقت فكلموه فنزل الاية- قرا ابن كثير جبريل هنا في الموضعين و في التحريم بفتح الجيم و كسر الراء من غير همز-

و قرا ابو بكر بفتح الجيم و الراء و همزة مكسورة من غير ياء جبرئل

و قرا حمزة و الكسائي مثله الا انهما يجعلان ياء بعد الهمزة جبرءيل و الباقون بكسر الجيم و الراء من غير همز جبريل

فَإِنَّهُ يعنى جبرئيل نَزَّلَهُ يعنى القران- و الإضمار من غير ذكر المرجع لفخامة شأنه و تبادر الذهن اليه كانه لم يحتج الى سبق فى الذكر

عَلى قَلْبِكَ يا محمد فان القابل للوحى اولا القلب و كان الحق قلبى و لكنه جرى على حكاية كلام اللّه تعالى

بِإِذْنِ اللّه بامره حال من فاعل نزل مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب

وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) احوال من مفعوله و الظاهر ان جواب الشرط فانّه نزّله و المعنى من كان عدو الجبرئيل فانه خلع عن عنقه ربقة الانصاف و كفر بما معه من الكتاب لان جبرئيل نزل القران مصدقا لما بين يديه من الكتاب فحذف الجواب و أقيم علته مقامه- او المعنى من عاداه فالسبب في عداوته انه نزل عليك و قيل جواب الشرط محذوف فليمت غيظا- او فهو عدو لى و انا عدوه يدل عليه ما بعده.

٩٨

مَنْ كانَ عَدُوًّا للّه وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ خصّهما بعد التعميم لاظهار فضلهما «١» كانهما من جنس اخر- و لان الكلام كان فيهما- و للتنبيه على ان

(١) اخرج الحاكم عن ابى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وزير اى من اهل السماء جبرئيل و ميكائيل و من اهل الأرض ابو بكر و عمر-

و اخرج الطبراني بسند حسن عن أم سلمة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان في السماء ملكين أحدهما يأمر بالشدة و الاخر يأمر باللين فكل مصيب و ذكر جبرئيل و ميكائيل و نبيان أحدهما يأمر باللين و الاخر يأمر بالشدة و كل مصيب و ذكر ابراهيم و نوحا ولى صاحبان أحدهما يأمر باللين و الاخر بالشدة و كل مصيب و ذكر أبا بكر و عمر- منه رحمه اللّه تعالى.

معاداة الواحد و الكل سواء في الكفر و استجلاب العداوة من اللّه تعالى- قرا حفص و يعقوب و ابو عمر و ميكيل بغير همز و لا ياء- و نافع بهمزة بلا ياء و ميكئل و الباقون بالياء بعد الهمز ميكئيل

فَإِنَّ اللّه عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ان اللّه تعالى عاداهم لكفرهم و على ان عداوة الملائكة و الرسل كفر- اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد و عكرمة عن ابن عباس انه قال قال ابن صوريا ما جئتنا بشى ء نعرفه فانزل اللّه تعالى.

٩٩

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ (٩٩) المتمردون في الكفر فان الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمه كانه متجاوز عن حده و اللام للجنس او العهد اشارة الى اليهود

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس انه قال قال مالك بن الضيف لمّا ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما أخذ عليهم من الميثاق و ما عهد إليهم في دين محمد صلى اللّه عليه و سلم و اللّه ما عهد إلينا في مجد و لا أخذ علينا الميثاق- فانزل اللّه تعالى.

١٠٠

أَ وَ كُلَّما الهمزة للانكار و الواو للعطف على محذوف تقديره اكفروا بالآيات و كلما

عاهَدُوا يعنى اليهود عَهْداً لان خرج محمد صلى اللّه عليه و سلم لنؤمنن به يدل عليه قراءة ابى الرجاء العطاردي او كلّما عوهدوا- و قال عطاء- هى العهود التي كانت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بين اليهود ان لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بنى قريظة و النضير قوله تعالى الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ

نَبَذَهُ نقضه و طرحه فَرِيقٌ مِنْهُمْ و ان لم ينقض كلهم- و لما توهم هذا الكلام ان النابذين هم الأقلون قال

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) باللّه او بالتورية فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا.

١٠١

وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّه كعيسى و محمد صلى اللّه عليهما و سلم

مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التورية نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللّه يعنى التورية

وَراءَ ظُهُورِهِمْ و لم يعملوا به و لو عملوا به لامنوا بكل نبى- مثل لاعراضهم و عدم التفاتهم الى احكام التورية في الايمان و النصر لمن جاء بعدها من الأنبياء باعراض من يرمى شيئا خلفه فلا يلتفت اليه

كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) انه كتاب اللّه أ و لا يعلمون بما فيه و لكنهم يتجاهلون عنادا.

١٠٢

وَ اتَّبَعُوا اى عملوا يعنى اليهود و تحدثوا و تعلموا عطف على نبذ اى نبذوا كتاب اللّه و اتبعوا كتب السحر و الشعوذة بل عطف على الشرطية فان تقييد الاتباع بمجى الرسول غير ظاهر

ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ حكاية حال ماضية معناه ما تلت و العرب يستعمل الماضي موضع المستقبل و بالعكس مجازا- و تتلوا اما مشتق من التلاوة بمعنى القراءة او من التلو بمعنى التبعية يعنى اتبعوا كتب السحر التي كانت تقراها الشياطين من الجن و الانس و تتبعها و تعمل بها

عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ متعلق بتتلوا على تضمين الافتراء اى تتلوا الشياطين مفتر بين على ملك سليمان قائلين بان ملكه كان به و حينئذ يرتبط ما كفر سليمن ارتباطا تاما او يكون على بمعنى في اى في وقت سلطنته-

قال البغوي قال السدى كانت الشياطين تصعد الى السماء فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت و غيره فيأتون الكهنة و يخلطون بما سمعوا في كل كلمة سبعين كذبة و يخبرونهم بها- فاكتتب الناس و فشا ذلك في بنى إسرائيل ان الجن تعلم الغيب- و بعث سليمان عليه السلام و جمع تلك الكتب و جعلها في صندوق و دفنه تحت كرسيه و قال لا اسمع أحدا يقول ان الشيطان يعلم الغيب الا ضربت عنقه- فلما مات سليمان و ذهب العلماء الذين كانوا يعرفون امر سليمان و دفنه الكتب و خلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان على صورة انسان فاتى نفرا من بنى إسرائيل فقال هل أدلكم على كنز لا تأكلونه ابدا احفروا تحت الكرسي فاراهم المكان و قام ناحية و ذلك انه لم يكن يدنو شيطان من الكرسي الا احترق- فحفروا و اخرجوا الكتب قال الشيطان ان سليمان كان يضبط الجن و الانس و الشياطين و الطير بهذه ثم طار الشيطان و فشا في الناس ان سليمان كان ساحرا- و أخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك اكثر ما يوجد السحر في اليهود فلما جاء محمد صلى اللّه عليه و سلم برّا اللّه تعالى سليمان من ذلك-

قلت و الظاهر ان ما دفنه سليمان كان كتب السحر دون ما ألقته الشياطين الى الكهنة مما سمعته من الملائكة في الحوادث اليومية فان ذلك الكهانة و لا يفيد ذلك بعد مضى الدهور حين استخرجوها بعد موت سليمان- و قال الكلبي ان الشياطين كتبوا السحر و النير نجات على لسان اصف بن برخيا هذا ما علّم اصف بن برخيا سليمان الملك ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع اللّه الملك عنه و لم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها و قالوا للناس انما ملككم سليمان بهذا- فاما علماء بنى إسرائيل و صلحاؤهم فقالوا معاذ اللّه ان يكون هذا من علم سليمان و اما السفلة فقالوا هذا علم سليمان و اقبلوا على تعلمه و رفضوا كتب أنبيائهم و فشت الملامة لسليمان حتى برّاه اللّه في القران و قال

وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ يعنى ما سحر سليمان فيكفر عبّر عن السحر بالكفر ليدل على ان السحر كفر و ان من كان نبيا كان معصوما عنه

وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا قرا ابن عامر و حمزة و الكسائي بتخفيف نون لكن و رفع الشّيطين و الباقون بالنون المشددة و نصب الشّيطين و كذلك و لكن البرّ «١» و كذلك في الأنفال و لكن اللّه قتلهم و لكن اللّه رمى

(١) لعله من سباق قلم لانه قرأه بالتخفيف نافع و ابن عامر و الباقون بالتشديد-

يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ حال من الضمير في كفروا- و السحر علم بألفاظ و اعمال يتقرب بها الإنسان الى الشياطين تصير بها الشياطين مسخرات له فيعينونه على ما يريد و تؤخر تلك الألفاظ و الأعمال في النفوس و الأبدان بالامراض و الموت و الجنون و تخيل في الاسماع و الابصار كما سمعت في سحرة فرعون انهم القوا حبالهم و عصيّهم يخيّل الى موسى من سحرهم انّها تسعى- و ليس تلك التأثيرات الا بخلق من اللّه تعالى ابتلاء منه

و قيل انها تؤثر في قلب الأعيان ايضا فيجعل الإنسان حمارا و الحمار كلبا

قال البغوي السحر وجوده حق عند اهل السنة و لكن العمل به كفر و قال الشيخ ابو منصور القول بان السحر كفر على الإطلاق خطا بل يجب البحث عن حقيقته فان كان في ذلك رد ما ثبت بالشرع قطعا فهو كفر و الا فلا-

قال البغوي حكى عن الشافعي رضى اللّه عنه انه قال السحر يخيل و يمرض و قد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه- فاذا تلقاه منه استعمله في غيره انتهى-

و قول الشافعي ايضا يدل على ان السحر بعضها كفر دون بعض- و كذا ما في المدارك حيث قال ان السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور دون الإناث يعنى عند الحنفية كما في المرتد و ما ليس بكفر و فيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق و يستوى فيه الذكور و الإناث و يقبل توبته إذا تاب و ان كان سحره كفرا و من قال لا يقبل توبته فقد غلط فان سحرة فرعون قبلت توبتهم مع كونهم كفارا انتهى-

قلت و تعبير اللّه سبحانه السحر بالكفر و قوله وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ و قوله تعالى وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ كل ذلك يدل على ان ألفاظ السحر و اعماله كلها او عامتها من موجبات الكفر و مناقضا لشرائط الايمان و ينبغى ان يكون كذلك فان الشيطان لا يرضى من الإنسان الا بالكفر فلا يتصور التقرب اليه و تسخيره الا به نعوذ باللّه منه و ما قال الشافعي و الشيخ ابو منصور رحمهما اللّه فمبنى على الاحتمال العقلي (فائدة) و اعلم انه من قتل إنسانا لا يحل قتله او اضره بسلب نعمة البدنية او المالية او غير ذلك بالسيفى و الدعاء و ان كان ذلك بأسماء اللّه تعالى الجلالية و ان لم يكن ذلك كفرا فهو فاسق البتة و حكمه حكم قطاع الطريق قال اللّه تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً-

و قال عليه الصلاة و السلام المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده- متفق عليه- من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص و من هذا القبيل دعوة بلعم بن باعور على موسى عليه السلام و سيجيئ قصته في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الاية-

وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على السحر او على ما تتلوا و المراد بالمعطوف و المعطوف عليه واحد و العطف لتغائر الاعتبار او لانه نوع اخر أقوى منه

بِبابِلَ ظرف او حال من الملكين او من الضمير في انزل قال ابن مسعود بابل ارض الكوفة

و قيل جبل دماوند- و هذا يدل على ان السحر ايضا من العلوم المنزلة من السماء ابتلاء من اللّه تعالى فان اللّه تعالى هو الهادي و المضل يفعل ما يشاء-

و المأمور به غير ما أراد و شاء- فاللّه تعالى امتحن الناس بالملكين فمن شقى تعلم السحر منهما و كفر باللّه و من سعد تركه و بقي على الايمان و كان الملكين يذكران بطلان السحر و يصفانه و يأمران بالاجتناب عنه و اللّه اعلم

و قيل ما نافية و قد كانت اليهود يقولون ان السحر من العلوم المنزلة من السماء على الملكين فرد اللّه سبحانه تعالى قولهم و قال

وَ ما أُنْزِلَ يعنى السحر على الملكين عطفا على ما كفر سليمن و حينئذ قوله تعالى

بِبابِلَ متعلق ب يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ هارُوتَ وَ مارُوتَ عطف بيان للملكين على التقدير الاول كما هو الظاهر-

و قيل بدل من الشياطين بدل البعض على تقدير كون ما نافية

وَ ما يُعَلِّمانِ يعنى هاروت و ماروت مِنْ أَحَدٍ يعنى أحدا و من زائدة

حَتَّى يَقُولا ناصحين على تقدير كونهما ملكين

إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ابتلاء من اللّه و امتحان

فَلا تَكْفُرْ اى لا تتعلم السحر فتكفر اطلق المسبب على السبب- قيل انهما كانا يقولان ذلك سبع مرات قال عطاء و السدىّ فان ابى الا التعلم قالا له ايت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك الايمان و المعرفة و ينزل شى ء اسود شبيه الدخان حتى يدخل مسامعه و ذلك غضب اللّه نعوذ باللّه منه- و على التقدير الثاني ما يعلمانه حتى يقولا انا مفتونان فلا تكن مثلنا-

قلت و هذا القول نصيحة يستبعد ان يصدر من الشياطين و من ثم

قلنا ان الاول هو الظاهر

فَيَتَعَلَّمُونَ الضمير لما دل عليه من أحد مِنْهُما اى هاروت و ماروت و الجملة معطوفة على مقدر و تقديره فيأبون فيتعلمون او هى معطوفة على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ اى يعلمونهم فيتعلمون

ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ اى من السحر ما يبغض كل واحد منهما صاحبه

وَ ما هُمْ اى السحرة او الشياطين بِضارِّينَ به اى بالسحر

مِنْ أَحَدٍ اى أحد إِلَّا بِإِذْنِ اللّه يعنى بقضائه و قدره و مشيته فان الأسباب كلها اسباب ظاهرية عادية غير مؤثرة بالذات- بل جرت عادة اللّه سبحانه بخلق التأثيرات و التأثرات بعد وجود الأسباب ان شاء

وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ اى السحر فانه موجب لكفرهم

وَ لا يَنْفَعُهُمْ شيئا و فيه اشارة الى ان تعلّم العلوم الغير النافعة كالطبيعى و الرياضي و نحو ذلك مكروه لاضاعة الوقت و من ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّهم انى أعوذ بك من علم لا ينفع رواه الحاكم فى المستدرك في حديث ابن مسعود فائدة العلم الذي لا ينفع نوعان نوع منه لا ينفع أحدا من الناس حيث لا يتصور الانتفاع منه كالطبيعى و نحوه و نوع منه لا ينفع العالم إذا لم يعمل بعلمه و اللّه اعلم و اما العلوم الضارة فلا شك في حرمتها كالسحر و الشعبدة و الإلهيات الفلاسفة الا إذا كانت بنية صالحة و ذكر البغوي عن ابن عباس و الكلبي و قتادة و غيرهم في شأن هاروت و ماروت قصة ان الملائكة لما راوا ما يصعد الى السماء من سيات بنى آدم عيروهم فقال اللّه تعالى لو انزلتكم الى الأرض و ركّبت فيكم مثل ما ركّبت فيهم لارتكبتم مثل ما ارتكبوا فقالوا سبحانك ما لنا ان نعصيك قال فاختاروا من خياركم فاختاروا هاروت و ماروت و عزائيل- فركّب اللّه فيهم الشهوات و اهبطهم الى الأرض و أمرهم ان يحكموا بين الناس بالحق و نهاهم عن الشرك و القتل بغير الحق و الزنى و شرب الخمر- فاما عزائيل لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربه و سأل ان يرفعه الى السماء فاقاله فسجد أربعين سنة و لم يزل بعد مطاطيا رأسه حياء-

و اما الآخران فكانا يقضيان بين الناس فاذا امسيا ذكرا اسم اللّه تعالى الأعظم و صعدا الى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا و ذلك انه اختصم إليهما ذات يوم امرأة تسمى زهرة و زوجها و كانت ملكة من اهل فارس فعشقا عليها فراوداها عن نفسها فابت و قالت لا الا ان تعبدا الصنم و تقتلا النفس تعنى زوجها و تشربا الخمر فعرضت عليهما حتى شربا الخمر و زنيابها فراهما انسان فقتلاه فمسخ اللّه الزهرة شهابا فلما امسى هاروت و ماروت بعد ما ارتكبا المعاصي و أراد الصعود ما طاوعتهما أجنحتهما فقصدا إدريس النبي صلى اللّه على نبينا و عليه و سلم و سالاه ان يشفع لهما الى اللّه فخيرهما اللّه تعالى بين عذاب الدنيا و عذاب الاخرة فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعها- فهما ببابل يعذبان معلقان بشعورهما في جب ملئت نارا-

روى ابن راهويه و ابن مردوية عن على قوله صلى اللّه عليه و سلم لعن اللّه الزهرة فانما هى التي فتنت الملكين هاروت و ماروت- و اللّه اعلم-

و هذه القصة من اخبار الآحاد بل من الروايات الضعيفة الشاذة و لا دلالة عليها في القران بشى ء و في بعض روايات هذه القصة ما يأباه النقل و العقل و هو ما حكى عن الربيعة بن انس انه مسخ اللّه الزهرة كوكبا و صعدت الى السماء حين تعلمت الاسم الأعظم و تكلمت به و لم يستطع هاروت و ماروت الصعود الى السماء مع كونهما معلمين الزهرة و مساواتهما لها في ارتكاب المعصية بل كان كفرهما دون كفر زهرة لاجل سكرهما و اللّه اعلم- قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد قال الشيخ كمال الدين- و ائمة النقل لم يصححوا لهذه القصة و لا اثبتوا روايتها عن على و لا عن ابن عباس رضى اللّه عنهما- قال العاصي ان هذه الاخبار لم يرو منها شى ء صحيح و لا سقيم عن النبي صلى اللّه عليه و سلم- قال و هذه الاخبار من كعب اليهود و افترائهم- قال الصالحي ذكروا في تأويل الاية ان اللّه تعالى كان قد امتحن الناس بالملكين فان السحر كان قد ظهر و ظهر قول اهله فانزل اللّه تعالى ملكين يعلمان الناس حقيقة السحر و يوضحان امره ليعلم الناس ذلك و يميّزوا بينه و بين المعجزة و الكرامات فمن جاء يطلب ذلك منهما انذراه و أعلماه انما أنزلنا فتنة لتعليم السحر فمن تعلّمه ليجتنبه و يعلم الفرق بينه و بين المعجزات و الكرامات و ما يظهره اللّه تعالى على أيدي عباده المؤمنين فذلك هو المرضى و من تعلمه لغير ذلك ادّى به الى الكفر- فلهذا كان الملكان «١» يقولان انما نحن فتنة فلا تكفر ثم يقولان له إذا فعل الساحر كذا فرق بين المرء و زوجه- فعلى هذا يكون فعل الملكين طاعة لامر اللّه تعالى و لا ينافى عصمة الملائكة-

(١) فى الأصل ملكين-

قال البيضاوي هذه القصة محكى عن اليهود و لعله من رموز الأوائل و حله لا يخفى على ذوى البصائر- أقول في حله لعل المراد بالملكين القلب و الروح و سائر لطائف عالم الأمر و انما ذكر الاثنين مع انها خمسة لارادة التعدد دون العدد المعين او لانه قد ينكشف على بعض السالكين الاثنين منها القلب و الروح دون البواقي- فكنى ذلك الرجل عما انكشف عليه و المراد بالمرأة النفس المنبعثة من العناصر فانها الامّارة بالسوء- و لما زوج اللّه سبحانه بحكمته البالغة لطائف عالم الأمر مع النفس و جعل بينها محبة و عشقا اسودت اللطائف و انكدرت و غفلت عن خالقها و هى محبوسة منكوسة في القالب الظلماني الذي امتلأت من نار الشهوات و ذلك هو المراد بالجب ببابل مملوة نارا-

ثم إذا مات الإنسان و قامت قيامة و استدركه الرحمة خلصت من السجن ان بقي فيها نور الايمان- و اما النفس الكائنة في قالب رجل من الأبرار فبمجاورة لطائف عالم الأمر و الرياضات المأمورة و ذكر اسم اللّه الأعظم صعدت الى السماء كانها كوكب درى تتوقد بيضاء حتى قيل لها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي- فالنفس و ان كانت خبيثة شريرة في الابتداء قبل الاهتداء لكنها تفضلت على جميع لطائف عالم الأمر بالقوة الاستعدادية المستودعة في الغبراء فان خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا من كلام سيد الأنبياء عليه و عليهم الصلاة و التسليمات و احسن الثناء رواه مسلم عن ابى هريرة

وَ لَقَدْ عَلِمُوا يعنى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ اى استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب اللّه تعالى- و اللام للابتداء علقت علموا عن العمل

ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ نصيب وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ يعنى باعوا به حظوظ

أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) ذلك و يتفكرون فيه و الجواب محذوف دل عليه ما قبله يعنى ما شروه-

فان قيل أ ليس قد قال اللّه تعالى وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ على التأكيد القسمي فما معنى قوله تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ-

قيل معناه انهم لما لم يعملوا بما علموا فكانهم ما علموا

و قيل المثبت العقل العزيزي و العلم الإجمالي بقبح الفعل و ترتب العقاب و المنفي العلم بحقيقة ما يلحقه من العذاب و المختار عندى ان العلم علمان علم يتعلق بظاهر القلب و ذا لا يستتبع العمل و منه علم اليهود يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يجديهم معرفتهم شيئا مثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً و علم وهبى يتخلص الى صميم القلب بعد انجلائه و الى النفس بعد اطمينانه و هو المعنى في قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللّه مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ و قوله عليه الصلاة و السلام العلماء ورثة الأنبياء يحبهم اهل السماء و يستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا الى يوم القيامة- رواه ابن النجار عن انس- و أشار الى كلا العلمين أفضل الأنبياء عليه الصلاة و الثناء خير الخيار خيار العلماء و شر الشرار شرار العلماء- رواه الدارمي من حديث الأحوص بن حكيم و عن الحسن قال العلم علمان فعلم في القلب فذلك العلم النافع و علم على اللسان فذلك حجة اللّه على ابن آدم- رواه الدارمي.

١٠٣

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران

وَ اتَّقَوْا عذاب اللّه بترك المعاصي و السحر

لَمَثُوبَةٌ يعنى ادنى ثواب سمى الجزاء ثوابا و مثوبة لان المحسن يثوب و يميل اليه

مِنْ عِنْدِ اللّه خَيْرٌ جواب لو واصله لا ثيّبوا مثوبة من عند اللّه خيرا ممّا شروا به أنفسهم او مما سواه فحذف الفعل و جعل الباقي جملة اسمية ليدل على ثبات المثوبة و الجزم بخيريتها و حذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من ان ينسب اليه او للتعميم و عدم تخصيص التفضيل بشى ء مما سواه- و قيل لو للتمنى و لمثوبة كلام مبتدأ

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) ان ثواب اللّه خير و الكلام فيه كالكلام فيما سبق- اخرج ابن المنذر انه كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول اللّه من المراعاة اى ارعنا سمعك اى فرّغ سمعك لكلامنا يقال أرعى الى الشي ء و أرعاه و راعاه إذا أصغى اليه و استمعه- او المعنى راعنا اى راقبنا و تانّ بنا فيما تلقينا حتى نفهمه- و الرعي حفظ الغير لمصلحته- و كان هذا اللفظ سبّا قبيحا بلغة اليهود قيل كان معناه اسمع لا سمعت و قيل كان معناه يا أحمق من الرعونة فسمع اليهود فخاطبوا النبي صلى اللّه عليه و سلم بنية السب و يضحكون فيما بينهم لعنهم اللّه ففطن بها سعد بن معاذ رضى اللّه عنه فقال لان سمعتكم تقولون ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا قتلنكم فقالوا و لستم تقولونها فانزل اللّه تعالى.

١٠٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا يعنى انظر إلينا و اسمع كلامنا او انتظر و تأنّ بنا حتى نفهم كلامك

وَ اسْمَعُوا ما تؤمرون به و أطيعوا و المعنى أحسنوا الاستماع مع جمع حتى لا تحتاجوا الى طلب المراعاة

وَ لِلْكافِرِينَ يعنى اليهود الذين سبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعنهم اللّه

عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) اى مولم- كان المسلمون يقولون لحلفائهم من اليهود أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم فقالت اليهود ما هذا الذي تدعوننا اليه بخير مما نحن عليه و لو دونا لو كان خيرا فانزل اللّه تعالى تكذيبا لهم.

١٠٥

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ الود محبة الشي ء مع تمنيه و لذلك استعمل في كل منهما- و من للبيان و لا زائدة عطف على اهل الكتاب

أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ مفعول يودّ من الاولى مزيدة للاستغراق و الثانية للابتداء و الخير الوحى- و المعنى انهم يحسدونكم و لا يودون ان ينزل عليكم

وَ اللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ- بنبوته

مَنْ يَشاءُ وَ اللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٦) الفضل ابتداء احسان بلا علة- و لمّا قال المشركون ان محمدا صلى اللّه عليه و سلم يأمر أصحابه بامر ثم ينهاهم عنه و يأمر بخلافه ما يقوله الا من تلقاء نفسه فانزل اللّه تعالى.

١٠٦

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ من بيانية- و النسخ عبارة عن شيئين أحدهما النقل و التحويل و منه نسخ الكتاب و ثانيهما الرفع و الازالة يقال نسخت الشمس الظل و المراد هاهنا الثاني و هو في الحقيقة بيان لانتهاء التعبد بقراءتها فقط دون حكمها مثل اية الرجم-

او بحكمها المستفاد منها فقط دون قراءتها مثل اية الوصية للاقارب و اية عدة الوفاة بالحول- او بهما جميعا كما قيل انها كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة و حكما- ثم المنسوخ حكمها منها ما أقيم غير ذلك الحكم مقامه كما في وصية الأقارب نسخت بالميراث و عدة الوفاة بالحول نسخت الى اربعة أشهر و عشر و منها ما لم يقم غيره مقامه كامتحان النساء- و النسخ انما يعترض الأوامر و النواهي دون الاخبار-

قرا الجمهور بفتح النون و السين من نسخ اى نرفعها-

و قرا ابن عامر بضم النون و كسر السين من الانساخ اى نأمرك او جبرئيل بنسخها او تجدها منسوخة و ما شرطية جازمة لننسخ منتصبة على المفعولية

او نُنْسِها قرا ابن كثير و ابو عمرو بفتح النون الاول و السين مهموزا اى نؤخرها من النساء اى نؤخر حكمها و نرفع تلاوتها كما في اية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الاول بمعنى رفع التلاوة و الحكم- او المعنى تؤخرها في اللوح المحفوظ يعنى لم ننزلها عليك- فمعنى النسخ الرفع بعد الانزال و معنى النساء عدم الانزال

و قرا الباقون ننسها بضم النون و كسر السين من الانساء و النسيان ضد الحفظ اى نمحّها عن قلبك روى عن ابى امامة بن سهل بن حنيف- ان قوما من الصحابة رضى اللّه عنهم قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها الا بسم اللّه الرحمن الرحيم فغدوا الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبروه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تلك سوره رفعت بتلاوتها و أحكامها- و قيل معناه نتركها اى لا ننسخها كما قال اللّه تعالى

نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ يعنى تركوه فتركهم و هذا غير مستقيم لقوله تعالى

نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فانها تدل على إزالتها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فى النفع للعباد و بالسهولة او كثرة الثواب لان اية خير من اية فان كلام اللّه واحد و كله خير

او مِثْلِها فى ذلك

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) استفهام تقرير اى انك تعلم و احتج بهذه الاية من يمنع النسخ بلا بدل او بدل أثقل منه او نسخ الكتاب بالسنة- و أجيب بانه قد يكون عدم الحكم أصلح و ان ما هو الأثقل فهو انفع من حيث الثواب- و ان السنة ايضا مما أتاه اللّه تعالى و علّمه لنبيه صلى اللّه عليه و سلم.

١٠٧

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فهو كالدليل على قوله تعالى أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و على جواز النسخ و لذلك ترك العاطف

وَ ما لَكُمْ يا معشر الكفار عند نزول العذاب مِنْ دُونِ اللّه مما سواه

مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (١٠٧) الولي القريب و هو قد يضعف عن النصر و النصير قد يكون أجنبيا من المنصور فبينهما عموم و خصوص من وجه و اللّه اعلم-

اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد و عكرمة عن ابن عباس قال قال رافع بن حرملة و وهب بن زيد لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا محمد اتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه او فجر لنا الأرض عيونا نتبعك و نصدقك فانزل اللّه تعالى.

١٠٨

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ و

قال البغوي نزلت في اليهود حين قالوا اتنا بكتاب من السماء جملة كما اتى موسى بالتورية- و قيل نزلت في المشركين حين قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ-

و اخرج ابن جرير عن مجاهد قال ...

سالت قريش محمدا صلى اللّه عليه و سلم ان يجعل لهم الصفا ذهبا فقال نعم و هو لكم كالمائدة لبنى إسرائيل ان كفرتم فابوا و رجعوا فنزلت-

و اخرج السدى قال سالت العرب محمدا صلى اللّه عليه و سلم أن يأتيهم باللّه فيروه جهرة فنزلت- و كذا

قال البغوي انه قيل سالوه فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ... تَأْتِيَ بِاللّه وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا-

و اخرج السدى عن ابى العالية قال قال رجل يا رسول اللّه لو كانت كفاراتنا ككفارات بنى إسرائيل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما اعطاكم اللّه خيرا «١» كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه و كفاراتها فان كفّرها كانت له خزى في الدنيا و ان لم يكفّرها كانت له خزى في الاخرة و قد اعطاكم اللّه خيرا من ذلك قال اللّه تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً او يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُوراً رَحِيماً و الصلاة الخمس و الجمعة الى الجمعة كفارات لما بينهن- فانزل اللّه تعالى أم تريدون الاية- و أم منقطعة و معناه بل أ تريدون و المراد به التوصية بعدم الاقتراح بالسؤال-

(١) فى الأصل خير

قال البغوي أم بمعنى الهمزة يعنى أ تريدون و الميم زائدة و قيل بل تريدون و يمكن ان يقال انها متصلة داخلة على الجملة للتسوية بين الجملتين معطوفة على الهمزة في قوله تعالى الم تعلم و الخطاب فيه و ان كان الى النبي صلى اللّه عليه و سلم خاصة لكن المراد به هو و أمته امة الاجابة او الدعوة لقوله تعالى وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه- و انما أفرد لانه صلى اللّه عليه و سلم أعلمهم و مبدا علمهم فالتقدير أ لم تعلموا انّ اللّه له ملك السماوات و الأرض قادر على الأشياء كلها يأمر و ينهى كما أراد أم تعلمون ذلك و تقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى- و هذا انما يستقيم ان كان نزول الآيتين في واقعة دفعة واحدة و اما على تقدير اختلاف شأن نزولهما فلا- و منع السكاكي كونها متصلة و قال علامة كون أم متصلة وقوع المفرد بعدها و كونها منقطعة وقوع الجملة بعدها

كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ساله قومه أرنا اللّه جهرة

وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اى يستبدل الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ اى ترك الثقة بالآيات البينات و شك فيها و اقترح غيرها

فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) حتى وقع في الكفر بعد الايمان و المعنى لا تقترحوا فتضلوا-

قال البغوي قال نفر من اليهود لحذيفة بن اليمان و عمار بن ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا الى ديننا فنحن اهدى سبيلا منكم الحديث فنزلت.

١٠٩

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس انها نزلت في حييّ و ابى ياسر بنى اخطب من اليهود و كانا من أشد يهود حسدا للعرب إذا خصهم اللّه تعالى برسوله و كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا

لَوْ يَرُدُّونَكُمْ يا معشر المؤمنين- لو مصدرية تنوب ان في المعنى دون العمل في اللفظ فهو مفعول ودّ- او هو بمعنى ليت حكاية و بيان لودادهم

مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً مرتدين جال من ضمير المخاطبين

حَسَداً منصوب على انه علة ود- او على المصدرية اى يحسدونكم حسدا

مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ متعلق بود اى تمنوا ذلك من خبث أنفسهم لم يأمرهم اللّه تعالى بذلك- او بحسد اى حسدا منبعثا من عند أنفسهم

مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالمعجزات و معرفة النعوت المذكورة فى التورية

فَاعْفُوا فاتركوهم وَ اصْفَحُوا و تجاوزوا- كان هذا قبل الأمر بالقتال

حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ الذي هو الاذن في القتال و ضرب الجزية و قيل قتل قريظة و اجلاء بنى النضير

إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) فيقدر على الانتقام منهم.

١١٠

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا يعنى اتركوهم و خالفوهم بالإلجاء الى اللّه تعالى بالعبادة

وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ صلوة او صدقة او غير ذلك

تَجِدُوهُ اى ثوابه عِنْدَ اللّه إِنَّ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠).

١١١

وَ قالُوا اى اهل الكتاب من اليهود و النصارى

لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً او نَصارى لف بين قولى الفريقين اعتمادا بفهم السامع- اى قالت اليهود لن يدخل الجنة الا من كان هودا و لا دين الا دين اليهودية- و قالت النصارى لن يدخل الجنة الا من كان نصارى و لا دين الا النصرانية حين اجتمع وفد نجران في مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مع اليهود فكذّب بعضهم بعضا قال الفرّاء هودا بمعنى يهودا حذف الياء الزائدة- و قال الجمهور اليهود جمع هائد كعود جمع عائد وحّد ضمير اسم كان و جمع الخبر نظرا الى اللفظ و المعنى

تِلْكَ يعنى مودتهم ان لا ينزل عليكم خير من ربكم المستفادة من قوله تعالى ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الاية و قوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ الآية- و ان لا يدخل الجنة الا هم- او المضاف محذوف اى أمثال تلك الامنية يعنى لا يدخل الجنة الا هم

أَمانِيُّهُمْ اى شهواتهم الباطلة جمع امنية افعولة من التمني كالاضحوكة و الاعجوبة و الجملة معترضة

قُلْ يا محمد هاتُوا أصله أتوا قلبت الهمزة هاء

بُرْهانَكُمْ على اختصاصكم بدخول الجنة

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) فى دعويكم فان الدعوى على امر مستقبل بلا برهان باطل كاذب و الجواب محذوف دل عليه ما قبله.

١١٢

بَلى يعنى ليس كما قالوا مَنْ أَسْلَمَ اى أخلص

وَجْهَهُ و المراد به نفسه او قصده للّه وحده

وَ هُوَ مُحْسِنٌ يعبد ربه بالإخلاص كانه يراه كذا مر تفسير الإحسان في المتفق عليه من حديث تعليم جبرئيل

فَلَهُ أَجْرُهُ الذي وعده على عمله ثابتا

عِنْدَ رَبِّهِ و الجملة جواب من ان كانت شرطية و خبرها ان كانت موصولة و الفاء فيها لتضمنها معنى الشرط و الوقف على بلى و بهاتم الرد ان كانت شرطية و كذا يحتمل ان كانت موصولة- و يحتمل ان يكون الموصول مع صلتها فاعل فعل محذوف اى بلى يدخلها من اسلم- و حينئذ فله أجره جملة مبتدأة معطوفة على ما سبق

وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) فى الاخرة اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد و عكرمة عن ابن عباس انه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا فقال رافع بن حريملة ما أنتم على شى ء و كفروا بعيسى عليه السلام و الإنجيل و قال رجل من اهل نجران لليهود ما أنتم على شى ء و جحدوا بنبوة موسى عليه السلام و التورية فانزل اللّه تعالى.

١١٣

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ يصح و يعتد به

وَ هُمْ و الحال انهم يَتْلُونَ الْكِتابَ اى التورية التي تصدق عيسى و الإنجيل- او الإنجيل التي يصدق موسى و التورية

كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ اى مشركوا العرب و غيرهم من عبدة الأوثان و المجوس و القرون الخالية من الكفار حيث كذّب كل طائفة غيرها و ان كانوا على الحق

مِثْلَ قَوْلِهِمْ بيان لمعنى ذلك فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ اى يقضى بين الفريقين و غيرهم

يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) اى يكذّبهم و يدخلهم النار و يصدّق اهل الحق و يدخلهم الجنة- اخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن يزيد ان مشركى مكة لما صدوا النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم الحديبية انزل اللّه تعالى.

١١٤

وَ مَنْ أَظْلَمُ من مبتدأ استفهام و اظلم خبره و المعنى لا أحدا ظلم

مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّه انما أورد لفظ الجمع و ان كان المنع واقعا على مسجد و أحد لان الحكم عام و ان كان المورد خاصا

أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ثانى مفعولى منع كما في قوله تعالى وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ- او الخافض محذوف اى من ان يذكر او منصوب على العلية اى كراهة ان يذكر

وَ سَعى فِي خَرابِها بالتعطيل عن ذكر اللّه فانهم لما منعوا من يعمّره بالذكر فقد سعوا في خرابه و كذا ذكر البغوي عنه و عن عطاء- و ذكر عن قتادة و السدى ان المراد بمن مَنَعَ مَساجِدَ اللّه ... وَ سَعى فِي خَرابِها طيطوس بن اسبسيانوس الرومي و أصحابه حملهم بغض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوس فغزوا اليهود فقتلوا مقاتليهم و سبوا ذراريهم و حرّقوا التورية و خربوا بيت المقدس و ذبحوا فيه الخنازير و القوا فيه الجيف و كان بيت المقدس موضع حج النصارى و محل زيارتهم-

قلت و لعل الغرض من ذلك تعيير النصارى بما فعل اباؤهم و هم به راضون كما ان الغرض من ذكر ما صدر من أسلاف اليهود من عبادة العجل و غير ذلك تعييرهم

أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ فى علم اللّه و قضائه

أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ فيه وعد للمؤمنين بالنصر و استخلاص المساجد منهم و قد أنجز اللّه وعده حين فتح مكة على النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه و امر النبي صلى اللّه عليه و سلم مناديا ينادى الا لا يحجن بعد العام مشرك و فتح الروم على عمر بن الخطاب و كان بيت المقدس خرابا فبناه المسلمون- و قيل هذا خير بمعنى الأمر او النهى اى قاتلوهم حتى لا يدخلها أحد منهم الا خائفا من القتل و السبي او لا تمكنوهم من الدخول في المساجد- و قيل المعنى ما كان ينبغى لهم ان يدخلوها الا بخشية و خضوع فضلا عن تخريبها و حينئذ الجملة في محل النصب على الحال من فاعل منع و سعى-

لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قتل و سبى و ذلة بضرب الجزية

وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) النار المؤبدة بكفرهم و ظلمهم.

١١٥

وَ للّه الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ اى له الأرض كلها مشارقها و مغاربها ملكا و خلقا و المخلوقات كلها مظاهر وجوده و مجال نوره و هو نور السموات و الأرض و قيم الأشياء فلا يختص به مكان دون مكان- و انما امر القبلة امر تعبدي و التكليف انما هو بقدر الطاقة فاذا لم تقدروا على استقبال القبلة في الفرائض لعدوّ- او اشتبه القبلة و تحريتم فيها و غلطتم فيه- او تحرجتم في نوافل السفر فى النزول عن المراكب و الامتناع من السير و النوافل أسهل من امر الفرائض

فَأَيْنَما شرط تُوَلُّوا مجزوم به اى الى اى جهة تولوا يعنى وجوهكم و الجواب

فَثَمَّ وَجْهُ اللّه اى جهة المأمور باستقبالها يعنى قبلة اللّه كذا قال الحسن و مجاهد و قتادة و مقاتل- و قيل رضأ اللّه- و قيل هى من المتشابهات كقوله تعالى كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ- و يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ-

اخرج مسلم و الترمذي و النسائي عن ابن عمر قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يصلى على راحلته تطوعا أينما توجهت به و هو جاء من مكة الى المدينة ثم قرا ابن عمرو للّه المشرق و المغرب-

و قال مجاهد أنزلت هذه الاية

و اخرج الحاكم عنه قال أنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه ان يصلى حيثما توجهتك راحلتك في التطوع- و قال صحيح على شرط مسلم-

و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس نزول هذه الاية حين تحولت القبلة و قالوا ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها- و اسناده قوى-

قلت و الاول أصح سندا و معنى فان جواب ما وليهم نازل هناك حيث قال قُلْ للّه الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- و في شأن نزول الاية روايات اخر ضعيفة منها ما اخرج الترمذي و ابن ماجة و الدارقطني حديث ربيعة قال كنا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر اين القبلة فصلى كل رجل منا على خياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت-

و ما اخرج الدارقطني و البيهقي حديث جابر قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سرية كنت فيها فاصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فصلوا و خطوا خطوطا فلما أصبحوا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سالنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسكت و انزل اللّه تعالى وَ للّه الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ الاية-

و اخرج ابن مردوية عن ابن عباس نحوه و فيه فاخذتهم ضبابة فلم يهتدوا الى القبلة- و منها ما اخرج ابن جرير عن مجاهد قال لمّا نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا الى اين فنزلت الاية

إِنَّ اللّه واسِعٌ بإحاطة نوره و وجوده الأشياء كلها منها مشارق الأرض و مغاربها احاطة غير متكيفة و لا مدركا كنهها قال المجدد رضى اللّه عنه فى حقيقة الصلاة انها وسعة ذاتية بلا كيف لا تدرك كنهها

عَلِيمٌ (١١٥) باعذار العباد و مصالحهم و نياتهم.

١١٦

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَداً نزلت في يهود المدينة قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه و في نصارى نجران قالوا المسيح ابن اللّه و في مشركى العرب قالوا الملائكة بنات اللّه- قرا ابن عامر قالوا بلا و او باعتبار انه استيناف قصة اخر و الجمهور بالواو عطفا على قالت اليهود او على منع او على مفهوم من اظلم يعنى ظلموا و قالوا ....

سُبْحانَهُ أسبحه سبحانا و انزهه تنزيها من ذلك فان التوليد يقتضى التشبه و التجزى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم كذّبنى ابن آدم و لم يكن له ذلك و شتمنى و لم يكن له ذلك فامّا تكذيبه إياي فزعم انى لا اقدر ان أعيده كما كان و اما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة و لا ولدا- رواه البخاري و روى عن ابى هريرة نحوه و فيه اما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى و ليس أول الخلق باهون على من إعادته و اما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا و انا الأحد الصمد الذي لم الد و لم اولد و لم يكن لى كفوا أحد

بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا فكيف يتصور التوالد حيث لا مجانسة بين المخلوق الممكن المحتاج في الوجود و توابعه الهالك في نفسه و الخالق الواجب الغنى القيوم المتأصل بوجوده

كُلٌّ ما في السموات و الأرض

لَهُ قانِتُونَ (١١٦) اى قائمون بالشهادة على توحيده مقرّون بعبوديته فان الممكن يشهد و يدل انه عبد محتاج الى خالق واجب واحد لا يماثله ممكن فهو نظير قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لا يفقه شهادتهم و تسبيحهم و تحميدهم الا ارباب القلوب بمشاعر قلوبهم التي يدرك بها حياتهم او ارباب العقول المستدلين بذواتهم و احتياجاتهم- و اصل القنوت القيام قال عليه الصلاة و السلام أفضل الصلاة طول القنوت- رواه مسلم و احمد و الترمذي- و المعنى انهم مطيعون روى احمد بسند حسن عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم كل حرف من القران يذكر فيه القنوت فهو الطاعة قلت يعنى لا يمتنعون عن مشيته و تكوينه و كلما هذا شأنه لا يجانس الواجب- و جاء بما لشموله لما لا يعقل و قال قانتون تغليبا لذوى العقول او لانه لما اثبت لهم القنوت التي هى هيئة ارباب العقول جمعهم على هيئتهم و قيل معناه كلما زعموه الها من المسيح و عزير و الملائكة كلهم له قانتون مطيعون مقرّون بالعبودية فيكون إلزاما بعد اقامة الحجة-.

١١٧

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ اى مبدعهما و خالقهما و خالق كل شى ء كما هو خالق ما فيهما او المعنى بديع سمواته و ارضه

وَ إِذا قَضى أَمْراً اى أراد شيئا- و اصل القضاء الفراغ و منه إطلاقه على إتمام الشي ء قولا كقوله تعالى وَ قَضى رَبُّكَ- او فعلا كقوله تعالى فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ و يطلق على تعلق الارادة الالهية بوجود شى ء من حيث انه يوجبه

فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) من كان التامة لعدم الخبر اى أحدث فيحدث- و اما كون الشي ء موصوفا بصفة فليس مدلولا لهذه الاية- قرا الجمهور فيكون بالرفع استينافا او عطفا على يقول في جميع المواضع غير ان الكسائي تابع ابن عامر في النحل و يس فنصب-

و قرا ابن عامر فيكون بالنصب في جميع المواضع «١»

(١) يعنى هنا و في ال عمران فيكون و نعلمه و في النحل و مريم و يس و غافر-

الا في ال عمران كن فيكون الحقّ- و في سورة الانعام كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ- و انما نصبها بتقدير ان بعد الفاء في جواب الأمر- و هاهنا مباحث أحدها انه لا يجوز الخطاب مع المعدوم و أجيب بانه لما قدر وجوده كان كالموجود فصح الخطاب- و قال ابن الأنباري معنى انما يقول له اى لاجل تكوينه فعلى هذا لم يبق معنى الخطاب-

و

قال البيضاوي ليس المراد به حقيقة الأمر و الامتثال بل تمثيل لحصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف و فيه تقرير لمعنى الإبداع- ثانيها انه نصب يكون بتقدير ان يقتضى ان يكون صيغة الأمر بمعناه حتى يقدر بعده بعد الفاء ان في جوابه و ليس الأمر كذلك بل هو على سبيل تمثيله بسرعة حصول المراد فكيف يتصور النصب- و أجيب بان نصبه على جواب الأمر بالفاء في ظاهر اللفظ و ان لم يكن في المعنى كذلك- ثالثها ان من شرائط تقدير ان سببيّة ما قبل الفاء لما بعده- و حينئذ يلزم ان يكون للمكن كونان و أجيب عنه بان المراد بالكون الاول الوجوب مجازا إطلاقا بالمسبب على السبب فان الممكن ما لم يجب لم يوجد فتقديره ليكن وجوب ذلك الشي ء موجودة-

قلت و يمكن الجواب بان المراد بالكونين كونه في دار العمل السبب و كونه في دار الجزاء المسبب لكن هذا التأويل يقتضى الاختصاص بالمكلفين و سياق الاية يقتضى العموم- و الصواب ان يقال في الجواب المراد بالكونين كونه في «١» مرتبة الأعيان الثابتة لوجود علمى و كونه في الخارج الظلي بوجود ظلى كذا قالت الصوفية العلية و لا يلزم منه كون مرتبة الأعيان الثابتة حادثة حدوثا زمانيا بل حدوثا ذاتيا- و على هذا التأويل هذا الاية تدل على التوحيد الشهودى كما قال به المجدد رضى اللّه عنه دون التوحيد الوجودي كما قال به الشيخ الأكبر محى الدين العربي قدس سره ان الممكنات ما شمت رائحة الوجود يعنى في الخارج و اللّه اعلم.

(١) فى الأصل في المرتبة

١١٨

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال ابن عباس المراد به اليهود- و كذا اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عنه انه قال قال رافع بن حريملة لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان كنت رسولا من اللّه كما تقول فقل للّه فليكلمنا حتى نسمع كلامه-

و قال مجاهد المراد به النصارى- و انما نفى العلم عن الفريقين لتجاهلهم- و قال قتادة المراد به الأميون من مشركى العرب

لَوْلا هلّا و كذا كل ما في القران لو لا فهو بمعنى هلّا الا في قوله تعالى فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ معناه فلو لم يكن

يُكَلِّمُنَا اللّه كما يكلم الملائكة و كلم موسى فلا يحتاج الى رسول او يكلمنا بانّك رسوله

اَوْ تَأْتِينا آيَةٌ حجة على صدقك و الاول استكبار و الثاني جحود لما أتاهم من الآيات استهانة و عنادا

كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى أسلاف اليهود و النصارى

مِثْلَ قَوْلِهِمْ فقالوا أَرِنَا اللّه جَهْرَةً و قالوا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ

تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ اى تشابهت قلوب الأخلاف قلوب الاسلاف في العمى و العناد

قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) اى يطلبون اليقين بما هو الحق عند اللّه تعالى خصهم لان منفعة الآيات راجعة إليهم لا الى المجادلين عتوا و عنادا.

١١٩

إِنَّا أَرْسَلْناكَ متلبسا بِالْحَقِّ و مؤيدا به قال ابن عباس المراد بالحق القران قال اللّه تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ

بَشِيراً لاهل الطاعة وَ نَذِيراً مخوفا لاهل المعصية

وَ لا تُسْئَلُ قرا نافع و يعقوب على صيغة النهى المبنى للفاعل- و الباقون بالرفع على النقي المبنى للمفعول

عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) هو معظم النار و المعنى على قراءة الجمهور انه لا تسئل انهم لم لم يؤمنوا انما عليك البلاغ و علينا الحساب و على قراءة نافع النهى عن السؤال كناية عن شدة عقوبة الكفار يقال لا تسئل عن شر؟؟ فانه فوق ما تحسب او انه عسير مفزع سماعها- و ما ذكر البغوي انه قال عطاء عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ذات يوم ليت شعرى ما فعل أبواي فنزلت هذه الاية- و قال عبد الرزاق أخبرني الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي عنه-

و اخرج ابن جرير من طريق ابن جريح أخبرني داود بن عاصم عنه فذكرا نحوه فليس بمرضى عندى و ليس بقوى- و لو صح ذلك فهذا زعم من ابن عباس فانه لو سلم ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليت شعرى ما فعل أبواي و نزلت في هذا اليوم تلك الاية اتفاقا فلا دليل فيه على ان المراد باصحاب الجحيم أبواه صلى اللّه عليه و سلم و على تقدير التسليم فتلك الاية لا تدل على كفرهما فان المؤمن قد يكون من اصحاب الجحيم لاكتساب بعضى المعاصي حتى تدركه المغفرة بشفاعة شافع او دون ذلك او يبلغ الكتاب اجله- و قد صح عنه صلى اللّه عليه و سلم انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري من حديث ابى هريرة و قال صلى اللّه عليه و سلم ما افترق الناس فرقتين الا جعلنى اللّه فى خيرهما فاخرجت من بين أبوي و لم يصبنى شى ء من عهد الجاهلية خرجت من نكاح لم اخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت الى ابى و أمي فانا خيركم نفسا و خيركم أبا- و رواه البيهقي في دلائل النبوة من حديث انس و ابو نعيم في دلائل النبوة من حديث ابن عباس نحوه- و قد صنف الشيخ الاجل جلال الدين السيوطي رضى اللّه عنه في اثبات اسلام اباء النبي صلى اللّه عليه و سلم رسائل و أخذت من تلك الرسائل رسالة فذكرت فيها ما يثبت إسلامهم و يفيد اجوبة شافية لما يدل على خلافه فللّه الحمد.

١٢٠

وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ الملة ما شرع اللّه لعباده على لسان أنبيائه- من أمللت الكتاب إذا املاته- قيل انهم كانوا يسئلون الهدنة و يطمعونه انه ان امهلهم يؤمنوا فنزلت-

و اخرج الثعلبي عن ابن عباس ان يهود المدينة و نصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى اللّه عليه و سلم حين كان يصلّى الى قبلتهم فلما صرف القبلة الى الكعبة ايئسوا منه فنزلت- و في الاية مبالغة في اقناط رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن إسلامهم يعنى انهم يريدون ان تتبع ملتهم فكيف يتبعونك- و لعلهم قالوا مثل ذلك و لذا القن اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه و سلم جوابهم حيث قال

قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى اى الحق لا ما يدعون اليه

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الهوى رأى يتبع الشهوة

بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اى الوحى او الدين المعلوم صحته

ما لَكَ مِنَ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (١٢٠) يدفع عنك عقابه.

١٢١

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى القران قال قتادة و عكرمة هم اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم و قيل هم المؤمنون عامة او المراد به مؤمنوا اهل الكتابين قال ابن عباس نزلت في اهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن ابى طالب و كانوا أربعين رجلا اثنان و ثلثون من الحبشة و ثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا- و قال الضحاك هم الذين أمنوا من اليهود منهم عبد اللّه بن سلام و سعية بن عمرو و تمام بن يهودا و أسيد و أسد ابنا كعب بن يامين و عبد اللّه بن صوريا فحينئذ الموصول للمعهود

يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الضمير راجع الى الكتاب اى يتلون الكتاب بمراعاة اللفظ عن التحريف و التدبر فى معناه و العمل بمقتضاه «١»-

(١) اخرج الخطيب بسند فيه مجاهيل عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يتبعونه حق اتباعه- و عن عمر في قوله تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال إذا مر بذكر الجنة سال اللّه الجنة و إذا مر بذكر النار تعوذ باللّه من النار-

و قال الكلبي الضمير راجع الى محمد صلى اللّه عليه و سلم اى يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس- و هذا على تقدير كون المراد بالموصول مومنوا اهل الكتاب- و قوله تعالى يتلونه حق تلاوته حال مقدرة و الخبر ما بعده او خبر و قوله تعالى

أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبر بعد خبر اى بكتابهم او بمحمد صلى اللّه عليه و سلم

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ اى بالكتاب بالتحريف- او بالكفر بما يصدقه او بمحمد صلى اللّه عليه و سلم

فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) حيث اشتروا الكفر بالايمان.

١٢٢

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢)

١٢٣

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) لمّا صدر قصتهم بالأمر بذكر النعمة و القيام بحقوقها و الحذر عن اضاعتها و الخوف عن الساعة و أهوالها كرر ذلك و ختم به الكلام معهم مبالغة في النصح و إيذانا بانه فذلكة القصة و المقصود منها-.

١٢٤

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ- قرا هشام إبرهم في جميع هذه السورة و هى خمسة عشر و في النساء ثلثة و هى الاخيرة و في الانعام الحرف الأخير و في التوبة الحرفان الآخران و في ابراهم حرف و في النحل الحرفان و في مريم ثلثة أحرف و في العنكبوت الحرف الأخير و في الشورى حرف و في الذاريات حرف و في النجم حرف و في الحديد حرف و في الممتحنة الحرف الاول- فذلك ثلثة و ثلثون حرفا و جملته تسع و ستون «١»

و قرا ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين «٢» و الباقون ابراهيم بالياء في الجميع و الابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء و هو يستلزم الاختبار فظن ترادفهما

(١) هكذا في الأصل لعله سبق قلم- ابو محمد عفا اللّه عنه

(٢) فى الأصل الوجهين-

و المراد بالكلمات مدلولاتها و هى الأوامر و النواهي قال عكرمة عن ابن عباس هى ثلثون سهما هن شرايع الإسلام لم يبتل أحد بهذا الدين فاقامه كلّه الا ابراهيم فكتب له البراءة فقال وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى-

عشرة في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ .....

و عشر في الأحزاب ان الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ و....-

و عشر في المؤمنين و سال سائل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ..... او ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ف...-

و قال طاؤس ابتلاه اللّه بعشرة أشياء هى الفطرة خمس في الرأس قص الشارب و المضمضة و الاستنشاق و السواك و فرق الرأس و خمس في البدن تقليم الأظفار و نتف الإبط و حلق العانة و الختان و الاستنجاء بالماء- و قال الربيع و قتادة ...

مناسك الحج- و قال الحسن ابتلاه اللّه بسبعة أشياء بالكوكب و القمر و الشمس فاحسن فيها النظر و علم ان ربه دائم لا يزول و بالنار فصبر عليها و بالهجرة و بذبح ابنه و بالختان فصبر عليها- و قال سعيد بن جبير هو قول ابراهيم و إسماعيل إذ يرفعان قواعد البيت

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا فرفعاه بسبحان اللّه و الحمد للّه و لا اللّه الا اللّه و اللّه اكبر- و قال يمان بن رباب هن محاجة قومه قال اللّه تعالى و حاجّه قومه الى ان قال وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ-

و قيل هى قوله الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الى اخر الآيات-

و قيل المراد بالكلمات ما تضمنه الآيات التي بعدها-

قلت و الجمع بين هذه الأقوال اولى فالمراد به و اللّه تعالى اعلم ان اللّه ابتلاه بالأوامر و النواهي كلها منها الثلاثون و منها العشرة و منها السبعة و غير ذلك

فَأَتَمَّهُنَّ اى فاداهن كلهن كملا و قام بهن حق القيام و

قال اللّه تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً كلمة قال فعل تعلق به الظرف المتقدم اعنى إذ ابتلى معطوفة على ما قبلها- و ان كان الظرف متعلقا بمحذوف يعنى اذكر فهى استيناف كانه قيل فماذا قال ربه حين اتمهن فاجيب بذلك او بيان لقوله ابتلى فيكون الكلمات ما ذكره من الامامة و تطهير البيت و رفع قواعده و الإسلام و جاعل من الجعل الذي له مفعولان و المراد بالامامة هاهنا النبوة او ما هو أعم منه اعنى من يؤتم به و يجب اطاعته- و ليس المراد به السلطنة او الامامة بالمعنى الأخص الذي اخترعه الامامية و ليس له في اللغة و الشرع اصل- و قد جعل اللّه تعالى لابراهيم عليه السلام امامة عامة حتى قال لسيد الأنبياء اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً

قالَ ابراهيم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف اى بعض ذريتى- و الذرية نسل الرجل فعليّة او فعّولة قلبت راءها الثالثة ياء كما في دسّها- مشتق من الذر بمعنى التفرق- او فعولة او فعيلة من الذرء بمعنى الخلق قلبت همزتها ياء

قال اللّه تعالى لا يَنالُ عَهْدِي يعنى الامامة قرا حفص و حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا و قال وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً او كَفُوراً- و لو

قلنا ان المراد بالامامة كونه مطاعا و بالظالم الفاسق

قلنا معنى قوله تعالى

لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ان الفاسق و ان كان أميرا فلا يجوزا طاعته في الظلم و المعصية لقوله عليه السلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق- رواه مالك و احمد من حديث عمران و الحكيم بن عمرو الغفاري

و روى البخاري و مسلم و ابو داود و النسائي من حديث علىّ بلفظ لا طاعة لاحد في معصية اللّه انما الطاعة في المعروف «١»- و اما النصوص الواردة في وجوب إطاعة اولى الأمر كقوله تعالى أَطِيعُوا اللّه وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ-

(١)

و اخرج ابن مردوية بسند ضعيف عن على بن ابى طالب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال لا طاعة الا في المعروف-

و قوله عليه الصلاة و السلام اسمعوا و أطيعوا و لو كان عبدا حبشيا كانّ رأسه زبيبة- فمختصة بما لم يخالف أمرهم امر الشارع فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فليس في الاية حجة للروافض على كون العصمة شرطا في الامامة و اللّه اعلم-.

١٢٥

وَ اذكر إِذْ جَعَلْنَا ادغم ابو عمرو و هشام الذال من إذ في الجيم هاهنا و حيث وقع و كذا فى الزاء نحو إذ زيّن و في السين نحو إذ سمعتموه- و الصاد نحو إذ صرفنا- و التاء نحو إذ تبرّا و الدال نحو إذ دخلوا- و ادغم ابن ذكوان في الدال وحدها و خلف «٢» في الدال و التاء و اظهر خلاد و الكسائي عند الجيم فقط و نافع و ابن كثير و عاصم يظهرون الذال عند ذلك كله الْبَيْتَ الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا

(٢) و كذا خلف في اختياره- ابو محمد عفا عنه [.....]

مَثابَةً لِلنَّاسِ اى مرجعا يثوبون اليه من كل جانب- او موضع ثواب لهم بحج و عمرة و صلوة فيها قال عليه الصلاة و السلام صلاته في المسجد الحرام بمائة الف صلوة- رواه ابن ماجة

وَ أَمْناً اى مأمنا يأمنون فيه من إيذاء المشركين فانهم كانوا لا يتعرضون لاهل مكة و يقولون هم اهل اللّه و يتعرضون لمن حوله كما قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات و الأرض فهو حرام بحرمة اللّه الى يوم القيامة و انه لن يحل القتال فيه لاحد و لم يحل لى الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه الى يوم القيامة لا يعضد شوكه و لا ينفر صيده و لا يلتقط لقطته الا من عرّفها و لا يختلى خلاها- فقال العباس يا رسول اللّه الا الاذخر فانه لقينهم و لبيوتهم فقال الا الاذخر- متفق عليه من حديث ابن عباس و في رواية ابى هريرة نحوه-

وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى و المراد به الركعتان بعد الطواف روى مسلم فى حديث طويل عن جابر بن عبد اللّه حتى إذا اتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلثا و مشى أربعا ثم تقدم الى مقام ابراهيم عليه السلام فقرا وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فجعل المقام بينه و بين البيت و اللّه اعلم- و كلمة من للتبعيض ان كان المراد بمقام ابراهيم الحرم كله كما قال ابراهيم النخعي- او المسجد كما قال ابن يمان- او مشاهد الحج كلها عرفة و مزدلفة و غيرهما كما قال به بعض الناس- و للابتداء ان كان المراد بمقام ابراهيم الحجر الذي في المسجد يصلى اليه الائمة- و ذلك الحجر هو الذي قام عليه ابراهيم عند بناء البيت و كان اثر أصابع رجليه عليه بينا فاندرس بكثر المسح بالأيدي و هذا القول أصح و يدل عليه ما ذكرنا من حديث جابر- فتقديره و اتخذوا مصلى قريبا من مقام ابراهيم يعنى في المسجد او في الحرم- قرا نافع و ابن عامر بفتح الخاء على الماضي عطفا على جعلنا-

و قرا الآخرون بالكسر على الأمر فهو معطوف على جعلنا بتقدير و

قلنا اتّخذوا- او على المقدر عاملا لاذ يعنى و اذكروا إذ جعلنا و اتخذوا او اعتراض معطوف على مقدر تقديره توبوا اليه و اتخذوا- و على التقديرين الأخيرين خطاب لامة محمد صلى اللّه عليه و سلم عن انس قال قال عمر بن الخطاب وافقت ربى في ثلث و وافقنى ربى في ثلث قلت يا رسول اللّه لو اتخذت مقام ابراهيم عليه السلام مصلى فانزل اللّه و اتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى- و قلت يا رسول اللّه يدخل عليك البر و الفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فانزل اللّه تعالى اية الحجاب قال و بلغني معاتبة النبي صلى اللّه عليه و سلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت ان انتهيتن او ليبدّلن اللّه رسوله خيرا منكن فانزل اللّه عز و جل عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ الاية- رواه البخاري و هذه الاية حجة لابى حنيفة و مالك في القول بوجوب الركعتين بعد كل أسبوع من الطواف لان صيغة الأمر للوجوب و الاخبار ادل على الثبوت و الوجوب و كان القياس فرضية الركعتين للنص القطعي لكن لما كان ورد الاية فى تلك الصّلوة ثابتا بأحاديث الآحاد

قلنا بالوجوب دون الفرضية-

و ايضا ثبت الركعتين بمواظبة النبي صلى اللّه عليه و سلم عليهما من غير ترك مرة و لا مرتين مع قوله صلى اللّه عليه و سلم خذوا عنى مناسككم- عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا طاف في الحج او العمرة أول ما تقدم سعى ثلثة و مشى اربعة ثم سجد سجدتين ثم تطوف بين الصفا و المروة- متفق عليه و في البخاري تعليقا قال اسمعيل بن امية قلت للزهرى ان عطاء يقول يجزيه المكتوبة من ركعتى الطواف قال السنة أفضل لم يطف النبي صلى اللّه عليه و سلم اسبوعا قط الأصلي ركعتين- وصله عبد الرزاق عن الزهري كما ذكرنا- و وصله ابن ابى شيبة عن الزهري بلفظ مضت السنة ان مع أسبوع ركعتين

و قال احمد بن حنبل الأمر للاستحباب و هى رواية عن مالك و للشافعى قولان- و لا يجوز حمل الأمر على الاستحباب لانه مجاز الا عند عدم تصور الوجوب و يجوز ركعتى الطواف في جميع المسجد بل خارج المسجد ايضا اجماعا- و في الصحيحين في حديث أم سلمة- قال ص إذا أقيمت صلوة الصبح فطوفى على بعيرك و الناس يصلون قالت ففعلت ذلك- و لم تصل يعنى أم سلمة بعد الطواف حتى خرجت اى من المسجد او من مكة-

و روى البخاري تعليقا ان عمر رضى اللّه عنه صلى ركعتى الطواف خارج الحرم بذي طوى رواه مالك قلت و ذلك للزوم الحرج غالبا في تقييد الصلاة بموضع معين- الا ترى انه كان القياس عدم جواز الصلاة و الصوم و الحج و الزكوة إذا لم يقترن النية و الإخلاص مع جميع اجزائها مقارنا للاداء لقوله تعالى فَادْعُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ- و قوله عليه الصلاة و السلام انما الأعمال بالنيات- متفق عليه من حديث عمر لكنه للزوم الحرج في ذلك جازت الصلاة و الحج بوجود النية عند الإحرام و الزكوة بوجودها عند إفراز قدر الواجب عن المال- و لما كان في اشتراط النية عند أول جزء من الصيام يعنى عند طلوع الفجر و هو أوان نوم و غفلة غالبا حرج جاز الصوم بالنية من الليل بل عند ابى حنيفة رحمه اللّه يجوز النية في الصوم الى الضحوة الكبرى كذلك كان القياس تقييد ركعتى الطواف بالمقام لظاهر الاية لكنه جازت ركعتا «١» الطواف في المسجد بل في الحرم كلها للزوم الحرج في تعيين المصلى مع كثرة الطائفين-

(١) فى الأصل ركعتى-

و قد سمى اللّه تعالى الحرم كله بالمسجد حيث قال الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ الاية- و قال ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- و اما صلوة عمر رضى اللّه عنه بذي طوى فكانه قضاء للواجب للضرورة- او نقول ذكر مقام ابراهيم وقع اتفاقا جريا على الغالب عند عدم الازدحام كما في قوله تعالى وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ و ذلك لان أسبوع الطواف ينتهى على الحجر الأسود عند المقام فالغالب الصلاة عند المقام ان لم يمنع مانع كما ان الغالب كون الربائب في الحجور و اللّه اعلم-

قال البغوي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما اتى ابراهيم بإسماعيل و هاجر و وضعهما بمكة و أتت على ذلك مدة و نزلها الجرهميون و تزوج إسماعيل منهم امراة و ماتت هاجر استأذن ابراهيم سارة ان يأتى هاجر فاذنت له و شرطت عليه ان لا ينزل- فقدم ابراهيم عليه السلام و قد ماتت هاجر فذهب الى بيت إسماعيل فقال لامراته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد و كان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد فقال لها ابراهيم هل عندك ضيافة قالت ليست عندى و سالها عن عيشهم فقالت نحن في ضيق و شدة و شكت اليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرايه السلام و قولى له فليغير عتبة بابه- و ذهب ابراهيم فجاء إسماعيل عليهما السلام فوجد ريح أبيه فقال لامراته هل جاءك أحد قالت جاءنى شيخ صفته كذا و كذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك قالت قال اقرئي زوجك السلام و قولى فليغير عتبة بابه- قال ذاك ابى و قد أمرني ان أفارقك الحقي باهلك فطلقها و تزوج منهم اخرى فلبث ابراهيمعليه السلامما شاء اللّه ان يلبث ثم استأذن سارة ان يزور إسماعيل فجاء ابراهيم حتى انتهى الى باب إسماعيل فقال لامراته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد و هو يجى ء ان شاء اللّه تعالى فانزل رحمك اللّه قال هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن و اللحم- و سالها عن عيشهم فقالت نحن بخير و سعة فدعا لهما بالبركة و لو جاءت يومئذ بخبز بر او شعير او تمر لكانت اكثر ارض اللّه برا و شعيرا و تمرا- و قالت له انزل حتى اغسل رأسك فلم ينزل- فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الايمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولته الى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقى اثر قدميه عليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرايه السلام و قولى له قد استقامت عتبة بابك فاضبطها فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامراته هل جاءك أحد قالت نعم شيخ احسن الناس وجها و أطيبهم ريحا فقال لى كذا و كذا و قلت له كذا و كذا و غسلت رأسه و هذا موضع قدميه فقال ذلك ابراهيم و أنت العتبة أمرني ان امسكك-

ثم لبث عنهم ما شاء اللّه تعالى ثم جاء بعد ذلك و إسماعيل عليه السلام يبرى ء نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم فلما راه قام اليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد و الولد بالوالد ثم قال يا إسماعيل ان اللّه أمرني بامر أ تعيننى عليه قال أعينك عليه- قال ان اللّه تعالى أمرني ان ابني بيتا فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتيه بالحجارة و ابراهيم عليهما السلام يبنى فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام ابراهيم على حجر المقام و هو يبنى و إسماعيل يناوله الحجارة و هما يقولان

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- و في الحديث- الركن و المقام ياقوتتان من يواقيت الجنة- رواه مالك عن انس مرفوعا و عن ابن عمر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان الركن و المقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس اللّه نورهما و لو لم يطمس نورهما لاضاء اما بين المشرق و المغرب- رواه الترمذي و ذكر البغوي بلفظ لو لا ما مسته أيدي المشركين لاضاءتا ما بين المشرق و المغرب- و لاهل الاعتبار هاهنا استنباط و هو ان في كل مكان مكث فيه رجل من اهل اللّه تعالى حينا من الدهر ينزل هناك بركات من السماء و سكينة تجذب القلوب الى اللّه تعالى و يتضاعف هناك اجر الحسنات و كذا وزر السيئات و اللّه اعلم-

وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ اى امرناهما و أوصينا إليهما

أَنْ طَهِّرا اى بان طهرا و يجوز ان يكون ان مفسرة لتضمين العهد معنى القول

بَيْتِيَ اضافه اليه تفضيلا يعنى ابنيا على الطهارة و التوحيد قال سعيد بن جبير و عطاء طهراه من الأوثان و الريب و قول الزور- و قيل بخراه و خلّقاه- قرا نافع و هشام و حفص بفتح الياء هاهنا و في سورة الحج و زاد حفص في سورة نوح

لِلطَّائِفِينَ حوله وَ الْعاكِفِينَ المقيمين عنده او المعتكفين فيه

وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) جمع راكع ساجد يعنى المصلين.

١٢٦

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا المكان بَلَداً آمِناً ذا أمن كقوله عيشة راضية اى ذات رضية- او أمنا من فيه كقولك ليل نائم

وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ دعا بذلك لانه كان واديا غير ذى زرع- و في القصص ان الطائف كانت من مدائن الشام بأردن- فلما دعا ابراهيم عليه السلام أمر اللّه جبرئيل حتى اقتلعها من أصلها و أدارها حول البيت سبعا ثم وضعها هاهنا و منها اكثر ثمرات مكة

مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من اهله بدل البعض خصهم بالدعاء كيلا يكون امانة للكفار على كفرهم

قال اللّه تعالى وَ مَنْ كَفَرَ عطف على من أمن و المعنى و ارزق من كفر و تم الكلام- و فيه تنبيه على ان الرزق الذي هو رحمة دنيوية يعم المؤمن و الكافر و لذلك يقال رحمن الدنيا و رحيم الاخرة بخلاف النبوة و كونه مطاعا في الدين او يكون من كفر مبتدأ تضمن معنى الشرط خبره

فَأُمَتِّعُهُ قرا ابن عامر مخففا من الافعال و الباقون مشددا من التفعيل و معناهما واحد قَلِيلًا اى متاعا قليلا فان متاع الدنيا قليل بالنسبة الى الاخرة او قليل رتبة عند اللّه تعالى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء- رواه الترمذي و صححه و ايضا عن سهل بن سعد- او في زمان قليل الى مدة اجالهم-

فان قيل الكفر لا يكون سببا للتمتع فكيف ادخل الفاء على خبره أجيب بانه سبب لتقليل التمتع حيث يجعل نعماء الدنيا مقصورة على حظوظها العاجلة و يمنع كونها وسائل لنيل درجات الاخرة بخلاف المؤمن فان ما أنعم اللّه عليه في الدنيا لاجل شكره عليه و صرفه في مرضات ربه سبب لنيل درجات الاخرة المؤبدة-

و يمكن ان يقال متاع الحيوة الدنيا خبيثة ملعونة عند اللّه فيمكن ان يكون الكفر سببا لحصوله الم تسمع قوله تعالى- وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا- يعنى ان المقتضى الأصلي للكفر متاع الحيوة الدنيا و لو لا مانع كون الناس امة واحدة لاقتضى الكفر كون بيوتهم و أبوابهم و سررهم فضة و ذهبا- قال عليه الصلاة و السلام الدنيا ملعونة و ملعون ما فيها الا ذكر اللّه و ما والاه و عالما و متعلما- رواه ابن ماجة عن ابى هريرة و الطبراني بسند صحيح في الأوسط- و في الكبير بسند صحيح عن ابى الدرداء بلفظ الا ما ابتغى به وجه اللّه عز و جل

ثُمَّ أَضْطَرُّهُ اى ألجئه و الزه لزة المضطر لكفره و صرفه المتاع فى غير مرضات ربه معطوف على أمتعة

إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) هو اى العذاب قال مجاهد وجد عند المقام مكتوبا انا اللّه ذوبكة صنعتها يوم خلقت الشمس و القمر و حرمتها يوم خلقت السموات و الأرض و حففتها بسبعة املاك يأتيها رزقها من ثلثة سبل مبارك لها في اللحم و الماء-.

١٢٧

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ حكاية حال ماضية جمع قاعدة و هى الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات مجاز من القعود ضد القيام- و رفعها البناء عليها فانه ينقلها من هيئة الانخفاض الى هيئة الارتفاع و قال الكسائي القواعد الجدر و كل جدار قاعدة ما وضع فوقه و رفعها بناؤها

وَ إِسْماعِيلُ عطف على ابراهيم و سبب فصله عنه بتقديم المفعول ان الباني لم يكن الا ابراهيم و لذا أفرده اولا بالذكر و كان إسماعيل يناوله الحجارة فكان له مدخل في البناء و لذا عطف عليه ثانيا-

قال البغوي روت الرواة ان اللّه سبحانه خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام و كانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما اهبط اللّه تعالى آدم عليه السلام الى الأرض استوحش فشكا الى اللّه عز و جل فانزل اللّه تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد اخضر باب شرقى و باب غربى فوضعه على موضع البيت و قال يا آدم انى أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش و تصلى عنده كما يصلّى عند عرشى- و انزل الحجر و كان ابيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية- فتوجه آدم من ارض الهند الى مكة ماشيا و قيض اللّه له ملكا يدل له على البيت- فحج البيت و اقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة و قالوا برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام- قال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند الى مكة على رحلته- فكان على ذلك الى ايام الطوفان فرفعه اللّه تعالى الى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون الف ملك ثم لا يعودون اليه- و بعث جبرئيل حتى خبا الحجر الأسود في جبل ابى قبيس- صيانة له من الغرق- فكان موضع البيت خاليا الى زمن ابراهيم -

ثم ان اللّه تعالى امر ابراهيم عليه السلام بعد ما ولد له إسماعيل و إسحاق ببناء البيت يذكر فيه فسأل اللّه عز و جل ان يبين موضعه فبعث السكينة لتدله على موضع البيت- و هى ريح خجوج لها رأسان شبيه الحية- و امر ابراهيم ان يبنى حيث يستقر السكينة- فتبعها ابراهيم حتى أتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت كتطوى الجحفة هذا قول على و الحسن- و قال ابن عباس بعث اللّه تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير و ابراهيم يمشى في ظلها الى ان وافت مكة و وقفت على موضع البيت فنودى منها ابراهيم ان ابن على ظلها لا تزد و لا تنقص- و قيل

أرسل اللّه جبرئيل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ- فكان ابراهيم يبنى و إسماعيل يناوله الحجر- قال ابن عباس بنى البيت من خمسة اجبل طور سينا و طور زيتا و لبنان و هو جبل بالشام و الجودي و هو جبل بالجزيرة و بنى قواعد من حرا و هو جبل بمكة فلما انتهى الى موضع الحجر الأسود قال لاسماعيل ايتني بحجر حسن يكون للناس علما فاتاه بحجر فقال ايتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل بطلبه فصاح ابو قبيس يا ابراهيم ان لك عندى وديعة فخذها فاخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه- و قيل ان اللّه تعالى بنى في السماء بيتا و هو البيت المعمور و يسمى ضراح و امر الملائكة ان يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره و مثاله- و قيل أول من بنى الكعبة آدم و اندرس زمن الطوفان ثم أظهره اللّه تعالى لابراهيم عليه السلام حتى بناه

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ (١٢٧) بنياتنا.

١٢٨

رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ اى منقادين لجميع او أمرك ظاهرا و باطنا قال عليه الصلاة و السلام المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده- متفق عليه من حديث عبد اللّه بن عمر و المعنى من لا يصدر عنه معصية فيسلم هو من عذاب اللّه و يسلم غيره من إيذائه او من خبث صحبته و هذا هو الإسلام الكامل المعبر بالإسلام الحقيقي و لا يتصور الا بعد اطمينان النفس

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ من للتبعيض دعوالهم بشفقة الابوة و خصا «١» بعضهم لما علما مما سبق ان يكون بعضهم كفارا- و يحتمل ان يكون من للبيان فصل به بين العاطف و المعطوف كما في قوله تعالى خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ- وَ أَرِنا اى عرّفنا أصله أرانا على وزن اكفنا- قرا ابن كثير و ابو شعيب أرنا و أرنى ساكن الراء حيث وقع بحذف الهمزة مع كسرتها للتخفيف

و قرا ابو عمر بالاختلاس و الباقون مكسور الراء بحذف الهمزة بعد نقل بعض حركتها او كلها الى الراء

(١) فى الأصل خص-

مَناسِكَنا اى شرائع ديننا و اعلام حجنا و النسك في الأصل غاية العبادة شاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا-

قال البغوي فاجاب اللّه دعوتهما و بعث جبرئيل فاراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغا عرفات قال عرفت يا ابراهيم قال نعم فسمى الوقت و المكان عرفة

وَ تُبْ عَلَيْنا قالا ذلك الدعاء هضما لانفسهما و إرشادا لذريتهما

إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) لمن تاب إليك.

١٢٩

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ من أنفسهم فاجاب اللّه دعونهما و بعث محمدا صلى اللّه عليه و سلم- عن العرباض بن سارية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال انى عند اللّه مكتوب خاتم النبيين و ان آدم لمنجدل في طينته و ساخبركم باول امرى دعوة ابراهيم و بشارة عيسى عليهما السلام و رؤيا أمي التي رات حين وضعتني و قد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام- رواه البغوي في شرح السنة و احمد عن ابى امامة عن قوله ساخبركم الى آخره

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ يقرا آياتِكَ الدلائل على التوحيد و النبوة

وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القران وَ الْحِكْمَةَ ما يكمل نفوسهم من المعارف و الاحكام و قيل هى السنة- و قيل هى القضاء و قيل الفقه

وَ يُزَكِّيهِمْ اى يطهرهم من الشرك و الذنوب- و قيل يأخذ الزكوة من أموالهم و قال ابن كيسان يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قال ابن عباس العزيز من لا يوجد مثله و قال الكلبي المنتقم- و قيل المنيع الذي لا يناله الأيدي و لا يصل اليه شى ء- و قيل الغالب الذي لا يغلبه أحد

الْحَكِيمُ (١٢٩) ذو الحكمة البالغة و اللّه اعلم- قال ابن عساكر روى ان عبد اللّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمة و مهاجرا الى الإسلام و قال لهما قد علمتهما ان اللّه عز و جل قال في التورية انى باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد فمن أمن به فقد اهتدى و من لم يؤمن به فهو ملعون فاسلم سلمة و ابى مهاجران يسلم فانزل اللّه تعالى.

١٣٠

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ استبعاد و انكار لان يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء اى لا يرغب أحد عن ملته- و الرغبة إذا عدى بالى فالمراد به الارادة و ان عدى بعن فالمراد به الترك

إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ السفه في الأصل الخفة و يقال لمن يتعجل في الافعال باتباع الهوى و الشهوة من غير تدبر و تفكر في منافعه و مضاره خفيف و سفيه- و ضده الحليم- و يسند السّفه بهذا المعنى الى نفس الشخص و الى رأيه فيقال زيد سفيه و سفه نفسه و سفه رأيه اى خف نفسه فيأتى بالافعال على خلاف ما اقتضاه العقل و خف رأيه و حينئذ لا يتعدى الى مفعول و قد يستعمل بحرف الجر فيقال سفه زيد في نفسه و في رأيه و لمّا كان السفه و الخفة مستلزم لاهانة النفس و اهلاكها و خفة الرأى مستلزم للجهل فيستعار و يقال سفه نفسه اى أهانها او أهلكها او جهلها فحينئذ يتعدى الى مفعول- او يقال تعدى الى مفعول بتضمين معنى أهلك- او أهان او جهل و لهذا قيل في تفسير الاية سفه نفسه اى جعلها مهانا و ذليلا حيث كفر بخالقه و عبد مخلوقا مثله- و قال ابو عبيدة أهلك نفسه-

و قال الجمهور نصب بنزع الخافض و إفضاء الفعل اليه و المعنى سفه في نفسه- و قال الفراء أصله سفه نفسه بالرفع فلما أسند الفعل الى صاحبها نصب على التميز كما يقال ضقت به ذرعا و طاب زيد نفسا في ضاق ذرعى و طاب نفس زيد- و قال ابن كيسان و الزجاج معناه جهل نفسه و ذلك انه من عبد غير اللّه فقد جهل نفسه لانه لم يعرف اللّه خالقها- و قد جاء من عرف نفسه فقد عرف ربه-

قلت و معنى من عرف نفسه فقد عرف ربه انه من عرف حقيقة نفسه انه ممكن لا يقتضى ذاته وجوده و لا بقاءه لا يتصور له في نفسه وجود و لا قيام و لا بقاء- و لا يجوز حمله على نفسه حملا أوليا نحو زيد زيد الا بعد انتسابه الى واجب وجوده قائم بنفسه قيوم لغيره لو لاه لم يوجد غيره و هو كالاصل للظلال و هو نور السموات و الأرض قيم الأشياء و اقرب الى الأشياء من أنفسها حيث لم يجز حمل أنفسها عليها الا بعد انتسابها اليه فقد عرف ربا واجبا واحد قيوما نورا مبينا قريبا و من سفه نفسه اى جهلها جهل ربه و في الاخبار ان اللّه تعالى اوحى الى داود اعرف نفسك و أعرفني- فقال يا رب كيف اعرف نفسى و كيف أعرفك- فاوحى اللّه تعالى اليه اعرف نفسك بالضعف و العجز و الفناء و أعرفني بالقوة و القدرة و البقاء- و اعلم ان الجهل يكون ضد العلم الذي هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع المتعلق بالنسبة الحكمية التي بين القضية فيقتضى المفعولين-

و العلم يحصل بالبداهة او بالاستدلال او الوحى او الإلهام و ضده الجهل و هو عدم أصلي يستند الى عدم تلك الأشياء و يكون ضد المعرفة التي يقتضى مفعولا واحدا و هو من باب التصورات و يحصل المعرفة بالبداهة او البصيرة الموهوبة لارباب القلوب و المراد بالسفه هو الجهل بالمعنى الثاني حيث عدى الى مفعول واحد اى لم يعرف نفسه بالبصيرة و اللّه اعلم-

وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ نديما و خليلا

فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الأنبياء

الصَّالِحِينَ (١٣٠) فى مراتب القرب- الصلاح ضد الفساد و ذلك بالمعاصي القلبية او القالبية فكمال الصلاح بالعصمة و دون ذلك بدون ذلك و المراد هاهنا كماله و في هذه الاية حجة و بيان لما سبق فانه من كان هذا شأنه فلا يرغب عن اتباعه إلا سفيه جاهل ضعيف العقل.

١٣١

إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ يعنى نفسك الى اللّه عز و جل و فوض أمورك اليه كذا قال عطاء و قال الكلبي أخلص دينك و عبادتك له- قال ابن عباس قاله ذلك حين خرج من السرب- و الظرف متعلق باصطفيناه تعليل له او منصوب بإضمار اذكر كانه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم انه المصطفى

قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) فوضت اليه أموري- و مقتضى هذا التسليم انه لما رمى مغلولا بالمنجنيق في نار نمرود قال له جبرئيل هل لك حاجة- فقال اما إليك فلا- فقال- فاسئل ربك- قال حسبى من سوالى علمه بحالي- فجعل اللّه تعالى ببركة تفويض أموره الى اللّه تعالى حظيرة النار روضة و لم يحترق منه إلا وثاقه رواه «١» .

(١) هكذا بياض في الأصل-

١٣٢

وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ قرا اهل المدينة و اهل الشام و اوصى من الافعال و كذلك في مصاحفهم و الباقون وصّى من التفعيل مثل نزّل و انزل و التوصية هو التقدم الى الغير بفعل فيه صلاح و قربة- أصلها الوصلة يقال وصّاه إذا وصله- و فصّاه إذا فصله كانّ الموصى يصل فعله بفعل الموصى- و الضمير في بها راجع الى الملة او بقوله أسلمت على تأويل الكلمة

بَنِيهِ الثمانية إسماعيل و امه هاجر القبطية و إسحاق و امه سارة و ستة أمهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها ابراهيم بعد وفاة سارة

وَ يَعْقُوبُ عطف على ابراهيم و وصّى بها ايضا يعقوب بنيه اثنى عشر

يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين و متعلق بوصي عند الكوفيين لانه نوع منه

إِنَّ اللّه اصْطَفى اختار لَكُمُ الدِّينَ دين الإسلام

فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) مؤمنون مخلصون مفوضون أموركم الى اللّه تعالى- و النهى في الظاهر وقع على الموت- و في الحقيقة نهى عن ترك الإسلام في حين من الأحيان كيلا يقع الموت في تلك الحين و هو موت لا خير فيه و من حقه ان لا يحل لهم- قالت اليهود للنبى صلى اللّه عليه و سلم- الست تعلم ان يعقوب يوم مات اوصى بنيه باليهودية فنزلت.

١٣٣

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ اى قاربه فام منقطعة تقديره ليس الأمر كما قلتم ايها اليهود بل أ كنتم يعنى ما كنتم حاضرين فلم تدّعون دعاوى باطلة- و قيل الخطاب للمؤمنين و المعنى ما شهدتم ذلك و انما علمتموه بالوحى

إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إذ حضر ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي اى اى شى ء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد و الإسلام و أخذ ميثاقهم قال عطاء ان اللّه تعالى لم يقبض نبيا حتى خيره بين الموت و الحيوة فلما خير يعقوب قال أنظرني حتى اسئل ولدي و اوصيهم ففعل ذلك فجمع ولده و ولد ولده و قال لهم قد حضر اجلى فما تعبدون بعدي

قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ عطف بيان لابائك و كان اسمعيل عمالهم و العرب يسمى العم أبا كما يسمى الخالة امّا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عم الرجل صنو أبيه- رواه الترمذي و صححه من حديث على و الطبراني عن ابن عباس- و قال عليه السلام في عمه العباس ردوا على ابى فانى أخشى ان تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود و ذلك انهم قتلوه

إِلهاً واحِداً بدل من المضاف في إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ و فائدته التصريح بالتوحيد و دفع التوهم الناشي من تكرير المضاف تتعذر العطف على المجرور به بدونه- او منصوب بمقدر اى نريد بإلهك و اله آبائك

إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) حال من فاعل نعبد او مفعوله او منهما- و يحتمل ان يكون اعتراضا.

١٣٤

تِلْكَ أُمَّةٌ اى جماعة يعنى ابراهيم و يعقوب و ابناءهما- و الامة في الأصل المقصود سمى بها الجماعة لان الفرق تأمّها

قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ من العمل وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ فلا ينفع حسناتهم إياكم بانتسابكم إليهم ما لم توافقوهم فيها

وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) بل يسئل كل عن عمله دون عمل غيره- اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد و عكرمة عن ابن عباس قال ابن صوريا لنبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما الهدى الا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدى و قالت النصارى مثل ذلك-

و

قال البغوي قال ابن عباس ان رءوس يهود بالمدينة كعب بن اشرف و مالك بن الضيف و وهب بن يهودا و ابى ياسر بن اخطب و نصارى اهل نجران السيد و العاقب و أصحابهما خاصموا المسلمين في الدين و زعمت كل فرقة انها أحق بدين اللّه فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء و كتابنا التورية أفضل الكتب و ديننا أفضل الأديان و كفروا بعيسى و الإنجيل و محمد و القران- و قالت النصارى نبينا عيسى أفضل الأنبياء و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب و ديننا أفضل الأديان و كفروا بمحمد و القران و قال كلا الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين الا ذلك فانزل اللّه تعالى.

١٣٥

وَ قالُوا اى اليهود و النصارى كُونُوا هُوداً او نَصارى كلمة او للتنويع يعنى مقالهم أحد هذين القولين

تَهْتَدُوا جواب للامر قُلْ يا محمد

بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعنى لا نكون هودا و لا نصارى بل تكون ملة ابراهيم اى اهل ملته او على ملته فحذف على فصار منصوبا- او المعنى بل نتبع ملة ابراهيم او المعنى بل اتبعوا أنتم ايها اليهود و النصارى ملة ابراهيم

حَنِيفاً أصله من الحنف بمعنى الميل عن الطريق يعنى مائلا من الأديان كلها الى الإسلام منصوب على الحال من المضاف اى ملة مائلة من الباطل او من المضاف اليه يعنى ابراهيم مائلا كما في قوله تعالى

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً و عند نحاة الكوفة منصوب على القطع أراد بل ملة ابراهيم الحنيف فلما أسقطت الالف و اللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فنصب وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) تعريض باهل الكتابين فانهم يدّعون اتباعه و هم مشركون.

١٣٦

قُولُوا ايها المؤمنون آمَنَّا بِاللّه وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعنى القران قدم لانه سبب لنا للايمان بغيره

وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ و هو عشر صحف أنزلت على ابراهيم فتعبد بها هو و بنوه و أحفاده و لذا نسب انزالها إليهم كما نسب إنزال القران إلينا بمتابعة محمد صلى اللّه عليه و سلم و الأسباط بمعنى الجماعات من بنى إسرائيل كالقبائل من العرب و الشعوب من العجم و كانت بنوا إسرائيل اثنى عشر سبطا لكل ولد من أبناء يعقوب سبط-

و قيل المراد بالأسباط أبناء يعقوب اثنا عشر سموا بذلك لانه ولد لكل منهم سبط و جماعة- او لان سبط الرجل حافده و منه قيل للحسن و الحسين سبطا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عليهما و أبناء يعقوب كانوا «١» أحفادا لإبراهيم عليه السلام

وَ ما أُوتِيَ مُوسى يعنى التورية وَ عِيسى يعنى الإنجيل

وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ كلهم مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كما فرّق اليهود و النصارى امنت كل فرقة ببعض دون بعض وَ نَحْنُ لَهُ اى للّه

(١) روى من طرق متعددة ان المصريين لما دخلوا على عثمان كان المصحف بين يديه فضربوه بالسيف على يديه فجر الدم على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فقال عثمان و اللّه انها لاول يدخطت المفصل- قيل فما مات منهم رجل سويا-

مُسْلِمُونَ (١٣٦) و هذا هو الإسلام الذي كان ملة لابراهيم الحنيف و دينا لكل نبى من الأنبياء و دينا لمحمد صلى اللّه عليه و سلم لا ما زعمته اليهود و النصارى فانه اشراك- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم في الاولى و الاخرة الأنبياء اخوة من علات و أمهاتهم شتى و دينهم واحد و ليس بيننا نبى متفق عليه قلت معنى قوله عليه السلام الأنبياء اخوة من علات و أمهاتهم شتى و دينهم واحد ان أصلهم واحد و هو الوحى من اللّه تعالى و استعداداتهم مختلفة فلاجل اختلاف الاستعدادات التي هى بمنزلة الأمهات اختلفوا في فروع الشرائع و دينهم واحد و هو اتباع او امر اللّه تعالى و نواهيه على ترك الهوى و الايمان بذاته و صفاته و أحكامه و اخباره في المبدا و المعاد- عن ابى هريرة قال كان اهل الكتاب يقرءون التورية بالعبرانية و يفسرونها بالعربية لاهل الإسلام فقال عليه السلام لا تصدقوا اهل الكتاب و لا تكذبوهم و قولوا أمنا باللّه الاية- رواه البخاري.

١٣٧

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ اى أمنوا إيمانا مثل ايمانكم فالباء زائدة كما في قوله جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها- او لفظ المثل مقحم كما في قوله تعالى وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ اى عليه و يشهد له قراءة ابن عباس فان آمنوا بما آمنتم به

فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا اى اعرضوا عنه

فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ اى خلاف من الحق و شق غير شق الحق و قيل في عداوة

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه «٢» وعد بالحفظ و النصر للمؤمنين و قد أنجز وعده بإجلاء النضير و قتل قريظة و ضرب الجزية على اليهود و النصارى

وَ هُوَ السَّمِيعُ لاقوال المؤمنين و الكفار الْعَلِيمُ (١٣٧) بنياتهم و أحوالهم كلهم يجزى كلهم بما كسب.

(٢) كتب في الأصل كما في قوله تعالى ثم حك منه لفظ تعالى لعله من الناسخ و هذه الجملة موجودة ابن القران في سورة يونس في اية ٢٧-

١٣٨

صِبْغَةَ اللّه اى دين اللّه كذا قال ابن عباس في رواية الكلبي و قتادة و الحسن سمى الدين صبغة لظهور اثر الدين على المتدين كالصبغ على الثوب فهو منصوب على انه مصدر مؤكد لقوله امنّا- او على البدل من ملة ابراهيم- او على الإغراء اى عليكم صبغة اللّه

و قيل المراد بصبغة اللّه الختان لانه يصبغ صاحبه بالدم فهو منصوب على الإغراء اى الزموا صبغة اللّه الختان قال ابن عباس كانت النصارى إذا ولد لهم ولد فاتت عليه سبعة ايام غمسوه في ماء لهم يقال له المعبودى يزعمون تطهيره بذلك يفعلونه مكان الختان فاذا فعلوا به ذلك قالوا الان صار نصرانيا حقا فاخبر اللّه تعالى ان دينه الإسلام و أحكامه من الختان و غيره

وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً دينا و تطهيرا يعنى لا احسن منه

وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) تعريض لهم اى لا نشرك كشرككم معطوف على امنّا على تقدير كون صبغة اللّه منصوبا على المصدرية و الا فهو معطوف على صبغة اللّه او على اتبعوا ملة ابراهيم بتقدير قولوا- يعنى الزموا صِبْغَةَ اللّه وَ قولوا نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ او المعنى اتبعوا ملة إبرهم و قولوا.

١٣٩

قُلْ يا محمد لليهود و النصارى أَ تُحَاجُّونَنا تجادلوننا

فِي اللّه اى في دينه و اصطفائه نبيا من العرب دونكم

وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم يصطفى بالنبوة من يشاء من عباده

وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لكل واحد جزاء عمله

وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) و أنتم به مشركون فنحن أحق به منكم قال سعيد بن جبير الإخلاص ان يخلص العبد دينه و عمله للّه فلا يشرك به في دينه و لا يرائى بعمله قال الفضل ترك العمل من أجل الناس رياء و العمل من أجل الناس شرك و الإخلاص ان يعافيك اللّه عنهما.

١٤٠

أَمْ منقطعة و الهمزة للانكار و قيل أم بمعنى الهمزة فقط للتوبيخ

تَقُولُونَ قرا ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص على الخطاب و الآخرون على الغيبة

إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً او نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه و قد اخبر اللّه تعالى انه

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً بخلاف اليهود و النصارى فانهم مشركون-

و اما الذين كانوا على الدين الحق لموسى و عيسى قبل النسخ كانوا اتباعا لابراهيم في الدين و ما كانوا مشركين

وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فكيف يتبع ابراهيم و موسى و عيسى بل يتبعانه و قد علمت اليهود و النصارى بهذا لكنهم كتموا الشهادة بالحق

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة في التورية عِنْدَهُ مِنَ اللّه من للابتداء متعلق بشهادة يعنى لا أحد اظلم ممن كتم شهادة اللّه تعالى لابراهيم بالحنفية و البراءة من اليهودية و النصرانية و لمحمد صلى اللّه عليه و سلم بالنبوة التي هى في التورية و الإنجيل

وَ مَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) وعيد لهم.

١٤١

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) تكرير للمبالغة في التحذير و الزجر عن الافتخار بالآباء و الاتكال عليهم-

و قيل الخطاب فيما سبق لهم و في هذه الاية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم

و قيل المراد بالآية الاولى الأنبياء و بالثانية أسلاف اليهود و النصارى و اللّه اعلم.

١٤٢

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الذين خف عقولهم حيث ضيعوها بالتقليد و الاعراض عن النظر الصحيح او العناد و هم المنافقون و اليهود و المشركون

ما وَلَّاهُمْ صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعنى البيت المقدس و فائدة تقديم الاخبار توطين النفس و اعداد الجواب- و القبلة في الأصل هى الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال كالجلسة نقل الى المكان المتوجه اليه عند الصلاة- نزلت في اليهود و مشركى مكة لما طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس الى مكة اخرج ابن جرير من طريق السدى بأسانيده قال لما صرف اللّه النبي صلى اللّه عليه و سلم نحو الكعبة بعد صلاته الى بيت المقدس قال المشركون من اهل مكة تحير محمد في دينه فتوجه بقبلته إليكم و علم انكم اهدى منه سبيلا و يوشك ان يدخل في دينكم-

و ذكر البغوي انه قال رؤساء اليهود لمعاذ بن جبل رضى اللّه عنه ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا

قُلْ للّه الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ لا يختص به مكان دون مكان و انما امر القبلة امر تعبدى و العبرة فيها لامر اللّه تعالى لا دخل فيه لخاصية في المكان

يَهْدِي مَنْ يَشاءُ من عباده

إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) اى الى ما يرتضيه.

١٤٣

وَ كَذلِكَ اشارة الى مفهوم الاية المتقدمة اى هديناكم الى صراط مستقيم- او الى ما مر سابقا اى كما اصطفينا ابراهيم فى الدنيا و جعلناه في الاخرة من الصالحين

جَعَلْناكُمْ يا امة محمد صلى اللّه عليه و سلم أُمَّةً وَسَطاً- «١» خيارا ممن عداهم عدولا مزكين بالعلم و العمل و المعرفة-

(١) اخرج احمد و الحاكم و صححاه عن ابى سعيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في قوله تعالى امّة وسطا قال عدولا- اخرج الدارمي عن ابن عباس- انه سال كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في التورية قال كعب- نجده محمد بن عبد اللّه يولد بمكة و يهاجر منه الى طابة و يكون ملكه بالشام و ليس بفحاش و لا سحاب في الأسواق و لا يكافى بالسيئة السيئة و لكن يعفو و يغفر أمته الحمّادون يحمدون اللّه في كل السراء و الضراء و يكبرون على كل نجد و يوضعون أطرافهم و يأتزرون في أوساطهم و يصفّون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم دويهم في مساجدهم كدوى النحل يسمع مناديهم-

و اخرج الدارمي عن كعب الأحبار في السطر الاول محمد رسول اللّه عبدى المختار لا فظ و لا غليظ و لا سخاب في الأسواق و لا يجزى بالسيئة السيئة و لكن يعفو و يغفر مولده بمكة و هجرته بطيبة و ملكه بالشام و في السطر الثاني- محمد رسول اللّه أمته الحمادون يحمدون اللّه في السراء و الضراء يحمدون اللّه في كل منزلة و يكبرون على كل شرف رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها و لو كانوا على رأس كناسة و يأتزرون على أوساطهم و يوضعون أطرافهم أصواتهم بالليل في جو السماء كاصوات النحل-

و هو في الأصل اسم للمكان الذي يستوى اليه المساحة من الجوانب ثم استعير لخير الخصال و المحمودة منها لوقوعها بين طرفى افراط و و تفريط كالجود بين الإسراف و البخل و الشجاعة بين التهور و الجبن ثم اطلق على المتصف بها- مستويا فيه الواحد و الجمع و المذكر و المؤنث كسائر الأسماء التي يوصف بها قال اللّه تعالى قال أوسطهم اى خيرهم و قال الكلبي حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه اى اهل دين وسط بين الغلو و التقصير- و استدل به على حجية الإجماع لان بطلان ما اجمعوا عليه ينافى عدالتهم-

فان قيل ان اخطأ مجتهد في اجتهاده لا ينتفى منه عدالته فمالك تحكم بها إذا اتفقوا على الخطاء اتفاقا-

قلت قد سمعت ان لفظ الوسط استعير اولا للخصال ثم اطلق على المتصف بها كما يقال زيد عدل و على قول الكلبي انما هو صفة لدينهم فاطلاق الامة الأوسط عليهم يدل على ان شرائع دينهم و خصالهم المتفقة عليها كلها محمودة فعلى تقدير وقوع الخطاء في إجماعهم و ان كانوا معذورين في ذلك غير متصفين بالفسق لكن بعض خصالهم المتفق عليها مذموم البتة فكيف يكون خصالهم كلها محمودة و اللّه اعلم- عن ابى سعيد الخدري قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا الى يوم القيامة الا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل و أطراف الحيطان قال اما انه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها الا كما بقي من يومكم هذا إلا و إن هذه الامة توفى سبعين امة هى أخيرها و أكرمها على اللّه عز و جل رواه البغوي-

و روى الترمذي و ابن ماجة و الدارمي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده نحوه و الحمد للّه رب العلمين

لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يوم القيامة ان الرسل قد بلغتهم تعليل لجعلهم عدولا و دليل على ان العدالة شرط للشهادة

وَ يَكُونَ الرَّسُولُ محمد صلى اللّه عليه و سلم عَلَيْكُمْ اى على عدالتكم

شَهِيداً يعنى يكون معدّلا و مزكيا لكم- و لما كان الشهيد كالرقيب جى ء بكلمة الاستعلاء و ان كان حق المقام اللام- ذكر البغوي ان اللّه تعالى يجمع الأولين و الآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ فيقولون ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فيسئل الأنبياء عليهم السلام عن ذلك فيقولون كذبوا قد بلغناهم فيسئلهم البينة و هو اعلم بهم اقامة للحجة فيؤتى بامة محمد صلى اللّه عليه و سلم فيشهدون لهم انهم قد بلّغوا فيقول الأمم الماضية من اين علموا و انهم أتوا بعدنا فيسئل هذه الامة فيقولون أرسلت إلينا رسولا و أنزلت عليه كتابا اخبرتنا فيه بتبليغ الرسل و أنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلى اللّه عليه و سلم فيسئل عن حال أمته فيزكيهم و يشهد بصدقهم-

و روى البخاري و الترمذي و النسائي عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجاء بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فيسئل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال من شهودك فيقول محمد و أمته قال محمد صلى اللّه عليه و سلم فيجاء بكم فتشهدون ثم قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فتشهدون له بالابلاغ و اشهد عليكم-

و اخرج احمد و النسائي و البيهقي عنه بلفظ يجى ء النبي يوم القيامة و معه الرجل و النبي و معه الرجلان و اكثر من ذلك فيقال لهم هل بلغتم فيقولون نعم فتدعى قومهم فيقال لهم هل بلغوكم فيقولون لا فيقال للنبيّن من يشهد لكم انكم بلغتم فيقولون امة محمد صلى اللّه عليه و سلم فتدعى امة محمد صلى اللّه عليه و سلم فيشهدون انهم قد بلغوا فيقال لهم و ما أعلمكم انهم قد بلغوا فيقولون جاءنا نبينا بكتاب أخبرنا انهم قد بلغوا فصدقناه فيقال صدقتم-

وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها الجعل اما متعد الى مفعول واحد فحينئذ الموصول مع الصلة صفة للقبلة و المضاف محذوف يعنى ما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها و هى بيت المقدس-

و اما متعد الى مفعولين و مفعوله الثاني محذوف اى ما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة- و يحتمل ان يكون القبلة مفعوله الاول و الموصول مع الصلة بمعنى الجهة التي كنت عليها مفعوله الثاني و المراد بالموصول البيت المقدس- و المعنى ما جعلنا في سابق الزمان القبلة الجهة التي كنت عليها يعنى ان اصل أمرك ان تستقبل الكعبة و ما جعلنا قبلتك في سابق الزمان بيت المقدس الا لنعلم-

و يحتمل ان يكون كنت عليها بمعنى أنت عليها الان يعنى الكعبة الا لنعلم- و قيل في تفسيره و ما جعلنا القبلة الان الجهة التي كنت عليها قبل الهجرة و هى الكعبة- و هذا مبنى على انه صلى اللّه عليه و سلم كان يصلى قبل الهجرة الى الكعبة و هذا التأويل يستلزم النسخ مرتين و يخالف سياق قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها فان المراد هناك بالموصول بيت المقدس لا غير- و كان القياس ان يقال و ما جعلنا التي كنت عليها قبلة لكن قدم القبلة و جعل أول المفعولين للاهتمام به او هو من باب القلب

إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فى الصلاة حيثما توجه بامر اللّه تعالى

مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد كما في الحديث ان القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين الى اليهودية و قالوا رجع محمد صلى اللّه عليه و سلم الى دين ابائه-

و العلم اما بمعنى المعرفة و من يتبع الرسول مفعوله و ممن ينقلب متعلق به او هو متعلق لما في من معنى الاستفهام- او يكون من موصولة مفعوله الاول و ممن ينقلب مفعوله الثاني اى لنعلم من يتبع الرسول مميزا ممن ينقلب-

فان قيل علم اللّه تعالى قديم فكيف يتصور غاية لتحويل القبلة أجيب عنه بوجوه منها ما قال اهل المعاني ان اللام للتعليل لا لبيان الغاية و صيغة المضارع بمعنى الماضي كما في قوله تعالى فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّه فالمعنى الا لما علمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه يعنى لما سبق في علمنا ان تحويل القبلة سبب لهداية قوم و ضلالة آخرين- و منها ما قيل ان المراد بالعلم رسولنا و اولياؤنا حذف المضاف و أسند الفعل الى نفسه مجازا كما مر في الحديث القدسي مرضت فلم تعدنى إظهارا لشرفهم و اختصاصهم و في هذه التأويلات قول بالمجاز و تكلفات و التحقيق ما قال الشيخ ابو منصور الماتريدى رحمه اللّه ان المعنى الا لنعلم كائنا موجودا ما قد علمنا انه يكون و يوجد فاللّه سبحانه عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده انه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيها و لا يجوزان يقال انه عالم في الأزل بانه موجود كائن في الحال لانه ليس بموجود فكيف يعلمه موجودا كائنا على خلاف الواقع و التغير على المعلوم لا على العلم و هو المراد بما قيل في هذا و أشباهه ان المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو مناط الجزاء و معنى الا لنعلم اى ليتعلق علمنا بوجوده

وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إن مخففة من المثقلة و اللام فاصلة بينها و بين الشرطية قال سيبويه ان تأكيد شبيه باليمين و لذلك دخلت اللام في جوابها- و قال الكوفيون ان نافية و اللام بمعنى الا و الضمير المرفوع راجعة الى ما دل عليه جعلنا القبلة من الجعلة او الى التحويلة او الى القبلة

إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه اى هداهم اللّه

وَ ما كانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ اى ثباتكم على ايمانكم او ايمانكم بالقبلة المنسوخة

و قيل المراد بالايمان الصلاة و ذلك ان حيى بن اخطب و أصحابه من اليهود قالوا للمسلمين أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس ان كانت هدى فقد تحولتم عنها و ان كانت ضلالة فقد دنتم اللّه بها و من مات منكم عليها- فقال المسلمون انما الهدى ما امر اللّه به و الضلالة ما نهى عنه- قالوا فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا- و قد كان مات قبل ان تحول القبلة اسعد بن زرارة من بنى النجار و البراء بن معرور من بنى سلمة و كانا من النقباء و رجال آخرون فانطلق عشائرهم الى النبي صلى اللّه عليه و سلم و قالوا يا رسول اللّه قد صرفك اللّه الى قبلة ابراهيم عليه السلام فكيف بإخواننا الذين ماتوا و هم يصلون الى بيت المقدس فانزل اللّه تعالى

وَ ما كانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ اى صلاتكم الى بيت المقدس و في الصحيحين عن البراء بن عازب قال مات قبل ان تحول رجال و قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فانزل اللّه الاية

إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٣) قرا نافع و ابن كثير و ابن عامر و حفص لرءوف مشبعا على وزن شكور و الآخرون بالاختلاس على وزن فعل- و الرأفة أشد الرحمة قدمه على الرحيم لرعاية الفواصل-.

١٤٤

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردد وجهك في جهة السماء تطلّعا للوحى- كان يودّ ان يحوله اللّه الى الكعبة لانها قبلة أبيه ابراهيم عليه السلام و ادعى للعرب الى الايمان و مخالفة اليهود- و هذا أول القصة و امر القبلة أول ما نسخ من امور الشرع بعد الهجرة- و اختلف العلماء في كيفية قبلته صلى اللّه عليه و سلم قبل الهجرة بمكة فقال قوم انه صلى اللّه عليه و سلم كان يصلى و هو بمكة نحو بيت المقدس و الكعبة بين يديه- رواه احمد عن ابن عباس و رواه ابن سعد ايضا و سنده جيد و اطلق آخرون و قالوا انه كان يصلى الى بيت المقدس-

و

قال البغوي كان يصلى الى الكعبة فلما هاجر الى المدينة استقبل بيت المقدس- روى ابن جرير و غيره بسند جيد قوى عن ابن عباس قال لما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى المدينة امره اللّه ان يستقبل بيت المقدس- و قال ابن جريح انه صلى اللّه عليه و سلم أول ما صلى الى الكعبة ثم صرف الى بيت المقدس و هو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر الى المدينة- و الاول أصح و أقوى و عند الجمع يؤل اليه الأحاديث- و اختلف الرواية في انه كم صلى بعد الهجرة الى بيت المقدس فعند ابى داود و غيره عن ابن عباس سبعة عشر شهرا و عند الطبراني و البزار عن عمرو بن عوف و عند ابن ابى شيبة، و ابى داود و غيرهما عن ابن عباس و عنه الامام مالك و غيره عن سعيد بن المسيب ستة عشر شهرا و عند البخاري عن البراء بن عازب ستة عشرا و سبعة عشر شهرا بالشك- و الحق انه كان ستة عشر شهرا و أياما فانه صلى اللّه عليه و سلم خرج من مكة يوم الاثنين خامس ربيع الاول و دخل المدينة يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الاول و كان التحويل بعد الزوال خامس عشر من رجب من السنة الثانية قبل وقعة بدر بشهرين على الصحيح و به جزم الجمهور و رواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس فمن اعتبر الأيام شهرا كاملا عد سبعة عشر و إلا فستة عشر- و ما روى ثلثة عشر او تسعة عشر او ثمانية عشر او شهرين او سنتين فضعيف و اللّه اعلم- و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعجبه ان تكون قبلته قبل الكعبة لان اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا و يتبعنا قبلتنا- فقال عليه السلام لجبرئيل عليه السلام وددت لو حولنى اللّه تعالى الى الكعبة فانها قبلة ابى ابراهيم- فقال جبرئيل انما انا عبد مثلك و أنت كريم على ربك فاسئل أنت ربك فانك عند اللّه بمكان- فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدعوا اللّه و يكثر النظر الى السماء ينتظر امر اللّه تعالى فانزل اللّه تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً اى نمكننك من استقبالها- من وليته بمعنى صيرته واليا- او المعنى فلنجعلنك تلى جهتها- او المعنى فلنحولنك الى قبلة

تَرْضاها تحبها لاغراض صحيحة مرضية للّه تعالى فَوَلِّ حول

وَجْهِكَ من البيت المقدس عند الصلاة

شَطْرَ الشطر في الأصل لما انفصل عن الشي ء من شطر إذا انفصل و دار شطور منفصلة عن الدور ثم استعمل لجانبه و ان لم ينفصل منصوب بنزع الخافض اى الى شطره و قيل منصوب على الظرفية اى اجعل تولية الوجه تلقاء

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى في جهته و سمته و الحرام بمعنى المحرم فيه القتال و الاصطياد و قطع الشجر و الشوك و نحو ذلك- و ذلك هو الحرم و انما ذكر الحرم او المسجد دون الكعبة مع انها هى القبلة اشارة الى ان الواجب على النائى استقبال جهة الكعبة دون عينه-

روى الترمذي عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما بين المشرق و المغرب قبلة قلت أراد بالمشرق مشرق اقصر ايام السنة و بالمغرب مغرب اقصر الأيام و ذلك جهة الجنوب و هى قبلة اهل المدينة و كذا لاهل كل قطر قبلة فلاهل الهند القبلة بين المغربين مغرب رأس السرطان و مغرب رأس الجدى- ذكر فى المواهب و سبيل الرشاد انه صلى اللّه عليه و سلم زارام بشر بن براء بن معرور في بنى سلمة يعنى بعد ما مات براء بن معرور فصنعت له طعاما و حانت الظهر فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأصحابه في مسجد هناك الظهر فلما صلى ركعتين نزل جبرئيل فاشار اليه ان صلى الى البيت فاستدار الى الكعبة و استقبل الميزاب فتحول النساء مكان الرجال و الرجال مكان النساء فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين- قال الواحدي هذا عندنا اثبت- فصلى الظهر أربعا ثنتين الى بيت المقدس و ثنتين الى الكعبة فخرج عباد بن بشر رضى اللّه عنه و كان صلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فمر على قوم من الأنصار ببني حارثة و هم راكعون في صلوة العصر فقال اشهد باللّه لقد صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل البيت- فاستداروا-

و في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب انه صلى اللّه عليه و سلم صلى أول صلوة صلاها الى الكعبة صلوة العصر و صلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على اهل مسجد و هم راكعون فقال اشهد باللّه لقد صليت مع النبي صلى اللّه عليه و سلم قبل مكة فداروا كما هم قبل مكة- فمحمول على ان البراء لم يعلم صلاته صلى اللّه عليه و سلم فى مسجد بنى سلمة الظهر- او المراد انه أول صلوة صلاها كاملا الى الكعبة- او أول صلوة صلى في مسجده صلى اللّه عليه و سلم هو العصر- و اما اهل قبا فلم يبلغهم الخبر الا في صلوة الفجر من الغد كما في الصحيحين عن ابن عمر بينما الناس بقبا في صلوة الصبح إذ جاءهم ات فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد أمران نستقبل الكعبة فاستقبلوها- و كانت وجوههم الى الشام فاستداروا الى الكعبة و قال رافع بن خديج انه أتانا ات و نحن نصلى في بنى عبد الأشهل فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد أمران يوجه الى الكعبة فادارنا امامنا الى الكعبة و درنا معه-

وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ خطاب للامة فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خص الرسول صلى اللّه عليه و سلم اولا بالخطاب تعظيما له و ذلك الخطاب و ان كان شاملا للامة لكن بعد ذلك خوطب الامة تصريحا لعموم الحكم و تأكيدا لامر القبلة روى البخاري عن ابن عباس قال لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البيت دعا في نواحيه كلها و لم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة و قال هذه القبلة- و في الصحيحين عن ابن عمر

ان النبي صلى اللّه عليه و سلم دخل الكعبة هو و اسامة و بلال و عثمان بن طلحة و أغلقها عليه ثم مكث فيها- قال ابن عمر سالت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال جعل عمودين عن يساره و عمودا عن يمينه و ثلثة اعمدة وراءه ثم صلى- و كان البيت يومئذ على ستة اعمدة-

قلت و هذين الحديثين الواقعتين «١» فلا تعارض

(١) فى الأصل واقعتين-

وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يعنى التحويل او التوجه الى الكعبة الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كانوا يعلمون من التورية ان خاتم النبيين يصلى الى القبلتين و انما أنكروا ذلك تعنتا و عنادا

وَ مَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) قرا ابو جعفر و ابن عامر و حمزة و الكسائي بالتاء الفوقانية خطابا للمؤمنين و الباقون بالياء التحتانية حكاية عما يفعل اليهود ففيه وعد للمؤمنين و وعيد للكافرين- و لما قالت اليهود و النصارى اتنا باية على ما تقول انزل اللّه تعالى.

١٤٥

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ برهان على ان الكعبة قبلة و اللام موطية للقسم

ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يعنى الكعبة جواب قسم مقدر ساد مسد جواب الشرط يعنى انما تركوا قبلتك عنادا لا لاجل شبهة تزيلها بالحجة

وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يعنى امر القبلة محكم مستمر لا ينسخ ابدا- و فيه قطع لاطماعهم في رجوعه صلى اللّه عليه و سلم الى قبلتهم- و قبلتهم و ان تعددت لكنها متحدة من جهة البطلان و مخالفة امر اللّه تعالى

وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لان اليهود يستقبل بيت المقدس و هو في المغرب من المدينة و النصارى يستقبل مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فى امر القبلة و ظهر لك من الحق

إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) صدق الشرطية لا يقتضى صدق طرفيها كما فى قوله تعالى قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فلا ينافي العصمة- و المقصود من الاية نهى الامة و تهديدهم عن اتباع الأهواء على خلاف العلم الذي جاء من اللّه تعالى بأبلغ الوجوه حيث أورد اللّه سبحانه الشرط مؤكدا بالقسم المقدر و اللام الموطئة و تعليق الفعل بكلمة ان فانه يدل على انه اى جزء يوجد من الاتباع فهو ظلم-

و الخطاب الى النبي صلى اللّه عليه و سلم مع كونه حبيبا للّه تعالى فغيره اولى بالتهديد- و التفصيل بعد الإجمال في قوله ما جاءك من العلم- و تعظيم العلم بذكره معرفا باللام و الجزاء بانّ المؤكدة- و اللام في خبرها- و الجملة الاسمية- و التعبير بإذن- و كلمة من فان قولك زيد من العلماء ابلغ من قولك زيد عالم- و تعريف الظالم المستلزم لنسبة كمال الظلم اليه لان المطلق محمول على الكامل- و تعميم الظلم حيث حذف متعلقة.

١٤٦

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنى علماءهم يعرفون محمدا صلى اللّه عليه و سلم انه هو الذي وصف في التورية و أخذ الميثاق على الايمان به و نصرته فالضمير المنصوب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ان لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه و قيل للعلم او القران او تحويل القبلة و الاول اظهر بقرينة قوله تعالى

كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فانه لا يلتبس من ولد على فراشه بغيره عندهم فمن أنكر منهم انما أنكر تعصبا و عنادا و لو كان الضمير في يعرفونه الى القران لكان المناسب ان يقول كما يعرفون التورية قال عمر بن الخطاب لعبد اللّه بن سلام رضى اللّه عنهما ان اللّه تعالى قد انزل على نبيه

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فكيف هذه المعرفة- قال عبد اللّه يا عمر لقد عرفته حين رايته كما اعرف ابني و معرفتى بمحمد صلى اللّه عليه و سلم أشد من معرفتى بابني- فقال عمر و كيف ذلك فقال اشهد انه رسول اللّه حق و قد نعته اللّه في كتابنا و لا أدرى ما تصنع النساء- فقال عمر وفقك اللّه يا ابن سلام فقد صدقت

وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعنى صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم و امر الكعبة

وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)

١٤٧

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق خبر مبتدأ محذوف اى هذا الحق و من ربك حال او خبر بعد خبر او هو فاعل فعل مقدر اى جاءك الحق من ربك او مبتدأ خبره من ربك اى الحق ما ثبت من ربك كالذى أنت عليه لا غير ذلك كالذى عليه اهل الكتاب

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) من الشاكّين في انه من ربك او من الذين كتموا الحق عالمين به و جعلوا أنفسهم من الممترين مع كونهم من المستيقنين- و ليس المراد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الشك لانه غير متوقع منه و ايضا الشك مما لا اختيار فيه و لا في الكف عنه- بل المراد انه امر محقق بحيث لا يشك فيه ناظرا او يقال انه امر لامته بمصاحبة العارفين و اكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ و الاجتناب عن مصاحبة الشاكين فان مصاحبتهم يورث الشكوك و الأوهام-.

١٤٨

و لِكُلٍّ وِجْهَةٌ التنوين في كل عوض من المضاف اليه و الوجهة اسم للمتوجه اليه اى لكل امة من اهل الأديان قبلة

هو وَ الضمير راجع الى كل و قال الجمهور كناية عن اللّه تعالى

موَلِّيها أحد المفعولين محذوف اى مولّيها وجهه اى مقبلها عليه يقال وليته و وليت اليه إذا أقبلت عليه و وليت عنه إذا أدبرت عنه-

و قرا ابن عامر مولّيها اى مصروف إليها يعنى ان اللّه تعالى يولى الأمم الى قبلتهم جعل لموسى عليه السلام قبلة و لمحمد صلى اللّه عليه و سلم قبلة و لكل نبى قبلة فامر القبلة امر تعبدى لا يدرك بالرأى و لا يجوز فيه النزاع و ليس ذلك لاقتضاء مكان كونه قبلة حتى يبحث عن ترجيح بعضها على بعض

فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يعنى بادروا بامتثال كلما أمركم اللّه و ان كان قدم أمركم في بعض الأحيان بالاستقبال الى بيت المقدس و في بعضها الى الكعبة فانه تعالى يحكم ما يشاء فلا تنازعوا في امر القبلة

اينَ ما تَكُونُوا فى مكان مرضى للّه تعالى من حيث الاستقبال او غير مرضى

يأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعاً يقبض اللّه تعالى أرواحكم ثم يحشركم الى الجزاء فيجازيكم على حسب أعمالكم و لو قبض أرواحكم و أنتم في الصلاة او فارغ الذمة من الواجب فذلك غاية السعادة او المعنى ان لكل من المسلمين قبلة و هى جانب الكعبة هو مولى وجهه «١» إليها ان علم بها و ان غم عليه جهة القبلة فقبلته جهة التحري و ان كان متنفلا خارج المصر على الدابة فاىّ جهة استقبلتها دابته فهى قبلته امر اللّه تعالى بالتولية إليها فاستبقوا الخيرات و بادروا بالصلوات و لا تؤخروها عن أوقاتها عند اشتباه القبلة اين ما تكونوا من أقطار الأرض شرقا او غربا يأت بكم اللّه تعالى يعنى بصلاتكم الى القبلة و يجعلها الى جهة واحدة كانها بحذاء الكعبة

انَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (١٤٨).

(١) فى الأصل وجيها

١٤٩

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ كلمة حيث متروك الاضافة و الجار مع المجرور متعلق بخرجت و المعطوف عليه مقدر تضمّن معنى الشرط فادخل الفاء في الجواب تقديره أينما كنت و من حيث اى من اى مكان خرجت فول-

و قيل من حيث خرجت بمعنى اين ما كنت و توجهت مجازا- و قال التفتازانيّ حيث مضاف الى خرجت و الجار مع المجرور متعلق بقوله تعالى فول و ما بعد الفاء في مثله يعمل فيما قبله- لكن يلزم حينئذ اجتماع الواو و الفاء الا ان يقدر المعطوف عليه تقديره فول وجهك اين ما كنت و من حيث خرجت

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صليت كرر هذا الحكم لبيان ان حكم صلوة السفر و الحضر واحد عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فضلنا على الناس بثلث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة و جعلت لنا الأرض كلها مسجدا و جعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء- رواه مسلم و في رواية لمسلم فضلت على الأنبياء بستة الحديث

وَ إِنَّهُ و ان هذا الأمر لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) قرا ابو عمرو بالياء التحتانية و الباقون بالفوقانية.

١٥٠

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قيل كرر هذا الحكم لتعدد عللّه فانه تعالى ذكر للتحويل ثلث علل تعظيم الرسول صلى اللّه عليه و سلم بابتغاء مرضاته و جرى العادة الالهية على ان يولى كل امة من امم اولى العزم من الرسل الى قبلة يستقبلها- و دفع حجج المخالفين- و قرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله- و ايضا القبلة لها شأن و النسخ من مظان الفتنة و الشبهة فبالحرىّ ان يؤكد أمرها و يكرر ذكرها

لِئَلَّا يَكُونَ علة لقوله فولوا لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يعنى لليهود فانهم يعلمون من التورية ان الكعبة قبلة ابراهيم و ان محمدا صلى اللّه عليه و سلم سيحوّل إليها فلو لا التحويل لاحتجوا بها- و للمشركين من اهل مكة فانهم ايضا كانوا يعلمون ان قبلة ابراهيم كانت الكعبة و كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يدّعى انه على ملة ابراهيم حنيفا فلو لا التحويل لقالوا ان محمدا يدّعى ملة ابراهيم و يخالف قبلته

إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ استثناء من الناس اى لئلا يكون لاحد من الناس حجة الا للمعاندين- فاما الظالمون من قريش فقالوا رجع محمد الى الكعبة لانه علم انا اهدى منه و سيرجع الى ديننا-

و اما الظالمون من اليهود فقالوا انه لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بانه الحق الا حسدا و انه يعمل برأيه- و سمى هذه حجة كقوله تعالى حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ لانهم يسوقونهم مساقها- و قيل الحجة بمعنى الاحتجاج- و قيل الاستثناء للمبالغة في نفى الحجة رأسا للعلم بأن الظالم لا حجة له- و الموصول على هذه التأويلات في موضع الجر بدلا من الناس-

و قيل الاستثناء منقطع معناه و لكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل

فَلا تَخْشَوْهُمْ فانى وليّكم أظهركم عليهم بالحجة و النصرة و مطاعنهم لا يضركم

وَ اخْشَوْنِي فلا تخالفوا امرى

وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) معطوف على لئلا اى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ- لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ...

وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ- و يحتمل ان يكون معطوفا على محذوف يعنى و اخشوني لا حفظكم و لاتم نعمتى و لكى تهتدوا- عن معاذ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تمام النعمة دخول الجنة و الفوز من النار- رواه البخاري في الأدب المفرد و الترمذي و عن على رضى اللّه عنه تمام النعمة الموت على الإسلام-.

١٥١

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ يا معشر قريش- خاطبهم و الناس تبع لهم لقوله تعالى لابراهيم إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ يعنى ابراهيم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي و لقوله صلى اللّه عليه و سلم الناس تبع لقريش- متعلق بأتم يعنى لاتم نعمتى إتماما كما اتممتها بإرسال رسول منكم- قال محمد بن جرير دعا ابراهيم دعوتين

أحدهما اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ

و الثانية ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ- فمعنى الاية أجيب دعوة ابراهيم فيكم بان أهديكم لدينه و أجعلكم مسلمين و أتم نعمتى عليكم كما أجبت دعوته حيث أرسلت فيكم رسولا- او هو متعلق بما بعده اى كما ذكرتكم بالإرسال فيكم اذكروني أذكركم و بهذا يتضح ان ذكر العبد له تعالى محفوف بذكرين منه تعالى إياه ذكر سابق بالتوفيق و ذكر لا حق بالاثابة

رَسُولًا مِنْكُمْ محمدا صلى اللّه عليه و سلم

يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ يعنى ظاهرهما و قد مر شرحه في دعاء ابراهيم - قدّم التزكية هاهنا باعتبار القصد و أخره هناك باعتبار الفعل

وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) تكرار الفعل يدل على ان هذا التعليم من جنس اخر و لعل المراد به العلم اللدني المأخوذ من بطون القران و من مشكوة صدر النبي صلى اللّه عليه و سلم الذي لا سبيل الى دركه الا الانعكاس

و اما درك دركه فبعيد عن القياس قال رئيس الصديقين و العجز عن درك الإدراك ادراك عن حنظلة بن الربيع الأسيدي قال لقينى ابو بكر رضى اللّه عنه فقال كيف أنت يا حنظلة-

قلت نافق حنظلة- قال سبحان اللّه ما تقول-

قلت نكون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يذكّرنا بالنار و الجنة كانا رأى عين فاذا خرجنا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عافسنا الأزواج و الأولاد و الضيعات نسينا كثيرا- قال ابو بكر فو اللّه انا لنلقى مثل هذا- فانطلقت انا و ابو بكر حتى دخلنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقلت نافق حنظلة يا رسول اللّه- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما ذاك-

قلت يا رسول اللّه نكون عندك تذكرنا بالنار و الجنة كانا رأى عين فاذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج و الأولاد و الضيعات نسينا كثيرا- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الذي نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى و في الذكر لصافحتكم الملائكة- على فرشكم و في طرقكم و لكن يا حنظلة ساعة و ساعة ثلث مرات رواه مسلم و عن ابى هريرة قال حفظت من رسول اللّه

صلى اللّه عليه و سلم و عائين فاما أحدهما فبثثته فيكم و اما الاخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم يعنى مجرى الطعام- رواه البخاري- قيل المراد من الوعاء الذي لم يبثثه الأحاديث التي بيّن فيها اسماء أمراء الجور كقوله أعوذ باللّه من رأس الستين و امارة الصبيان مشيرا الى امارة يزيد بن معاوية قلت اطلاق الوعاء على علم بجزئيات معدودة غير مستحسن و لا يتصور جعله قسيما و نظير العلوم الشريعة بل المراد به العلم اللدني-

فان قيل فما معنى قوله فلو بثثته لقطع هذا البلعوم-

قلت معناه انه لو بثثته باللسان لقطع هذا البلعوم لان تلك العلوم و المعارف لا يمكن تعليمها و لا تعلمها بلسان المقال بل انما تدرك بالانعكاس و لسان الحال- كيف و التعلم باللسان يتوقف على امور منها كون المعلوم مما يدرك بالعلم الحصولى-

و منها كون اللفظ موضوعا بإزائه- و منها كون الوضع معلوما للسامع- و ليس شى ء منها متحققا في المعارف المدنية- فان إدراكها تكون بالعلم الحضوري الذي لا يمكن ذهولها- بل سبيل ذلك وراء العلم الحصولى و الحضوري و انّى هناك وضع الألفاظ و هيهات هيهات للسامعين العلم بوضعها- و من أراد أن ينطق بتلك المعارف فلا بد له من إيراد مجازات و استعارات لا يهتدى الى مرامها العوام فيتخبط به عقولهم و يفهمون غير مراد المتكلم فيفسقونه و يكفرونه- كما ترى للعوام ينكرون على اولياء اللّه تعالى من غير سبيل الى درك مرادهم و ذلك يفضى الى قطع البلعوم-

فان قيل إذا كان ذلك العلم بحيث لا يمكن اخذه و لا إعطاؤه بالبيان و يفضى الى تلك المفسدة و قطع البلعوم النطق باللسان فاىّ ضرورة في التكلم بها- و ما بال القوم يصنفون فيها مجلدات كالفصوص و الفتوحات و اى فائدة في تلك التصنيفات قلت ليس الغرض من تلك التصنيفات إعطاء تلك العلوم و لا يحصل بمطالعة تلك الكتب شى ء من القرب و الولاية بل الغرض منها تنبيه العارفين المحصلين تلك العلوم بالجذب و السلوك على بعض تفاصيلها-

و تطبيق احوال المريدين و مواجيدهم على احوال الأكابر و مواجيدهم كى يظهر صحة أحوالهم و تطمئن به قلوبهم- و كثيرا ما يتكلمون بتلك المعارف في غلبة الحال- فالطريق السوي للعوام عند مطالعة كتبهم و سماع كلامهم عدم الإنكار و حمله على ظاهر الشريعة مهما أمكن بالتأويلات فان كلامهم رموز و إشارات او تفويض علمه الى علام الغيوب كما هو شأن المتشابهات فان في كلامهم مجازات و استعارات مصروفة عن الظاهر و ليس شى ء منها مخالفا للشرع بل هى لب الكتاب و السنة رزقنا اللّه سبحانه بفضله و منه- و لما كان طريق تحصيل تلك المعارف منحصرا في الإلقاء و الانعكاس و كان كثرة الذكر و المراقبة اما في ملإ من الذاكرين او في خلإ من الناس يفيد للقلب و النفس صلاحية تلك الانعكاس من مشكوة صدر النبي صلى اللّه عليه و سلم بلا واسطة او بوسائط- عقب اللّه سبحانه لقوله.

١٥٢

فَاذْكُرُونِي «١» قرا ابن كثير بفتح الياء و الباقون بالإسكان

أَذْكُرْكُمْ- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا عند ظن عبدى بي و انا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى في نفسه ذكرته في نفسى و ان ذكرنى في ملإ ذكرته في ملا خير منه و ان تقرب الى شبرا تقرّبت اليه ذراعا و ان تقرب الى ذراعا تقربت اليه باعا و ان أتاني يمشى أتيته هرولة متفق عليه-

(١) اخرج ابو الشيخ و الديلمي في مسند الفردوس من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ- يقول اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتى-

و روى البغوي عن انس عنه و فيه قال سمعت هذا الحديث من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عدد انا ملى هذه العشرة- و عن عبد اللّه بن شقيق عنه صلى اللّه عليه و سلم قال ما من ادعى الا لقلبه بيتان في أحدهما الملك و في الاخر الشيطان فاذا ذكر اللّه خنس و إذا لم يذكر اللّه وضع الشيطان منقاره في قلبه فوسوس له- رواه ابن ابى شيبة و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سبق المفردون قالوا و ما المفردون يا رسول اللّه قال الذاكرون اللّه كثيرا و الذاكرات- رواه مسلم فاعلم ايها الأخ السعيد ان الذكر عبارة عن طرد الغفلة و الغفلة هى الموجبة للقساوة فكل امر مشروع من قول او فعل او تفكر أريد به وجه اللّه تعالى بالإخلاص و الحضور فهو ذكر و ما كان بلا اخلاص فهو شرك و ما كان بغفلة فغير معتد به قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ- و فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ-

و أفضل الذكر لا اللّه الا اللّه و أفضل الدعاء الحمد للّه- رواه النسائي و الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان و مالك بسند صحيح عن جابر عنه صلى اللّه عليه و سلم و عن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أفضل الكلام اربع سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اللّه الا اللّه و اللّه اكبر- رواه مسلم

و في رواية هى أفضل الكلام بعد القران و هى من القران رواه احمد و في الحديث القدسي من شغله القران عن ذكرى و مسئلتى أعطيته أفضل ما اعطى السائلين و فضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه- رواه الترمذي و الدارمي من حديث ابى سعيد و من أجل ذلك الاخبار اختار الصوفية العلية التهليل بالقلب او باللسان جهرا او اخفاتا

و اما المجدد رضى اللّه عنه فالمختار عنده تلاوة القران لما ذكرنا من فضله و لان القران صفة حقيقية قائمة باللّه تعالى بلا واسطة طرقه بيد اللّه و طرفه بايدينا فمن استهلك فيه فلا مزيد عليه و الصلاة فانها معراج المؤمن- لكن هذا بعد فناء النفس

و اما قبل الفناء فالمختار عنده الاقتصار على النفي و الإثبات لقوله تعالى لا يمسه يعنى القران الا المطهرون يعنى من رذائل النفس و اللّه اعلم

وَ اشْكُرُوا لِي على ما أنعمت عليكم من إرسال الرسول و الهداية و الجذب و توفيق السلوك و غير ذلك

وَ لا تَكْفُرُونِ (١٥٢) بجحد النعم و تكذيب الرسل او عصيان الأمر او اضاعة الوقت و الاعراض عن الذكر-.

١٥٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على قضاء حوائجكم الدينية و الدنيوية خصوصا على نيل درجات القرب و المعارف اللدنية

بِالصَّبْرِ عن الشهوات فان النار محفوفة بها- و على المكاره في النفوس و الأموال فان الجنة محفوفة بها و على الذكر و الطاعات و العزلة عن سوء المجالسات حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خير مال المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتن- رواه البخاري

وَ الصَّلاةِ خصها بعد التعميم لرفعة شأنها فانها أم العبادات جامعة للطاعات معراج للمؤمن- عن على مرفوعا الصلاة عماد الدين- رواه صاحب مسند الفردوس- و عن انس مرفوعا الصلاة نور المؤمن- رواه ابن عساكر قال المجدد رضى اللّه عنه غاية مقامات العابدين حقيقة الصلاة و الترقي هناك بكثرة الصلاة- و قد مر ذكر صلوة الحاجة فيما مر

إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) قيل بالعون و النصر و اجابة الدعوة-

قلت بل معية غير متكفية يتضح على العارفين و لا يدرك كنهه غير احسن الخالقين.

١٥٤

وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْواتٌ اى هم أموات نزلت في قتلى بدر من المسلمين و كانوا اربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار- كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل اللّه مات فلان و ذهب عنه نعيم الدنيا فانزل اللّه هذه الاية

بَلْ أَحْياءٌ يعنى ان اللّه تعالى يعطى لارواحهم قوة الأجساد فيذهبون من الأرض و السماء و الجنة حيث يشاؤن و ينصرون أولياءهم و يدمرون أعداءهم ان شاء اللّه تعالى و من أجل ذلك الحيوة لا تأكل الأرض أجسادهم و لا أكفانهم

قال البغوي قيل ان أرواحهم تركع و تسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة- قال عليه السلام ان الشهداء إذا استشهدوا انزل اللّه جسدا كاحسن جسد ثم يقال لروحه ادخلى فيه فينظر الى جسده الاول ما يفعل به و يتكلم فيظن انهم يسمعون كلامه و ينظر إليهم فيظن انهم يرونه حتى تأتيه أزواجه من الحور العين فيذهبن به- رواه ابن منذر مرسلا-

و في صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا أرواح الشهداء عند اللّه في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوى الى قناديل تحت العرش- فذهب جماعة من العلماء الى ان هذه الحيوة مختص بالشهداء و الحق عندى عدم اختصاصها بهم بل حيوة الأنبياء أقوى منهم و أشد ظهورا اثارها في الخارج حتى لا يجوز النكاح بأزواج النبي صلى اللّه عليه و سلم بعد وفاته بخلاف الشهيد- و الصديقون ايضا أعلى درجة من الشهداء و الصالحون يعنى الأولياء ملحقون بهم كما يدل عليه الترتيب في قوله تعالى مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ و لذلك قالت الصوفية العلية أرواحنا أجسادنا و أجسادنا أرواحنا- و قد تواتر عن كثير من الأولياء انهم ينصرون أولياءهم و يدمرون أعداءهم و يهدون الى اللّه تعالى من يشاء اللّه تعالى-

و قد ذكر المجدد رضى اللّه عنه- ان ارباب كمالات النبوة بالوراثة أقلت و هم الصديقون و المقربون في لسان الشرع) يعطى لهم من اللّه تعالى وجودا موهوبا- و يدل على ان أجساد الأنبياء و الشهداء و بعض الصلحاء لا يأكلها الأرض ما أخرجه الحاكم و ابو داود عن أوس بن أوس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه حرم على الأرض ان تأكل أجساد الأنبياء-

و اخرج ابن ماجة عن ابى الدرداء نحوه-

و اخرج مالك عن عبد الرحمن ابن صعصعة انه بلغه ان عمرو بن الجموح و عبد اللّه بن جبير الأنصاري كان قد حفر السبيل قبرهما و كان قبرهما مما يلى السيل و كانا في قبر واحد و هما ممن استشهد يوم أحد- فحفرا ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كانهما ماتا بالأمس و كان بين أحد و بين حفر عنهما ست و أربعون «١» سنة-

(١) فى الأصل أربعين-

و اخرج البيهقي ان معاوية لما أراد ان يجرى كظامة نادى من كان له قتيل بأحد فليشهد فخرج الناس الى قتلاهم فوجدهم رطايا ينبتون فاصابت المسحات رجل رجل منهم فانبعث دما و لقد كانوا يحفرون التراب فحفروا نثرة من تراب ناح عليهم ريح المسلك- هكذا اخرج الواقدي عن شيوخه

و اخرج ابن ابى شيبة نحوه

و اخرج البيهقي عن جابر و فيه فاصابت المسحات قدم حمزة فانبعث دما-

و اخرج الطبراني عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المؤذن المحتسب كالشهيد المتشخط في دمه إذا مات لم يدود في قبره-

و اخرج ابن مندة عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا مات حامل القران اوحى اللّه الى الأرض ان لا تأكل لحمه فيقول الأرض اى رب كيف أكل لحمه و كلامك في جوفه-

قال ابن مندة و في الباب عن ابى هريرة و ابن مسعود قلت لعل المراد بحامل القرآن الصديق فان مساس بركات القران مختص به حيث قال اللّه تعالى لا يمسّه إلّا المطهّرون-

و اخرج المروزي عن قتادة قال بلغني ان الأرض لا تسلط على جسد الذي لم يعمل خطيئة-

قلت لعل المراد بالذي لم يعمل خطيئة الصّالحون من عباد اللّه اعنى الأولياء لما كانوا محفوظين من الخطايا و مغفورين حتى صلحت قلوبهم و أجسادهم و اللّه اعلم

وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) فيه تنبيه على ان حياتهم ليست من جنس ما يحسّه كل أحد و انما هى امر لا يدرك بالعقل و لا بالحس بل بالوحى او الفراسة الصحيحة المقتبسة من الوحى-.

١٥٥

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ اى لنصيبنكم يا امة محمد إصابة من يختبر لاحوالكم هل تصبرون للبلاء و تستسلمون للقضاء حتى يفاض عليكم بركات من السماء و انما أخبرهم بذلك قبل وقوعه لتوطينهم عليه نفوسهم

بِشَيْ ءٍ قليل و انما قللّه بالاضافة الى ما وقاهم عنه و ذكر بالتنكير للتقليل ليخفف عليهم و يريهم رحمة لا يفارقهم

مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ عن ابن عباس الخوف خوف العدو و الجوع القحط

وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ عطف على شى ء او الخوف يعنى الخسران و الهلاك

وَ الْأَنْفُسِ يعنى بالقتل و الموت و قيل بالمرض و الشيب

وَ الثَّمَراتِ يعنى الجوايح في الثمار- و حكى عن الشافعي انه قال الخوف خوف اللّه عز و جل و الجوع صيام رمضان و نقص من الأموال أداء الزكوة و الصدقات و الأنفس الأمراض و الثّمرات موت الأولاد- عن ابى موسى الأشعري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته اقبضتم ولد عبدى قال فيقولون نعم قال اقبضتم ثمرة فواده قالوا نعم قال فماذا قال قالوا استرجع و حمدك قال ابنوا لعبدى بيتامى الجنة و سموه بيت الحمد- رواه الترمذي و حسنه

وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)

١٥٦

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا للّه عبيدا و ملكا و كل ما أعطانا من النعم فهو من مواهبه الهنيئة و عواريه المستودعة فحق علينا ان نرضى بقضائه و لا نكفر عند استرداد أماناته فان المالك يتصرف في ملكه كيف يشاء

وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٥) فى الاخرة و كذا في الدنيا بالذكر و المراقبة فيعطينا ان شاء اللّه أفضل مما استرد منا الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و لكل من يأتى منه البشارة- و المصيبة كل ما يصيب الإنسان من مكروه- انقطع نعال النبي صلى اللّه عليه و سلم فاسترجع فقالوا مصيبة يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة- رواه الطبراني في الكبير من حديث ابى امامة و له شواهد مرفوعة و موقوفة- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع فانه المصاب- رواه البيهقي في شعب الايمان و في الحديث من استرجع عند المصيبة خير اللّه مصيبته و احسن عقباه و جعل له خلفا صالحا يرضاه- أخرجه ابن ابى حاتم و الطبراني و البيهقي في شعب الايمان قال سعيد بن جبير ما اعطى أحد في المصيبة ما اعطى هذه الامة يعنى الاسترجاع و لو اعطى أحد لاعطى يعقوب الا تسمع قوله في فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ.

١٥٧

أُولئِكَ اى اهل هذه الصفة عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ الصلاة في الأصل الدعاء و من اللّه ما يترتب عليه من البركة و المغفرة و الرحمة جمعها للتنبيه على كثرة أنواعها و ذكر الرحمة بعدها تأكيدا

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧) للحق و الصواب حيث استرجع و رضى بقضاء اللّه سبحانه- كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في كتاب الى معاذ يعزيه في ابن له قبضه منك بأجر كثير الصلاة و الرحمة و الهدى ان احتسبت- رواه الحاكم في المستدرك و ابن مردوية- و قال عمر رضى اللّه عنه نعم العدلان و نعمت العلاوة فالعدلان الصلاة و الرحمة و العلاوة الهداية- و قد وردت الاخبار في حق ثواب اهل البلاء و اجر الصابرين- منها ما روى عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يودّ اهل العافية يوم القيامة حين يعطى اهل البلاء الثواب لو ان جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض رواه الترمذي و قال هذا حديث غريب- و عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما يصيب المسلم من نصب و لا وصب و لا هم و لا حزن و لا أذى و لا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر اللّه بها من خطاياه- متفق عليه- و عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم انها قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ما من مصيبة يصيب عبدا فيقول

إِنَّا للّه وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللّهم أجرني في مصبتى و اخلف لي خيرا منها الا اجره اللّه في مصيبته و اخلف له خيرا منها- رواه مسلم و عن محمد بن خالد السلمى عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان العبد إذا سبقت له من اللّه منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه اللّه في جسده او في ماله او في ولده ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من اللّه- رواه احمد و ابو داود- و عن سعد قال سئل النبي صلى اللّه عليه و سلم اى الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الا مثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان في دينه صلب اشتد بلاؤه و ان كان في دينه رقة هون عليه فما زال كذلك حتى يمشى على الأرض ماله ذنب- رواه الترمذي و قال حسن صحيح و ابن ماجة و الدارمي و في الباب أحاديث كثيرة لا تحصى-.

١٥٨

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ جبلين بمكة مِنْ شَعائِرِ اللّه الشعائر جمع شعيرة و هى العلامة- و المراد هاهنا المناسك الّتى جعلها اللّه تعالى اعلاما لطاعته فان الطواف بينهما واجب في الحج و العمرة اجماعا الا في رواية عن احمد فقال سنة لقوله تعالى

فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ او اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فان نفى الجناح تدل على الإباحة و كذا قوله فَمَنْ تَطَوَّعَ- و الحق ان الإباحة و التطوع كل واحد منهما أعم من الوجوب فلا ينفيانه و الحج لغة القصد و الاعتمار الزيارة و في الشرع عبارتان عن العبادتين المعروفتين و الجناح بمعنى الميل عن القصد و المعنى لا اثم عليه-

و اصل يطوّف يتطوّف أدغمت التاء فى الطاء و المعنى ان يدور بهما- و سبب نزول هذه الاية انه كان على الصفا و المروة صنمان اساف و نائلة فكان اساف على الصفا و نائلة على المروة و كان اكثر اهل الجاهلية يطوفون بينهما تعظيما للصنمين يتمسحون بهما فلما جاء الإسلام و كسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعى بين الصفا و المروة لاجل الصنمين و كانت الأنصار قبل الإسلام يعبدون المناة و يهلون لها و كان من اهلّ لها يتحرج ان يطوف بالصفا و المروة فلما اسلموا سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن ذلك و قالوا كنا نتحرج ان نطوف بين الصفا و المروة فنزلت الاية في الفريقين-

اما الاول فقد رواه الحاكم عن ابن عباس قال كانت الشياطين فى الجاهلية تعرف الليل اجمع بين الصفا و المروة و كان بينهما أصنام لهم فلما جاء الإسلام قال المسلمون يا رسول اللّه لا نطوف بين الصفا و المروة فانه شى ء كنا نصنعه في الجاهلية فانزل اللّه الاية

و اخرج البخاري عن عاصم قال سألت أنسا عن الصفا و المروة قال كنا نرى انهما من امر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل اللّه إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ الاية-

و اما الثاني ففى الصحيحين عن عروة عن عائشة قال قلت أ رأيت قول اللّه تعالى إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ او اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي انها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه ان لا يطوف بهما و لكنها «١» انما نزلت في الأنصار قبل ان يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية و كان من اهلّ لها يتحرج ان يطوف بالصفا و المروة فسالوا عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا رسول اللّه كنا نتحرج ان نطوف بالصفا و المروة في الجاهلية فانزل اللّه ان الصفا و المروة الاية-

(١) فى الأصل و لكنهما-

و يدل على وجوب السعى حديث صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت تجراه قالت رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بطوف بين الصفا و المروة و الناس بين يديه و هو وراءهم و هو يسعى حتى ارى ركبتيه من شدة اسعى يدور به إزاره و هو يقول اسمعوا ان اللّه عز و جل كتب عليكم السعى- أخرجه الشافعي و احمد- و في اسناده عبد اللّه بن مؤمل يضعفه الدارقطني و جماعة لكن قال ابن الجوزي قال يحيى ليس به بأس- و رواه الدارقطني من طريق منصور بن عبد الرحمن قال ابو حاتم لا يحتج به و قال يحيى بن معين ثقة و قال الذهبي ثقة مشهور من رجال مسلم- قال الحافظ لهذا الحديث طرق اخرى عند الطبراني عن ابن عباس إذا انضمت الى الاولى قويت-

و قد يستدل على الوجوب بحديث ابى موسى المتفق عليه قال له النبي صلى اللّه عليه و سلم فطف بالبيت و بالصفا و المروة- فان الأمر للوجوب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا- فذهب ابو حنيفة على أصله ان ادلة الوجوب إذا كانت ظنية لا يزاد بها على الكتاب فقال- هو واجب في الحج ليس بركن فينجبر بالدم و قال الشافعي و غيره انه ركن لعدم التفرقة عندهم بين الفرض و الواجب- و اجمع العلماء على ان السعى بين الصفا و المروة سبعة أشواط- و على ان الذهاب من الصفا الى المروة شوط و العود من المروة الى الصفا شوط اخر-

و حكى عن جرير الطبري و ابى بكر الصوفي من الشافعية و الطحاوي من الحنفية ان الذهاب من الصفا الى المروة ثم العود منها الى الصفا شوط واحد قياسا على الطواف بالبيت حيث كان المنتهى الى المبدء-

و قيل الرجوع الى الصفا ليس معتبرا من الشوط بل لتحصيل الشوط الثاني- لنا حديث جابر الطويل و فيه فلما كان اخر طوافه بالمروة قال لو استقبلت من امرى الحديث- رواه مسلم و عمل الجمهور المبنى على النقل المستفيض يكفى لنا حجة و اجمعوا على ان للسعى شرائط منها الترتيب و هى البداية من الصفا و الختم على المروة و ما قيل انه ليس بشرط عند ابى حنيفة باطل- و الحجة على الترتيب مواظبة النبي صلى اللّه عليه و سلم على ذلك- و قوله فى حديث جابر ابدا بما بدا للّه فبدا بالصفا فرقى عليه- رواه مسلم و رواه احمد و مالك و ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان و النسائي بلفظ- نبدا-

و روى الدارقطني بلفظ ابدءوا على صيغة الأمر و صححه ابن حزم فلو ثبت صيغة الأمر فهو اظهر للايجاب و الا فهو حجة على الوجوب إذا ضم اليه قوله صلى اللّه عليه و سلم خذوا عنى مناسككم فانى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى- رواه مسلم-

و منها كونه مرتبا على أحد الطوافين اما طواف القدوم او طواف الزيارة و الفصل لا يضره ما لم يكن بينهما وقوف بعرفة- فمن سعى قبل طواف القدوم لا يعتد به اجماعا الا ما روى عبد الرزاق عن عطاء انه قال لو سعى ثم طاف جاز- و الحجة لهذا القول حديث اسامة بن شريك ورد فيه السؤال عن السعى قبل الطواف فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم افعل و لا حرج- و الجواب ان الامة ترك العمل بهذا الحديث فهو شاذ- لنا انه عبادة غير معقولة فيقتصر على كيفية ما ورد عليها الشرع-

و عن عائشة قالت قدمت مكة و انا حائض و لم أطف بالبيت و لا بين الصفا و المروة قالت فشكوت ذلك الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال افعلي كما يفعل الحاج غير ان لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى- متفق عليه- و هذا صريح في ان النبي صلى اللّه عليه و سلم منع عائشة عن الطواف و اجازها في غيره من المناسك و انها امتنعت عن الطواف و السعى جميعا و قد علم النبي صلى اللّه عليه و سلم ذلك و قال لها يجزئ عنك طوافك بالبيت و بالصفا و المروة عن حجك و عمرتك- فبهذا ظهر ان السعى بين الصفا و المروة تابع للطواف- و يبتنى على هذا انه من طاف للزيارة و لم يسع أصلا لا بعد طواف القدوم و لا بعد طواف الزيارة يجب عليه الدم لترك السعى و لا يقضى السعى لان السعى لم يدرك عبادة الا بعد الطواف-

و اما من فاته الطواف و السعى جميعا يجب عليه قضاء الطواف و السعى جميعا- و السنة انه إذا وقف على الصفا يكبر ثلثا و يقول لا اللّه الا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شى ء قدير يصنع ذلك ثلاث مرات و يدعوا و يصنع على المروة مثل ذلك- و إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه ثم إذا رقي المروة مشى كنا في الصحيحين و غيرهما من حديث جابر و غيره

وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً- قرا حمزة و الكسائي يطّوّع بالياء التحتانية و تشديد الطاء على صيغة المضارع المجزوم و كذلك فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا- و وافق يعقوب في الاولى فقط

و قرا الجمهور بالتاء و فتح العين على الماضي- و معناه فعل طاعة فرضا كان او نفلا-

و قال مجاهد معناه فمن تطوع بالطواف بين الصفا و المروة- بناء على انه سنة- و قال مقاتل و الكلبي فمن تطوع زاد في الطواف بعد الواجب-

و قيل- من تطوع بالحج و العمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه- و قال الحسن أراد سائر الأعمال يعنى فعل غير المفترض عليه من صلوة و زكوة و طواف و غيرها من انواع الطاعات- و خيرا منصوب على انه صفة مصدر محذوف- او بحذف الجار و إيصال الفعل اليه- او بتعدية الفعل لتضمنه معنى اتى-

فَإِنَّ اللّه شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) يثيب على الطاعة و لا يخفى عليه شى ء و اللّه اعلم- اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم

عن ابن عباس قال سال معاذ بن جبل و سعد بن معاذ و خارجة ابن زيد نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التورية فكتموهم إياه و أبوا ان يخبروهم فانزل اللّه تعالى.

١٥٩

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ الشاهدة على صدق محمد صلى اللّه عليه و سلم

وَ الْهُدى اى ما يهدى الى الطريق المستقيم و اتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم- مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ اى التورية

أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّه وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) اصل اللعن الطرد- و معنى يلعنهم اللّاعنون انهم يسئلون اللّه لعنهم- و اللّاعنون الذين يأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة و للمسلمين من الجن و الانس و دواب الأرض كلها- عن البراء بن عازب قال كنا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم في جنازة فقال ان الكافر يضرب بين عينيه فيسمعه كل دابة غير الثقلين فيلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول اللّه تعالى وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ- أخرجه ابن ماجة و ابن ابى حاتم و ابن جرير قال ابن عباس جميع الخلائق الا الجن و الانس- و قال قتادة هم الملائكة و قال عطاء الجن و الانس- و قال الحسن جميع عباد اللّه-

و قال مجاهد اللّاعنون البهائم يلعن عصاة بنى آدم إذا سننت السنة و امسك المطر و قالت من شوم بنى آدم.

١٦٠

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن الكتمان و غيره من المعاصي

وَ أَصْلَحُوا ما أفسدوا بالتدارك

وَ بَيَّنُوا ما في التورية فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أتجاوز عنهم فان التوبة من العبد الرجوع من المعصية و من اللّه الرجوع من العقوبة

وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) المبالغ في قبول التوبة و الرحمة- عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان العبد إذا اعترف ثم تاب تاب اللّه عليه- متفق عليه و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للّه أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب اليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه و عليها طعامه و شرابه فايس منها فاتى شجرة فاضطتجع في ظلها قد ايئس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فاخذ بحطامها ثم قال من شدة الفرح اللّهم أنت عبدى و انا ربك من شدة الفرح- رواه مسلم.

١٦١

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ يعنى و من لم يتب من الكاتمين حتى مات

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) قال ابو العالية هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه اللّه ثم يلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس-

فان قيل الملعون من الناس فكيف يلعن نفسه قيل قال اللّه تعالى يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً- و قيل انهم يلعنون الظالمين و هم منهم.

١٦٢

خالِدِينَ فِيها اى في اللعنة او في النار و اضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها

لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) لا يمهلون من الانظار- او لا ينتظرون ليعتذروا- او لا ينظر إليهم نظر رحمة-

قال البغوي ان كفار قريش قالوا يا محمد صف و انسب لنا ربك فانزل اللّه تعالى سورة الإخلاص و قوله تعالى.

١٦٣

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وصف الإله بالواحد للتأكيد مع دلالة تنوين اللّه على الوحدة و فيه تقدير للوحدانية ما ليس في قولك إلهكم واحد و الخطاب عام اى المستحق للعبادة منكم ايها العالمين اللّه واحد لا يمكن له نظير و لا شريك- و يجوزان يكون خطابا للكاتمين زجرا لهم على معاملتهم مع اللّه تعالى حيث يكتمون التوحيد و يقولون عزير ابن اللّه و المسيح ابن اللّه بعد زجرهم على كتمان الرسالة

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لتقرير الوحدانية و تأكيدها بعد تقرير- او هو خبر إلهكم بعد خبر

الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) خبران آخران لقوله إِلهُكُمْ- او المبتدأ محذوف- و فيه اشارة الى الحجة على استحقاقه العبادة فانه المنعم على الإطلاق مولى النعم كلها أصولها و فروعها و ما سواه منعم عليه- عن اسماء بنت يزيد انها قالت سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول ان في هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ- و اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ- رواه ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و الدارمي-

و اخرج سعيد بن منصور في سننه و البيهقي في شعب الايمان عن ابى الصخر قال لما نزلت وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ- تعجب المشركون و قالوا الها واحدا فليأتنا باية ان كان من الصادقين- فانزل اللّه تعالى-.

١٦٤

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ و ما فيها من الشمس و القمر و الكواكب-

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن مردوية من طريق جيد موصول عن ابن عباس قال قالت قريش للنبى صلى اللّه عليه و سلم- ادع اللّه ان يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فاوحى اللّه تعالى الى النبي صلى اللّه عليه و سلم انى معطيهم و لكن ان كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال رب دعنى و قومى فادعوهم يوما بيوم- فانزل اللّه تعالى هذه الاية يعنى انهم كيف يسئلون الصفا ذهبا و هم يرون من الآيات ما هو أعظم منه في الوجود و مثله في الإمكان

وَ الْأَرْضِ و ما فيها من الأشجار و الأنهار و الجبال و البحار و الجواهر و انواع النباتات و الحيوانات و اختلاف التأثيرات و الأقطار و الأقاليم- و انما جمع السموات و أفرد الأرض لان تعدد السموات كان مقررا عند المخاطبين بناء على مشاهدتهم تعدد حركات الكواكب بخلاف الأرض فان تعددها لم يثبت الا بالشرع و الاستدلال انما هو بما هو معلوم عندهم- و قيل لان السموات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين فان كلها من جنس واحد و هو التراب-

و قيل لان طبقات السموات متفاصلة بخلاف الأرضين و هذا ليس بشى ء فان الثابت بالسنة كون كل واحد من السموات و الأرضين متناصلة كما روينا الأحاديث سابقا في تفسير قوله تعالى فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ اى تعاقبهما في الذهاب و المجي ء و قصر الليالى و طول الأيام في الصيف و عكسها في الشتاء

وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ كيف سخرها اللّه تعالى لكم تحمل الأثقال و لا ترسب في البحر- و الفلك واحد و جمعه سواء فاذا أريد به الجمع تؤنث صفته و إذا أريد به المفرد يذكر نحو أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ -

و كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ- و تَجْرِي فِي الْبَحْرِ-

بِما يَنْفَعُ النَّاسَ اى ينفعهم او بالذي ينفعهم من الركوب عليها و الحمل فيها في التجارات و المكاسب و انواع المطالب

وَ ما أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ من الاولى للابتداء و الثانية للبيان فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها و جذوبتها

وَ بَثَّ اى نشر فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ صغيرة لا يكاد يبصر و كبيرة لا يتصور تسخيرها الا بحول اللّه و قوته عطف على انزل او على أحيا فان الدواب ينمون من الخصب و يعيشون بالماء

وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ الى المشرق و المغرب و الجنوب و الشمال مفيدة و مضرة- لينة و عاصفة- حارة و باردة- اعلم ان الريح كلما وقع في القران المعرف باللام اختلف القراء في جمعها و افرادها الا في الذاريات الرّيح العقيم فانهم اتفقوا على الافراد- و الا في الحرف الاول من سورة الروم الرّياح مبشّرت فانهم اجمعوا على جمعها- فقرا حمزة و الكسائي تصريف الريح هنا و في الكهف و الجاثية و الأعراف و النمل و الثاني من الروم و فاطر بالإفراد و تابعهما ابن كثير في الاربعة الاخيرة-

و قرا ابن كثير في الفرقان و حمزة في الحجر بالإفراد و الباقون في جميعها بالجمع-

و قرا نافع في ابراهيم و الشورى بالجمع و الباقون بالإفراد-

و قرا ابو جعفر «١» كل ما ذكر على الجمع جميعا- و كل ريح في القران منكر فهو بالإفراد اجماعا و اللّه اعلم

(١)

و قرا ابو جعفر ايضا بالجمع في الاسراء و الأنبياء و سبا و ص و عنه خلاف في الحج- ابو محمد

وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا ينزل و لا ينقشع مع ان الطبع يقتضى أحدهما حتى يأتى امر اللّه و ايضا هو مسخر فى الجو يقلبه اللّه حيث يشاء قال ابن وهب ثلثة لا يدرى من اين يجى ء الرعد و البرق و السحاب

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) يتفكرون فيها و ينظرون الى انها امور حادثة ممكنة في ذواتها لا يقتضى ذواتها وجوداتها و لا شيئا من اثارها موجودة على وجوه مخصوصة من وجوه كثيرة كلها محتملة فلا محالة من وجود صانع يقتضى ذاته وجوده حى عليم حكيم يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد متصف بصفاة الكمال منزه عن النقص و الزوال متعال عن مماثل و معارض إذ لو كان معه اله يقدر على ما يقدر عليه لزم اما اجتماع المؤثرين على اثر واحد بالشخص و هو محال او عجز أحدهما او التمانع الموجب للفساد- و ينظرون الى ما في تلك المخلوقات من اثار رحمة اللّه تعالى فيعرفون انه تعالى هو المستحق للعبادة و الشكر دون غيره-

اخرج ابن ابى الدنيا في كتاب التفكر عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ثم قال ويل لمن قرا و لم يتفكر فيها- و قيل للاوزاعى فما غاية التفكر فيهن قال يقرا و هو يعقلهن- و اللّه اعلم.

١٦٥

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْداداً أصناما او رؤساءهم الذين كانوا يطيعونهم او ما هو أعم منهما يعنى كل ما كان مشغلا عن اللّه تعالى مانعا عن امتثال او امره

يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم و يطيعونهم كَحُبِّ اللّه كتعظيمهم للّه اى يسوون بينه و بينهم في المحبة و الطاعة و المحبة ميل القلب كذا قال الزجاج او المعنى يحبون الهتهم كحب المؤمنين اللّه تعالى

وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه من حب الكافرين الهتهم لانه لا ينقطع محبة المؤمنين و لا يعرضون عن اللّه تعالى في السراء و الضراء و الشدة و الرخاء بخلاف الكفار فان محبتهم لاغراض موهومة فاسدة تزول بأدنى سبب و لذلك كانوا يعدلون عن الهتهم عند الشدائد الى اللّه تعالى و يعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه الى غيره قال سعيد بن جبير ان اللّه عز و جل يأمر يوم القيامة من احرق نفسه في الدنيا على روية الأصنام ان يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون ثم يقول للمؤمنين بين يدى الكافرين ان كنتم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون «١» فيها و ينادى منادى من تحت العرش وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه-

(١) و هؤلاء إذا اقتحموا في النار يجدوها بردا و سلاما-

قلت و يمكن ان يكون المعنى الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه من حب كل أحد لكل أحد لان محبتهم فيما بينهم اما لتوقع جلب منفعة او دفع مضرة او لالتذاذ يحصل بروية الجمال او لانتسابهم الى أنفسهم بالنبوة او الابوة فهى في الحقيقة محبة لانفسهم لا للمحبوبين و من ثم ترى زوالها بزوال تلك الأسباب- ثم الكفار منهم اقتصر نظرهم على الحظوظ العاجلة و لا يعرفون للّه سبحانه الا وجودا موهوما و ينسبون المنافع و المضار الى العباد او الكواكب او اسماء سموها هم و اباؤهم فيحبونهم كحب اللّه او أشد منه- و الذين يدّعون الإسلام من اهل الأهواء كالمعتزلة و الروافض و الخوارج فلاعتقادهم بالمنافع و المضار المختصة بالدار الاخرة و اعترافهم بان مالك يوم الدين هو اللّه الواحد القهار يحبون اللّه تعالى أشد من حبهم لغيره تعالى حيث يزعمون ان منافعهم و مضارهم مختصة بالدنيا- و من اختار الدنيا على الاخرة منهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فلا كلام فيه فهؤلاء الناس مشركون غيره تعالى به تعالى في اصل الحب المبنى على إيصال النفع و الضرر المبنى على اعتقادهم بان افعال العباد مخلوقة لهم لا للّه تعالى- فهم بسبب اقتدارهم بقاذورات الفلاسفة اكفاء للمشركين و مجوس في هذه الامة

و اما اهل السنة و الجماعة فلاعتقادهم بان افعال العباد مخلوقة للّه تعالى و ان اللّه تعالى هو الضار النافع دون غيره فكما انهم لا يعبدون غير اللّه تعالى كذلك لا يحمدون غيره الا بنوع من التجوز باذنه و امره و كذلك لا يحبون غيره تعالى الا للّه تعالى فحمدهم و حبهم كلها راجعة الى اللّه تعالى انما الحب الحب للّه و انما البغض البغض للّه غير ان حب عامتهم راجع الى اغراض صحيحة اخروية مرضية للّه تعالى-

و اما اهل التحقيق منهم و هم الصوفية العلية الرضية فكل حب مبنى على خوف او طمع دنيوى او اخروى لا يسمونه حبا- بل الحب عندهم نار يشتعل في قلوب المحبين تحرق ما سوى المحبوب لا تبقى و لا تذر حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فكيف ينظر نفعه و ضرّه و ما سواه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً نعم رب قد اتى على الإنسان حين مستمر من الدهر لم يكن شيئا مذكورا و لا مخطورا- و السرّ في ذلك ان اقرب الأشياء عند العوام أنفسهم فهم لا يحبون الا أنفسهم او لاجل أنفسهم

و اما المحققون فاقرب الأشياء إليهم هو اللّه سبحانه الذي قال نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ ايها العوام فهم لا يحبون أحدا الا اللّه سبحانه و يحبون أنفسهم لاجله تعالى لا بالعكس و يحبون كل محبوب لاجله تعالى و أولئك هم الصادقون في دعوى المحبة الذاتية- و إذا بلغت المحبة الى هذه المثابة يكون إيلام المحبوب عندهم كانعامه بل احلى و ألذ فإن في إيلامه اخلاص ما ليس في انعامه- و هؤلاء هم الذين يقال لهم يوم القيامة بين يدى الكافرين ان كنتم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها و ينادى مناد من تحت العرش

وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه- أليس تعلم انه من كان يعبد اللّه تعالى خوفا من جهنم و طمعا في الجنة كيف يختار النار المؤبدة ابتغاء مرضات اللّه و لا يتصور ذلك الا من له محبة ذاتية و هو حامل امانة اللّه التي حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا

وَ لَوْ يَرَى قرا نافع و ابن عامر و يعقوب بالتاء على انه خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم او لكل مخاطب و مفعوله بعده-

و قرا الباقون بالياء و فاعله ضمير السامع يعنى لو يرى السامع او فاعله بعده

الَّذِينَ ظَلَمُوا باتخاذ الانداد و حبهم كحب اللّه و مفعوله محذوف يعنى أنفسهم

إِذْ يَرَوْنَ الكفار الْعَذابَ يوم القيامة قرا ابن عامر بضم الياء على البناء للمفعول و الباقون بالفتح- و جواب لو محذوف يعنى لرايت امرا فظيعا عظيما- او لندموا ندامة شديدة- و فائدة الحذف انّ لو إذا جاء فيما يشوق اليه او يخوف منه فيحذف الجواب هناك يذهب القلب فيه كل مذهب و يستفاد منه كمال الشوق او كمال الفظع- و لو و إذ تدخلان على الماضي و انما دخلتا على المستقبل لان في اخبار اللّه تعالى المستقبل كالماضى في التحقق

أَنَّ يعنى لان الْقُوَّةَ الغلبة «١» للّه جَمِيعاً حال

(١) فى الأصل و الغلبة- [.....]

وَ أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) اى شديد عذابه يتعلق بالجواب المحذوف على قراءة العامة-

و قرا ابو جعفر و يعقوب أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعاً وَ أَنَّ اللّه بكسر الهمزة في ان في الجملتين فهذا استيناف و الكلام قد تم عند قوله إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ و يحتمل على قراءة لو يرى الّذين ظلموا على الغيبة ان يكون الروية بمعنى الروية القلبية و الذين ظلموا فاعله و ان القوة الى آخره ساد مسد مفعوليه- و المعنى و لو يعلم الذين ظلموا حين يرون العذاب و المصائب في الدنيا ان القوة للّه جميعا و ان اللّه تعالى هو الضارّ و النافع و ان افعال العباد لم يوجد الا بقدرته و مشيته و خلقه و ان اللّه شديد العذاب في الدنيا و الاخرة لا مانع لما يعطيه و لا معطى لما منعه و لا راد لقضائه أحدكما يعلم المؤمنون لما اتخذوا أندادا و ما أحبوا غير اللّه تعالى كالمؤمنين- او المعنى لو يعلم الذين ظلموا ان القوة للّه جميعا حين يرون العذاب يوم القيامة لندموا أشد ندامة- و يحتمل ان يكون ان القوة للّه جميعا جواب لو و المعنى و لو يرى الذين ظلموا اندادهم لا ينفع لعلموا ان القوة للّه جميعا-.

١٦٦

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا منصوب بتقدير اذكر او بدل من إذ يرون

وَ رَأَوُا الْعَذابَ الواو للحال و قد مضمرة او للعطف على تبرا و كذا في قوله تعالى و تقطّعت و ذلك التبري يوم القيامة حين يجمع اللّه القادة و الاتباع فيتبرا بعضهم من بعض و قيل الشياطين يتبرءون من الانس

وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اى عنهم الْأَسْبابُ (١٦٦) اى اسباب المحبة التي كانت بينهم في الدنيا و هى توقعات فاسدة في النفع و دفع الضرر- و اصل السبب ما يوصل به الى شى ء من ذريعة او قرابة او مودة و منه يقال للجبل و للطريق سبب.

١٦٧

وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً اى رجعة الى الدنيا ف

َنَتَبَرَّأَ منصوب على جواب لو بمعنى ليت مِنْهُمْ اى من المتبوعين

كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ الاراءة يُرِيهِمُ اللّه أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ ندامات

عَلَيْهِمْ حسرات ثالث مفاعيل يرى ان كان من روية القلب و الا فحال ما تركوا من الحسنات و اتباع الرسول يندمون على تضييعها و ما اثروا من السيئات و اختاروا الدنيا على الاخرة يتحسرون على إتيانها- قال السدى يرفع لهم الجنة فينظرون إليها و الى بيوتهم فيها لو أطاعوا اللّه فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه تعالى ثم يقسم بين المؤمنين فبذلك يندمون و يتحسرون

وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) أصله ما يخرجون فعدل الى الجملة الاسمية للمبالغة في الخلود و الاقناط عن الخلاص و الرجوع الى الدنيا.

١٦٨

يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ نزلت في ثقيف و خزاعة و عامر ابن صعصعة و بنى مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث و الانعام و البحيرة و السّائبة و الحام و الوصيلة

حَلالًا مفعول كلوا او حال من ما في الأرض و من للتبعيض- و الحلال ضد الحرام اى ما لم يمنعه الشرع فان الأصل في الأشياء الحل لقوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً

طَيِّباً مستلذا وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال و تحلوا الحرام قرا ابو جعفر و ابن عامر و الكسائي و حفص و يعقوب بضم الطاء و الباقون بسكونها و هما لغتان في جمع خطوة و هى ما بين قدمى الخاطي- و خطوات الشيطان اثارها و زلاتها يعنى طرقه «١» فى المعاصي

(١) في الأصل طروقه

إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) ظاهر العداوة عند اهل البصيرة و ان كان يظهر الموالات لمن يغويه و لذلك سماه وليّا في قوله أولياؤهم الطّاغوت- او مظهرها حيث ابى من سجود آدم و أخرجه من الجنة و حلف لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- و ابان يكون لازما و متعديا- ثم ذكر عداوته.

١٦٩

إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ السوء في الأصل اسم لما يسوء صاحبه يقول ساءه يسوءه سواء و مساءة اى أحزنه و سأته فسى ء اى حزنته فحزن- و الفحشاء مصدر على وزن بأساء و ضراء و المراد بهما الإثم و العطف لاختلاف الوصفين فانه سوء لاغتمام العاقل به و فحشاء لاستقباحه إياه و قيل السوء مطلق المعصية و الفحشاء الكبيرة او ما فيه حد- و المراد بامره وسوسته و ذالا يقتضى سلطانه الا على من اتبعه من الغاوين عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس فادناهم منه منزلة أعظم فتنة يجى ء أحدهم فيقول فعلت كذا و كذا فيقول ما صنعت شيئا- ثم يجى ء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه و بين امرأته قال فيدنيه منه و يقول نعم أنت- رواه مسلم و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان للشيطان لمة بابن آدم و للملك لمة فاما لمة الشيطان فايعاد بالشر و تكذيب بالحق و اما لمة الملك فايعاد بالخير و تصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من اللّه فليحمد اللّه و من وجد الاخرى فليتعوذ باللّه من الشيطان ثم قرا الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ- رواه الترمذي و فى حديث ابن عباس قوله صلى اللّه عليه و سلم الحمد للّه الذي رد امره الى الوسوسة- رواه ابو داود-

وَ أَنْ تَقُولُوا في موضع الجر عطفا على السوء

عَلَى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) من تحريم الحرث و الانعام-.

١٧٠

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اى لليهود اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّه قصة مستانفة و الضمير عن غير مذكور- اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اليهود الى الإسلام و رغبهم فيه و حذرهم عن عذاب اللّه و نقمته «١» فقال رافع بن حريملة و مالك بن عوف بل تتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا اعلم و خيرا منا فانزل اللّه تعالى-

(١) فى الأصل و نعمته-

و المراد ب ما أَنْزَلَ اللّه القران او التورية فانها ايضا تأمر باتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم- و قيل هى نازلة في مشركى العرب و كفار قريش و الضمير راجع الى قوله وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه- و قيل الضمير راجع الى الناس في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا- و عدل عن الخطاب عنهم إيذانا على ضلالتهم كانه التفت الى العقلاء و قال قال لهم انظروا الى هؤلاء الحمقاء ما ذا يجيبون

قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ قرا الكسائي بل نتّبع بإدغام اللام فى النون فانه يدغم لام هل و بل في ثمانية أحرف التاء- و الثاء- و الزاء- و السين- و الطاء- و الظاء- و الضاد- و النون- نحو هل نعلم- و هل ثّوّب- و بل زيّن- و بل سوّلت- بل طبع- بل ظننتم- بل ضلّوا- هل ندلّكم- هل ننبّئكم- و هل نحن و شبهه و ادغم حمزة في التاء و الثاء و السين فقط و اختلف عن خلاد عند الطاء في قوله تعالى بل طبع اللّه- و اظهر هشام عند النون و الضاد و عند التاء في الرعد هل تستوى لا غير و ادغم ابو عمرو هل ترى من فطور في الملك- فهل ترى لهم فى الحاقة لا غير و اظهر الباقون اللام في الثمانية

ما أَلْفَيْنا ما وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من اتباع التورية او من التحريم و التحليل

أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (١٧٠) الواو فى الأصل و او العطف و يقال في هذا المقام واو التعجب دخلت عليها الف الاستفهام للتوبيخ يعنى أ يتبعون آباءهم لو كان اباؤهم يعقلون و لو كان اباؤهم لا يعقلون فحذف صدر الجملة- و الجملة حال و كلمة لا يعقلون عام و معناه الخصوص اى لا يعقلون شيئا من امر الدين لانهم كانوا يعقلون امر الدنيا-

فان قيل نزول الاية في اليهود فكيف يتصوران آباءهم لا يعقلون شيئا فانهم كانوا متبعين للتورية-

قلت بل لم يكونوا متبعين للتورية و لو كانوا متبعيها لما كفروا بعيسى - او يقال فيه تعريض بانهم لعلهم ألفوا آباءهم على تحريف التورية فحرفوها إذ لو وجدوهم على التورية لوجدوهم طالبين لدين محمد صلى اللّه عليه و سلم منتظرين له-.

١٧١

وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً النعق و النعيق صوت الراعي بالغنم و الاية ان كانت في عبدة الأوثان فلا حاجة في تأويلها و معناه مثل الذين كفروا فى عبادتهم و دعائهم للاوثان حيث لا يسمعون دعاءهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع كما في قوله تعالى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ- و التمثيل من باب التمثيل المركب فلا محذور في قوله تعالى الّا دعاء و نداء-

و ان كانت الاية في اليهود فالتوجيه ان مثل الذين كفروا من اليهود في جواب دعائك إياهم الى الإسلام بقولهم بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا- كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ من البهائم فانه كما ان الناعق لا يقصد بصوته معنى بل يتكلم بمهل كذلك الكافر لا يقول جوابا مقبولا بل يقول صوتا غير مغن- او الغرض منه تشبيه الكفار بالبهائم فحينئذ لا بد من التأويل فتقديره مثلك و مثل الذين كفروا- او مثل داعى الذين كفروا بحذف المضاف في المشبه- او تقديره و مثل الذين كفروا كمثل المنعوق به فالكلام خارج على الناعق و المراد به المنعوق به و هو فاش في كلام العرب يقلّبون الكلام يقولون فلان يخافك خوف الأسد و قال اللّه تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ و انما العصبة تنوء بالمفاتيح- و المعنى ان الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم الى ما يتلى عليهم و لا يتاملون فيه كالبهائم التي ينعق عليها فيسمع الصوت و لا يفهم معناه- او المعنى مثل الذين كفروا في اتباع ابائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها كمثل المنعوق به من البهائم التي يسمع الصوت و لا يفهم ما تحته فان آباءهم الذين كانوا قبل نسخ التورية كانوا يتبعون ما انزل اللّه في التورية ينتظرون محمدا صلى اللّه عليه و سلم و القران و هؤلاء يدّعون اتباع التورية بعد ما نسخت و يخالفون التورية في انكار القران

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذم اى لا يسمعون سماع تفكر و لا ينطقون بالخير و لا يبصرون الهدى

فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) امر الدين للاخلال عن النظر و لما امر اللّه تعالى الناس بأكل الحلال الطيب و الكف عن اتباع الشيطان و طال الكلام فيما يتعلق بالكف و كان لاكل الحلال الطيب غاية و هو الشكر و أراد اللّه تعالى ذكره أعاد الأمر بالأكل ليتصل به قوله و اشكروا و لما كان الشكر مختصا باهل التوحيد و الايمان خاطب هنا بخطاب اهل الايمان فقال.

١٧٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ حلالات مستلذات

ما رَزَقْناكُمْ عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه طيب لا يقبل الا الطيب و ان اللّه امر المؤمنين بما امر المرسلين فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً- و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ- ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمديده الى السماء يا رب يا رب اشعث اغبر مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذّى بالحرام فانى يستجاب لذلك- رواه مسلم

وَ اشْكُرُوا للّه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) يعنى ان صح انكم تخصونه بالعبادة و تقرون بانه مولى النعم كلها فاشكروه فان عبادتكم لا يتم الا بالشكر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول اللّه تعالى انى و الانس و الجن في نبإ عظيم اخلق و يعبد غيرى و ارزق و يشكر غيرى- أخرجه الطبراني في مسندات الشاميين و البيهقي في شعب الايمان و الديلمي من حديث ابى الدرداء-.

١٧٣

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ قرا ابو جعفر الميّتة في كل القران بالتشديد و الباقون انما شددوا البعض و سنذكرها ان شاء اللّه تعالى

فان قيل كلمة انما الحصر و كم من حرام لم يذكر-

قلنا المختار عند الحنفية ما قال نحاة الكوفة ان كلمة انما ليست للقصر بل هى مركبة من انّ للتحقيق و ما الكافة و على تقدير التسليم فالقصر إضافي بالنسبة الى ما حرمه الكفار من بحيرة و سائبة و وصيلة و حام و نحوها و اللّه اعلم- و الميتة حيوان مات من غير ذكوة و قد كان من شانها الذكوة فالسمك و الجراد غير داخلتين فيها او هما خصتا منها بالحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحل لنا ميتان و دمان السمك و الجراد و الكبد و الطحال- أخرجه ابن ماجة و الحاكم من حديث ابن عمرو الحق بها بالسنة ما أبين من الحي

اخرج ابو داود- و الترمذي و حسنه عن ابى واقد الليثي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما قطع من البهيمة و هى حية فهو ميتة- و اجمعوا على انه لا يجوز بيع الميته و لا أكل ثمنه و لا الانتفاع بشحمه و لا بجلده قبل الدباغ عن جابر انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول عام الفتح و هو بمكة ان اللّه و رسوله حرم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام فقيل يا رسول اللّه ارايت شحوم الميتة فانه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال عند ذلك قاتل اللّه اليهود ان اللّه لمّا حرم شحومها اجملوه ثم باعوه فاكلوا ثمنه- متفق عليه و عن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال قاتل اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها و باعوها- متفق عليه و عن عبد اللّه ابن عكيم قال أتانا كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا لا تنتفعوا من الميتة باهاب و لا عصب رواه احمد و الشافعي و اصحاب السنن الاربعة-

و في رواية للشافعى و احمد و ابى داود «١»- قبل موته بشهر و في رواية احمد بشهر او شهرين قال الترمذي حسن صحيح- و عن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا ينتفع من الميتة بشى ء- رواه ابو بكر الشافعي و اسناده حسن و عن اسامة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن جلود السباع- رواه ابو داود و النسائي و الحاكم و صححه و زاد و ان يفترش-

(١) فى الأصل ابو داود

و عن معاوية بلفظ نهى عن ركوب النمار- رواه ابو داود و النسائي و عن المقدام بن معديكرب قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الحرير و الذهب و مناثر النمور- رواه احمد و النسائي- و عن ابى هريرة مرفوعا لا تصحب الملائكة رقعة فيها جلد نمر- رواه ابو داود و اختلفوا في جلد الميتة بعد الدباغ فقال ابو حنيفة و الشافعي رحمهما اللّه يطهر بالدباغ فيجوز بيعه و الانتفاع به و قال مالك و احمد لا يجوز بيعه و لا الانتفاع به- لنا أحاديث منها حديث ابن عباس قال مر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بشاة ميتة فقال الا استمتعتم بجلدها فقالوا يا رسول اللّه انها ميتة قال انما حرم أكلها او ليس في الماء و القرظ ما يطهر- و فى بعض الروايات- الا استمتعتم بجلدها- و في بعضها- انما حرم لحمها و رخص لكم في مسكها- قال الدارقطني أسانيده صحاح- و حديثه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول اى إهاب دبغ فقد طهر- رواته مسلم و عن ابن عمر مرفوعا مثله رواه الدارقطني بسند حسن- و عن سفيان مثله رواه مسلم و عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم طهور كل أديم دباغه- و عنها ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر ان ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت- و عن سودة ماتت شاة لنا فدبغنا مسكها- رواه البخاري و احتج اصحاب مالك و احمد بما ذكرنا سابقا من الأحاديث انه لا يجوز الانتفاع من الميتة بشى ء قالوا هذا اخر الامرين من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما ورد في حديث عبد اللّه بن عكيم أتانا كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل موته بشهر او شهرين-

قلنا حديث عبد اللّه بن عكيم مضطرب سنده و متنه فلا يصادم ما روينا من الصحاح فلا يكون ناسخا على ان الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ و نحن نقول بحرمة الانتفاع به-

فان قيل ورد في حديث عبد اللّه بن عكيم عند الطبراني في الأوسط و ابن عدى- قال كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نحن في ارض جهينة انى كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد و لا عصب-

قلنا هذا الطريق لا يصح فان فيه فضالة بن مفضل

قال ابو حاتم الرازي لم يكن باهل ان يكتب منه اهل العلم- و اختلفوا في شعر الميتة و عظمها و عصبها و قرنها و حافرها فقال ابو حنيفة طاهر يجوز بيعه و الانتفاع به- و قال الشافعي نجس- و احمد و مالك معنا في الشعر و معه في العظم و العصب- و حجتهم قوله صلى اللّه عليه و سلم لا ينتفع من الميتة بشى ء- و احتج الشافعي على نجاسة الشعر بحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ادفنوا الأظفار و الدم و الشعر فانه ميتة- و الجواب ان الحديث الثاني فيه عبد اللّه بن عزيز قال ابو حاتم الرازي أحاديثه منكرة و ليس محله الصدق عندى- و قال على بن الحسين بن الجنيد لا يساوى فلسا يحدث بأحاديث كذب-

و اما الحديث الاول فقد تكلّم عليه و لو سلم عن التكلم فهو معارض بما تقدم من حديث ابن عباس المتفق عليه انما حرم أكلها و طرقه متكثرة- و لنا ايضا حديث ابن عباس بلفظ انما حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لحمها فاما الجلد و الشعر و الصوف فلا بأس به- لكن فيه عبد الجبار ضعيف و ذكره ابن حبان في الثقات و عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول الا كلّ شى ء من الميتة حلال الا ما أكل منها فاما الجلد و الشعر و الصوف و السن و العظم فكل هذا حلال و فيه ابو بكر الهذلي متروك قال غندر كذاب و قال يحيى و على ليس بشى ء-

و حديث ثوبان اشترى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لفاطمة قلادة من عصب و سوارين من عاج- فيه حميد و سليمان مجهولان- و لنا من الآثار ما ذكره البخاري معلقا قال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل و غيره أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها و يدهنون فيها لا يرون به بأسا-

قلت أسلاف الزهري هم الصحابة رضى اللّه عنهم او كبار التابعين و قال حماد بن ابى سليمان لا بأس بريش الميتة- و قال ابن سيرين و ابراهيم لا بأس بتجارة العاج- و اللّه اعلم

وَ الدَّمَ أراد به الجاري منه اجماعا كما في قوله تعالى او دما مسفوحا

وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ اجمعوا على ان الخنزير نجس عينه لا يجوز بيع شى ء من اجزائه حتى شعره- و انما خص اللحم بالذكر لانه معظم ما يقصد من الحيوان و سائر اجزائه كالتابع له- و يدل على حرمة عينه قوله تعالى فانّه رجس و سنذكر تفسيره في سورة الانعام ان شاء اللّه تعالى و هل يجوز الانتفاع بشعره قال ابو حنيفة و مالك يجوز الانتفاع به للخزر للضرورة- و منع منه الشافعي و كرهه احمد- و لو وقع في الماء القليل أفسده و عند محمد لا يفسد لان اطلاق الانتفاع دليل طهارته- و لابى يوسف ان الإطلاق للضرورة و لا يظهر الضرورة الا في حالة الاستعمال و حالة الوقوع بغايرها- كذا في الهداية و قال الفقيه ابو الليث لو لم يوجد الا بالشراء جاز شراؤه- و قال ابن همام قد قيل ايضا أن الضرورة ليست ثابتة في الخرز به بل يمكن ان يقام بغيره و قد كان ابن سيرين لا يلبس خفا خرز بشعر الخنزير قال ابن همام فعلى هذا لا يجوز بيعه و لا الانتفاع به

وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه قال الربيع بن انس يعنى ما ذكر عند ذبحه اسم غير اللّه و الإهلال أصله روية الهلال يقال اهل الهلال ثم لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عند روية الهلال سهى لرفع الصوت مطلقا الإهلال- و كان الكفار إذا ذبحوا لالهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح و ان لم يجهر مهلّ-

و اما متروك لتسمية فسنذكرها في سورة الانعام ان شاء اللّه تعالى

فَمَنِ اضْطُرَّ قرا عاصم و ابو عمرو و حمزة بكسر النون هاهنا و من أَنِ اعْبُدُوا اللّه و أَنِ احْكُمْ و لكِنِ انْظُرْ و أَنِ اغْدُوا و شبهه و كسر الدال من لقد استهزى ء و التاء من قالَتِ اخْرُجْ و التنوين من فتيلان انظر و مبينان اقتلوا و شبهه إذا كان بعد الساكن الثاني ضمة لازمة و ابتدأت همزة الوصل بالضم- و وافقهم ابن عامر في التنوين فقط و كذا قرا عاصم و حمزة بكسر اللام و الواو مثل قُلِ ادْعُوا اللّه او ادْعُوا الرَّحْمنَ و تابعهما يعقوب الا فى الواو-

و قرا الباقون بالضم في كلها بضمة أول الفعل-

و قرا ابو جعفر بكسر الطاء اتباعا لكسر النون و المعنى انه من اضطر الى أكل الميتة او نحوه مما ذكر سواء كان الاضطرار لاجل المخمصة او الإكراه او غير ذلك حل له أكلها بالإجماع

غَيْرَ باغٍ حال اى أكل غير باغ للذة و شهوة

وَ لا عادٍ اى متجاوز قدر الحاجة فالحاصل انه لا يجوز للمضطر الاكل منه الا قدر سد الرمق- و في قول للشافعى يجوز له الشبع- و هو قول مالك و احدى «١» الروايتين عن احمد- و الراجح من مذهب الشافعي انه ان توقّع حلالا قريبا لم يجز غير سد الرمق و انّ للمنقطع ان يشبع و يزوّد- و قال بعض اصحاب الشافعي في تأويل الاية غير باغ على الوالي و لا عاد بقطع الطريق او فساد في الأرض-

(١) فى الأصل أحد-

قال البيضاوي و هو ظاهر مذهب الشافعي و قول احمد- و

قال البغوي و هو قول ابن عباس رضى اللّه عنهما و مجاهد و سعيد بن جبير و قالوا لا يجوز للعاصى بسفر ان يأكل الميتة إذا اضطر إليها و لا ان يترخص برخص المسافرين حتى يتوب-

قلت و الظاهر ان البغي و العدوان راجعان الى الاكل- و قال مقاتل بن حبان غير باغ اى مستحل لها و لا عاد اى مقصر في طلب ما أبيح له-

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فى أكلها إِنَّ اللّه غَفُورٌ لما أكل في حالة الاضطرار

رَحِيمٌ (١٧٣) حيث رخص العباد في ذلك- و هذا يدل على ان المضطر ان لم يأكل الميتة و نحوها حتى مات فلا اثم عليه ايضا فان الاكل عند الاضطرار مباح رخصة من اللّه تعالى و ليس بواجب و هو أصح قول الشافعي- و قال ابو حنيفة بل يأثم و يجب عليه حينئذ أكله لقوله تعالى وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ- حيث استثنى ما اضطررتم اليه من المحرم فبقى على الأصل مباحا و المباح واجب أكله عند خوف الهلاك و انما سمى ذلك رخصة مجازا.

١٧٤

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتابِ يعنى آيات التورية في شأن محمد صلى اللّه عليه و سلم- نزلت في رؤساء اليهود و علمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا و المأكل-

و كانوا يرجون ان يكون النبي المبعوث منهم- فلما بعث محمد صلى اللّه عليه و سلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم و زوال رياستهم فعمدوا الى صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم- فلما نظرت السفلة الى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى اللّه عليه و سلم فلم يتبعوه ذكره البغوي و كذا اخرج الثعلبي عن ابى صالح عن ابن عباس-

و اخرج ابن جريح عن ابن عباس- ان هذه الاية و التي في ال عمران نزلتا جميعا في اليهود

وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعنى اعراض الدنيا فانها و ان جلت فهى قليلة بالنسبة الى ثواب الاخرة

أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ سمّى الرشوة و الحرام نارا لانه يودى إليها- او لانه صير نارا في الاخرة- او المعنى ما يأكلون في الاخرة الا النار- و معنى في بطونهم ملاء بطونهم

وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّه يَوْمَ الْقِيامَةِ بالرحمة و بما يسرهم او هى كناية عن غضبه عليهم نعوذ باللّه منه

وَ لا يُزَكِّيهِمْ اى لا يثنى عليهم او لا يطهرهم من دنس الذنوب بخلاف عصاة المؤمنين فانهم ان عذبوا بالنار كان ذلك تطهيرا لذنوبهم و إعدادا لهم لدخول الجنة

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)

١٧٥

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فى الدنيا. وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فى الاخرة بكتمان الحق لاغراض دنيّة دنيوية

فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) يعنى ما أشد صبرهم عليها تعجيب للمؤمنين على اختيارهم موجبات النار مع علمهم بتحقيق المصير إليها كانهم صبروا عليها و الا فاىّ صبر.

١٧٦

ذلِكَ العذاب و محله الرفع و قيل محله النصب يعنى فعلنا ذلك بِأَنَّ اللّه نَزَّلَ الْكِتابَ يعنى التورية او جنس الكتاب التورية و القران و غيرهما بِالْحَقِّ فاختلفوا-

و قيل معناه ذلك الاجتراء من اليهود على اللّه و صبرهم على النار من أجل ان اللّه تعالى نزل الكتاب بالحق و هو قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّه عَلى قُلُوبِهِمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اللام للجنس و اختلافهم ايمانهم ببعض الكتاب و كفرهم بالبعض- او للعهد و الاشارة اما الى التورية و اختلافهم فيه اتباعهم بعض أحكامه و تركهم بعضه و هو اتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم- و اما الى القران و اختلافهم فيه قولهم انه سحر او كلام يقوله بشرا و أساطير الأولين

لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٢) عن الحق-.

١٧٧

لَيْسَ الْبِرَّ قرا حفص و حمزة بالنصب على انه خبر ليس و اسمها ما بعده و الباقون بالرفع بعكس التركيب- و البر كل فعل مرضى للّه تعالى

أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال كانت اليهود يصلى قبل المغرب يعنى الى بيت المقدس و النصارى قبل المشرق فانزل اللّه تعالى هذه الاية يعنى ليس البر ما عليه اليهود و النصارى فان قبلتهم منسوخة و دينهم كفر- و كذا اخرج ابن ابى حاتم عن ابى العالية-

قال البغوي هذا قول قتادة و مقاتل بن جبان و قيل المراد به المسلمون و ذلك ان الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا اتى بالشهادتين و صلى الصلاة الى اى جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة فلما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نزلت الفرائض و حدّت الحدود و صرّفت القبلة الى الكعبة انزل اللّه تعالى هذه الاية يعنى ليس البر كله مقتصرا في ان تصلوا قبل المشرق و المغرب و لا تعملوا غير ذلك و لكن البر ما ذكر في هذه الاية

قال البغوي هذا قول ابن عباس و مجاهد و الضحاك-

قلت

و اخرج ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة نحوه-

قلت ذكره تعالى بتولية الوجوه و عدم تسميته بالصلوة قرينة على ان المخاطبين «١» بها اليهود و النصارى دون المؤمنين و قد قال اللّه تعالى للمؤمنين انّ اللّه «٢» لا يضيع ايمانكم يعنى صلاتكم

(١) فى الأصل ان المخاطبون

(٢) و في القران وَ ما كانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ

وَ لكِنَّ الْبِرَّ قرا نافع و ابن عامر لكن مخففة و البر بالرفع في الموضعين و الباقون بالتشديد و النصب فيهما

مَنْ آمَنَ لا بد للحمل ان يعتبر المصدر بمعنى الفاعل مبالغة او يقدر المضاف في الاسم او الخبر يعنى لكن البار او ذا البر من أمن او لكن البرّ برّ من أمن و هذا أوفق بالسياق

بِاللّه المتوحد بجلال ذاته و كمال صفاته المنزه عن وسمة الحدوث و المناقص بحيث لا يتصور ثناؤه الا بما اثنى به نفسه

وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى يوم القيامة فانه اخر الأيام و المراد به من وقت النشور الى الابد المشتمل على البعث و الحساب و الميزان و الصراط و الجنة و ما فيها و النار و ما فيها و الشفاعة و المغفرة و خلود الثواب و العذاب و كل ما ثبت بالكتاب و السنة

وَ الْمَلائِكَةِ بانهم خلقوا من نور أجسام ذوو أرواح أولوا اجنحة مثنى و ثلث و رباع- و راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جبرئيل و له ستمائة جناح- لا يأكلون و لا يشربون و لا ينكحون قوتهم التسبيح و التهليل لا يَعْصُونَ اللّه ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يموتون ثم يبعثون و منهم رسل يأتون بالوحى على الأنبياء عليهم الصلوات و التسليمات و جزاء أعمالهم رضوان اللّه تعالى منهم و مراتب قربهم عند اللّه تعالى حيث قال عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ فهم غير محتاجين في جزاء أعمالهم الى دخول الجنة بل خزنة النار و ملائكة العذاب ايضا يوفون أجورهم و هم لا يظلمون- فلا يذهب عليك ان عوام المؤمنين أفضل من الملائكة أجمعين حيث يدخلون الجنة لاجل الجزاء دون الملائكة نعم خواص البشر يعنى الأنبياء و الرسل منهم أفضل من جميع الملائكة لاجل التجليات الذاتية المختصة بالبشر لاختصاصها بالتراب- و كما ان جزاء اعمال الملائكة غير متوقفة بدخول الجنة كذلك بعض الأصفياء من البشر يحصل لهم في الدنيا بعض ما يحصل لهم في الجنة قال اللّه تعالى فى حق خليله عليه السلام آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

وَ الْكِتابِ و المراد به الجنس او المراد به القران فان الايمان به مستلزم لجميع الكتب المنزلة- و القران و غيره من الكتب و الصحف كلام اللّه غير مخلوق- و الحق انه النظم و المعنى جميعا- و تعاقبه و ترتبه على السنة البشر و أسماعهم المقتضى للحدوث لا يستلزم كونه كذلك قائما به سبحانه و تعالى- وَ للّه الْمَثَلُ الْأَعْلى -

وَ النَّبِيِّينَ- أجمعين لا نفرق بين أحد من رسله أولهم آدم عليه السلام و خاتمهم و أفضلهم نبينا محمد صلى اللّه عليه و عليهم أجمعين و لا يجوز تعيين العدد في الايمان بالنبيين لان اللّه سبحانه قال مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ و العدد انما ورد في بعض أحاديث الآحاد و ذا لا يفيد القطع و مبنى الايمان على القواطع- كلهم معصومون من الصغائر و الكبائر يصدق بعضهم بعضا لا خلاف بينهم في الايمانيات انما الخلاف في فروع الأعمال بناء على نسخ الاحكام و من هاهنا يظهر بطلان قول الروافض حيث يجعلون الايمان بالائمة داخلا في الايمان إذ لو كان كذلك لذكر اللّه تعالى ذلك كما ذكر الايمان بالأنبياء و الملائكة و اللّه اعلم

وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ الجار و المجرور في موضع الحال و الضمير راجع الى اللّه سبحانه فان كل ما اعطى لوجه اللّه فثوابه على اللّه و ما كان لغير اللّه فاللّه سبحانه منه برى ء عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ثلثة نفر ثالثهم رجل وسع اللّه و أعطاه من اصناف المال كله فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما علمت فيها قال ما تركت من سبيل تحب ان ينفق فيه في سبيل اللّه الا أنفقت فيها لك قال كذبت و لكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى القى في النار- رواه مسلم-

و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه لا ينظر الى صوركم و أموالكم و لكن ينظر الى قلوبكم و أعمالكم- رواه مسلم-

و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته و شركه- و في رواية فانا منه برى ء هو الذي عمله- رواه مسلم- او الضمير راجع الى المال اى اعطى المال في حال صحته و محبته المال كذا قال ابن مسعود-

و عن ابى هريرة قال جاء رجل الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه اى الصدقة أعظم اجرا قال ان تصدق و أنت صحيح شحيح تخشى الفقر و تأمل الغنى و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا و قد كان لفلان- متفق عليه و يؤيد إرجاع الضمير الى المال قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ- و يحتمل ان يكون حينئذ معناه اعطى المال حال كون ذلك المال أحب الأموال اليه فهو نظير قوله تعالى أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ- «١»

(١) و في القران ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا إلخ

وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ الاية- او الضمير راجع الى المصدر يعنى تعطى المال على حب الإعطاء بسخاوة القلب و شرح الصدر

ذَوِي الْقُرْبى القربى مصدر بمعنى القرابة قدمهم لان إيتاءهم اولى و أحق و يدخل في ذوى القربى ذوى القربى النسبي و السببى من الزوج و الزوجة و المملوك- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دينار أنفقته في سبيل اللّه و دينار أنفقته في رقبة و دينار تصدقته على مسكين و دينار أنفقته على أهلك أعظمها اجرا الذي أنفقته على أهلك- رواه مسلم و عن زينب امراة ابن مسعود قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تصدّقن يا معشر النساء و لو من حليكم فقالت هى و امراة اخرى اتجزى الصدقة عنهما على ازواجهما و على أيتام في حجورهما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لهما أجران اجر القرابة و اجر الصدقة متفق عليه و عن سلمان بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الصدقة على المسكين صدقة و هى على ذى الرحم ثنتان صدقة و صلة- رواه احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الدارمي

وَ الْيَتامى إذا فقد الصبى أباه قبل البلوغ فهو يتيم

-

قال البيضاوي في ذوى القربى و اليتامى يريد المحاويج منهم و لم يقيد لعدم الالتباس-

قلت هذا التقييد غير ظاهر فان الكلام في إيتاء المال تطوعا او ما هو أعم من الفريضة و التطوع و اما الزكوة المفروضة فسيرد ذكره بعد ذلك و الإيتاء تطوعا لا يتقيد بالمحاويج فان صلة الرحم و تفريح اليتيم قد يكون مع كون المعطى له غنيا بل لا يتوقف الصلة على اسلام المعطى له قال اللّه تعالى وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً- عن اسماء بنت ابى بكر قالت قدمت على أمي و هى مشركة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صليها- متفق عليه- و عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان ال ابى فلان ليسوا لى باولياء انما وليي اللّه و صالحوا المؤمنين و لكن لهم رحم ابلها ببلالها- متفق عليه و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس الواصل بالمكافئ لكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها- رواه البخاري- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا و كافل اليتيم في الجنة هكذا- و في رواية-

كهاتين و أشار بإصبعيه السبابة و الوسطى- رواه البخاري و احمد و ابو داود و الترمذي

وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ قال مجاهد هو المسافر المنقطع عن اهله يمر عليك- و قيل هو الضيف عن ابى شريح قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم من كان يؤمن باللّه و اليوم الاخر فليكرم ضيفه- متفق عليه

وَ السَّائِلِينَ عن أم عبيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ردوا السائل و لو بظلف محرق-

و في رواية ان لم تجدى الّا ظلفا محرقا فادفعيه اليه- رواه احمد و ابو داود و الترمذي و قال حديث حسن صحيح- و عن الحسين بن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للسائل حق و ان جاء على فرسه رواه احمد-

و اخرج ابو داود من حديث على و اسناده جيد- و ابن راهويه في مسنده من حديث فاطمة الزهراء عليها السلام و الطبراني من حديث الهرماس بن زياد-

و اخرج احمد في الزهد عن سالم بن ابى الجعد قال قال عيسى بن مريم عليه السلام ان للسائل حقا و ان أتاك على فرس مطوق بالف ضة-

قلت و هذا الحديث يدل على ان إعطاء السائل لا يتوقف على كونه محتاجا فان السؤال و ان كان حراما على غير المحتاج لكن على المسئول منه حق ان يعطيه

وَ فِي الرِّقابِ يعنى المكاتبين فهو نظير قوله تعالى وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّه الَّذِي آتاكُمْ- و قيل عتق النسمة فهو نظير قوله تعالى فَكُّ رَقَبَةٍ- و قيل فداء الأسارى قال اللّه تعالى وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً-

وَ أَقامَ الصَّلاةَ المفروضة و النافلة يعنى ادّاها بحقوقها و رعاية سننها و آدابها-

وَ آتَى الزَّكاةَ المفروضة و فيما سبق كان ذكر الصدقات النوافل او ما هو أعم من الفريضة و النافلة فذكر الفريضة بعدها لمزيد الاهتمام- و قيل المقصود منه و مما سبق واحد و هى الزكوة المفروضة لكن الغرض مما سبق بيان مصارفها و بالثاني أداؤها و الحث عليها-

قلت و الاول اولى لان الكلام في بيان البر و هو من الافعال ما هو مرضى للّه تعالى فريضة كانت او نافلة و يؤيده حديث فاطمة بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان في المال لحقا سوى الزكوة ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ الاية- رواه الترمذي و ابن ماجة و الدارمي و المراد بالحق أعم من ان يكون واجبا او منه و با بالإجماع «١» لحديث طلحة بن عبيد اللّه قال جاء رجل الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسئل عن الإسلام فذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خمس صلوات و صيام شهر رمضان و الزكوة- فقال هل عليّ غيرها قال لا الا ان تطوع- متفق عليه-

(١) فى الأصل اجماع-

وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا فيما بينهم و بين اللّه تعالى يوم الميثاق و في الحيوة الدنيا إذا حلفوا او نذروا أوفوا- و فيما بينهم و بين الناس إذا وعدوا انجزوا و إذا قالوا صدقوا و إذا اؤتمنوا أدوا و إذا استشهدوا على الحق شهدوا عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اية المنافق ثلث إذا حدث كذب و إذا وعد خلف و إذا اؤتمن خان- متفق عليه- زاد مسلم و ان صام و صلى و زعم انه مسلم- و عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اربع من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر- متفق عليه معطوف على من أمن

وَ الصَّابِرِينَ ايضا معطوف على من أمن و نصبها على تطاول الكلام و من شأن العرب تغيير الاعراب إذا طال الكلام كذا قال ابو عبيدة- و مثله في المائدة و الصّابئون و في سورة النساء و المقيمين الصّلوة- و قال الخليل منصوب على المدح و لم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال لان أفضل الأعمال أدوم و ذلك بالصبر و تقديره اخصّ الصابرين بمزيد البرا و امدح الصابرين بمزيد البر- فحينئذ من عطف الجملة على الجملة-

و قيل منصوب عطفا على ذوى القربى يعنى و اتى الصابرين- نظيره قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ

فِي الْبَأْساءِ اى الشدة و الفقر وَ الضَّرَّاءِ المرض و الزمانة

وَ حِينَ الْبَأْسِ اى القتال و الحرب أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى الايمان و البر

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) عن الكفر و سائر الرذائل و الاية جامعة للكمالات الانسانية صريحا او ضمنا دالة على صحة الاعتقاد و حسن المعاشرة و تهذيب النفس و هذا منصب الأبرار و اما الصديقون المقربون فمزيد فضلهم مبنى على الفضل و الاجتباء ذلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ-.

١٧٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى القصاص المساوات و المماثلة-

قال البغوي قال الشعبي و الكلبي و قتادة نزلت هذه الاية في حيين من احياء العرب اقتتلوا فى الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكانت بينهما قتلى و جراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام قال مقاتل بن حبان كانت بين القريظة و النضير- و قال سعيد بن جبير كانت بين الأوس و الخزرج- قالوا جميعا- و كان لاحد الحيين على الاخر طول في الكثرة و الشرف و كانوا ينكحون نساءهم بغير مهود فاقسموا لنقتلن بالعبد «١» منا الحرّ و بالمرأة منا الرجل منهم و بالرجل منا الرجلين منهم و جعلوا جراحاتهم ضعفى جراحات أولئك فرفعوا أمرهم الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى هذه الاية و امر بالمساوات فرضوا و سلموا- كذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير-

(١) فى الأصل العبد منا الحر و المرأة-

قلت و رضاؤهم و تسليمهم و خطاب اللّه تعالى إياهم بقوله يا ايها الذين أمنوا دليل على ان المخاطبين به هم الأوس و الخزرج الذين صاروا أنصار اللّه دون قريظة و النضير فانهم كانوا اعداء اللّه كفارا- و في قوله تعالى كتب عليكم القصاص حجة لابى حنيفة رحمه اللّه على قوله ان الواجب في القتل العمد القصاص فقط دون الدية و انه لا يجوز أخذ المال الا برضاء القاتل- و يؤيده قوله عليه السلام في العمد القود- رواه الشافعي و ابو داود و النسائي و ابن ماجة من حديث ابن عباس في حديث طويل و اختلف في وصله و إرساله و صحح الدارقطني الإرسال و المرسل عندنا حجة و رواه الدارقطني من طريق عبد اللّه بن ابى بكر بن محمد بن حزم عن أبيه عن جده مرفوعا العمد قود و الخطاء دية- و في اسناده ضعف و لكل واحد من مالك و الشافعي و احمد في المسألة قولان

أحدهما ان الواجب هو القود لكن يجوز لورثة المقتول ان يعفو عن القود الى الدية من غير رضاء الجاني-

و ثانيهما ان الواجب

أحدهما لا بعينه اما القصاص و اما الدية- و الفرق بين القولين يظهر إذا عفى مطلقا من غير ذكر الدية فعلى القول الاول يسقط القصاص بلادية

و على القول الثاني يثبت الدية-

و احتجوا على جواز أخذ المال من غير رضاء الجاني بأحاديث- منها حديث ابى شريح الكعبي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يوم فتح مكة بعد مقامى هذا فاهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا و ان أحبوا أخذوا العقل- رواه الترمذي و الشافعي و روى ابن الجوزي و الدارمي عن ابى شريح الخزاعي قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من أصيب بدم او خبل و الخبل الجرح فهو بالخيار بين احدى ثلاث فان أراد الرابعة فخذوا على يديه بين ان يقتص او يعفوا و يأخذ العقل فان أخذ من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ابدا- و منها حديث ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم من قتل له قتيل فهو بخير النظرين اما ان يفدى و اما ان يقتل- متفق عليه-

و منها حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من قتل متعمدا دفع الى اولياء المقتول فان شاء و اقتلوه و ان شاءوا أخذوا العقل ثلاثين حقة و ثلاثين جذعة و أربعين خلفة في بطونها أولادها- رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة- قال اصحاب ابى «٢» حنيفة رحمه اللّه في الجواب عن هذه الأحاديث ان المراد ان اولياء المقتول بالخيار في القود و الصلح و الصلح لا يكون الا برضاء القاتل و الظاهر ان القاتل يرضاه لحقن دمه فترك النبي صلى اللّه عليه و سلم ذكر رضاء القاتل بناء على الظاهر و اللّه اعلم

(٢) فى الأصل ابو حنيفة

الْحُرُّ يقتل بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى و هذا لا يدل على ان الحر لا يقتل بالعبد- و العبد لا يقتل بالحر- و الأنثى لا يقتل بالذكر- او الذكر لا يقتل بالأنثى- فان ذلك الاحكام مسكوت عنها في هذه الاية و لا عبرة بالمفهوم عند ابى حنيفة رحمه اللّه مطلقا- و كذا فى هذه الاية عند القائلين بالمفهوم إذا المفهوم عندهم انما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم- و كان الغرض هاهنا دفع استطالة أحد الحيين على الاخر فالمفهوم المعتبر من هذه الاية على ما يقتضيه القصة ان الحر إذا تفرد بقتل الحر يقتل القاتل وحده و لا يقتل معه غيره لاجل شرف المقتول و كذا العبد إذا قتل العبد يقتل ذلك العبد القاتل بالعبد المقتول و لا يقتل حر مكان ذلك لاجل شرف المقتول و كذا الأنثى إذا قتل الأنثى قتلت القاتلة لا رجل مكان امراة و اللّه اعلم- بقي المبحث عن الاحكام المسكوت عنها في تلك الاية- فقال ابو حنيفة رحمه اللّه يقتل النفس حرا كانت او رقيقا- ذكرا كانت او أنثى- مسلما كان او ذميّا بالنفس كيف ما كانت لعموم قوله تعالى وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ- و الاحكام الالهية في الكتب المنزلة السّابقة إذا ثبتت عندنا حكايتها بالقران او السنة و لا عبرة بقول الكفار من اليهود و النصارى فهى باقية واجبة اتباعها إذ الحاكم واحد و الشرع واحد قال اللّه تعالى فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ و قال اللّه تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى -

و لا يختلف الاحكام الا لاجل النسخ سواء كان في كتاب واحد او كتب و ما لم يظهر النسخ يبقى الحكم- و يدل ايضا على بقاء هذا الحكم حديث ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا اللّه و انى رسول اللّه الا بإحدى ثلاث النفس بالنفس- و الثيب الزاني- و المارق لدينه التارك للجماعة- متفق عليه- و حديث ابى امامة ان عثمان اشرف يوم الدار فقال أنشدكم باللّه أ تعلمون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان او كفر بعد اسلام او قتل نفسا «١» بغير حق-

(١) فى الأصل نفس-

الحديث رواه الشافعي و احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و في الباب عن عائشة رواه مسلم و ابو داود و غيرهما- لكن قال ابو حنيفة لا يقتل رجل يقتل عبده و لا مدبره و لا مكاتبه و بعبد ملك بعضه و لا بعبد ولده لانه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص و لا ولده عليه- و به قال الجمهور خلافا لداود محتجا بما روى الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و الدارمي عن الحسن عن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قتل عبده قتلناه و من جدع عبده جدعناه- قال الجمهور هذا الحديث محمول على السياسة و الحديث مرسل لم يسمع الحسن عن سمرة و قد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى اللّه عليه و سلم مائة جلدة و نفاه سنة و محا سهمه من المسلمين و لم يقد به و امره ان يعتق رقبة- لكن فيه اسمعيل بن عياش ضعيف و اللّه اعلم-

و اما غير ابى حنيفة رحمه اللّه فاتفقوا على ان العبد يقتل بالحر و الأنثى بالذكر و الكافر بالمسلم لان في كل ذلك تفاوت الى نقصان و الناقص يجوز ان يستوفى بالكامل دون عكسه- و اتفقوا ايضا على ان الذكر يقتل بالأنثى لما روى عن عمرو بن حزم ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كتب في كتابه الى اهل اليمن ان الذكر يقتل بالأنثى هذا طرف من كتاب النبي صلى اللّه عليه و سلم- و هو مشهور رواه مالك و الشافعي- و اختلف اهل الحديث فى صحة هذا الحديث- قال ابن حزم- صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا يقوم بها حجة و سليمان بن داود «١» راويه متفق على تركه-

(١) فى الأصل هاهنا سليمان بن ابى داود

و قال ابو داود سليمان بن داود و هم انما هو سليمان بن أرقم- و صححه الحاكم و ابن حبان و البيهقي- و نقل عن احمد انه قال ارجوا ان يكون صحيحا- و قد اثنى على سليمان بن داود ابو زرعة و ابو حاتم و جماعة من الحفاظ- و صحح الحديث جماعة من الائمة لا من حيث الاسناد بل من حيث الشهرة فقال الشافعي في رسالته- لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم انه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم-

قال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند اهل السير معروف ما فيه عند اهل العلم- بقي الاختلاف في انه هل يقتل الحر بالعبد عبد غيره فقال مالك و الشافعي و احمد لا يقتل و قال ابو حنيفة يقتل- احتجوا بحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا يقتل حر بعبد رواه الدارقطني و البيهقي- و حديث على قال من السنة ان لا يقتل حر بعبد- رواه ايضا الدارقطني و البيهقي- و الجواب ان حديث ابن عباس فيه جويبر و عثمان البزي ضعيفان متروكان كذا قال ابن الجوزي و الحافظ ابن حجر و حديث على فيه جابر الجعفي كذاب- و في انه هل يقتل المسلم بالكافر الذمي-

فقال الشافعي و احمد لا يقتل احتجا بحديث ابى جحيفة عن على قال سالت عليا هل عندكم شى ء ليس في القران قال و الذي فلق الحبة و برى ء النسمة ما عندنا الا ما في القران الا فهما يعطى الرجل في كتابه و ما في هذه الصحيفة قلت و ما في الصحيفة- قال العقل و فكاك الأسير و ان لا يقتل مسلم بكافر- رواه البخاري و رواه احمد بلفظ لا يقتل مؤمن بكافر و لا ذو عهد في عهده- و حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قضى- لا يقتل مسلم بكافر رواه احمد و اصحاب السنن الا النسائي و رواه ابن ماجة من حديث ابن عباس و رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر-

و روى الشافعي عن عطاء و طاءوس و الحسن و مجاهد مرسلا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يوم الفتح لا يقتل مؤمن بكافر و رواه البيهقي من حديث عمران بن حصين- و حديث عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يحل قتل مسلم الا في احدى ثلاث خصال زان محصن فيرجم و رجل يقتل مسلما متعمدا و رجل يخرج من الإسلام فيحارب اللّه و رسوله فيقتل او يصلب او ينفى من الأرض- رواه ابو داود و النسائي و روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه ان مسلما قتل رجلا من اهل الذمة فرفع الى عثمان فلم يقتله به و غلظ عليه الدية- قال الحافظ قال ابن حزم هذا في غاية الصحة و لا يصح عن أحد من الصحابة فيه بشى ء غير هذا الا ما رويناه عن عمر انه كتب في مثل ذلك ان يقاد به ثم الحقه كتابا فقال لا تقتلوه و لكن اعتقلوه- و الجواب ان المراد بالكافر في قوله صلى اللّه عليه و سلم لا يقتل مسلم بكافر الحربي دون الذمي و يدل عليه قوله صلى اللّه عليه و سلم و لا ذو عهد في عهده- يعنى لا يقتل الذمي في عهده بكافر و لا شك ان الذمي يقتل بالذمي اجماعا فالمراد بالكافر هو الحربي لا غير و فتوى عثمان و عمر رضى اللّه عنهما كان بالرأى و لذا اختلف الجواب عن عمر رضى اللّه عنه- و اما قيد الإسلام في حديث عائشة فقد وقع اتفاقا- و احتج صاحب الهداية على وجوب قتل المسلم بالذمي بما روى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قتل مسلما بذمي-

قلت و هذا الحديث رواه الدارقطني عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قتل مسلما بمعاهد و قال انا أكرم من اوفى بذمته- قال الدارقطني لم يسنده غير ابراهيم بن يحيى و هو متروك الحديث- قال ابن الجوزي ابراهيم بن يحيى كذاب و الصواب عن ابن سليمان عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرسلا و ابن سليمان ضعيف لا يقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله-

قلت و الاولى بالاحتجاج ما ذكرنا سابقا النفس بالنفس- و حديث ابن مسعود و عثمان و عائشة و اختلفوا في انه هل يقتل الوالد بولده قال مالك إذا اضتجعه فذبحه قتل به و قال داود لا يقتل به «١»

(١) فى الأصل و النقول و لا يظهر منه الفرق بين مذهب داود و مذهب ابى حنيفة و من معه فعل مذهب داود يقتل بكل حال بكل حال-

و قال ابو حنيفة و الشافعي و احمد لا يقتل- لنا حديث عمر بن الخطاب قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا يقاد الوالد بالولد رواه الترمذي و في اسناده الحجاج بن ارطاة- و له طريق اخر عنه احمد و اخر عند الدارقطني و البيهقي أصح منهما و صحح البيهقي سنده- و رواه الترمذي ايضا من حديث سراقة و اسناده ضعيف و فيه اضطراب و اختلاف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمرو قيل عن سراقة و عند احمد عن عمرو بن شعيب بلا واسطة و فيه ابن لهيعة ضعيف- و رواه الترمذي و ابن ماجة من حديث ابن عباس و فيه إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف لكن تابعه الحسن بن عبد اللّه العنبري عن عمرو بن دينار قاله البيهقي و قال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شى ء و قال الشافعي- حفظت عن عدد من اهل العلم ان لا يقتل الوالد بالولد و بذلك أقول و اللّه اعلم- و اتفق أكثرهم على انه إذا قتل الجماعة واحدا قتلوا- و قال داود و هو رواية عن احمد لا يقتلون و يجب الدية- روى عن سعيد بن المسيب ان إنسانا قتل بصنعاء و ان عمر قتل به سبعة نفر و قال لو قالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به- رواه مالك في المؤطا و الشافعي عنه و رواه البخاري من وجه اخر نحوه ...

و اختلفوا في واحد قتل جماعة فقال ابو حنيفة و مالك- ليس عليه الا القود لجماعتهم و لا يجب عليه شى ء اخر- و قال الشافعي ان قتل واحدا بعد واحد قتل بالأول و للباقين الديات و ان قتلهم في حالة واحدة اقرع بين اولياء المقتولين فمن خرجت قرعته قتل له و للباقين الديات- و قال احمد ان حضر الأولياء و طلبوا القصاص قتل بجماعتهم و لا دية عليه و ان طلب بعضهم القصاص و بعضهم الدية قتل لمن طلب القصاص و وجب الدية لمن طلبها و ان طلبوا كلهم الدية كان لكل واحد منهم دية كاملة- و اتفقوا على انه لا قصاص في الخطاء انما القصاص في العمد- و اختلفوا في تفسير العمد فقال ابو حنيفة رحمه اللّه- هو ما تعمد ضربه بسلاح او ما جرى مجرى السلاح كالمحدد من الخشب و المروة و نحو ذلك و النار- و قال الشعبي و النخعي و الحسن البصري- لا عمد الا بحديد فحسب و لا قود في غيره

و اما ما تعمد ضربه بما ليس بسلاح و لا ما اجرى مجرى السلاح فهو شبه العمد لا قود فيه و فيه الدية- و قال ابو يوسف و محمد و الشافعي و احمد إذا ضربه بحجر عظيم او بخشبة عظيمة يقتل به غالبا فهو عمد و فيه القود و كذا ان أغرقه في الماء او خنقه او منعه من الطعام و الشراب أياما يموت فيه غالبا فمات- و قال مالك ان تعمد ضربه بعصا او سوط او حجر صغير لا يقتل به غالبا فمات به فهو ايضا عمد و فيه القود و قال الجمهور هو خطاء العمد لا قود فيه و فيه الدية- غير ان الشافعي قال ان تكرر الضرب حتى مات فعليه القود- و الحجة للجمهور في وجوب القصاص بالقتل بالمثقل ما في الصحيحين عن انس بن مالك ان يهوديا رضخ رأس امراة بين حجرين فقتلها فرضخ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رأسه بين حجرين- و ما روى احمد عن ابن عباس عن عمر انه نشد قضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الجنين فجاء ابن مالك فقال كنت بين امرأتين فضربت أحدهما الاخرى بمسطح فقتلتها و جنينها فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في جنينها بغرة و ان تقتل بها- و الحجة لهم في عدم القود في قتيل السوط و العصا حديث عبد اللّه بن عمرو عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان قتيل الخطا شبه العمد قتيل السوط و العصا فيه مائة ابل منها أربعون فى بطونها أولادها- رواه ابو داود و النسائي و ابن ماجة و صححه ابن حبان و عن ابى هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها و ما في بطنها فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان دية جنينها غرة عبدا و وليدة و قضى بدية المرأة على عاقلتها- متفق عليه- و عن المغيرة بن شعبة نحوه رواه مسلم-

و عن ابن عباس من قتل في عميا في رمى يكون بينهم بالحجارة او جلد بالسياط او ضرب بعصا فهو خطا و عقله عقل الخطأ و من قتل عمدا فهو قود- رواه ابو داود و النسائي-

و اما حجة ابى حنيفة على عدم القود بالمثقل فحديث على مرفوعا لا قود في النفس و غيرها الا بحديدة- رواه الدارقطني و في سنده معلى بن هلال قال يحيى ابن معين كان يضع الحديث- و قال الجمهور ان صح فهو محمول على انه لا قود الّا بالسيف و قد ورد حديث لا قود الا بالسيف- و في رواية الا بالسلاح من حديث ابى هريرة و ابن مسعود و راويهما ابو معاذ سليمان بن أرقم متروك-

و روى مثله من حديث ابى بكرة و النعمان بن بشير و راويهما مبارك ابن فضالة كان احمد لا يعبأ به و في الباب حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه و سلم كل شى ء خطأ الا السيف و في كل خطأ أرش- و في رواية كل شى ء خطأ إلا بحديدة و في رواتهما جابر الجعفي كذاب- و اختلفوا في انه هل يجوز القصاص بمثل ما قتله القاتل فقال ابو حنيفة و احمد لا قود الا بالسيف و قد مر سنده و ما فيه من البحث- و قال الشافعي و مالك و احمد في قوله الثاني يقتل بمثل ما قتله- لقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ- و القصاص هو المساوات و لما مر من حديث انس في الصحيحين ان يهوديا رضخ رأس امراة بين حجرين فقتلها فرضخ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رأسه بين حجرين- و لما روى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من غرق غرقناه و من حرق حرقناه رواه البيهقي في المعرفة من حديث عمرو بن نوفل بن يزيد بن البراء عن أبيه عن جده و في اسناده بعض من يجهل-

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ قال صاحب القاموس العفو الصفح و ترك عقوبة المستحق عفى عنه ذنبه و عفى له ذنبه و من هذه العبارة يستفادان العفو يتعدى الى الذنب بنفسه و الى الجاني بعن و اللام و على هذا من مبتدأ اما شرطية او موصولة و المراد به القاتل- و من في مِنْ أَخِيهِ اما للابتداء و الظرف لغو و المراد بالأخ ولى المقتول- و اما للتبعيض يعنى من دم أخيه بحذف المضاف و المراد بالأخ المقتول و الظرف مستقر وقع حالا مقدما- و شى ء مفعول به للعفو أسند اليه الفعل و المراد به الجناية- و المعنى من عفى له من القاتلين شى ء من الجناية كائنة من دم أخيه- او عفى له من ولى المقتول شى ء من الجناية فاتباع بالمعروف-

و

قال البيضاوي عفا لازم و ما قيل انه بمعنى ترك و شى ء مفعول به ضعيف إذ لم يثبت عفا الشي ء بمعنى تركه بل اعفى عنه و يتعدى بعن الى الجاني و الى الذنب قال اللّه تعالى عَفَا اللّه عَنْكَ- و عفا عنها فاذا عدى به الى الذنب عدى الى الجاني باللام و عليه ما في الاية كانه قيل من عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعنى ولى الدم شى ء من العفو فهو مسند الى المصدر و حينئذ من في من أخيه للابتداء- و على هذين التركيبين تنكير شى ء ليدل على ان المتروك بعض الجناية- او الموجود بعض العفو لا كله و لذا صح اسناد الفعل الى المصدر لانه مفعول مطلق للنوع و المراد عفو قليل نحو إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا- فلا يدل الاية على ان بعد عفو كل الجناية من جميع الأولياء يجب الدية- فليس فيه حجة الشافعي رحمة اللّه و من معه- و قال الأزهري العفو في الأصل الفضل و منه يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ- يقال عفوت لفلان بمالى إذا أفضلت له و أعطيت و عفوت له عن مالى عليه- و حينئذ المراد بالأخ ولى المقتول و المعنى من عفى له يعنى من اعطى له من اولياء المقتول من أخيه يعنى من مال أخيه يعني القاتل شى ء صلحا- و انما ذكر القاتل او المقتول او ولى المقتول بلفظ الاخوة الثابتة بالجنسية او الإسلام ليرق له و يعطف عليه-

و فيه دليل على ان القاتل لا يصير كافرا بالقتل حيث ذكر الاخوة الاسلامية بين القاتل و المقتول و ايضا خاطب بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

فَاتِّباعٌ اى فليكن من ولى المقتول- او فالامر لولى المقتول اتباع

بِالْمَعْرُوفِ فلا يعنف

وَ على القاتل أَداءٌ إِلَيْهِ يعنى الى ولى المقتول بِإِحْسانٍ بلا مطل و بخس

ذلِكَ اى الحكم المذكور من جواز الصلح او وجوب الدية لبعض الورثة بعد عفو البعض

تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ اخرج ابن جرير عن قتادة ان رحم اللّه هذه الامة و أطعمهم الدية و أحل لهم و لم يحل لاحد قبلهم- و كان على اهل التورية انما هو القصاص او العفو ليس بينهم أرش- و كان على اهل الإنجيل انما هو العفو أمروا به و جعل اللّه لهذه الامة القتل و العفو و الدية

فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعنى قتل بعد العفو او بعد أخذ الدية

فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٠) فى الاخرة لما مر من حديث ابى شريح الخزاعي فان أخذ من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ابدا- و قال ابن جريح يتحتم قتله في الدنيا حتى لا يقبل العفو لما روى سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا أعافي أحدا قتل بعد اخذه الدية- رواه ابو داود.

١٧٩

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ عرّف القصاص و نكّر الحيوة ليدل على ان في هذا الجنس من الحكم نوعا عظيما من الحيوة- و ذلك لان العلم به يردع القاتل عن القتل فيكون سببا لحيوة نفسين و لانهم كانوا يقتلون غير القاتل و الجماعة بالواحد فتثور الفتنة فاذا اقتص من القاتل سلم الباقون و يصير ذلك سببا لحياتهم- و على الاول التقدير و لكم في شرع القصاص حيوة- و على الثاني و لكم في القصاص حيوة للباقيين- و ايضا في القصاص حيوة للقاتل في الاخرة فانه إذا اقتص منه فى الدنيا لم يؤاخذ في الاخرة فيحيى هناك حيوة طيبة- و خاطب اولى الألباب لانهم هم الذين يفهمون الحكم و المصالح في الاحكام الشرعية

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) عن القتل مخافة القود او تتقون بالقصاص عن عذاب الاخرة او تتقون عن ترك القصاص بالاطلاع على الحكمة-.

١٨٠

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى حضر أسبابه و غلب على الظن اقترابه

إِنْ تَرَكَ خَيْراً ذكر الماضي و أراد المستقبل يعنى ان كان له خير يتركه- و الخير هو المال قال اللّه تعالى وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ- وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ- و قيل المراد بالخير المال الكثير لما روى عن على رضى اللّه عنه ان مولى له أراد ان يوصى و له تسعمائة درهم فمنعه و قال قال اللّه تعالى ان ترك خيرا و الخير هو المال الكثير- رواه ابن ابى شيبة في المصنف و عن عائشة- ان رجلا أراد ان يوصى فساكته كم مالك فقال ثلاثة آلاف فقالت كم عيالك قال اربعة قالت انما قال اللّه تعالى ان ترك خيرا و ان هذا الشي ء يسير فاتركه لعيالك-

الْوَصِيَّةُ مفعول سد مسد الفاعل لكتب و ترجح تذكير الفعل مع جواز التأنيث لوجود الفصل او على تأويل ان يوصى او الإيصاء و لذلك ذكّر الراجع في قوله فمن بدّله و العامل في إذا الافتراض المدلول لكتب لا الوصية لتقدمه عليها

لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ متعلق بالوصية و بهذه الاية كانت الوصية للاقارب فريضة في بدو الإسلام ثم نسخت الاية- قالوا نسخت هذه الاية اية المواريث و قوله صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه قد «١» اعطى كل ذى حق حقه الا لا وصية لوارث و فيه نظر لان اية المواريث لا يعارضه بل يؤكده فانها تدل على تقديم الوصية على الإرث- فكيف تكون ناسخة- و الحديث حديث الآحاد لا يجوز به نسخ الكتاب- و التحقيق ان الاية منسوخة الحكم للاجماع على عدم جواز الوصية لوارث الا عند رضاء الورثة- و لاتفاق الائمة الاربعة و جمهور العلماء على عدم وجوب الوصية لغير الوارث من الأقارب-

(١) فى الأصل ان اللّه اعطى [.....]

و ما روى عن الزهري و ابى بكر الحنبلي و بعض اصحاب الظواهر وجوبها في حق من لا يرث من الأقارب فلا عبرة به لمخالفتهم الجمهور و إذا ثبت الإجماع ظهر انه ثبت عندهم دليل قطعى ناسخ للاية به تركوا نص الكتاب و إلا ما تركوه و ان لم يصل ذلك الناسخ إلينا بطريق قطعى- و نورد هاهنا أحاديث يصلح ان يكون سندا للاجماع- منها حديث ابى امامة الباهلي قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في خطبة حجة الوداع ان اللّه قد اعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث- رواه ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و قال الحافظ حسن الاسناد و كذا رواه احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة من حديث عمرو بن خارجة و رواه ابن ماجة من حديث سعيد بن ابى سعيد عن انس و البيهقي من طريق الشافعي عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا وصية لوارث- و رواه الدارقطني من حديث جابر و صوب إرساله من هذا الوجه- و من حديث على و اسناده ضعيف- و من حديث ابن عباس بإسناد حسن- و روى الدارقطني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا وصية لوارث الا ان يجيزه الورثة-

و روى بهذا اللفظ ابو داود عن عطاء الخراسانى مرسلا و وصله يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رواه الدارقطني و هذه الأحاديث تدل على ان الاية منسوخة في حق الورثة- و اما فى حق غير الورثة من الأقارب فلا دلالة لهذه الأحاديث على نفيها و لا إثباتها- و أورد لهذا الحكم ابن الجوزي حديث ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما حق امرئ يبيت ليلتين-

و في رواية لمسلم ثلاث ليال و له مال يريد ان يوصى فيه الا و وصيته مكتوبة عنده- متفق عليه- وجه الحجة انه علق الوصية بالارادة فدل على انه ليس بواجب و اللّه اعلم و بعد اتفاقهم على ما ذكرنا و اتفاقهم على جواز الوصية لغير الوارث من الأقارب كالاجنبى بل اولى و أحب فان الصدقة على ذى رحم صدقة و صلة اتفقوا على ان الوصية لا يجوز فيما زاد على الثلث الا برضاء الورثة خلافا لاحد قولى الشافعي في الاستثناء حيث قال لا يصح عند رضاء الورثة ايضا-

و في الباب حديث سعد بن ابى وقاص جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعودنى من وجع اشتد بي فقلت يا رسول اللّه قد بلغ الوجع ما ترى اوصى بما لى كله قال لا قلت فالشطر قال لا قلت الثلث قال الثلث و الثلث كثير انك ان تدع ورثتك اغنياء خير من ان تدعهم عالة يتكففون الناس- متفق عليه و حديث ان اللّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعل لكم زكوة في أموالكم- رواه الدارقطني و البيهقي و فيه إسماعيل بن عياش و شيخه ضعيفان- و رواه احمد من حديث ابى الدرداء و ابن ماجة و البزار و البيهقي من حديث ابى هريرة و اسناده ضعيف و في الباب عن ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه رواه العقيلي من طريق حفص بن عمرو هو متروك

بِالْمَعْرُوفِ بالعدل لا يرجح بعض الأقرباء على بعض و لا يوصى للغنى و يدع للفقير

حَقًّا منصوب على المصدرية يعنى حق حقا او على المفعولية يعنى جعل اللّه الوصية حقّا

عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)

١٨١

فَمَنْ بَدَّلَهُ اى غير الإيصاء من الأوصياء و الأولياء و الشهود بَعْدَ ما سَمِعَهُ اى بعد سماع قول الموصى او وصل اليه و تحقق عنده

فَإِنَّما إِثْمُهُ فاثم الإيصاء المغيّر او اثم التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ على مبدليه

إِنَّ اللّه سَمِيعٌ بما اوصى به الموصى عَلِيمٌ (١٨١) بتبديل المبدل.

١٨٢

فَمَنْ خافَ اى توقع و علم كقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللّه

مِنْ مُوصٍ قرا حمزة و الكسائي و ابو بكر و يعقوب بفتح الواو و تشديد الصاد من التفعيل و الباقون بسكون الواو و التخفيف من الافعال

جَنَفاً ميلا من الحق خطا

او إِثْماً ظلما عمدا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ قال مجاهد معناه ان الرجل إذا حضر مريضا و هو يوصى فراه يميل عن الحق فامره بمعروف و نهاه عن منكر كما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سعيد بن ابى وقاص عن زيادة الوصية على الثلث و نهى على و عائشة عن اصل الوصية كما مرو عن النعمان بن بشير ان أباه اتى به الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال انى نحلت ابني هذا غلاما فقال أكل ولدك نحلت مثله قال لا قال فارجعه و في رواية قال لا اشهد على جور- متفق عليه- و قال الآخرون معناه انه إذا أخطأ الميت في وصيته او جاف متعمدا فوليه او وصيه او والى امور المسلمين يردّ الوصية الى العدل و الحق و لا ينفذ الوصية الباطلة-

قلت و الاولى ان يراد به أعم المعنيين

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بل كان الإثم على الموصى و للمصلح اجر الإصلاح- عن ابى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان الرجل ليعمل و المرأة بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فيجب لهما النار- رواه ابو داود و الترمذي و حسنه- و انما قال فلا اثم عليه لان الفعل كان من جنس ما يؤثم يعنى تبديل الوصية المنهي عنه- قال الكلبي كان الأولياء و الأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ الاية و ان استغرق المال كله و لم يبق للورثة شى ء ثم نسخها اللّه تعالى بقوله فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً او إِثْماً الاية

إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) وعد للمصلح- و ذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم و اللّه اعلم-.

١٨٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ اى فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ و الصوم في اللغة الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل و قام قائم الظهيرة لان الشمس إذا بلغت كبد السماء يرى كانها وقفت ساعة- و في الشرع عبارة عن الإمساك عن الاكل و الشرب و الجماع مع النية في وقت مخصوص كما سيظهر فيما بعد

كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء و الأمم و الظاهر ان التشبيه فى نفس الوجوب- و ذلك لا يقتضى المشابهة من كل جهة في الكيفية و الوقت و غير ذلك قال سعيد بن جبير كان صوم من قبلنا من العتمة الى الليل القابلة- و كذلك كان في ابتداء الإسلام فاشتبها- و قال جماعة من اهل العلم ان صيام رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا فربما كان يقع في الحر الشديد فيشق عليهم لاجل العطش او في البرد الشديد فيشق عليهم لاجل الجوع- فاجتمع علماؤهم و رؤساؤهم فجعلوه في الربيع و زادوا فيه عشرة ايام كفارة لما صنعوا فصار أربعين- ثم اشتكى ملكهم فجعل للّه عليه ان برى ء من مرضه ان يزيد في صومهم اسبوعا فبرى ء فزاد فيه اسبوعا ثم و لا هم ملك اخر فقال اتموه خمسين يوما-

و قال مجاهد أصابهم موتان فقالوا زيدوا في صيامكم .. فزادوا عشرا قبل و عشرا بعد- قال الشعبي لو صمت السنة كلها لا فطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال من شعبان و يقال من رمضان و ذلك ان النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبل الثلثين يوما و بعدها يوما ثم لم يزل القرن الاخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا الى خمسين يوما- كذا

قال البغوي و أخرجه ابن جرير عن السّدى

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) المعاصي فان الصوم يكسر الشهوة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر و أحصن للفرج- و من لم يستطع فعليه بالصوم- متفق عليه من حديث ابن مسعود- او المعنى تتقون الإخلال بالصوم.

١٨٤

أَيَّاماً منصوب بمقدر اى صوموا لا بالصيام للفصل بالاجنبى

مَعْدُوداتٍ يعنى قلائل فان القليل يعد في العادة دون الكثير- قيل ان المراد بذلك الأيام صوم ثلثة ايام من كل شهر و صوم عاشورا فانه كان واجبا في ابتداء الهجرة من ربيع الاول الى شهر رمضان سبعة عشر شهرا ثم نسخ بصوم رمضان قال ابن عباس- أول ما نسخ بعد الهجرة أم القبلة و الصوم و يقال نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر و ايام- و كان غزوة بدر يوم الجمعة بسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثانية من الهجرة- عن عائشة قالت- كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر بالصوم يوم عاشورا فلما فرض رمضان كان من شاء صام و من شاء أفطر- متفق عليه- و عن سلمة بن الأكوع ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث رجلا ينادى في الناس يوم عاشورا ان من أكل فليتم او فليصم و من لم يأكل فلا يأكل فان اليوم يوم عاشورا- متفق عليه-

و قيل المراد بقوله تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ شهر رمضان و الاية غير منسوخة- قال الحافظ و الّذى يترجح من اقوال العلماء ان عاشورا لم يكن فرضا من اللّه تعالى قط بل كان النبي صلى اللّه عليه و سلم استحبه باجتهاده او كان يفعله و يأمر به على عادته- عن ابن عباس قال قدم النبي صلى اللّه عليه و سلم المدينة فراى اليهود يصوم يوم عاشورا- فقال ما هذا قالوا هذا يوم صالح نجى اللّه بنى إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال انا أحق بموسى منكم فصامه و امر بصيامه- متفق عليه و عن عائشة قالت كان يوم عاشورا يصومه قريش في الجاهلية و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه و امر بصيامه فلما فرض رمضان نزك يوم عاشورا- متفق عليه قال السيوطي رحمه اللّه اخرج احمد و ابو داود و الحاكم عن معاذ بن جبل يعنى وجوب عاشورا و ثلثة ايام من كل شهر لكن كان ذلك قبل نزول هذه الاية و انه نسخ بهذه الاية- فالمراد بايّام معدودات شهر رمضان لا غير و اللّه اعلم

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً خاف زيادة مرضه او امتداده و كذا من كان في معناه و هو ضعيف غلب على ظنه حدوث المرض بالصوم و حامل و مرضع خافتا على أنفسهما او على ولدهما- اعلم ان جواز الفطر للمريض مجمع عليه غير ان احمد قال لا يجوز له الفطر بالجماع و يجوز بالأكل و الشرب- و لو جامع المريض او المسافر فعليه الكفارة عنده الا ان أفطر بغير الجماع قبل الجماع- و ما قيدنا المريض بخوف زيادة المرض او الامتداد ايضا متفق عليه الا ما روى عن ابن سيرين انه قال- يبيح الفطر ادنى ما يطلق عليه اسم المرض للاطلاق في الاية- و قال الحسن و ابراهيم هو المرض الذي يجوز معه الصلاة قاعدا

او عَلى سَفَرٍ يعنى راكب سفر- و فيه ايماء على ان من سافر في أثناء اليوم لم يفطر و عليه انعقد الإجماع الا ما روى عن داود فانه قال يجوز في السفر القصير و الطويل- و اختلفوا على مقدار مسافة السفر المرخص للفطر و قصر الصلاة- فقال مالك و الشافعي و احمد ادنى مسافة السفر ستة عشر فرسخا اربعة برد بحديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يا اهل مكة لا تقصروا الصلاة في ادنى من اربعة برد من مكة الى غسفان رواه الدارقطني فيه إسماعيل بن عياش ضعيف و عبد الوهاب أشد ضعفا قال احمد و يحيى ليس عبد الوهاب بشى ء- و قال الثوري هو كذاب-

و قال النسائي متروك الحديث- و قال الأوزاعي- يقصر في مسيرة يوم و قال ابو حنيفة مسيرة ثلثة ايام و لياليها سير الإبل و مشى الاقدام- و قدر ابو يوسف بيومين و اكثر اليوم الثالث- احتج ابو حنيفة بحديث على بن ابى طالب انه سئل عن المسح على الخفين قال جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلثة ايام و لياليهن للمسافر و يوما و ليلة للمقيم- رواه مسلم الحديث صحيح و الاستدلال به ضعيف- و اطلاق الاية يدل على ان سفر المعصية ايضا يبيح الفطر و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه و قال مالك و الشافعي و احمد سفر المعصية لا يبيح مستدلا بقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ و الحق ان البغي و العدوان ليس في نفس السفر بل ملاصق به- و قد ذكرنا تفسير غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ و ان لا دلالة فيه على مرادهم

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعنى فكتب عليه او فالواجب عليه صيام عدة ايام مرضه و سفره من ايام اخر ان أفطر حذف الفعل او المبتدأ و المضاف و المضاف اليه و الشرط للعلم بها بدلالة المقام- و بإطلاق الاية تثبت ان التتابع ليس بشرط في القضاء و عليه انعقد الإجماع- و قال داود يجب التتابع- و يؤيد اطلاق الاية حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في قضاء رمضان قال- ان شاء فرق و ان شاء تابع- رواه الدارقطني متصلا و مرسلا و حديث محمد بن المنكدر قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سئل عن تقطيع قضاء شهر رمضان فقال ذلك إليك- الحديث رواه الدارقطني مرسلا و اسناده حسن و قد روى موصولا و لا تثبت و روى الدارقطني من حديث عبد اللّه بن عمرو في اسناده الواقدي و ابن لهيعة ضعيفان- و روى سعيد بن منصور عن انس نحوه

و اخرج البيهقي حديث ابى عبيد و معاذ بن جبل و انس و ابى هريرة و رافع بن خديج- و احتج داود بحديث ابى هريرة قال من كان عليه صوم رمضان فليسرده و لا يقطعه- رواه الدارقطني فيه عبد الرحمن بن ابراهيم بن العاص قال ابن معين ليس بشى ء- و قال الدارقطني ضعيف ليس بالقوى-

و اختلفوا في الحامل و المرضع إذا أفطر تاهل يجب عليهما الفدية مع القضاء أم لا مع اتفاقهم على ان المريض و المسافر لا يحب عليهما مع القضاء فدية فقال ابو حنيفة لا و هو رواية عن مالك- و في رواية عن مالك يجب على المرضع دون الحامل و قال احمد و هو الراجح من مذهب الشافعي انه يجب و لا سند يعتمد عليه لهذا القول و المروي عن ابن عمرو ابن عباس ان على الحامل و المرضع يجب الكفارة دون القضاء- و من اخّر قضاء رمضان من غير عذر حتى جاء رمضان اخر قال مالك و الشافعي و احمد وجبت عليه الفدية مع القضاء- و قال ابو حنيفة لا يجب عليه الا القضاء و لو ادّى بعد سنين لامتناع الزيادة على الكتاب من غير قاطع- و من اخر بعذر مرض او سفر حتى جاء رمضان اخر فعليه القضاء فقط بالإجماع-

و روى عبد الرزاق و ابن المنذر و غيرهما بطرق صحيحة- عن نافع عن ابن عمر قال من تابعه رمضانان و هو مريض لم يصح بينهما قضى الاخر منهما بصيام و قضى الاول منهما باطعام- قال الطحاوي تفرد بهذا القول ابن عمر قال الحافظ و عند عبد الرزاق عن ابن جريح عن يحيى ابن سعيد قال بلغني مثل ذلك عن عمر لكن المشهور عن عمر خلافه- احتجوا بحديث ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في رجل مرض في رمضان فافطر ثم صح فلم يصم حتى أدركه رمضان اخر يصوم الذي أدركه ثم يصوم الذي أفطر فيه و يطعم عن كل يوم مسكينا رواه الدارقطني و هذا الحديث لا يصح فيه ابراهيم بن نافع قال ابو حاتم كان يكذب و فيه عمر بن موسى كان يضع الحديث قال الحافظ لم يثبت فيه شى ء مرفوع انما ثبت فيه اثار الصحابة و سمى صاحب المهذّب منهم عليا و جابرا «١» و الحسين بن على و لم اطلع على سند صحيح عنهم غير ابى هريرة و ابن عباس- و لو كان الحديث المرفوع فيه صحيحا فحينئذ ايضا لم يجز به الزيادة على الكتاب لكونه من الآحاد-

(١) فى الأصل جابر-

وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يعنى الصوم فِدْيَةٌ

قال البغوي اختلف العلماء في تأويل هذه الاية و حكمها فذهب أكثرهم الى ان الاية منسوخة و هو قول ابن عمر و سلمة بن الأكوع و غيرهما- و ذلك انهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين ان يصوموا و بين ان يفطروا و يفتدوا خيرهم اللّه تعالى لئلا يشق عليهم فانهم لم يكونوا معتادين بالصوم ثم نسخ التخيير و نزلت العزيمة بقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ-

قلت و على هذا التقدير فالمريض و المسافر كانا حينئذ مخيرين في ثلثة امور الصوم و الفطر بنية القضاء و الفدية ثم إذا انسخت الفدية بقي لهما التخييريين الصوم و القضاء- و قال قتادة هى خاصة في الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم و لكن يشق عليه رخص له في ان يفطر و يفدى ثم نسخ بذلك

و قال الحسن هذا في المريض الذي يستطيع الصوم خير بين ان يصوم و بين ان يفطر و يفدى ثم نسخ بذلك و على هذه الأقوال كلها لم يثبت حكم الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم بنص القران و من ثم قال مالك و الشافعي في أحد قوليه ان الشيخ الفاني يجوز له الفطر للعجز حيث لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها و لا يجب عليه الفدية لان إيجاب الفدية لا بد له من دليل و المثل الغير المعقول لا يثبت بالرأى- و ذهب جماعة الى ان الاية غير منسوخة و معناه و على الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر الفدية بدل الصوم- و هذا التأويل لا يصاعده نظم الكلام- و قال الشيخ الاجل جلال الدين في تفسير الاية بتقدير لا يعنى و على الّذين لا يطيقونه فدية- كما في قوله تعالى يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا اى لان لا تضلّوا-

قلت و تقدير لا ايضا بعيد فانه ضد ما هو ظاهر العبارة حيث يجعل الإيجاب سلبا-

فان قيل مذهب ابى حنيفة و احمد و الأصح من مذهب الشافعي و به قال سعيد بن جبير ان الواجب على الشيخ الفاني الفدية مكان الصوم و مبنى هذه الأقوال ليس الا هذه الاية و لو لا ذلك التأويل الذي لم ترتض منه فبم تقول بوجوب الفدية على الشيخ الكبير و المريض الذي لا يرجى برؤه-

قلت و اللّه اعلم ان التأويل هو الاول و حاصله ان حكم الاية كان في ابتداء الإسلام التخيير بين الصوم و الفدية للذين يطيقون الصوم و للذين لا يطيقونه بدلالة النص بالطريق الاولى لانه سبحانه لما خير المطيقين فضلا و تيسيرا فغير المطيقين اولى بالتخيير و من ثم قلت ان المريض و المسافر كانا حينئذ مخيرين بين ثلثة امور- ثم لما نزل فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً «١» الاية نسخ حكم الفدية في حق الذين كانوا يطيقونه حالا و في حق الذين يطيقونه مالا و هم المرضى و المسافرين الذين يرجون القضاء بعد الشفاء و صار أداء الصوم او قضاؤه حتما في حقهم و بقي حكم من لا يطيقونه لا في الحال و لا في المال على ما كان عليه من جواز الفدية ثابتا بدلالة النص لعدم دخولهم في قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يعنى صحيحا مقيما

(١) فى الأصل و من كان منكم مريضا-

فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً يرجوا الشفاء او عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ و انما قيدنا المريض بقولنا يرجوا الشفاء بدلالة العقل- فان من لا يرجوا الشفاء تكليفه بالقضاء تكليف بما لا يطيق- و منسوخية الحكم الثابت بعبارة النص لا يستدعى منسوخية الحكم الثابت بالدلالة و اللّه اعلم

طَعامُ مِسْكِينٍ قرا نافع و ابن ذكوان فدية طعام مسكين بإضافته فدية و جمع المسكين بفتح النون- و هشام بتنوين فدية و رفع طعام على البدل و جمع مسكين و الباقون بتنوين فدية و رفع طعام و توحيد مسكين بكسر النون- و الفدية الجزاء و إضافته الى الطعام بيانية و هو نصف صاع من بر او صاع من شعير او تمر على قول ابى حنيفة قياسا على صدقة الفطر و قال الشافعي كل يوم مسكينا مدا من الطعام من غالب قوة البلد- و قال احمد نصف صاع من شعيرا و مد من بر و قال بعض الفقهاء ما كان المفطر يتقوّيه يومه الذي أفطره- و قال ابن عباس يعطى كل مسكين عشاءه و سحوره و سيجيئ عنقريب تحقيق طعام الفدية في تفسير قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً او بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ان شاء اللّه تعالى

فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فزاد في الفدية فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ من اصل الفدية

وَ أَنْ تَصُومُوا ايها المطيقون خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية- هذا صريح في ان المراد ب الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هم المطيقون لا غير المطيقين من الشيخ و المريض فان كون صومهم خيرا لهم ممنوع و هذه الاية تدل على ان المسافر إذا لم يكن له بالصوم ضرر بين فالافضل في حقه الصوم كذا قال الجمهور خلافا لاحمد و الأوزاعي و سعيد بن المسيب و الشعبي احتجوا بالأحاديث منها ما روى عن جابر بن عبد اللّه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في سفر فراى ازحاما و رجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا صائم- فقال ليس من البر الصوم في السفر- متفق عليه و عنه- انه صلى اللّه عليه و سلم خرج عام الفتح الى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس اليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك ان بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة أولئك العصاة- روا مسلم عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر- رواه ابن ماجة

قلنا هذه الأحاديث «١» في حق من يتضرر بالصوم غاية التضرر و لا شك ان الفطر فى حقه أفضل سواء كان مسافرا او مريضا- و كذا الفطر أفضل إذا اقترب الجهاد لحديث ابى سعيد انه صلى اللّه عليه و سلم قال انكم قد دنوتم من عدوكم و الفطر أقوى لكم-

قال و كانت رخصة فمنا من صام و منا من أفطر ثم نزلنا منزلا اخر فقال انكم تصبحون «٢» عدوكم و الفطر أقوى لكم فافطروا- فكانت عزيمة فافطرنا- رواه مسلم و أخرجه مالك في المؤطا عن بعض اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم-

و اخرج «٣» الشافعي عنه في المسند و ابو داود- و صححه الحاكم و ابن عبد البر و اما إذا لم يتضرر بالصوم فالصوم أفضل بهذه الاية و حديث ابى الدرداء انه كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في سفر قال و ان أحدنا نضع يده على رأسه من شدة الحر و ما منا صائم الا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عبد اللّه بن رواحة- متفق عليه-

قلت و ما ذكرنا من التفصيل انما هو في حق المسافر لان الرخصة له دائرة على نفس السفر سواء كانت له مشقة في الصوم

(١) فى الأصل هذا الأحاديث

(٢) فى الأصل تصبحوا

(٣) فى الأصل

و اخرج عنه الشافعي عنه-

اولا و اما الشيخ و المريض و الضعيف و الحامل و المرضع فالرخصة في حقهم دائرة على نفس المشقة و التضرر بالصوم فلو لا التضرر لا رخصة لهم و إذا تضرروا بالصوم و هو خوف زيادة المرض او حدوثه فحكمه حكم المتضرر بالسفر و اللّه اعلم

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) ما في الصوم من الفضيلة- و جواب «١» ان محذوف دل عليه ما قبله يعنى اخترتموه على الفطر و الفداء عند التخيير و اما بعد نسخ التخيير فمن أفطر في رمضان بلا عذر فان كان مستحلا يكفر و الا يفسق و يجب عليه القضاء لوجوب التدارك بقدر الإمكان و بدلالة ما ورد في المعذور بالطريق الاولى من قوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ و يجب عليه الاستغفار بالإجماع و قال النخعي لا يقضى صوم رمضان إذا أفطر من غير عذرا لا بألف عام- و قال على و ابن مسعود رضى اللّه عنهما لا يفيد صوم الدهر-

(١) فى الأصل و جواب لو

١٨٥

شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره ما بعده او خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك شهر رمضان او بدل من الصيام على حذف المضاف اى كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان و ذلك على تقدير كون هذه الاية متصلا في النزول بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ لا على تقدير كونه متراخيا عنه ناسخا لما سبق و الشهر مشتق من الشهرة و رمضان مصدر رمض إذا احترق فاضيف اليه الشهر و جعل علما و منع من الصرف للعلمية و الالف و النون- عن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما سمى رمضان لان رمضان يرمض الذنوب- رواه الاصبهانى في الترغيب

الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ سمى القران قرانا لانه تجمع السور و الاى و الحروف و جمع فيه القصص و الأمر و النهى و الوعد و الوعيد و اصل القران «٢» الجمع او هو مشتق من القراءة بمعنى المقر و- قرا ابن كثير القران و قرانا- و قرانه حيث وقع بحذف الهمزة بعد إلقاء الحركة على الراء و وافقه حمزة وقفا فقط- و الباقون بالهمزة

قال البغوي كان يقرا الشافعي غير مهموز و يقول ليس هو من القراءة و لكنه اسم لهذا الكتاب كالتورية و الإنجيل-

قال البغوي روى مقسم عن ابن عباس انه سئل عن قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ- و قوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ- و قوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ و قد نزل في سائر الشهور و قال اللّه تعالى قُرْآناً فَرَقْناهُ فقال- انزل القران جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان الى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نزل به جبرئيل عليه السلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نجوما في عشرين سنة فذلك قوله تعالى عز و جل بِمَواقِعِ النُّجُومِ- و قال داود بن ابى هند قلت الشعبي شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اما كان ينزل في سائر السنة قال بلى و لكن جبرئيل

(٢) فى الأصل و اصل القرا

كان يعارض النبي صلى اللّه عليه و سلم في رمضان و انزل عليه فيحكم اللّه ما يشاء و يثبت ما يشاء و ينسيه ما يشاء- و روى عن ابى ذر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال انزل صحف ابراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان- و يروى في أول ليلة من رمضان و أنزلت تورية موسى في ست ليال مضين من رمضان و انزل الإنجيل في ثلاث عشرة مضت من رمضان و انزل زبور داود في ثمان عشر ليلة من رمضان و انزل القران على محمد صلى اللّه عليه و سلم في الاربعة و عشرين لست بقين بعدها-

و اخرج احمد و الطبراني من حديث واثلة بن الأسقع نزلت صحف ابراهيم أول ليلة من رمضان و أنزلت التورية لست مضين و الإنجيل لثلاث عشرة و القران لاربع و عشرين- و اللّه اعلم و الموصول بصلته خبر لشهر رمضان على تقدير كونه مبتدأ و صفته على تقدير كونه خبرا او بدلا و يحتمل ان يكون صفة للمبتدأ و خبره فمن شهد و الفاء لوصف المبتدأ بما يتضمن معنى الشرط و على هذا التقدير معنى قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اى في شأنه القران و هو قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ حتى يتحقق كون الانزال سببا لاختصاصه بوجوب الصوم

هُدىً لِلنَّاسِ من الضلالة باعجازه

وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ اى دلالات واضحات مما يهدى الى الحق من الحلال و الحرام و الحدود و الاحكام و يفرق بين الحق الذي من اللّه و بين الباطل الذي من شياطين الجن و الانس حالان من القران

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يعنى أدرك الشهر صحيحا مقيما طاهرا من الحيض و النفاس- اما المريض و المسافر فخصا منه بالآية اللاحقة- و اما الحائض و النفساء فبالنقل المستفيض و عليه انعقد الإجماع- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في جواب قولها و ما نقصان دينها يا رسول اللّه أ ليس إذا حاضت لم تصل و لم تصم- متفق عليه ( (فائدة)) اجمعوا على ان الحائض يحرم عليها الصوم و لو صامت لم يصح و لزمها القضاء و اللّه اعلم

فَلْيَصُمْهُ البتة لا يكفيه الفدية كما كان في بدء الإسلام-

قال البغوي اختلف اهل العلم فيمن أدركه الشهر و هو مقيم ثم سافر روى عن على انه قال لا يجوز له الفطر و به قال عبيدة السلماني لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ اى الشهر كله- و ذهب اكثر الصحابة و الفقهاء الى انه إذا إنشاء السفر في شهر رمضان جاز له ان يفطر بعد ذلك اليوم-

قلت و عليه انعقد الإجماع- و معنى الاية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يعنى فليصم ما شهد منه ان شهد كله فكله و ان شهد بعضه فبعضه و يؤيد ذلك التأويل ما مر من حديث جابر و حديث ابن عباس قال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خرج الى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر و أفطر الناس معه و كانوا يأخذون بالأحدث فالاحدث من امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مسئلة و لو كان مقيما في أول النهار ثم سافر لا يجوز له الفطر من ذلك اليوم عند ابى حنيفة و مالك و الشافعي رحمهم اللّه لهذه الاية لانه شهد أول اليوم فليصمه و قال احمد و داود جاز له الفطر في ذلك اليوم ايضا- احتج ابن الجوزي بحديث ابن عباس المذكور حتى إذا بلغ كراع الغميم أفطر-

و حديث ابن عباس خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مسافرا في رمضان حتى اتى عسفان فدعى اناء من شراب نهارا ليرى الناس ثم أفطر حتى قدم-

قلنا لم يكن صلى اللّه عليه و سلم ذلك اليوم مقيما أول النهار فان كراع الغميم و عسفان لم يكونا في أول مرحلة من المدينة مسئلة و لو أصبح مسافر او مريض صائمين ثم أراد الفطر جاز عند احمد و كذا ذكر صاحب المنهاج مذهب الشافعي رحمه اللّه و قال ابن الهمام مذهب ابى حنيفة ان اباحة الفطر المسافر إذا لم ينو الصوم فاذا نواه ليلا و أصبح من غير ان ينقص عزيمته قبل الفجر أصبح صائما فلا يحل فطره في ذلك اليوم لكن لو أفطر فيه لا كفارة عليه كما في المسألة السابقة لمكان الشبهة- و حديث كراع الغميم حجة لاحمد و الشافعي في هذه المسألة كما لا يخفى

وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً او عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ اى فالواجب عليه عدة

مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ كرر ذلك الحكم ليدل على ان المنسوخ انما هو الفدية دون الفطر و القضاء للمعذور و لو لم يكن حكم الفدية منسوخا و كان المراد بقوله تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ هو شهر رمضان لا غير فحينئذ لم تكن لتكرار حكم المريض و المسافر فائدة- فائدة و يلحق بالمريض و المسافر في حق وجوب القضاء الحائض و النفساء بالإجماع و الأحاديث عن معاذة العدوبة انها قالت لعائشة ما بال الحائض تقضى الصوم و لا تقضى الصلاة قالت عائشة كان تصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم و لا نؤمر بقضاء الصلاة- رواه مسلم- مسئلة و بهذه الاية يثبت ان المسافر و المريض إذا صح و اقام فعليه قضاء الصيام عدد ما أدرك من الأيام صحيحا مقيما طاهرا بعد رمضان فمن فاته عشرة من صيام رمضان و أدرك بعد الصحة و الاقامة يومين من غير رمضان ثم مات يجب عليه قضاء يومين فحسب و اختلفوا في انه من أدرك عدة من ايام اخر و لم يقض حتى مات هل يجب على الوارث الفدية او القضاء فقال ابو حنيفة و مالك لا يجب على الوارث شى ء الا ان يوصى الميت بالفدية فيجب إنفاذ وصيته من الثلث لا فيما زاد على الثلث الا برضاء الورثة و كذا إذا كان عليه صوم نذر او كفارة-

و قال الشافعي في القديم صام عنه وليه سواء كان من رمضان او من نذر و في الجديد انه يطعم فيهما الولي القريب- و قال احمد في صوم رمضان يطعم و لا يصام و إذا كان عليه نذر صام عنه وليه- احتجوا على وجوب الصوم على الولي بحديث ابن عباس قال أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم امراة فقالت يا رسول اللّه ان أمي ماتت و عليها صوم شهر فاقضى عنها قال ارايت لو كان على أمك دين اما كنت تقضيه قالت بلى قال فدين اللّه عز و جل أحق- متفق عليه-

و عن عائشة- انها سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عمن مات و عليه صيام فقال يصوم عنه وليه- متفق عليه- و حديث بريدة عن أبيه ان امراة أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت «١» يا رسول اللّه أمي كان عليها صوم شهرا فتجزئها ان أصوم عنها قال نعم- رواه احمد- و حديث ابن عباس ان امراة ركبت البحر فنذرت ان اللّه عز و جل ان نجاها ان تصوم شهرا فانجاها اللّه فلم تصم حتى ماتت فجاءت «٢» قرابة لها فذكرت ذلك النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال صومى- و حديث ابن عباس ان سعد بن عبادة سال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن نذر كان على امه توفيت قبل ان تقضيه فقال اقضه عنها- فمن هذه الأحاديث ما هو صريح في النذر و ما هو مطلق فقال احمد بوجوب الصيام في النذر و يحمل ما ليس فيه ذكر النذر على صوم النذر-

قلت لا وجه للحمل على النذر مع اطلاق اللفظ بل الأحاديث المذكورة الصحيحة تدل على جواز صوم الولي عن الميت مطلقا سواء كان الصوم عن نذر او رمضان فلا بد من اتباعها «٣»- و ليس شى ء منها تدل على وجوب الصوم على الوارث فلا يكون حجة على ابى حنيفة كيف و قد قال اللّه تعالى

(١) فى الأصل فقال

(٢) فى الأصل فجاء

(٣) فى الأصل اتباعها-

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فكيف يعذب الوارث بترك الصوم عن الميت و احتجوا على وجوب الإطعام عن الميت بحديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال و من مات و عليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا- رواه الترمذي و قال لا نعرفه مرفوعا الا من هذا الوجه يعنى من طريق الأشعث بن سوار و هو ليس بشى ء و محمد بن عبد الرحمن بن ابى ليلى و هو ضعيف مضطرب الحديث- و الصحيح انه موقوف على ابن عمر- و وجه قول ابى حنيفة ان الطاعة لا يجرى فيها النيابة لان المقصود منه النية و الامتثال و هو مناط الثواب و العذاب و وجوب الصوم او المال على الوارث يمنعه قوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فلا يجب عليه شى ء غير انه إذا اوصى به المورث فانفاذ وصيته واجب بقوله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها او دَيْنٍ و المرجو من فضل اللّه سبحانه ان يقبل منه و اللّه اعلم-

قلت و التحقيق في المقام ان الوارث ان تطوع عن الميت بالصوم او الصدقة فالثابت بالأحاديث ان اللّه تعالى يقبله بفضله و يفك رقبة الميت و لكن ليس ذلك واجبا على الوارث لما ذكرنا و قد ورد في رواية البزار في حديث عائشة فليصم عنه وليه إنشاء- و هذا اظهر لكن الرواية ضعيفة لانها من طريق ابن لهيعة-

يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ بإباحة الفطر و القضاء في المرض و السفر

وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ قرا ابو جعفر العسر و اليسر و نحوهما بضم السين و الباقون بالسكون- و هذه الاية تدل على ان الفطر للمريض و المسافر رخصة لاجل اليسر و ليس هو العزيمة حتى لو صام المريض و المسافر صح اجماعا الا ما روى عن ابن عباس و ابى هريرة و عروة ابن الزبير و على بن الحسين رضى اللّه عنهم انهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر و من صام فعليه القضاء لظاهر قوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ حيث جعل اللّه تعالى الواجب صيام عدة من ايام اخر لا غير فمن صام في الحال فقد صام قبل وجوبه فلا يجوز-

قلنا سبب الوجوب الشهر و السفر مانع لوجوب الأداء لا لنفس الوجوب فمن صام فقد صام بعد نفس الوجوب فصح كمن ادى الزكوة قبل حولان الحول و يؤيد مذهب الجمهور حديث ابى سعيد غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لست عشر مضت من رمضان فمنا من صام و منا من أفطر فلم يعب الصائم الفطر و لا للفطر الصائم- رواه مسلم- فحديث جابر عند مسلم و حديث انس في المؤطا

وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ اى عدد شهر رمضان بقضاء ما أفطر منه عن ابن عمر رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال الشهر تسع و عشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال و لا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين- متفق عليه قرا ابو بكر بتشديد الميم و الباقون بالتخفيف و هو مع ما عطف عليه معطوف على اليسر اما لان اليسر علة معنى و تقديره شرعنا ذلك الاحكام يعنى اباحة الفطر للمريض و المسافر و وجوب القضاء بعدد ايام المرض من ايام اخر ليسهل عليكم الأمر و لتكملوا العدة- او بان يجعل اللام زائدة للتأكيد و تكملوا مع ان مقدرة معطوف على اليسر مفعول به ليريد تقديره يريد اللّه بكم اليسر و ان تكملوا و ان تكبروا و ان تشركوا- لو متعلق بفعل محذوف معطوف على يريد اللّه بكم اليسر في اباحة الفطر و يأمركم بالقضاء لتكملوا العدة

وَ لِتُكَبِّرُوا اللّه عَلى ما هَداكُمْ ما مصدرية او موصولة اى على إرشادكم او على الذي أرشدكم اليه مما تكسبوا به مرضات ربكم و فراغ ذمتكم و جزيل المثوبة- قال ابن عباس هو تكبيرات ليلة الفطر روى الشافعي عن ابن المسيب و عروة و ابى سلمة انهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بها- و قيل تكبيرات يوم الفطر قلت و يمكن ان يراد بالتكبير صلوة العيد او تكبيرات صلوة العيد فحينئذ تجب تكبيرات العيد و تجب الصلاة ايضا بالالتزام لان التكبير خارج الصلاة في يوم الفطر او ليلة الفطر لم يجب اجماعا فنحمله على تكبيرات الصلاة او على الصلاة تسمية الكل باسم الجزء كما في قوله تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ و اللّه اعلم- و لم يفترض صلوة العيد لمكان الاحتمال- و تايّد وجوب الصلاة بمواظبة النبي صلى اللّه عليه و سلم و اللّه اعلم

وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) و لكى تشكروا على وجوب الصوم فانه وسيلة لنيل الدرجات و على اباحة الفطر للمريض و المسافر فان فيه تخفيفا و رخصة معطوف على لتكبروا- فصل في فضائل شهر رمضان و صيامه- عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال- إذا دخل رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب و ينادى مناديا باغي الخيرا قبل و يا باغي الشرا قصر و للّه عتقاء من النار و ذلك فى كل ليلة- رواه الترمذي و ابن ماجة و احمد- و في الصحيحين نحوه اقصر منه- و عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه- متفق عليه- و عن سلمان رضى اللّه عنه قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في اخر يوم من شعبان فقال يا ايها الناس قد أظلكم شهر عظيم و في رواية اطلكم بالطاء المهملة بمعنى اشرف شهر مبارك شهر فيه ليلة القدر خير من الف شهر جعل اللّه صيامه فريضة و قيام ليلة تطوعا و من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن ادى فريضة فيما سواه و من ادى فيه فريضة كان كمن ادى سبعين فريضة فيما سواه- و هو شهر الصبر و الصبر ثوابه الجنة و شهر المواساة و شهر يزداد فيه الرزق من فطّر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه و عتق رقبته من النار و كان له مثل اجره من غير ان ينقص من اجره شى ء- قالوا يا رسول اللّه ليس كلنا يجد ما يفطّر به الصائم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعطى اللّه هذا الثواب لمن فطّر صائما على مذقة لبن او تمرة او شربة من ماء و من أشبع صائما سقاه اللّه عز و جل من حوضى شرية لا يظمأ حتى يدخل الجنة و هو شهر اوله رحمة و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار فاستكثروا فيه بأربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم و خصلتين لا غنى بكم عنهما اما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة ان لا اللّه الا اللّه و تستغفرونه و اما اللتان لاغنى بكم عنهما فتسئلون الجنة و تعوذون به من النار- رواه البغوي

و روى البيهقي في شعب الايمان الى قوله عتق من النار و فيه و من خفف عن مملوكة غفر اللّه له و اعتقه من النار- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل عمل ابن آدم تضاعف الحسنات بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف قال اللّه تعالى الا الصوم فانه لى و انا اجزى به- يدع طعامه و شرابه و شهوته من اجلى للصائم فرحتان فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه- و لخلوف فم الصائم أطيب عند اللّه من ريح المسك الصوم جنة الصوم جنة- فاذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث و لا يصخب فان سابّه أحدا و قاتله فليقل انى امرا صائم- متفق عليه و عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الصيام و القران يشفعان العبد تقول الصيام رب انى منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفّعنى فيه و يقول القران رب انى منعته النوم بالليل فشفّعنى فيه فيشفعان- رواه البيهقي في شعب الايمان- و عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال يغفر لامته في اخر ليلة من رمضان قيل يا رسول اللّه أ هي ليلة القدر قال لا و لكن العامل انما يوفى اجره إذا قضى عمله «١»- رواه احمد و اللّه اعلم-

(١) اخرج الطبراني في الأوسط عن عمر بن الخطاب سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ذاكر اللّه في رمضان مغفور له و سائل اللّه لا يخيب-

اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن مردوية و ابو الشيخ و غيره من طرق عن جرير بن عبد الحميد عن عبد السجستاني عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن جبيرة عن أبيه عن جده ان اعرابيّا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال أ قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فسكت عنه فانزل اللّه تعالى.

١٨٦

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يعنى فقل لهم انى قريب-

و اخرج عبد الرزاق عن الحسن سال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم النبي صلى اللّه عليه و سلم ابن ربنا فانزل اللّه- و هذا مرسل قلت و لعل السائل هو الاعرابى-

و اخرج ابن عساكر عن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تعجزوا عن الدعاء فان اللّه انزل علىّ

ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا لا نعلم اى ساعة ندعوا فنزلت الى قوله يرشدون-

قال البغوي روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال قال يهود المدينة يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا و أنت تزعم ان بيننا و بين السماء مسيرة خمسمائة عام و ان غلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الاية قلت و الظاهر ان تشريف السائل بالاضافة الى نفسه في قوله تعالى وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي يأبى ان يكون السائل يهوديا متعنتا في السؤال و اللّه اعلم

و نزول هذه الاية في جواب السائل أ قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ارشاد على الذكر الخفي دون الجهر كما لا يخفى- و عن ابى موسى الأشعري قال لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى خيبر اشرف الناس على و ادفر فعوا أصواتهم بالتكبير لا اللّه الا اللّه و اللّه اكبر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون أصم و لا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا و هو معكم- رواه البخاري- قال المفسرون معناه انى قريب منهم بالعلم لا يخفى علىّ شى ء-

قال البيضاوي هو تمثيل لكمال علمه بافعال العباد و أقوالهم و اطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم-

قلت و هذا التأويل منهم مبنى على ان القرب عندهم منحصر في القرب المكاني و اللّه تعالى منزه عن المكان و مماثلة المكانيات و الحق انه سبحانه قريب من الممكنات قربا لا يدرك بالعقل بل بالوحى او الفراسة الصحيحة و ليس من جنس القرب المكاني و لا يتصور شرحه بالتمثيل إذ ليس كمثله شى ء و اقرب التمثيلات ان يقال قربه الى الممكنات كقرب الشعلة الجوالة بالدائرة الموهومة فان الشعلة ليست داخلة في الدائرة للبون البعيد بين الموجود الحقيقي و الموجود فى الوهم و ليست خارجة عنها و لا عينها و لا غيرها و هو اقرب الى الدّائرة من نفسها حيث ارتسمت الدائرة بها و لا وجود لها في الخارج بل في الوهم بوجود تلك النقطة في الخارج و اللّه اعلم

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ قرا اهل المدينة غير قالون و ابو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل و الباقون بحذفهما وصلا و وقفا و كذا اختلف القراء في اثبات الباءات المحذوفة من الخط و حذفها في التلاوة و يثبت يعقوب جميعا وصلا و وقفا و اتفقوا على اثبات ما هو مثبت في الخط وصلا و وقفا

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي اى ليطلبوا منى اجابة دعواتهم- و انما عدى باللام لان طلب الحاجة و الدعاء عبادة من العبد للّه تعالى- و قيل الاستجابة بمعنى الاجابة اى فليجيبوا لى بالطاعة إذا دعوتهم للايمان و العبادة كما أجيبهم إذا دعونى لحوائجهم و الاجابة في اللغة إعطاء ما سئل فهو من اللّه تعالى العطاء و من العبد الطاعة

وَ لْيُؤْمِنُوا بِي قرا بفتح الياء ورش و الباقون بالإسكان- امر بالثبات و المداومة على الايمان إذ اصل الايمان ثابت في المؤمنين- و الاولى ان يحمل على انه طلب الايمان الحقيقي المترتب على فناء النفس بعد الايمان المجازى فان التنصيص اولى من التأكيد

لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) راجين إصابة الرشد او لكى يرشدوا و يهتدوا- و الرشد ضد الغى و هو النيل الى المقصود و الوصل العريان ان شاء اللّه تعالى-

فان قيل أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ و ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وعد بالاجابة لا يجوز خلفه و قد يدعوا العبد كثيرا و لا يجاب

قال البغوي في الجواب اختلفوا في معنى الآيتين قيل معنى الدعاء هاهنا الطاعة و معنى الاجابة الثواب فلا إيراد-

و قيل معنى الآيتين خاص و ان كان لفظهما عاما تقديرهما أجيب دعوة الداعي ان شئت نظيره قوله تعالى فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ فحينئذ المقصود من الاية رد قول الكفار الذين زعموا ان اللّه لا يسمع دعاءنا و انه غائب- او تقديرهما أجيب ان كانت الاجابة خيرا له- عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يستجيب اللّه لاحدكم ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم او يستعجل- قالوا و ما الاستعجال يا رسول اللّه قال يقول قد دعوتك يا رب قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لى فيخسر عن ذلك فيدع الدعاء- رواه مسلم او تقديره أجيبه ان لم يسئل محالا-

و قيل هو عام لكن معنى قوله أجيب انى اسمع و ليس في الاية اكثر من اجابة الدعوة فاما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها-

و قيل معنى الاية انه يجيب دعاءه فان قدر له ما سال أعطاه و ان لم يقدر له ادخر ثوابه في الاخرة او كف عنه سوءا عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما على الأرض رجل مسلم يدعوا اللّه بدعوة الا أتاه اللّه إياه او كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم- رواه البغوي-

و روى احمد عن ابى هريرة عنه صلى اللّه عليه و سلم ما من مسلم ينصب وجهه للّه تعالى في مسئلة الا أعطاها إياه اما ان يعجلها له و اما ان يدخرها له-

و روى الترمذي عن جابر مرفوعا مثله بلفظ الا أتاه اللّه ما سال او كف من السوء مثله ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم-

و قيل ان اللّه يجيب دعوة المؤمن في الوقت و يؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته و يعجل إعطاء من لا يحبه لانه يبغض صوته

و قيل ان للدعاء آدابا و شرائط و هى اسباب الاجابة فمن استكملها كان من اهل الاجابة و من اخلّ بها كان من اهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الاجابة- و قد مر حديث ابى هريرة انه صلى اللّه عليه و سلم ذكر الرجل يطيل السفر يمد يده الى السماء يا رب اشعث اغبر مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذى بالحرام فانى يستجاب لذلك رواه مسلم و التحقيق في الباب عندى ان ما ذكرنا من الأقوال كلها صحيحة و انه ليس كل دعاء مستجاب و مدلول الاية ان مقتضى الدعاء الاجابة فانه تعالى جواد كريم قادر على كل شى ء و من كان هذا صفته لا يمنع مسئوله عقلا و نقلا روى الترمذي و ابو داود عن سلمان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان ربكم حى كريم- يستحيى من عبده إذا رفع يديه ان يردهما صفرا- و انما يظهر تخلف الاستجابة عن الدعاء او تاخره عنه اما لحكمة او لمانع من الاستجابة او فقد شرط عقوبة للداعى و اللّه اعلم-.

١٨٧

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الرفث كناية عن الجماع-

قال الزجاج الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء- و عدى بالى لتضمنه معنى الإفضاء روى احمد- و ابو داود- و الحاكم من طريق عبد الرحمن بن ابى ليلى عن معاذ بن جبل قال كانوا يأكلون و يشربون و يأتون النساء ما لم يناموا فاذا ناموا امتنعوا ثم ان رجلا من الأنصار يقال له صرمة صلى العشاء ثم نام فلم يأكل و لم يشرب حتى أصبح فاصبح مجهودا و كان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فذكر ذلك فانزل اللّه تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الى قوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ- الحديث مشهور عن ابن ابى ليلى و هو لم يسمع من معاذ و له شواهد-

اخرج البخاري عن البراء قال كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل ان يفطر لم يأكل ليلته و لا يومه حتى يمسى و ان قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار اتى امرأته فقال عندك طعام فقالت لا و لكن انطلق فاطلب لك و كان يومه يعمل فغلبته عينه و جاءت امرأته فلما رات قالت خيبة- فلما انتصف النهار غشى عليه فذكر ذلك للنبى صلى اللّه عليه و سلم فنزلت هذه الاية-

و اخرج البخاري عن البراء قال لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فانزل اللّه «١» عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ-

(١) فى الأصل علم انكم

و اخرج احمد و ابن جرير و ابن ابى حاتم من طريق عبد اللّه بن كعب عن أبيه قال كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فامسى فنام حرم عليه الطعام و الشراب و النساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر من عند النبي صلى اللّه عليه و سلم و قد سمر عنده و أراد من امرأته فقالت انى قد نمت قال ما نمت و وقع عليها- و صنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبره فنزلت و

قال البغوي كان في ابتداء الأمر إذا صلى العشاء او رقد قبلها حرم عليها الطعام و الشراب و الجماع الى القابلة و ان عمر بن الخطاب واقع اهله بعد العشاء فاعتذر الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل

هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ استيناف بيان لسبب التحليل و هو قلة الصبر عنهن و صعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة و شدة الملابسة- و لما كان الرجل و المرأة يعتنقان و يشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس- او لان اللباس كما يستر صاحبه كذلك يكون كل واحد منهما لصاحبه ستراعما لا يحل- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تزوج فقد احرز ثلثى دينه

عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ اى تخونونها و تظلمونها بالمجامعة بعد العشاء او بعد النوم بتعريضها للعقاب و تنقيص حظها من الثواب- و الاختيان ابلغ من الخيانة

فَتابَ عَلَيْكُمْ لما تبتم وَ عَفا عَنْكُمْ محا ذنوبكم

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ جامعوهن حلالا كنى بالمباشرة عن الجماع

وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ من الولد تدل الاية على انه ان جامع رجل امرأته ينبغى ان يريد به الولد دون قضاء الشهوة فحسب حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تزوجوا الودود الولود فانى مكاثر بكم الأمم رواه ابو داود و النسائي عن معقل بن يسار- و على ان العزل مكروه و على ان اباحة الجماع مقتصر على محل الولد-

قال البغوي قال معاذ بن جبل ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ يعنى ليلة القدر قلت و هذا بعيد من السياق

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ يعنى بياض النهار من سواد الليل- سميا خيطين لان كل واحد منهما إذا بدا في الابتداء امتد جنوبا و شمالا كالخيط- و قوله من الفجر حال من الخيط الأبيض بيان له- و لم يبين الخيط الأسود لظهوره بظهور الخيط الأبيض- و من للبيان او للتبعيض اى كائنا الفجر او كائنا بعض الفجر- و لم يقل حتى يتبين لكم الفجر دلالة على حرمة الاكل عند ظهور خيطه يعنى أول جزء منه- و لم يقل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر بلا ذكر الخيط الأسود ليدل على ان المراد بالفجر هو الفجر الصادق لانه خيط ابيض معترض جنوبا و شمالا يلاصقه خيط اسود معترض في الجانب الغربي هو طرف لسواد الليل بخلاف الفجر الكاذب فانه خيط ابيض مستطيل شرقا و غربا يحيط به السواد من الجوانب كلها و يحتمل ان يكون قوله من الفجر بيانا لمجموع الخيطين فان في الفجر سوادا و بياضا و هذا اولى حيث لا يلزم حينئذ الفصل بين الحال و صاحبه بالاجنبى و اللّه اعلم- عن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال و لا الفجر المستطيل و لكن الفجر المستطير في الأفق- رواه الترمذي و عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان بلالا ينادى بليل فكلوا و اشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم و كان ابن أم مكتوم «١» رجلا أعمى لا ينادى حتى يقال له أصبحت أصبحت-

فان قيل قد صح عن على رضى اللّه عنه انه صلى الصبح ثم قال الان يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود- رواه ابن المنذر بإسناد صحيح و كذا روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابى بكر الصديق انه قال لو لا الشهوة لصليت الغداة ثم لتسحرت- و روى ابن المنذر و ابن ابى شيبة من طريق عن ابى بكر انه امر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر- فهذه الآثار تدل على جواز الاكل بعد انتشار الصبح فما وجه هذه الأقوال-

قلت و اللّه اعلم لعل وجه هذه الأقوال ان أبا بكر و «٢» عليّا رضى اللّه عنهما زعما ان من للسببية و الخيط في معناه الحقيقي-

(١) فى اصل حتى ينادى ابن أم مكتوم رجلا أعمى

(٢) فى الأصل و علىّ- [.....]

لكن ثبت بالسنة ان من للبيان و المراد بالخيط الأبيض هو الصبح و على ذلك انعقد الإجماع عن عدى بن حاتم قال لما نزلت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت الى عقال اسود و الى عقال ابيض فجعلتهما تحت و سادتى فجعلت انظر في الليل فلا يستبين لى فغدوت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال انما ذلك سواد الليل و بياض النهار- متفق عليه و في رواية- انك لعريض القفا انما ذلك بياض النهار و سواد الليل- و عن سهل بن سعد قال أنزلت كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ و لم ينزل قوله من الفجر و كان الرجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض و الخيط الأسود و لا يزال يأكل حتى يتبين له رويتهما فانزل اللّه تعالى بعد قوله من الفجر فعلموا انه يعنى بهما الليل و النهار متفق عليه-

فان قيل حديث سهل بن سعد يدل على ان نزول قوله تعالى من الفجر كان متاخر او متراخيا عما سبق و يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة و ذلك غير جائز قلت استعمال الخيط الأبيض و الأسود في سواد الليل و بياض النهار كان مشتهرا ظاهر الدلالة غير واجب البيان و ان خفى على البعض لقلة تدبرهم فهو من باب المشكل الذي خفى مراده من جهة الصيغة باستعمال تجوز او غير ذلك بحيث يدرك المراد بالتأمل و الطلب

و نزول قوله تعالى من الفجر انما هو للاحتياط و حفظ القاصرين و إغناء السامعين عن الطلب و التأمل و لم يكن من باب المجمل الذي لا يتصور درك مرامه الا من جهة الشارع فلا محذور فى تراخى نزوله- و لو سلمنا انه من باب المجمل فلعل بيانه صدر من الشارع في الوحى الغير المتلو و ثبت بالسنة كما يدل عليه حديث عدى بن حاتم ثم نزل قوله من الفجر لتأئيد ما ثبت بالسنة و تأكيده-

و قال الطحاوي انه من باب النسخ و ان الحكم كان على ظاهر المفهوم من الخيطين و يؤيد قول الطحاوي حديث حذيفة تسحرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو و اللّه النهار غير ان الشمس لم تطلع رواه سعيد بن منصور و كذا عند الطحاوي- فلعل تسحر حذيفة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان قبل نزول قوله تعالى- من الفجر-

فان قيل قوله من الفجر غير مستقل و الناسخ انما يكون كلاما مستقلا فكيف يتصور كونه ناسخا- و على تقدير كونه متراخيا لا يتصور كونه من باب القصر لغير المستقل لان من ضروراته الاتصال فكيف التوجيه-

قلت التوجيه عندى انه نزل اولا تمام الاية من غير تقييد بقوله من الفجر ثم بعد مدة نزل الاية مرة ثانية مع قوله تعالى من الفجر فنسخت الاية الاولى حكما و تلاوة و اللّه اعلم (فائدة) حديث عدى بن حاتم انما كان بعد نزول قوله تعالى من الفجر- البتة لان إسلامه في السنة التاسع و كان نزول اية الصيام في السنة الثانية و نزول قوله تعالى من الفجر بعد ذلك بيسير بسنة او نحوه فما كان من عدى بن حاتم جعل الخيطين تحت و سادثه لم يكن الا زعما منه ان من للسببية و اللّه اعلم

(فائدة) و في تجويز المباشرة الى الفجر دليل على جواز تأخير الغسل للمجنّب الى ما بعد الصبح و صح صوم من أصبح جنبا بالإجماع

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ بيان لاخر وقته عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا اقبل الليل من هاهنا و أدبر النهار من هاهنا و غربت الشمس فقد أفطر الصائم- رواه البخاري فبهذه الاية ظهر حقيقة الصوم انه الإمساك من المفطرات الثلث من الصبح المعترض الى غروب الشمس مع النية- و وجوب النية مستفاد من قوله تعالى ثم أتموا فان الإتمام فعل اختياري او لانه عبادة فلا بد له من النية لقوله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ- و قوله صلى اللّه عليه و سلم انما الأعمال بالنيات و انما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى اللّه و رسوله فهجرته الى اللّه و رسوله و من كانت هجرته الى الدنيا نصيبها او امراة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه- أخرجه الجماعة كلهم غير مالك في المؤطا الا ان مالكا

روى عنه البخاري و الحديث متواتر بالمعنى و لفظه تواتر عن يحيى بن سعيد انفرد هو عن محمد بن ابراهيم و هو عن علقمة ابن وقاص و هو عن عمرو قد تلقته «١» الامة بالقبول و اجمعوا على ان كل عبادة مقصودة لا يصح الا بالنية و كان القياس ان يشترط اقتران النية بتمام العبادة لكن سقط ذلك للزوم الحرج فاشترط في الصلاة اقترانها بجزئها الاول اعنى التحريمة حتى تعتبر باقيه حكما مع جميع اجزائها-

(١) فى الأصل تلقت

و لم يشترط ذلك في الصوم اجماعا لان الجزء الاول من الصوم حين طلوع الفجر او ان غفلة غالبا فجوزوا الصوم بنية سبقت من شروعه و تعتبر باقية اجماعا ما لم يرفض- و اختلفوا في انه هل يجوز الصوم بنية بعد طلوع الفجر أم لا- فقال ابو حنيفة يصح أداء صوم رمضان و النذر المعين و النفل بنية قبل نصف النهار الشرعي و قال الشافعي و احمد يصح النفل بنية قبل الزوال لا غير و قال مالك لا يصح شى ء من الصيام بنية من النهار و هو القياس- و يؤيده حديث حفصة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له- رواه احمد و ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن خزيمة في صحيحه و ابن ماجة و الدارقطني و الدارمي- و في رواية فلا يصوم و في رواية لا صيام لمن لم يفرضه من الليل و في رواية من لم يثبت الصيام قبل الفجر فلا صيام له-

فان قيل قال ابو داود لا يصح رفعه- و قال الترمذي الموقوف أصح-

قلنا رفعه ابن جريح و عبد اللّه بن ابى بكر كلاهما عن الزهري عن سالم عن أبيه عنها-

و ابن جريح و عبد اللّه بن ابى بكر من الثقات و الرفع زيادة و الزيادة من الثقة مقبولة و من عادة المحدثين الوقوف عند الموقوف و المرسل- و كون الموقوف أصح لا ينافي صحة المرفوع- و قال الحاكم في المرفوع انه صحيح على شرط الشيخين- و قال في المستدرك صحيح على شرط البخاري-

و قال البيهقي و الدارقطني رواته كلهم ثقات- و في الباب حديث عائشة من لم يثبت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له- رواه الدارقطني و قال رجاله ثقات- لكن فيه عبد اللّه بن عباد ذكره ابن حبان في الضعفاء و فيه يحيى بن أيوب ليس بالقوى- و حديث ميمونة بنت سعد مرفوعا من اجمع الصوم من الليل فليصم و من أصبح فلم يجمعه فلا يصم- رواه الدارقطني و فيه الواقدي ليس بشى ء- و احتجوا على جواز النقل بنية من النهار بحديث عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا دخل علىّ قال هل عندكم طعام فاذا

قلنا الا قال انى صائم فدخل علىّ يوما فقلت يا رسول اللّه اهدى لنا حيس فقال ادنيه و لقد أصبحت صائما-

و في رواية لمسلم قال هل عندكم شى ء قلت ما عندنا شى ء قال فالى صائم فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاهديت لنا هدية فلما رجع قالت أهديت لنا هدية قال ما هو قلت حبس قال هاتيه فجئت به فاكل ثم قال قد كنت أصبحت صائما- و أجيب بانه لا يدل هذا الحديث على ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نوى الصوم من النهار بعد ما لم يكن ناويا للصوم من الليل بل الظاهر انه كان يصبح صائما ناويا للصوم من الليل ثم يأتى اهله فقد يفطر الصوم النافلة- و يدل عليه قوله قد كنت أصبحت صائما-

وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ- العكوف هو الاقامة على الشي ء و الاعتكاف في الشرع هو الاقامة في المسجد على عبادة اللّه تعالى مع النية-

قال البغوي الاية نزلت في نفر من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانوا يعتكفون في المسجد فاذا عرضت لرجل منهم الحاجة الى اهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل فرجع الى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا و نهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم فالجماع يفسد به الاعتكاف و يحرم فيه اجماعا غيران الشافعي يقول بالوطى ناسيا لا يفسد الاعتكاف قياسا على الصوم

قلنا ان حالة الاعتكاف مذكرة بخلاف الصوم و عن الحسن البصري و الزهري من باشر اهله معتكفا فعليه كفارة اليمين و الإجماع على انه لا كفارة عليه- و لو قبّل او لمس بشهوة فانزل يبطل الاعتكاف بالإجماع و ان لم ينزل يحرم اجماعا و لا يبطل الاعتكاف الا عند مالك- و اما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا بأس به-

عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا اعتكف ادنى الىّ رأسه فارجّله- متفق عليه- و كان لا يدخل البيت الا لحاجة الإنسان- رواه مسلم- و قوله تعالى وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ يدل على ان الاعتكاف لا يكون الا في المسجد و هو مسجد الجماعة دون مسجد البيت- و إطلاقه يدل على انه يجوز الاعتكاف في كل مسجد و لا يختص بالمسجد الحرام او مسجد النبي صلى اللّه عليه و سلم- او المساجد الثلاثة يعنى المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجد النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا بمسجد الجمعة-

و روى عن حذيفة الاختصاص بالمساجد الثلاثة و عن عطاء بمسجد مكة و عن ابن المسيب بمسجد المدينة و عند مالك يختص بمسجد الجمعة و أوى اليه الشافعي في القديم- قال ابن عباس ابغض الأمور البدع و ان من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور- أخرجه البيهقي- و عن على قال لا اعتكاف الا في مسجد جماعة- رواه ابن ابى شيبة و عبد الرزاق في مصنفهما- و عن حذيفة قال اما انا قد علمت انه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة- رواه الطبراني-

و روى ابن الجوزي عن حذيفة مرفوعا قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال كل مسجد له مؤذن و امام فالاعتكاف فيه يصلح قال ابن الجوزي هذا في نهاية الضعف- و عن عائشة قالت السنة على المعتكف ان لا يعود مريضا و لا يشهد جنازة و لا يمس امراة و لا يباشرها و لا يخرج لحاجة الا ما لا بد منه و لا اعتكاف الا بصوم و لا اعتكاف الا في مسجد جامع رواه ابو داود و في رواية لا اعتكاف الا في مسجد جماعة

(مسئلة) الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سنة مؤكدة لحديث عائشة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى يتوفاه اللّه عز و جل ثم اعتكفه أزواجه من بعده- متفق عليه و حديث ابن عمر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان- يتفق عليه و عن انس قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاما فلما كان العام المقبل اعتكف العشرين- رواه للترمذى و رواه ابو داود و ابن ماجة عن ابى بن كعب-

قلت لكن تركه اكثر الصحابة قال ابن نافع انه كان كالوصال و أراهم تركوه لشدته و لم يبلغنى عن أحد من السلف انه اعتكف الا عن ابى بكر بن عبد الرحمن- و قال الحافظ قد حكيناه عن غير واحد من الصحابة-

قلت و من أجل تركه من اكثر الصحابة قال بعض الحنفية انه سنة على الكفاية و اللّه اعلم

تِلْكَ الاحكام التي ذكرت من حرمة الاكل و الشرب و الجماع في الصوم و حرمة المباشرة فى الاعتكاف

حُدُودُ اللّه اى ما منع اللّه عنها و اصل الحد المنع

فَلا تَقْرَبُوها نهى عن اقترابها فضلا ان يتخطى عنها مبالغة في المنع و قد مرّ في أوائل السورة قوله صلى اللّه عليه و سلم الحلال بين و الحرام بين و بينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى اللّه في ارضه محارمه- متفق عليه و لاجل حرمة الاقتراب بالمحرم الحق الائمة دواعى الجماع من اللمس بشهوة و نحوها بالجماع فقالوا بحرمتها في الصوم و الاعتكاف و ان انزل باللمس او القبلة فسد الصوم و الاعتكاف و اللّه اعلم-

كَذلِكَ اى كما بينا تلك الاحكام يُبَيِّنُ اللّه سائر

آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) اى لكى يتقوا مخالفة الأوامر و النواهي- فيتقون من النار.

١٨٨

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ كالدعوى الزور و الشهادة بالزور او الحلف بعد إنكار الحق او الغصب و النهب و السرقة و الخيانة او القمار و اجرة المغني و مهر البغي و حلوان الكاهن و عسب التيس و العقود الفاسدة او الرشوة و غير ذلك من الوجوه الّتى لا يبيحه الشرع- و بين منصوب على الظرف او الحال من الأموال و الاية بنزلت في امر القيس بن عابس الكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أرضا انه غلبنى عليها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للحضرمى أ لك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق يحلف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- اما ان حلف على ماله ليأكل ظلما ليلقين اللّه و هو عنه معرض- كذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير

وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على المنهي- او نصب بإضمار أن اى و لا تلقوا حكومتها الى الحكام- قال مجاهد يعنى لا تخاصم و أنت ظالم و قال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال و ليس عليه بينة فيجحد المال و يخاصم به الى الحاكم ليحلف كاذبا- و قال الكلبي هو ان يقيم الشهادة الزور-

قلت و اللفظ يعم ذلك كله

لِتَأْكُلُوا بالتحاكم فَرِيقاً طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ اى بما يوجب الإثم كالشهادة الزور و اليمين الكاذبة او متلبسين «١» بالإثم

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) انكم مبطلون بخلاف الحكام فانهم لا يعلمون بحقيقة الحال

(١) فى الأصل متلبسين

و انما يحكمون بالظاهر فالحاكم ان حكم على حسب الشرع من غير ميل الى أحدهما فهو مأجور و ان كان المحكوم له اثما و بهذا يظهران قضاء القاضي لا يحل حراما عن أم سلمة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال انما انا بشر و أنتم تختصمون الىّ و لعل بعضكم ان يكون الحسن بحجته من بعض فاقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشى ء من حق أخيه فلا يأخذنه فانما اقطع له قطعة من النار- رواه الشافعي عن مالك و في الصحيحين نحوه و قال ابو حنيفة رحمه اللّه فى حرمة المال على المبطل بنحو ما قالوا غير انه يقول- قضاء القاضي في العقود و الفسوخ ينفذ ظاهرا و باطنا خلافا للجمهور احتج ابو حنيفة بما روى ان شاهدين شهدا عند على عليه السلام على امراة بالنكاح فقضى به فقالت المرأة انه لم يكن بيننا نكاح فان كان و لا بد فزوجنى منه فقال على - شاهداك زوجاك- و اللّه اعلم.

١٨٩

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ نزلت في معاذ بن جبل و ثعلبة بن غنم الانصاريين قالا يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلى نورا ثم يعود دقيقا كما بدا لا يكون على حال واحد- كذا ذكر البغوي- و أخرجه ابو نعيم و ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق السدى الصغير عن ابن عباس-

و اخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عنه قال سال الناس عن الاهلة فنزلت-

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابى العالية قال- بلغنا انهم قالوا يا رسول اللّه لم خلقت الاهلة فنزلت

قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ- ان كان السؤال عن الحكمة في اختلاف حال القمر و تبدل امره فقد طابق الجواب السؤال حيث امر اللّه سبحانه بان يجيب بان الحكمة الظاهرة في ذلك ان يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم و معالم للعبادات الموقتة كالحج و الصوم و غير ذلك يعرف بها أوقاتها- و ان كان السؤال عن علة تبدل احوال القمر و هو الظاهر فهو جواب على اسلوب الحكيم تنبيها بان اللائق بحال السائل ان يسئل بالفائدة دون العلة إذ لا فائدة في ذلك السّؤال إذ حينئذ يلزمه الاشتغال بما لا يعنيه و هذا يدل على ان الاشتغال بالعلوم الغريبة كالهيئة و النجوم و غير ذلك مما ليس فيه فائدة دينية معتدة بها لا يجوز و المواقيت جمع ميقات اسم فمعز الدولة من الوقت و المراد به ما يعرف به اوقات الحج و الصوم و آجال الديون و انقضاء العدة و غير ذلك-

وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ قرا ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي البيوت «١» و العيون و الشيوخ و ابن عامر و حمزة و الكسائي جيوبهن و حمزة و ابو بكر الغيوب بكسر اوائلهن لمكان الياء و الباقون بالضم على الأصل

(١) البيوت قراء قالون و ابن كثير و ابن عامر ابو بكر و حمزة و الكسائي و خلف و العيون و الشيوخ قراهما ابن كثير و ابن ذكوان و ابو بكر و حمزة و الكسائي جيوبهن قراه ابن كثير و ابن ذكوان و حمزة و الكسائي الغيوب إلخ-

مِنْ ظُهُورِها روى البخاري عن البراء قال كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فانزل اللّه الاية-

و اخرج ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه عن جابر قال كانت قريش تدعى الحمس و كانوا يدخلون من الأبواب فى الإحرام و كانت الأنصار و سائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في بستان إذ خرج من بابه و خرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا يا رسول اللّه ان قطبة رجل فاجر و انه خرج معك من الباب فقال ما حملك على ما فعلت.

قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال انى رجل احمسى قال فان دينى دينك فانزل اللّه-

و اخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه-

و اخرج عبد بن حميد عن قيس بن جبير نحوه و لكن فيه رفاعة بن نابوت مكان قطبة بن عامر-

و ذكر البغوي انه دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل رفاعة على اثره من الباب الحديث- و قال الزهري كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم و بين السماء شى ء و كان الرجل يخرج مهلّا بالعمرة فيبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع و لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته حتى بلغ ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل على اثره من الأنصار من بنى سلمة الحديث- و وجه العطف و عدم الفصل اما انهم سالوا الامرين معا في حادثة واحدة- او انه لما سالوه عما لا يعنونه و لا يتعلق بعلم النبوة و تركوا السؤال عما يعنونه و يختص بعلم النبوة عقب بذكره كانّه قال اللائق ان يسئلوا أمثال ذلك- و يمكن ان يقال السؤال عن حقائق الممكنات على وجه لا يفيد يشبه دخول البيت من ظهرها فان الخوض في العلوم بمنزلة الدخول في البيت فكما ان الموضوع لاجل الدخول في البيت انما هو الباب ليستمتع بمنافع البيت كذلك الموضوع للخوض و التفكر في الحقائق وجوه منافعها و الاستدلال على صانعها دون افعال النفس فيما لا يجد به من مسائل الهيئة

وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى قد مرّ وجه الحمل و اختلاف القراء فيما سبق

وَ أْتُوا الْبُيُوتَ فى حالة الإحرام مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللّه فيما حرم عليكم

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) لكى تفوزوا بالبر اخرج الواحدي عن ابى صالح عن ابن عباس لما صد النبي صلى اللّه عليه و سلم عن البيت عام الحديبية ثم صالحه المشركون على ان يرجع عامه «١» و يأتى القابل- فلما كان العام القابل تجهز هو و أصحابه لعمرة القضاء و خافوا ان لا يفى ء قريش بذلك و ان يصدوهم عن المسجد الحرام و يقاتلوهم و كره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام فانزل اللّه تعالى.

(١) فى الأصل على الا يرجع عامة القابل

١٩٠

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه فى طاعة اللّه الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعنى الذين يتوقع منهم القتال

وَ لا تَعْتَدُوا بقتل النساء و الصبيان و الشيوخ الكبار و الرهبان و من القى إليكم السلم- عن بريدة رضى اللّه عنه قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا بعث جيشا قال اغزوا باسم اللّه و في سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه لا تغلوا و لا تغدروا و لا تقتلوا امراة و لا وليدا و لا شيخا كبيرا- رواه البغوي

و روى مسلم في حديث طويل و فيه و لا تمثلوا و لا تقتلوا وليدا- و عن عبد اللّه بن عمر قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قتل النساء و الصبيان- متفق عليه و عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال انطلقوا بسم اللّه و على ملة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تقتلوا شيخا فانيا و لا طفلا صغيرا و لا امراة و لا تغلوا و ضموا غنائكم و أصلحوا و أحسنوا ان اللّه يحب المحسنين- رواه ابو داود فعلى هذا التأويل الاية محكمة غير منسوخة و هو قول ابن عباس و مجاهد- و قيل كان في ابتداء الإسلام امر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه و سلم بالكف عن قتل المشركين ثم لمّا هاجر الى المدينة امره بقتال من قاتلهم منهم بهذه الاية قال الربيع هذه اوّل اية نزلت في القتال ثم امر بقتال المشركين كافة قاتلوا او لم يقاتلوا بقوله تعالى وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً- فحينئذ معنى قوله تعالى وَ لا تَعْتَدُوا اى لا تبدوهم بالقتال

إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) اى لا يريد بهم الخير.

١٩١

وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ قال مقاتل بن حبان هذه الاية منسوخة بقوله تعالى وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ-

قلت بل هى مخصصة لاجل اقترانهما مثل قوله تعالى أَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا إذا الناسخ انما يكون متراخيا- الثقف الحذق بالشي ء في إدراكه علما كان او عملا فهو يتضمن معنى الغلبة فالمعنى حيث تمكنتم على قتلهم

وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعنى من مكة و قد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح

وَ الْفِتْنَةُ يعنى شركهم باللّه تعالى و صدهم إياكم عن المسجد الحرام

أَشَدُّ أعظم وزرا عند اللّه مِنَ الْقَتْلِ اى قتلكم إياهم و من ثم اباحه اللّه تعالى لكم كذا اخرج ابن جرير عن مجاهد و الضحاك و قتادة و الربيع و ابن زيد

وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعنى في الحرم

حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فى الحرم

فَاقْتُلُوهُمْ فيه- قرا حمزة و الكسائي و لا تقتلوهم حتّى يقتلوكم فان قتلوكم بغير الف فيهن من القتل على معنى و لا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم يقول العرب قتلنا بنوا فلان يعنى قتل بعضنا

و قرا الباقون بالألف- قيل كان هذا في ابتداء الإسلام كان لا يحل بدايتهم بالقتال فى البلد الحرام ثم صار منسوخا بقوله تعالى وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذا قول قتادة و قال مقاتل نسخها اية السيف في براءة و الحق عندى ان هذه الاية محكمة و لا يجوز ابتداء القتال في الحرم و به قال مجاهد و جماعة- و يؤيده ما رواه الشيخان عن ابن عباس و ابى هريرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات و الأرض فهو حرام بحرمة اللّه الى يوم القيامة و انه لن يحل القتال فيه لاحد قبلى و لم يحل لى الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه الى يوم القيامة لا يعضد شوكه و لا ينفر صيده الحديث- و عن جابر مرفوعا لا يحل لاحدكم ان يحمل بمكة السلاح رواه مسلم

كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) يفعل بهم مثل ما فعلوه.

١٩٢

فَإِنِ انْتَهَوْا عن القتال و الكفر فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ يغفر لهم ما قد سلف

رَحِيمٌ (١٩٢) بالعباد.

١٩٣

وَ قاتِلُوهُمْ يعنى المشركين حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ اى شرك و فساد

وَ يَكُونَ الدِّينُ الطاعة و العبادة للّه وحده و لا يعبد غيره عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اللّه الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكوة فاذا فعلوا ذلك عصموا منى دماؤهم و أموالهم الا بحق الإسلام و حسابهم على اللّه تعالى- متفق عليه و لا دليل في هذه الاية على ان الوثني لا يقبل منه الا الإسلام فان ابى قتل كما

قال البغوي إذ لا فرق بين الوثني و المجوسي و الكتابي فان الدين عند اللّه الإسلام و الفتنة كما يكون بالوثنى يكون بالكتابي و المجوسي ايضا و ينتهى منهما بالانقياد و قبول الجزية و لو لا قوله تعالى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ لما قبل من أحد منهم الجزية- ثم لما ثبت أخذ الجزية عن اهل الكتاب بهذه الاية مع كونهم على الدين الباطل ثبت أخذ الجزية عن المجوسي و الوثني ايضا بالقياس عند ابى حنيفة رحمه اللّه خلافا لغيره و سنذكر مسئلة الجزية فى سورة التوبة ان شاء اللّه تعالى

فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك او الحرب بإعطاء الجزية

فَلا عُدْوانَ الفاء الاول للتعقيب و الثانية للجزاء اى لا سبيل الى القتل و الاسر و النهب

إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) اى على الذين بقوا على الشرك و الحرب كذا قال ابن عباس في تأويل العدوان كما في قوله تعالى أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ او يقال سمى جزاء العدوان عدوانا للمشاكلة كما في قوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ قلت و يحتمل ان يقال فى التأويل فان انتهوا فلا عدوان اى لا اثم العدوان الا على الظالمين فانكم ان تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين و ينعكس الأمر- عن المقداد بن الأسود انه قال يا رسول اللّه ارايت ان لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب احدى يدى بالسيف فقطعها ثم لازمنى بشجرة فلما أهويت لا قتله قال لا اللّه الا اللّه ء أقتله بعد ان قالها- قال لا تقتله قال يا رسول اللّه انه قطع احدى يدى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل ان تقتله و أنت بمنزلته قبل ان يقول كلمة التي قال- متفق عليه

و اخرج ابن جرير عن قتادة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه خرجوا معتمرين و معهم الهدى في ذى القعدة سنة ست فصده المشركون بالحديبية فصالح اهل مكة على ان ينصرف عامه ذلك و يأتى من قابل فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قضى عمرته في ذى القعدة سنة سبع و اقام بمكة ثلث ليال و كان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه فانزل اللّه تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ

١٩٤

الشَّهْرُ الْحَرامُ يعنى ذى القعدة اللاتي دخلتم بمكة فيه و قضيتم عمرتكم

بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي صددتم فيه

وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ و القصاص المساواة يعنى كل حرمة يجرى فيها القصاص و المساواة و قيل هذه الاية في محل التعليل لما سبق من قوله تعالى وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا- يعنى لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعمرة القضاء و خاف المسلمون ان لا يف المشركون بعهدهم و يصدوهم عن البيت كما فعلوا في العام الماضي و يقع القتال في الحرم و الإحرام و الشهر الحرام فامرهم اللّه تعالى بالقتال و قال الشهر الحرام بالشهر الحرام يعنى ان هتكوا حرمة الحرم و الشهر و يقاتلوكم فقاتلوهم فيه فانه قصاص لما فعلوا و هذا التأويل أوفق بالسياق حيث قال اللّه تعالى

فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ في الحرم و الشهر الحرام و أنتم محرمون

فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ سمى الجزاء باسم الابتداء للمشاكلة وَ اتَّقُوا اللّه فيما لم يرخص لكم

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) فينصرهم و يصلح شأنهم-.

١٩٥

وَ أَنْفِقُوا أموالكم فِي سَبِيلِ اللّه فى الجهاد

وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ قيل الباء زائدة و عبر بالأيدي عن الأنفس و قيل فيه حذف اى لا تلقوا أنفسكم بايديكم يعنى باختياركم و الإلقاء طرح الشي ء و عدى بالى لتضمن معنى الانتهاء- و القى بيده لا يستعمل الا في الشر

إِلَى التَّهْلُكَةِ اى الهلاك- قيل كل شى ء يصير عاقبته الى الهلاك فهو التهلكة و قيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه و الهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه روى البخاري عن حذيفة قال نزلت هذه الاية في النفقة

و اخرج ابو داود و الترمذي و صححه ابن حبان و الحاكم و غيرهم عن ابى أيوب الأنصاري رضى اللّه عنه قال نزلت هذه الاية فينا معشر الأنصاري لما أعز اللّه الإسلام و كثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا ان أموالنا قد ضاعت و ان اللّه تعالى قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فاصلحنا ما ضاع منها- فانزل اللّه تعالى يردّ علينا ما

قلنا فكانت التهلكة الاقامة على الأموال و إصلاحها و تركنا الغزو-

قلت المعنى انكم لو تركتم الغزو يغلب عدوكم عليكم فتهلكون-

قال البغوي فما زال ابو أيوب رضى اللّه عنه يجاهد في سبيل اللّه حتى كان اخر غزوة غزاها بقسطنطنية فاستشهد و دفن في اصل سور قسطنطنية و هم يستسقون به و روى عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مات و لم يغز و لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق- و قال بعضهم نزلت الاية في البخل و ترك الانفاق فى سبيل اللّه و هو قول حذيفة و الحسن و قتادة و عكرمة و عطاء و به قال ابن عبّاس اخرج الطبراني بسند صحيح عن ابى جبيرة بن الضحاك قال كانوا «١»

(١) فى الأصل كانت ١٢

يتصدقون و يعطون ما شاء اللّه فاصابتهم سنة فامسكوا فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و قال محمد بن سيرين و عبيدة السلماني الإلقاء الى التهلكة القنوط من رحمة اللّه- كذا قال ابو قلابة اخرج الطبراني بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال كان الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفر اللّه لى فانزل اللّه تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ و له شواهد عن البراء أخرجه الحاكم

وَ أَحْسِنُوا أعمالكم و أخلاقكم و تفضلوا على المحاويج اعلم ان الإحسان يكون في العبادات و يكون في المعاملات اما الذي في العبادات فما في الصحيحين في حديث طويل عن عمر بن الخطاب قال قال يعنى جبرئيل أخبرني عن الإحسان قال عليه السلام ان تعبد اللّه كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك يعنى بالحضور و الخشوع- و اما الذي في المعاملات فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تحب للناس ما تحب لنفسك و تكره لهم ما تكره لنفسك- رواه احمد عن معاذ و قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده رواه اصحاب السنن عن ابى هريرة و رواه احمد عن عمرو بن عنبسة في جواب اى الإسلام أفضل و قال ان من احبّكم الىّ أحسنكم أخلاقا- رواه البخاري عن عبد اللّه بن عمرو و في الصحيحين بلفظ من خياركم أحسنكم أخلاقا- و قال ان اللّه تعالى كتب الإحسان على كل شى ء فاذا قتلتم فاحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة و ليحد أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته- رواه مسلم عن شداد بن أوس

إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥).

١٩٦

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ للّه هذه الاية حجة على وجوب الحج و العمرة و وجوب إتمامهما و عدم جواز فسخ الحج بالعمرة- اما وجوب الحج فقد انعقد الإجماع على انه فرض محكم على الأعيان و هو أحد اركان الإسلام قال اللّه تعالى وَ للّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا اللّه الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و اقام الصلاة و إيتاء الزكوة و الحج و صوم رمضان- متفق عليه و في الباب أحاديث كثيرة-

و اما وجوب العمرة فهو مذهب احمد و به قال الشافعي في أصح قوليه و هو مروى عن ابى حنيفة رحمهم اللّه و قال مالك العمرة سنة و هو المشهور من مذهب ابى حنيفة و أحد قولى الشافعي و تأويل الاية عندهم انها تجب بالشروع كالحج بالإجماع- و يدل على ما قال به احمد قراءة علقمة و ابراهيم النخعي و اقيموا الحجّ و العمرة للّه و هى قراءة على عليه السلام أخرجه ابن جرير و ابن ماجة و ابن حبان و من الأحاديث ما رواه ابن خزيمة و الدارقطني و ابن حبان و الحاكم في كتابه المخرج على صحيح مسلم عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب حديث تعليم جبرئيل و فيه قال يا محمد أخبرني عن الإسلام قال ان تشهد ان لا اللّه الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و ان تقيم الصلاة و تؤتى الزكوة و تحج و تعتمر و تغتسل من الجنابة و تتم الوضوء و تصوم رمضان-

و هذه الزيادة يعنى قوله و تعتمر و ان لم يذكر في الصحاح لكن رواه الثقات و حكم الدارقطني عليه بالصحة و ذكره ابو بكر الجوسعى فى كتابه المخرج على الصحيحين فهى مقبولة و منها حديث عائشة قالت يا رسول اللّه على النساء جهاد قال عليهن جهاد لا قتال فيه الحج و العمرة- رواه ابن ماجة و منها أحاديث اخر ضعاف لم نذكرها- و اثار الصحابة قال الضبي بن معبد لعمر رايت الحج و العمرة مكتوبتين علىّ فاهللت بهما فقال عمر هديت سنة نبيك- أخرجه ابو داود و قال ابن عمر ليس في خلق اللّه أحد الا عليه حج و عمرة واجبتان من استطاع اليه سبيلا- رواه ابن خزيمة و الدارقطني و الحاكم و سنده صحيح و علقه البخاري- و اثر ابن عباس رواه الشافعي و علقه البخاري-

و احتج القائلون بكونها سنة بأحاديث منها حديث جابر بن عبد اللّه اتى أعرابي فقال يا رسول اللّه أخبرني عن العمرة أ واجبة هى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا و ان تعتم خير لك- رواه الترمذي و احمد و البيهقي من رواته الحجاج بن ارطاة و هو مدلس متروك تركه ابن مهدى و القطان و يحيى بن معين و احمد بن حنبل و ابن المبارك و النسائي لكن قال الذهبي صدوق و قال الترمذي الحديث حسن صحيح- و رواه البيهقي من طريق اخر و فيه يحيى بن أيوب قال احمد سيى ء الحفظ و قال ابو حاتم لا يحتج به لكن قال ابن معين صالح و قال ابن عدى صدوق قلت و تعارض هذا الحديث ما روى عن جابر مرفوعا الحج و العمرة فريضتان أخرجه ابن عدى من طريق ابن لهيعة لكن ابن لهيعة ضعيف- و منها حديث ابى امامة مرفوعا من مشى الى صلوة مكتوبة فاجره كحجة و من مشى الى صلوة تطوع فاجره كعمرة- رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث-

و منها حديث عبد اللّه بن قانع عن ابى هريرة مرفوعا الحج جهاد و العمرة تطوع- و رواه الشافعي عن ابى صالح الحنفي مرسلا و حديث طلحة بن عبد اللّه و ابن عباس مرفوعا نحوه رواه البيهقي قال الدارقطني عبد اللّه بن قانع كان يخطئ و قال الترقانى ضعيف لكن قال الشيخ تقى الدين هو من كبار الحفاظ- و ابو صالح الحنفي اسمه ماهان ضعفه ابن حزم لكن قال ابن همام تضعيفه ليس بصحيح وثقه ابن معين و روى عنه جماعة و في حديث طلحة عمرو بن قيس فيكلم فيه قال الحافظ اسناده ضعيف و حديث ابن عباس في سنده مجاهيل و في الباب اثار الصحابة قال ابن مسعود الحج فريضة و العمرة تطوع رواه ابن ابى شيبة قال ابن همام كفى بعبد اللّه قدوة- و اثر ابى هريرة مثل مرفوعه قال الدارقطني في مرفوعه الصحيح انه موقوف و اثر جابر مثل مرفوعه فالتحقيق ان الأحاديث في الباب متعارضة و كذا الآثار قال ابن همام إذا تعارضا لا يثبت الوجوب بالشك و قال صاحب الهداية لا تثبت الفرضية مع التعارض-

و قول صاحب الهداية اولى فان الفريضة تبتنى على القطع فالاولى ان يقال بالوجوب دون الفريضة عند التعارض احتياطا كيلا يلزم تكرار النسخ- و اما عدم جواز فسخ الحج بالعمرة فمذهب الجمهور محتجين بهذه الاية خلافا لاحمد و له قصة حجة الوداع- ان النبي صلى اللّه عليه و سلم امر الصحابة و كانوا مهلين بالحج ان يفسخوا الحج و يجعلوها عمرة و قال اجعلوا اهلالكم بالحج عمرة الا من قلد الهدى- و شهد على هذا بضعة عشر حديثا صحيحا بحيث يزيل الشك و يوجب العلم منها حديث ابى موسى الأشعري قال بعثني النبي صلى اللّه عليه و سلم الى قومى باليمن فجئت و هو بالبطحاء فقال بما أهللت- قال أهللت كاهلال النبي صلى اللّه عليه و سلم قال هل معك من هدى قال لا فامرنى فطفت بالبيت و بالصفا و المروة ثم أحللت ثم أهللت بالحج يوم التروية- فقدم عمر (يعنى في خلافته) فقال ان نأخذ بكتاب اللّه فان اللّه امر بالإتمام قال اللّه تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ للّه- و ان نأخذ بسنة النبي صلى اللّه عليه و سلم فانه لم يحل حتى نحر الهدى- و عن جابر قال قد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحلوا من إحرامكم بطواف البيت و الصفا و المروة و قصروا ثم اقيموا حلالا الحديث- و حديث ابن عباس أمرهم ان يجعلوها عمرة- و حديث عائشة و حديث حفصة و فيه فما يمنعك يا رسول اللّه ان تحل معنا قال انى لبدت رأسى و قلدت هديى فلا أحل حتى انحر- و حديث ابن عمر و هذه الأحاديث الستة في الصحيحين- و حديث ابى سعيد الخدري عند مسلم- خرجنا نصرخ بالحج حتى إذا طفت بالبيت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اجعلوها عمرة الا من كان معه هدى- و حديث انس مرفوعا عند البخاري لو لا ان معنى الهدى لا حللت- و حديث البراء و رواه اصحاب السنن و حديث الربيع بن سبرة عن أبيه و غير ذلك سردناها في منار الاحكام-

فان قيل أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ قطعى و تخصيص القطعي و نسخه بأحاديث الآحاد لا يجوز-

قلت هذه الأحاديث بلغت حد الشهرة بحيث لا ينكر ثبوت هذه «١» الوقعة على ان قوله تعالى و أتموا الحج عام خص منه البعض بقوله تعالى

(١) فى الأصل هذا الوقعة

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ- ثم اخرج النّبى صلى اللّه عليه و سلم من ذلك الحكم من فات حجه و أجاز له الخروج بافعال العمرة و عليه انعقد الإجماع فظهر ان الاية ظنى الدلالة جاز تخصيصه بخبر الآحاد قالوا فى جواب احتجاج احمد- ان ما احتججتم به كان مخصوصا بالصحابة دون غيرهم لحديث بلال بن حارث قال قلت يا رسول اللّه فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لنا خاصة- رواه ابو داؤد و النسائي قال ابن الجوزي لا يروى ذلك غير عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال ابو حاتم لا يحتج به و قال احمد لا يصح حديث في ان الفسخ كان لهم خاصة-

قلت و لو لا ما روى عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قوله- متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و انا احرمهما- يعنى اظهر حرمتهما التي ثبت عندى من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و انا احرمهما- يعنى اظهر حرمتهما التي ثبت عندى من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يندفع أحاديث فسخ الحج بحديث بلال المذكور فانه ضعيف في الظاهر لكن قول عمر يدل على صحة ذلك الحديث معنى و قد مر قول عمر في حديث ابى موسى الأشعري المتفق عليه انه قال في خلافته- ان نأخذ بكتاب اللّه الحديث و كذا اثر عثمان انه سئل عن متعة الحج قال كان لنا ليست لكم- رواه ابو داود بإسناد صحيح و لو لم يثبت عند عمر و عثمان اختصاص الفسخ بالصحابة لما خالفا امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لما احتج عمر بالاية الظنى الدلالة في مقابلة ما سمعا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امره بالفسخ المفيد للقطع في حقهما و اللّه اعلم- و المراد بالمتعة في قول عمر و عثمان انما هو فسخ الحج بالعمرة دون التمتع بالعمرة الى الحج الذي نطق به كتاب اللّه تعالى بحيث لا مرد له و انعقد عليه الإجماع كيف و قد قال عمر للضبىّ بن معبد حين قال أهللت بهما هديت سنة نبيك «١» أخرجه ابو داود و يؤيد حديث بلال اثر ابى ذر انه كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك الا للركب الذين كانوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رواه ابو داود و في رواية عنه انما كانت المتعة لنا خاصة- قال ابن الجوزي اثر ابى ذر يرويه رجل من اهل الكوفة لم يلق أبا ذر قلت فهو مرسل و المرسل عندنا حجة و اللّه اعلم-

(١) روى عن عمر انه قال- افصلوا بين حجكم و عمرتكم اجعلوا الحج في أشهر الحج و اجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم لحجك و عمرتك-

قلت لعل هذا ما هو الأفضل عند عمر رضى اللّه عنه منه رحمه اللّه

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يعنى عن الحج او العمرة التي أمرتم بإتمامها كما يقتضيه السياق و الاية نزلت في قصة الحديبية باتفاق اهل النقل- و قد صح انه صلى اللّه عليه و سلم كان عام الحديبية محرما بالعمرة فاحصر فتحلل فهو حجة على مالك حيث يقول في رواية ان الإحصار خاص بالحج لا يجوز التحلل بالاحصار في العمرة- و معنى أحصرتم اى منعتم من الوصول الى البيت الحرام و المضي على الإحرام بعد و مسلم او كافرا و مرض يمنعه من المضي او هلاك نفقة- او موت محرم للمرءة و نحو ذلك كذا فسر ابو حنيفة رحمه اللّه لان الإحصار و الحصر في اللغة المنع باى سبب كان بل غالب استعمال الإحصار في الإحصار بالمرض و نحوه نقل عن الفراء و الكسائي و الأخفش و ابى عبيدة و ابن السكيت و غيرهم من اهل اللغة ان الإحصار بالمرض و الحصر بالعدوّ و قال ابو جعفر النحاس على ذلك جميع اهل اللغة قلت المراد بقولهم الإحصار بالمرض و الحصر بالعدو ان غالب الاستعمال هكذا- لا ان الإحصار خاص بالمرض حتى يرد عليهم ان الاية نزلت في قصة الحديبية ثبت ذلك في المتفق عليه من رواية جماعة من الصحابة- و قال الشافعي لا خلاف فى ذلك- و

قال البغوي الحصر و الإحصار بمعنى واحد يقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور و احصره العدوّ إذا منعه من السير فهو محصر- فالاية بعموم لفظه حجة لابى حنيفة على مالك و الشافعي و احمد حيث قالوا لا حصر إلا حصر العدوّ- روى الشافعي هذا اللفظ بإسناد صحيح عن ابن عباس- و قالوا ان الاية نزلت فيه-

قلنا العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص سبب النزول

فان قيل سياق الاية يقتضى التخصيص حيث يقول اللّه تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ فان الامن يكون من الخوف

قلنا هذا لا يدل على ان الإحصار لا يكون الا بالعدوّ بل يدل على ان الإحصار بالعدوّ ايضا إحصار كما في قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ- وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ- فانه لا يدل على ان المراد بالمطلقات الرجعيات فقط بل يدل على ان الرجعيات ايضا داخلة في المطلقات- احتجوا على تخصيص الإحصار بالعدوّ بحديث عائشة قالت دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها لعلك أردت الحج قالت و اللّه ما أجدني الا وجعة فقال لها حجى و اشترطى و قولى ان محلى حيث حبستنى متفق عليه- و لمسلم من حديث ابن عباس قصة ضباعة- و لابى داود و النسائي انها أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت يا رسول اللّه انى أريد الحج فاشترط قال نعم قالت كيف أقول قال قولى لبيك اللّهم لبيك محلى من الأرض حيث تحبسنى فان لك على ربك ما استثنيت- و صححه الترمذي و أعله بالإرسال قال العقيلي روى ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد- و أخرجه ابن خزيمة من حديث ضباعة نفسها و البيهقي عن انس و جابر و لهذا قال احمد و الشافعي لو اشترط جاز له التحلل بغير العدو- و صح القول بالاشتراط عن عمر و عثمان و على و عمار و ابن مسعود و عائشة و أم سلمة و غيرهم من الصحابة- قال ابن الجوزي لو كان المرض يبيحها التحلل ما كان لاشتراطها معنى-

قلنا حديث ضباعة من الآحاد لا يزاحم عموم الاية-

و قيل الاشتراط منسوخ روى ذلك عن ابن عباس لكن فيه الحسن بن عمارة متروك- و وجه الجمع عندى ان حديث ضباعة محمول على الندب فمن خاف المرض او غير ذلك يستحب له ان يشترط عند الإحرام حتى لا يلزمه خلف الوعد و ان كان ذلك جائزا بعذر- و يؤيد قول ابى حنيفة حديث عكرمة عن حجاج بن عمرو الأنصاري انه صلى اللّه عليه و سلم قال من كسر او عرج فقد حل و عليه الحج من قابل رواه الترمذي و ابو داود و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و زاد ابو داود في رواية اخرى عن عكرمة عن عبد اللّه بن رافع عن حجاج عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من عرج او كسر او مرض فذكر معناه قال الترمذي حديث حسن و ذكر البغوي تضعيفه-

قلت لا وجه للتضعيف الا انه قد اختلف فيه على يحيى بن كثير فأخرجه اصحاب السنن و ابن خزيمة و الدارقطني و الحاكم من طرق- قال الحافظ الصواب عن يحيى عن عكرمة عن الحجاج و قال في آخره عن عكرمة فسالت أبا هريرة و ابن عباس فقالا صدق-

و وقع في رواية يحيى القطان و غيره في سياقه سمعت الحجاج و أخرجه ابو داود و الترمذي من طريق معمر عن يحيى عن عكرمة عن عبد اللّه بن رافع عن الحجاج قال الترمذي و تابع معمرا على زيادة عبد اللّه بن رافع معاوية بن سلام و سمعت محمدا يعنى البخاري يقول رواية معمر و معاوية أصح قلت و هذا لا ينافي صحة الحديث لانه ان كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك و الا فالواسطة بينهما عبد اللّه بن رافع ثقة و ان كان البخاري لم يخرج له كذا قال الحافظ-

قلت و يمكن ان عكرمة سمعه من الحجاج بلا واسطة و ايضا سمعه من عبد اللّه بن رافع عن حجاج و اللّه اعلم و مذهبنا مروى عن ابن مسعود

فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ اى فعليكم ما استيسر او الواجب ما استيسر او اهدوا ما استيسر من الهدى من بدنة او بقرة او شاة و الشاة أدناه- و هذه الاية حجة على مالك حيث قال لا يجب عليه الهدى ثم القائلون بوجوب الهدى اختلفوا فقال الشافعي في رواية إذا لم بجد الهدى يطعم بقيمة الشاة طعاما و ان لم يجد ما ينفق يصوم عن كل مد من الطعام يوما قياسا على دم الجناية و قال ابو حنيفة و هو القول الثاني للشافعى انه لا يجوز الا الهدى لان نصب الابدال بالراى لا يجوز و دم الإحصار ليس من باب دم الجناية-

وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ- و اختلفوا في تفسير محله فقال ابو حنيفة رحمه اللّه محله الحرم- قال اللّه تعالى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ- و لان الاراقة لم يعرف قربة الا في زمان او مكان فلا يقع قربة دونه فلا يقع به التحلل فالواجب عنده انّ المحصر يبعث الهدى الى الحرم لا يجوز له الا ذلك و يعين يوما يذبح فيه و يحل المحصر في ذلك اليوم و لا يختص عنده للذبح يوم النحر و قال ابو يوسف و محمد في الحج يختص الذبح بيوم النحر فلا حاجة الى تعينه عندهما- و قال مالك و الشافعي و احمد محله هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل او في الحرم لحديث المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا فو اللّه ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس فقالت أم سلمة يا نبى اللّه أ تحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك و تدعو حالقك فيحلقك-

فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه و دعا حالقه فحلقه فلما راوا ذلك قاموا فنحروا و جعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما- رواه البخاري و روى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه قال لما حبس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه نحروا بالحديبية و حلقوا و بعث اللّه ريحا فحملت شعورهم فالقاها في الحرم- و ذكر مالك فى المؤطا بلغه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حل هو و أصحابه بالحديبية فنحروا الهدى و حلقوا رءوسهم و حلوا من كل شى ء- قال مالك و الشافعي و الحديبية خارج الحرم- و أجاب عنه الحنفية بوجهين- أحدهما ان النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث هديه الى الحرم مع ناجية بن جندب الأسلمي رواه الطحاوي بسنده عن ناجية- و كذا اخرج النسائي ثانيهما ان الحديبية بعضها في الحل و بعضها في الحرم روى الطحاوي بسنده عن المسور ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان بالحديبية خباؤه في الحل و مصلاه في الحرم و إذا كان كذلك فالظاهر انهم نحروا في الحرم-

قلت و حديث ناجية شاذ مخالف للمشهور و لو ثبت فلعل النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث بعض هداياه الى الحرم بعد ما نحر بعضها في الحل جمعا بين الروايتين- و ايضا قوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ دليل واضح على ان الهدى لم يبلغ محله و هو الحرم و على ان محله هو الحرم لا غيره فالاحسن ما ذكر- البخاري تعليقا عن ابن عباس انه ينحر المحصر حيث أحصر ان كان لا يستطيع ان يبعث به الى الحرم و ان استطاع يجب عليه ان يبعث فحينئذ معنى قوله تعالى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ- ان استطعتم ذلك فهو عام خص منه البعض بفعل النبي صلى اللّه عليه و سلم الثابت بالأحاديث المشهورة و بقوله تعالى وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً و اللّه اعلم

فان قيل روى ابو داود عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال سمعت أبا حاصر الحميرى يحدث أبا ميمون بن مهران قال خرجت معتمرا عاما «١» حاصر اهل الشام ابن الزبير بمكة و بعث معى رجال من قومى بهدى فلما انتهينا الى اهل الشام منعونا ان ندخل الحرم فنحرت الهدى مكانى ثم أحللت ثم رجعت فلما كان من العام القابل خرجت لاقضى عمرتى فاتيت ابن عباس فسالته فقال أبدل الهدى فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر أصحابه ان يبدلوا الهدى الذي نحروا عام الحديبية- فان هذا الحديث يقتضى ان

(١) فى الأصل عام حاصر

النحر خارج الحرم لا يجوز و يقتضى الاعادة-

قلت محمد بن إسحاق مختلف فيه و قد مرّ ذكره- و الحديث ترك الامة كلهم العمل به و لم يقل به أحد- و هاهنا خلافيات منها ان الواجب على القارن عند ابى حنيفة رحمه اللّه دمان لاجل إحرامي الحج و العمرة و عند الجمهور دم واحد قالوا الإحرام واحد فيكفيه دم واحد و عموم قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يؤيد قول الجمهور و منها ان التحلل يحصل بنفس الإحصار او بالذبح بعد الإحصار بنية التحلل او بالحلق بعد الذبح مع نية التحلل الثالث قول الشافعي و الجمهور لهم ان بالاحصار سقط مناسك الحج دون احكام الإحرام و الحلق عرف محللا فلا يسقط و كونه موقتا بالحرم من حيث انه محلل ممنوع و الحجة على وجوب الحلق او القصر و اولوية الحلق قوله صلى اللّه عليه و سلم يوم الحديبية يرحم اللّه المحلقين قالوا يا رسول اللّه و المقصرين قال يرحم اللّه المحلقين قالوا و المقصرين فقال في المرة الثالثة و المقصرين رواه الطحاوي من حديث ابن عباس و ابى سعيد- و قال ابو حنيفة و محمد ان أحصر في الحرم يجب عليه الحلق و ان أحصر في الحل فلا حلق لان الحلق لم يعرف عبادة الا في زمان او مكان كذا في الكافي- و في الهداية ان الحلق عندهما ليس بواجب و التحلل انما يحصل بالذبح و عند ابى يوسف يجب الحلق لان النبي صلى اللّه عليه و سلم امر بذلك عام الحديبية و ان لم يفعل لا شى ء عليه و التحلل يحصل بالذبح فقط و قال مالك التحلل يحصل بالاحصار و الذبح ليس بواجب عليه و الحجة عليه هذه الاية- احتج مالك بحديث جابر نحرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم الحديبية سبعين بدنة كل بدنة عن سبعة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليشترك النفر في الهدى- رواه الدارقطني فان هذا الحديث مع ما رواه الشيخان عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم احرم بالعمرة سنة ست و معه الف و اربعمائة يدل على ان الهدى لا يجب على كل محصر و التحلل يحصل بمجرد النية دون الذبح لان سبعين بدنة لا يكفى الا لما دون خمسائة فبقى باقى الناس من لا هدى لهم قلت لعل باقى الناس ذبحوا غنما على ان هذا استدلال بحديث الآحاد في مقابلة القطعي من الكتاب فلا يقبل- و الخلافية الثالثة ان المحرم بالعمرة او بالحج النافلة إذا أحصر و حل بالذبح هل يجب عليه القضاء فقال مالك و الشافعي و احمد لا يجب عليه القضاء و قال ابو حنيفة يجب عليه ان حلّ من حج حج و عمرة- و من عمرة عمرة و من قران حج و عمرتان قضاء لما فات-

قال البيضاوي- اقتصاره سبحانه تعالى في الاية على الهدى دليل على عدم القضاء- و قال ابن الجوزي ان النبي صلى اللّه عليه و سلم احرم بالعمرة سنة ست و معه الف و اربعمائة كذا في الصحيحين ثم عاد في السنة الاخرى و معه جمع يسير فلو وجب عليهم القضاء لنبههم على ذلك- و قد سبق الى ذلك القول الشافعىّ حيث قال قد علمنا في متواطى أحاديثهم إذا اعتمر عمرة القضاء تخلف بعضهم من غير ضرورة و لو لزمهم القضاء لامرهم-

فان قيل لو لم يكن القضاء واجبا فلم سميت عمرة القضاء أجيب بانه انما سميت عمرة القضاء و القضية للمقاضات التي وقعت بين النبي صلى اللّه عليه و سلم و بين قريش- روى الواقدي عن ابن عمر قال لم يكن هذه العمرة قضاء و لكن كان على شرط قريش ان يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدوا فيه- لنا ان الأداء واجب بعد الشروع بالإجماع لقوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ للّه و لا حاجة في وجوب القضاء الى نص جديد و قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ لا يدل الا على رخصة التحلل بعذر الإحصار لا على سقوط القضاء فلا يسقط و ما احتجوا به فجوابه من وجهين أحدهما انه لا نسلم انه عاد معه في السنة الاخرى جمع يسير- و لا نسلم انه لم يأمرهم بالقضاء- و قد روى الواقدي في المغازي عن جماعة من مشائخه قالوا لما دخل «١» ذو القعدة سنة سبع امر النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدوا عنها و لا يتخلف ممن شهد الحديبية فلم يتخلف الا من قتل بخيبر او مات و خرج معه ناس ممن لم يشهد الحديبية و كان عدد من معه من المسلمين الفين-

(١) فى الأصل ذى القعدة

و خبر الواقدي في المغازي مقبول إذا لم يخالف الاخبار الصحيحة- ثانيهما ان جزم الشافعي بان جماعة تخلفوا بغير عذر انما هو مبنى على زعم الراوي و شهادته على نفى العذر غير مقبول فمن تخلف عن الخروج لعله كان له عذر و انهم قضوا عمرتهم بعد ذلك و لنا ايضا حديث حجاج بن عمر الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من عرج او كسر فقد حل و عليه الحج من قابل و اللّه اعلم

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ ايها المحرمون مَرِيضاً بحيث يحوجه المرض الى الحلق

او بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كجراحة او قمل فحلق

فَفِدْيَةٌ اى فالواجب عليه فدية و كذلك الحكم على من تطيب او لبس المخيط بعذر قياسا على الحلق

مِنْ صِيامٍ ثلثة ايام لانه ادنى الجمع و لا يشترط فيها التتابع لاطلاق النص

او صَدَقَةٍ و هذا مجمل لحقه البيان من السنة روى البخاري عن كعب بن عجرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راه و قمله تسقط على وجهه فقال أ يؤذيك هوامّك قال نعم فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يحلق و هو بالحديبية لم يتبين لهم انهم يحلون بها و هم على طمع ان يدخلوا مكة فانزل اللّه الفدية فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يطعم فرقا بين ستة مساكين او يهدى شاة او يصوم ثلثة ايام قلت و الفرق ثلثة أصوع

او نُسُكٍ جمع نسيكة اى ذبيحة أعلاها بدنة أوسطها بقرة أدناها شاة- و قوله من صيام بيان للفدية و كل هدى يلزم المحرم يذبح بمكة بالإجماع الا ما مر الخلاف في دم الإحصار

فَإِذا أَمِنْتُمْ من الإحصار بان زال خوفكم من العدو او كنتم مرضى فبرئتم منه و أنتم ما أحللتم من إحرامكم او كنتم في سعة و أمن من الأصل

فَمَنْ تَمَتَّعَ اى انتفع بالتقرب الى اللّه تعالى بِالْعُمْرَةِ فى أشهر الحج منضما

إِلَى الْحَجِّ من تلك السنة فحينئذ يشتمل نظم القران التمتع و القران و قيل معناه من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام الى ان يحرم بالحج و حينئذ لا يشتمل القران و على هذا التأويل لا معنى للباء في قوله تعالى بالعمرة فان الاستمتاع حصل بالارتفاق بمحظورات الإحرام لا بالعمرة فالتأويل الاول اولى لفظا من أجل الباء و معنى حيث يجب الهدى على القارن ايضا بالإجماع

فَمَا اسْتَيْسَرَ يعنى فالواجب عليه شكر النعمة التمتع ما استيسر

مِنَ الْهَدْيِ أدناه شاة هذا مذهب ابى حنيفة و احمد رحمهما اللّه فيجوز له أكله لانه دم شكر و قال الشافعي هو دم جبر لا يجوز للناسك الاكل منه- و لنا على جواز الاكل أحاديث منها حديث جابر الطويل قال فيه ثم امر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فاكلا يعنى النبي صلى اللّه عليه و سلم و علىّ من لحمها و شربا من مرقها وجه الاحتجاج انه صلى اللّه عليه و سلم كان قارنا و لما امر

ان يجعل من كل بدنة ببضعة فاكل منها ثبت الاكل من هدى القران و التطوع بل ثبت استحباب الاكل و الا لما امر ببضعة كل منها و استدل ابن الجوزي في الباب بما روى عبد الرحمن بن ابى حاتم في سننة من حديث على قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يهدى التمتع ان أتصدق بلحومها سوى ما نأكل و هذا اصرح في الدلالة احتج الشافعي على حرمة الاكل من مطلق الهدايا الواجبة بحديث ناجية الخزاعي و كان صاحب بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال قلت يا رسول اللّه كيف اصنع بها عطب من البدن قال انحره و اغمس نعله في دمه و اضرب صفحه و خل بين الناس و بينه فليأكلوه- رواه مالك و احمد و الترمذي و ابن ماجة و قال الترمذي حديث صحيح و في رواية الواقدي و لا نأكل أنت و لا أحد من رفقتك منه شيئا دخل بينه و بين الناس- و كذا حديث ابن عباس قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ستة عشر بدنة مع رجل و امره «١» الحديث-

(١) فى الأصل امراة

و فيه و لا تأكل منها أنت و لا أحد من رفقتك- رواه مسلم و كذا حديث ذويب مثله رواه مسلم قلت لا مساس لهذه الأحاديث بالقران و التمتع لانه ليس شى ء منها في حجة الوداع بل هى اما قصة الحديبية او غير ذلك و النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يحج بعدا هجرة سوى حجة الوداع فكيف يكون ذلك هدى تمتع بل هى هدى تطوع البتة و نحن نقول انه لا يجوز الاكل من هدى التطوع إذا عطب و ذبحت فى الطريق و اللّه اعلم و لا يجوز تقديم ذبح هدى التمتع قبل يوم النحر عنه ابى حنيفة و الشافعي و احمد بل يجب ان بذبح بعد الرمي- و قال بعض اهل العلم يجوز قبل يوم النحر- لنا حديث حفصة قالت ما يمنعك يا رسول اللّه ان تحل معنا قال انى أهديت و لبدت و لا أحل حتى أنحر هديى- و قوله صلى اللّه عليه و سلم لو لا انى سقت الهدى لا حللت- و قد مر الحديثان «٢»- و لو كان ذبح هدى القران جائزا قبل يوم النحر لما صح اعتذاره عن عدم التحلل لسوق الهدى- و اللّه اعلم

(٢) فى الأصل الحديثين-

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى فَصِيامُ يعنى فالواجب عليه صيام

ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ يعنى في إحرام الحج أخرها يوم عرفة و لو صام قبل ذلك في الإحرام جاز اجماعا و لا يجوز بعد ذلك لعدم الإحرام بعد ذلك على ان الصوم يوم النحر و ايام التشريق حرام فلا يتادى به الواجب في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال هذان يومان نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم و اليوم الاخر تأكلون فيه من نسككم- متفق عليه و كذا في المتفق عليه من حديث ابى سعيد و حديث ابى هريرة و غيرهم- و عن عمرو بن العاص انه قال لابنه في ايام التشريق انها الأيام التي نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن صومهن و امر بفطرهن رواه ابو داود و ابن المنذر و صححه ابن خزيمة و الحاكم- و روى مسلم عن كعب بن مالك مرفوعا ايام منى ايام أكل و شرب- و كذا عند مسلم عن بنشة الهذلي و حديث بشر بن سحيم مثله رواه النسائي بسند صحيح و حديث عقبة بن عامر رواه اصحاب السنن و الحاكم و ابن حبان بسند صحيح- و عند البزار عن عبد اللّه بن عمر مرفوعا ايام التشريق ايام أكل و شرب و صلوة فلا يصومها أحد- و في الباب أحاديث كثيرة غيرها و قال مالك و الشافعي و احمد المتمتع ان لم يجد الهدى و لم يصم قبل يوم النحر جاز له ان يصوم في ايام التشريق و اما في يوم النحر فلا يجوز اجماعا لحديث ابن عمر و عائشة قالا لم يرخص في ايام التشريق ان يصمن الا لمن لم يجد الهدى رواه البخاري-

و روى البخاري عن ابن عمر رض قال الصيام لمن تمتع بالعمرة الى الحج الى يوم عرفة فان لم يجد هديا و لم يصم صام ايام منى- قالوا هذا في حكم المرفوع-

قلنا لا نسلم انه في حكم المرفوع و لعل ابن عمر و عائشة افتيا يجوز الصوم في ايام التشريق استنباطا من قوله تعالى ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ زعما منهما ان تلك الأيام ايضا من ايام الحج حيث يوجد بعض المناسك اعنى الرمي فيها-

فان قيل و رد حديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ رخص رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للمتمتع إذا لم يجد الهدى ان يصوم ايام التشريق- و روى الطحاوي عن عائشة- و ابن عمر نحوه

قلنا في حديث ابن عمر يحيى بن سلام ليس بالقوى ضعفه الدارقطني و الطحاوي- و ايضا فيه ابن ابى ليلى طعن الطحاوي فيه بفساد الحفظ و حديث عائشة ايضا ضعيف فكيف يصادم أحاديث النهى قال الطحاوي قد توارت الآثار عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن الصيام و هو مقيم بمنى و الحاج مقيمون بها و فيهم المتمتعون-

قلت بل كانوا كلهم متمتعين او قارنين فانه امر صلى اللّه عليه و سلم بفسخ الحج الى العمرة في تلك السنة ثم بالإحرام يوم التروية فائدة و تأويل الاية على قول مالك و الشافعي و احمد صيام ثلثة ايام في اركان الحج او ايام الحج قلت و هذا التأويل لا يصح فان اركان الحج لا يتصور ظرفا للصيام و ايام الحج قد انتهت بعرفة كما سيجيئ ان المراد به بقوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ شهران و تسعة ايام او عشرة ليال الى طلوع الصبح يوم النحر و ايضا قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ يستلزم ان لا يكون ايام التشريق فى الحج فانها ايام كل و شرب و رفث يعنى جماع و يجوز فيه الصيد و غير ذلك و اللّه اعلم و من قدر على الهدى في خلال الصوم او بعده قبل الحلق يجب عليه الذبح خلافا لمالك و الشافعي و احمد لنا انه قدر على الأصل قبل تادى الحكم بالخلف فصار كمن وجد الماء و هو يصلى بالتيمم و ان وجد المهدى بعد الحلق و قد صام ثلثة ايام لا يجب الهدى عليه اتفاقا كمن وجد الماء بعد الصلاة بالتيمم- و ان فاتت صوم الثلاثة في الحج تعين الدم-

و قال مالك و الشافعي يقضى تلك الثلاثة بعد الحج بناء على انه قضاء بمثل معقول- و

قلنا ان الصوم بدل من الهدى و الابدال لا ينصب الا شرعا و لا يتصور الصوم ان يكون بدلا عن الهدى الا بخصوصيات منصوصة و اللّه اعلم

وَ صيام سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ اى فرغتم من اعمال الحج عند ابى حنيفة رحمه اللّه و احمد رحمه اللّه- و قال مالك و هو قول للشافعى اى خرجتم من مكة قاصدين أوطانكم و المشهور من مذهب الشافعي و هو رواية عن احمد إذا رجعتم الى أهلكم اى وصلتم الى أوطانكم- قال الشافعي الرجوع هو الرجوع الى اهله فلا يجوز قبل ذلك و قال مالك إذا خرج من مكة الى اهله صدق انه رجع فجاز له الصيام قبل الوصول الى الأهل و قال ابو حنيفة الرجوع هو الفراغ من الحج الم تر انه من توطن بمكة بعد الحج او لم يكن له وطن جاز له الصيام بمكة اجماعا فكذا من كان له وطن غير مكة لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة و المجاز و اللّه اعلم

تِلْكَ عَشَرَةٌ ذكره على سبيل التأكيد لئلا يتوهم ان الواو بمعنى او و ان يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فان اكثر العرب لم يكونوا يحسنون الحساب

كامِلَةٌ صفة مؤكدة- مفيد المبالغة في محافظة العدد

ذلِكَ اى التمتع جائر لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فلا يجوز التمتع للمكى كذا قال ابو حنيفة رحمة اللّه و عند مالك و الشافعي و احمد يجوز للمكى التمتع ايضا لكن لا يجب عليه الهدى قالوا المشار اليه بذلك الحكم بوجوب الهدى لنا ان اللام في قوله تعالى لِمَنْ لَمْ يَكُنْ و ليل على تأويلنا لان اللام يستعمل فيما يجوز لنا ان نفعله

و لذا

قلنا في تقديره جاز و لو كان المشار اليه وجوب الهدى كان تقديره يجب فكان المناسب حينئذ كلمة على و ما ذكرنا من التأويل مروى عن عمر بن الخطاب و ابنه و ابن عباس رضى اللّه عنهم روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر انه سئل عن متعة الحج فقال ان اللّه أنزله في كتابه و سنة نبيه و اباحه للناس غير اهل مكة قال اللّه تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- و قال ابن همام صح عن عمر انه قال ليس لاهل مكة تمتع و لا قران- و المراد ب حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عند ابى حنيفة رحمه اللّه ان يكون دون الميقات و به قال عكرمة و قال الشافعي كل من كان وطنه من مكة على اقل من مسافة السفر- و قال طاؤس و طائفة هم اهل الحرم لان المسجد غير مراد اجماعا فالمراد به الحرم كما في قوله تعالى هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ و قوله تعالى الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ- و قال مالك المراد به اهل مكة بعينها- و به قال نافع و الأعرج و اختاره الطحاوي من الحنفية و اللّه اعلم فان تمتع المكي يجب عليه عند ابى حنيفة دم جبر لارتكابه المحظور و هذا لدم لا يقوم الصوم مقامه و لا يجوز المناسك الاكل منه و قال الشافعي و غيره لا يجب عليه شى ء

وَ اتَّقُوا اللّه فى أوامره و نواهيه

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) اعلم ان اللّه سبحانه ذكر في هذه الاية من المناسك الحجّ و العمرة و ذكر أداء كل منهما مفردا و أوجب إتمامهما ثم ذكر أداءهما مجتمعا و هو التمتع-

ثم ثبت بالسنة ان الجمع على وجهين- أحدهما ان يحرم بهما جميعا و يحل منهما جميعا و هو القران- ثانيهما ان يحرم بالعمر و لا ثم يحل بعد أداء العمرة و يسكن بمكة حلالا و ذلك إذا لم يسق الهدى ثم يحرم يوم التروية للحج من مكة مفردا و يحل يوم النحر- و يسمى هذا عند الفقهاء تمتعا و كل ذلك جائز اجماعا لا خلاف فيه- انما الخلاف في انه ايها أفضل- و في ان النبي صلى اللّه عليه و سلم هل كان فارنا في حجة الوداع او متمتعا او مفردا- و في ان القارن هل يكفيه طواف واحد و سعى واحد للحج و العمرة جميعا كما قال به الجمهور او لا بد له من طوافين «١» و سعيين كما قال به ابو حنيفة

(١) فى الأصل طوافين

و هذه أبحاث طويلة ذكرناها في منار الاحكام و التحقيق انه صلى اللّه عليه و سلم كان قارنا و ان القران أفضل من التمتع ان ساق الهدى- و التمتع أفضل ان لم يسق الهدى و كل منهما أفضل من الافراد- و انه صلى اللّه عليه و سلم لما قدم مكة طاف و سعى بين الصفا و المروة ثم لم يقرب الكعبة بطوافه بها حتى رجع من عرفة رواه البخاري قلت و ذلك الطواف و السعى كان لعمرته و كفاه عن طواف القدوم لحجه- و كان ذلك الطواف و السعى ماشيا- كما هو مصرح في حديث حبيبة بنت ابى تجراه و ابن عمر و جابر عند مسلم و غيره ثم انه صلى اللّه عليه و سلم سعى بين الصفا و المروة ثانيا بعد طواف الزيارة كما يدل عليه حديث جابر قال طاف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على راحلته بالبيت و بالصفا و المروة ليراه الناس و ليشرف و ليسئلوه رواه مسلم- و في رواية طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه الحديث- هذا ما حصل لى بعد جمع الروايات المختلفة و اللّه اعلم

١٩٧

الْحَجُّ اى وقت الحج بل وقت إحرام الحج فان وقت اركان الحج انما هو يوم عرفة و يوم النحر لا غير

أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ اخرج الطبراني عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شوال و ذو القعدة و ذو الحجة-

قلت المراد شوال و ذو القعدة و تسع من ذى الحجة الى طلوع الفجر من يوم النحر-

و يروى عن ابن عمر شوال و ذو القعدة و عشر من ذى الحجة

قال البغوي كل واحد من اللفظين صحيح و المال واحد غير مختلف فيه فمن قال عشر عبر عن الليالى و من قال تسع عبر عن الأيام- و انما قال اشهد بلفظ الجمع لانها وقت و العرب تسمى الوقت تاما بقليله و كثيره- قال اللّه تعالى- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا و انما اسرى في بعض الليل- و هذا هو محمل لما روى عن عمر انه قال شوال و ذو القعدة و ذو الحجة- و قال عروة بن الزبير و غيره أراد بالأشهر شوالا و ذا القعدة و ذا الحجة كملا لانه يبقى على الحاج امور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الذبح و الرمي و الحلق و طواف الزيارة و المبيت بمنى و رمى الجمار في ايام التشريق فكانت في حكم الحج-

قلت هذه الافعال كلها ينتهى الى ثالث عشر من ذى الحجة فكيف يعد ذو الحجة بهذا التوجيه كاملا- و

قال البيضاوي و ذو الحجة كله من أشهر الحج بناء على ان المراد بالوقت عنده ما لا يحسن فيه غيره من المناسك و قال فان مالكا يكره العمرة في بقية ذى الحجة-

قلت و هذا غير مستقيم فان العمرة في أشهر الحج للافاقى غير مكروه اجماعا- و قد اعتمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اربع عمر كلها في ذى القعدة و كذا للمكى عند مالك و الشافعي فان التمتع للمكى عندهما جائز كما ذكرنا- و هذه الاية حجة للشافعى حيث قال لا يجوز إحرام الحج قبل الأشهر و ان احرم انعقد الإحرام للعمرة- و قال داود- من احرم للحج قبل الأشهر لغى و لا ينعقد أصلا- و قال ابو حنيفة و مالك و احمد ان احرم قبل الأشهر للحج انعقد لكنه يكره- وجه قول ابى حنيفة و من معه ان الإحرام شرط للحج ليس بركن و من ثم جاز الإحرام مبهما ثم صرفه الى ما شاء من حج او عمرة او قران يدل عليه حديث انس بن مالك قال قدم علىّ على النبي صلى اللّه عليه و سلم من اليمن فقال بما أهللت فقال بما اهل به النبي صلى اللّه عليه و سلم- و حديث ابى موسى قال أهللت كاهلال النبي صلى اللّه عليه و سلم- و الحديثان في الصحيحين- و إذا ثبت انه شرط جاز تقديمه على الوقت كالوضوء للصلوة لكن فيه شبه بالأركان فاذا أعتق العبد بعد ما احرم قبل يوم عرفة لا ينادى فرضه- و لذا

قلنا بالكراهة و إذا سمعت ان وقت إحرام الحج أشهر معلومات لا وقت الأركان فان وقت أركانه يومان فحسب فحينئذ الظاهر قول الشافعي فان الإحرام و ان كان شرطا للحج لا ركنا له و الشرط و ان جاز تقديمه على وقت المشروط لكن لا يجوز تقديمه على وقت نفسه- كما ان العشاء شرط لاداء الوتر فمن ادى العشاء قبل غروب الشفق لا يجوز وتره لا لانه ادى العشاء قبل وقت الوتر بل لانه ادلها قبل وقت نفسها و اللّه اعلم

فَمَنْ فَرَضَ اى أوجب على نفسه

فِيهِنَّ الْحَجَّ يعنى احرم بالحج اختلفوا في ان الإحرام ما هو- فقال مالك و الشافعي و احمد انما هو النية بانقلب كما في الصوم و لا يشترط فيه التلبية- الا ان مالكا قال التلبية عند الإحرام واجب يلزم بتركه دم و هى رواية عن احمد و الشافعي و المشهور عنهما ان التلبية سنة- و قال ابو حنيفة الإحرام هو التلبية مع النية كالتكبير في الصلاة و هى رواية عن الشافعي- لنا ان القياس بالصلوة أشبه منه بالصوم-

و روى عن ابن عباس في تأويل هذه الاية انه قال فرض الحج الإهلال- و قال ابن عمر التلبية-

و روى ابن ابى شيبة قول ابن مسعود كقول ابن عمر- و لنا قوله صلى اللّه عليه و سلم يهل اهل المدينة من ذى الحليفة الحديث- متفق عليه من حديث ابن عمر و قوله صلى اللّه عليه و سلم في حديث عائشة من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة امر بالإهلال و هو رفع الصوت بالتلبية و الأمر للوجوب فهو حجة على من لم يقل بوجوبه-

ثم انه صلى اللّه عليه و سلم عبّر الإحرام بالإهلال فظهران الإحرام هو التلبية- لكن يقول ابو حنيفة- من قلد بدنة و توجه معها يريد الحج فقد احرم و ان لم يلب- جعل الفعل مكان القول فان الذكر كما يحصل بالقول يحصل بالفعل الا ترى انه من سمع الاذان للصلوة فمشى الى الصلاة على الفور كان هذا المشي ء مكان جواب الاذان فان اجابة الداعي بالفعل أقوى منه بالقول- و ليس معنى التلبية الا الألباب و القيام الى الطاعة و اللّه اعلم-

و استدل صاحب الهداية على ذلك بقوله صلى اللّه عليه و سلم من قلد بدنة فقد احرم- و هذا الزبير قال ابن همام وقفه ابن ابى شيبة في مصنفه على ابن عباس و ابن عمر قلت لا مساس لهذين الأثرين بالمدعى لانه كان مذهب ابن عباس و ابن عمر انه من بعث الى مكة هديا و هو لا يريد الحج فهو إذا قلد هديا يحرم عليه ما يحرم على المحرم حتى ينحر هديه بمكة و هو المراد بقول ابن عباس و ابن عمر من قلد هديا فقد احرم و كذا روى عن غيرهما من الصحابة ثم انعقد الإجماع على خلاف ذلك- روى البخاري في صحيحه ان زياد بن ابى سفيان كتب الى عائشة ان عبد اللّه بن عباس قال من اهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه- فقالت عائشة ليس كما قال ابن عباس انا قتلت قلائد هدى النبي صلى اللّه عليه و سلم بيدي ثم فلذها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم بعث بها مع ابى فلم يحرم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شى ء أحل اللّه له- قال الحافظ كان ذلك سنة تسع فلا يظن ظان انه كان أول الإسلام ثم نسخ

فَلا رَفَثَ تقى بمعنى النهى يعنى فلا ترفثوا و الرفث هو الجماع-

و قال الزجاج هى كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء- و قيل الرفث الفحش و القول القبيح قلت و ذلك حرام ابدا لا وجه لتعليقه بالإحرام

وَ لا فُسُوقَ قال ابن عمر هو ما نهى عنه المحرم يعنى لا تركبوا محرمات الإحرام و هى ستة أشياء اجماعا- منها الرفث يعنى الوطي و دواعيه أفرده اللّه تعالى بالذكر لشدة امره فان الجماع يفسد الحج و العمرة اجماعا بخلاف غيره من المحظورات حيث يلزم بها الدم لكن إذا كان الجماع بعد الوقوف بعرفة ففى إفساده الحج خلاف و لا خلاف في حرمته- و منها قتل صيد البر و الاشارة اليه و الدلالة عليه قال اللّه تعالى لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ... وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً- و سيجيئ البحث عنه في سورة المائدة ان شاء اللّه تعالى و منها ازالة الشعر و الظفر قال اللّه وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ- و قتل القمل المتولد من الوسخ ملحق بالشعر- و منها استعمال الطيب في الثوب او البدن قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تلبسوا شيئا مسّه زعفران او ورس- متفق عليه عن ابن عمر- و هذه الأشياء عامة حرمتها للرجال «١» و النساء-

(١) فى الأصل الرجال

و منها ما اختص بالرجال و هو أمران لبس المخيط و الخفين الا انه من لم يجد النعلين فيلبس الخفين و من لم يجد الإزار فيلبس السراويل كذا في المتفق عليه من حديث ابن عباس و عن جابر نحوه و تغطية الرأس و اما تغطية الوجه فيعم الرجال و النساء عند ابى حنيفة و مالك رحمهما اللّه و قال الشافعي و احمد بل يختص بالنساء لقول ابن عمر إحرام الرجل في راسه و إحرام المرأة في وجهها- رواه الدارقطني و البيهقي و قد روى مرفوعا و لا يصح و لحديث عثمان ابن عفان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يخمر وجهه و هو محرم رواه الدارقطني و قال الدارقطني الصواب انه موقوف- فى المؤطا عن الفراقصة انه راى عثمان بالعرج يغطى وجهه و هو محرم- و لنا حديث ابن عباس في قصة رجل- و قصته راحلته و هو محرم قال عليه الصلاة و السلام لا تخمروا رأسه و لا وجهه فانه يبعث يوم القيمة ملبيا- رواه مسلم و النسائي و ابن ماجة و السابع ما اختلفوا في حرمتها في الإحرام و هو عقد النكاح فقال مالك و الشافعي و احمد لا يجوز للمحرم ان يعقد النكاح لنفسه او لغيره او يؤكل النكاح غيره-

و ان ارتكب لا ينعقد- لحديث عثمان بن عفان عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المحرم لا ينكح و لا ينكح و لا يخطب- رواه مسلم و ابو داود و غيرهما- و قال ابو حنيفة يجوز و ينعقد لحديث ابن عباس قال تزوج النبي صلى اللّه عليه و سلم ميمونة و هو محرم و بنى بها و هو حلال و ماتت بسرف- متفق عليه و أجاب الجمهور بانه اختلف الرواية في نكاح ميمونة روى مسلم في صحيحه عن يزيد بن الأصم قال حدثتنى ميمونة بنت الحارث ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تزوجها و هو حلال قال و كانت خالتى و خالة ابن عباس- قالوا و حديث ميمونة نفسها أرجح فانها كانت اعرف بحالها عن ابن عباس و لو تعارضت الرواية في نكاح ميمونة بقي حديث عثمان سالما عن المعارضة- على ان حديث عثمان قولى و قصة ميمونة فعل منه يحتمل التخصيص به صلى اللّه عليه و سلم و كان للنبى صلى اللّه عليه و سلم في باب النكاح خصوصيات لم يكن لغيره- و قال ابن عباس الفسوق «١» هو المعاصي كلها و الظاهر هو الاول فان ذلك لا يختص بالحج قرا ابن كثير و ابو عمر و بالرفع و التنوين بابطال عمل لا بالتكرار في

(١) اخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرفث التعرض النساء بالجماع و الفسوق بالمعاصي و الجدال جدال الرجل صاحبه عنه رحمه اللّه [.....]

فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ و الباقون بالنصب من غير تنوين و نظيره في جواز الامرين لا حول و لا قوة الا باللّه

وَ لا جِدالَ قرا ابو جعفر بالرفع و التنوين و الباقون بالنصب- كان اهل الجاهلية يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم ان موقفه موقف ابراهيم و يتجادلون فيه فبعضهم يقف بعرفة و بعضهم بالمزدلفة- و كان بعضهم يحج في ذى القعدة و بعضهم في ذى الحجة- و كل يقول ما فعلته هو الصواب فقال اللّه تعالى

وَ لا جِدالَ اى استقر امر الحج على ما فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلا اختلاف فيه يعنى لا تختلفوا فيه-

و قال مجاهد معناه و لا شك في الحج انه في ذى الحجة فابطل النسي ء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا ان الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات و الأرض الحديث متفق عليه من حديث ابى بكرة

فِي الْحَجِّ خبر لما قبله وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه فيجازيكم به حث على الخير بعد النهى عن الشر

وَ تَزَوَّدُوا روى البخاري و غيره عن ابن عباس قال كان اهل اليمن يحجون فلا يتزودون و يقولون نحن متوكلون فاذا قدموا مكة سالوا الناس- و

قال البغوي انما يفضى حالهم الى النهب و الغضب فانزل اللّه تعالى و تزوّدوا يعنى تزودوا ما تبلغون به و تكففون وجوهكم

فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى اى ما يتقيكم عن السؤال و النهب و نحو ذلك

وَ اتَّقُونِ قرا ابو عمر و بإثبات الياء وصلا فقط و الباقون بالحذف وصلا و وقفا

يا أُولِي الْأَلْبابِ (٣١٧) فان اقتضاء اللب خشية اللّه القريب الغالب-.

١٩٨

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا فَضْلًا عطاء و رزقا

مِنْ رَبِّكُمْ بالتجارة و نحو ذلك في سفر الحج روى البخاري عن ابن عباس قال ثلاث كانت اسواقا في الجاهلية عكّاظ- و مجنة- و ذو المجاذ فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فانزل اللّه تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فى مواسم الحج

قال البغوي كذا قرا ابن عباس

و اخرج احمد و ابن ابى حاتم و ابن جرير و الحاكم و غيرهم من طرق عن ابى امامة التيمي قال قلت لابن عمر انا قوم نكرى في هذا الوجه يعنى الى مكة فيزعمون ان لا حج لنا فقال أ لستم تحرمون كما يحرمون و تطوفون كما يطوفون و ترمون كما يرمون قلت بلى قال أنت حاجّ جاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فساله عن الذي سالتنى عنه فلم يجب بشى ء حتى نزل جبرئيل بهذه الاية

فَإِذا أَفَضْتُمْ دفعتم و الافاضة دفع بكثرة مِنْ عَرَفاتٍ جمع عرفة جمعت بما حولها و سميت بها و هى بقعة واحدة- و انما سمى الموقف عرفات و اليوم عرفة لانه نعت لابراهيم عليه السلام فلما أبصره عرفه أخرجه ابن جرير عن السدى- او لانه كان جبرئيل يدور به في المشاعر فلما أراه قال عرفت أخرجه ابن جرير عن ابن عباس و على- و ذكر البغوي قال عطاء و ذكر البغوي ايضا انه قال الضحاك ان آدم عليه السلام لما اهبط الى الأرض وقع بالهند و حواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا- و قال السدى لمّا اذّن ابراهيم في الناس بالحج و أجابوه بالتلبية و أتاه من أتاه امره اللّه ان يخرج الى عرفات و نعتها له فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصياة يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه و كبر قطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه و كبر فلما راى الشيطان انه لا يطيقه ذهب فانطلق ابراهيم حتى اتى ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمى الوقت عرفة و الموضع عرفات حتى إذا امسى ازدلف الى جمع فسمى المزدلفة- و روى عن ابى صالح عن ابن عباس ان ابراهيم راى ليلة التروية في منامه انه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه اجمع اى فكر أمن اللّه هذه الرؤيا أم من الشيطان فسمى اليوم يوم التروية ثم راى ذلك ليلة عرفة ثانيا فلما أصبح عرف ان ذلك من اللّه فسمى عرفة

فَاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و هو ما بين جبلى المزدلفة من مازمى عرفة الى محسر و ليس المازمان و لا المحسر من المشعر- سمى مشعرا من الشعار و هو العلامة لانه من معالم الحج- و اصل الحرام من المنع و هو في الحرم فهو ممنوع من ان يفعل فيه ما لم يؤذن فيه- و سمى المزدلفة جمعا لانه يجمع فيه بين صلوتى العشاء.

و عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة- و مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر بالإجماع لقوله صلى اللّه عليه و سلم- عرفة كلها موقف و ارتفعوا من بطن عرفة و المزدلفة كلها موقف و ارتفعوا من بطن محسر- رواه الطبراني و الطحاوي و الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا و قال صحيح على شرط مسلم- و رواه البيهقي موقوفا و مرفوعا و في الباب عن جابر و جبير بن مطعم و ابى هريرة و ابى رافع و في إسنادها مقال و رواه مالك في المؤطا بلاغا

وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ كما علمكم او كما هديكم هداية حسنة الى المناسك و غيره يعنى اذكروه بالتوحيد لا كما كان الكفار يذكرونه بالشرك و ما مصدرية او كافة

وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ اى قبل الهدى

لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) اى من المشركين او الجاهلين بالايمان و الطاعة و ان مخففة و اللام هى الفارقة- و قيل ان نافية و اللام بمعنى الا مثل إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ-.

١٩٩

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ- اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كانت العرب تقف بعرفة- و كانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة فانزل اللّه- ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ-

و اخرج ابن المنذر عن اسماء بنت ابى بكر قالت كانت قريش تقف بالمزدلفة و تقف النّاس بعرفة الا شيبة بن ربيعة فانزل اللّه هذه الاية-

قال البغوي كانت قريش و هم الحمس و حلفاوهم يتعظمون ان يقفوا مع سائر العرب بعرفات و يقولون نحن اهل اللّه و وطان حرمه فلا نخلف الحرم و لا نخرج منه- و سائر الناس يقفون بعرفات فاذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فامرهم اللّه تعالى ان يقفوا بعرفات و يفيضوا منها الى جمع مع سائر الناس و أخبرهم انه سنة ابراهيم و إسماعيل- فالمراد بالناس على هذه الروايات العرب كلهم غير الحمس- و قال الضحاك الناس هاهنا ابراهيم عليه السلام وحده كقوله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ و أراد به محمدا صلى اللّه عليه و سلم وحده و كذا في قوله تعالى قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ و المراد بالناس الاول نعيم بن مسعود الأشجعي- و قال الزهري الناس هاهنا آدم عليه السلام وحده دليله قراءة سعيد بن جبير ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاسى بالياء و هو آدم عليه السلام نسى عهد اللّه- و قيل معنى الاية ثمّ يعنى بعد افاضتكم من عرفات أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يعنى من المزدلفة الى منى و الاول قول اكثر المفسرين لكن يشكل على الاول لفظ ثم لانه مقدم على الوقوف بالمشعر الحرام فقيل ثم هاهنا بمعنى الواو- و الاوجه ان كلمة ثم هاهنا لتفاوت ما بين الافاضتين رتبة فان الافاضة من عرفات فريضة ركن للحج اجماعا يفوت الحج بفواته بخلاف الوقوف بالمزدلفة فانه ليس بركن للحج اجماعا الا ما روى عن ليث و علقمة فانهما قالا بركنيته- و نظيرها في القران فَكُّ رَقَبَةٍ او إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ او مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا- فان مقتضى هذه الاية ان الايمان أعظم درجة من سائر الحسنات و اللّه اعلم.

ثم بعد ما اجمعوا على ان الوقوف بمزدلفة ليس بركن اختلفوا في انه واجب يجب بفواته الدم او سنة فقال الشافعي رحمه اللّه سنة و قال الجمهور واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في القدر الواجب منه فقال ابو حنيفة الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر واجب- و قال مالك المبيت بمزدلفة ليلة النحر و لو ساعة واجب- و قال احمد المبيت ما بعد نصف الليل واجب و هذه الاية حجة للقائلين بالوجوب على الشافعي فان قوله تعالى فَإِذا «١» أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ- يدل بعبارته على وجوب الوقوف بمزدلفة و بإشارته على وجوب الوقوف بعرفات فان سوق الكلام للامر بالذكر عند المشعر الحرام و الافاضة من عرفات شرط له فهذا اولى بالوجوب

(١) فى الأصل إذا

فان قيل الذكر غير واجب اجماعا فالامر بالذكر انما هو للاستحباب فكيف يحتج به في الخلافية و هو وجوب الوقوف بمزدلفة

قلنا الذكر عبارة عن طرد الغفلة و ذلك كما يحصل بالقول باللسان يحصل بالعمل بالجوارح ايضا قال صاحب الحصين كل مطيع للّه ذاكر فالوقوف بمزدلفة بنية العبادة ذكر لا محالة و هو المامور به فهو واجب- ثم التلبية و الدعاء و صلوة العشاءين و الفجر لازم للوقوف و كل ذلك ذكر فيمكن ان يطلق اللازم و يراد به الملزوم كما في قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ يعنى صلوا ما تيسر- و يؤيد مذهبنا من السنة حديث عروة بن مضرس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- من شهد صلاتنا هذه يعنى الفجر يوم النحر بمزدلفة و وقف معنا حتى ندفع و وقف بعرفة قبل ذلك ليلا او نهارا فقدتم حجه- رواه اصحاب السنن الاربعة و ابن حبان و الحاكم و قال صحيح على شوط كافة اهل الحديث- علق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تمام الحج به فهو دليل الوجوب- و روى النسائي الحديث المذكور بلفظ من أدرك جمعا مع الامام و الناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج و من لم يدرك مع الامام و الناس فلم يدرك الحج- و لابى يعلى و من لم يدرك جمعا فلا حج له-

و هذا الحديث حجة لابى حنيفة في قوله الواجب الوقوف بعد الصبح- و ايضا في هذه الاية احتجاج لابى حنيفة على وجوب الوقوف بعد الصبح لان الوقوف بمزدلفة مرتب على الوقوف بعرفات بمقتضى هذه الاية و الإجماع انعقد على ان وقت الوقوف بعرفات الى اخر الليل فمن وقف بعرفة الى آخر ليلة النحر و لو ساعة فقد أدرك الحج فحينئذ لا بد ان يكون وقت الوقوف يجمع بعد الصبح- و حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم واقفا بعرفات فاقبل أناس من اهل نجد فسالوه عن الحج قال الحج يوم عرفة و من أدرك جمعا قبل صلوة الصبح فقد أدرك الحج ايام منى ثلاثة ايام التشريق فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ- رواه الطحاوي و في هذه الحديث حجة لمالك في وجوب المبيت بمزدلفة قبل الصبح لكن هذا الحديث رواه اصحاب السنن و الحاكم و الدارقطني و البيهقي بلفظ- الحج عرفة من جاء قبل صلوة الصبح من ليلة جمع فقد ثم حجه و هذا الفظ لا يدل على الوقوف بمزدلفة و الحجة لاحمد على وجوب المبيت بمزدلفة انه صلى اللّه عليه و سلم بات بمزدلفة و وقف بعد صلوة الصبح و قال- خذوا عنى مناسككم- فكان مقتضى هذا الاستدلال ان يكون المبيت و الوقوف بعد الصبح كلاهما واجبين لكن لما رخص رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضعفة اهله في الرواح من مزدلفة الى منى من اخر الليل ظهران الوقوف بعد الصبح غير واجب روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس انا ممن قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في ضعفة اهله- و في الصحيحين عن اسماء بنت ابى بكر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم اذن للظعن يعنى في الرواح الى منى من الليل بعد غروب القمر- و في الباب في الصحيحين عن ابن عمر و كذا في الصحيح عن أم حبيبة-

قلنا الرخصة للضعفاء لا ينفى الوجوب عن الأقوياء-

فان قيل مقتضى هذه الاية وجوب الوقوف بعرفة و كذا وجوب الوقوف بمزدلفة- و ليس الوقوف بمزدلفة ركن فهم تقولون ان الوقوف بعرفة ركن

قلنا بالإجماع على فوات الحج بفوات عرفة دون المزدلفة- و سند الإجماع قوله صلى اللّه عليه و سلم و الحج عرفة- و حديث الآحاد يصلح سند الإجماع و لعل اهل الإجماع أخذوا ركنية عرفات من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اللّه اعلم و اختلفوا في وقت الوقوف بعرفة فقال احمد وقته من طلوع الفجر الثاني يوم عرفة- و قال ابو حنيفة و الشافعي بعد الزوال يوم عرفة- و قال مالك أول وقته من غروب الشمس ليلة النحر الى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر اجماعا- احتج مالك بما مر من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قوله صلى اللّه عليه و سلم من جاء قبل صلوة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه- و لاحمد حديث عروة بن مضرس و فيه و اتى عرفات قبل ذلك ليلا او نهارا فقد تم حجه- و لابى حنيفة و الشافعي حديث جابر عند مسلم و غيره انه صلى اللّه عليه و سلم ركب الى منى يوم التروية فصلى بها الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت «١» الشمس فامر بقبة من شعر فضرب له بنمرة فسار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى اتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل حتى إذا لاغت الشمس امر بالقصوى فرحلت له و اتى بطن الوادي الحديث-

(١) فى الأصل طلع الشمس

و لو كان وقت الوقوف قبل الزوال لبادر اليه النبي صلى اللّه عليه و سلم و لم ينزل فى قبته و أجيب بان ذلك يدل على الافضلية و لا يدل على انه من وقف قبل الزوال لا يجزيه- و كذا حديث سالم بن عبد اللّه ان عبد اللّه بن عمر جاء الى الحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس و انا معه فقال الرواح ان كنت تريد السنة فقال هذه الساعة قال نعم- و اللّه اعلم

وَ اسْتَغْفِرُوا اللّه على ما فعلتم في جاهليتكم إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)

٢٠٠

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ اى فرغتم من اركان

الحج و مناسكها و ذلك يوم النحر بعد رمى جمرة العقبة و الذبح و الحلق و الطواف و السعى اعلم ان اركان الحج الإحرام و الوقوف بعرفة و طواف الزيادة بالإجماع و قال الشافعي السعى و الحلق ايضا و قد مر بحث السعى و سنذكر بحث الحلق في سورة الحج ان شاء اللّه تعالى

فَاذْكُرُوا اللّه بالتكبير و التحميد و الثناء عليه

كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ و ذلك ان العرب كانوا إذا فرغوا من الحج وقفوا عند البيت فذكروا مفاخر ابائهم فامرهم اللّه تعالى بذكره فان اللّه تعالى مولى النعم إليهم و الى ابائهم و هو خالقهم دون ابائهم فهو اولى بالذكر قال اللّه تعالى أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ- قال ابن عباس و عطاء معناه فَاذْكُرُوا اللّه كذكر الصبيان الصغار الآباء-

قلت و على هذا كان ذكر الأمهات اولى من الآباء

او أَشَدَّ ذِكْراً يعنى بل أشد ذكرا- و أشد اما مجرور معطوف على الذكر يعنى و اذكروا اللّه ذكرا كذكركم او كذكر أشد منه ذاكرية- او على ما أضيف اليه يعنى كذكر قوم أشد منكم ذاكرية- و اما منصوب بالعطف على ابائكم فحينئذ ذكرا مصدر بمعنى المفعول يعنى- او كذكركم أشد مذكورية من ابائكم- او التقدير كونوا أشد ذكرا للّه منكم لابائكم

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يعنى من كان طمعه الدنيا فقط و هم المشركون المنكرون للبعث يقولون

رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حذف المفعول الثاني ايماء على التعميم يعنى اتنا في الدنيا كل شى ء او كل ما تعطيناه آتناه في الدنيا- كان المشركون لا يسئلون في الحج الا الدنيا

وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) من نصيب.

٢٠١

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً التنكير للتعظيم يعنى حسنة عظيمة هو اخلاص العمل للّه و العافية و يحتمل ان يراد به جنس الحسنة عموما و النكرة في الإثبات قد تعم بمصاعدة المقام و القرينة كما في قوله صلى اللّه عليه و سلم تمرة خير من جرادة يعنى كل تمرة خير من كل جرادة- فاعطاء التمرة في جزاء قتل الجرادة يكفى للمحرم فهذه الاية نظير ما ورد في السنة اللّهم انى أسئلك من الخير كله عاجله و اجله ما علمت منه و ما لم اعلم

وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً و هى رضوان اللّه تعالى او كل شى ء من نعماء الاخرة

وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) بالعفو و المغفرة روى البغوي بسنده عن انس رضى اللّه عنه قال راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رجلا قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو اللّه بشى ء او تسئله إياه قال يا رسول اللّه كنت أقول اللّهم ما كنت معاقبى به في الاخرة فعجله لى في الدنيا فقال سبحان اللّه لا تستطيعه او لا تطيقه هلا قلت رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ و عنه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يكثر ان يقول رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ- متفق عليه و عن عبد اللّه بن السائب انه سمع النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول فيما بين ركن بنى جمح و الركن الأسود رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ- رواه ابو داود و النسائي و ابن حبان و الحاكم و ابن ابى شيبة- و روى ابو الحسن بن الضحاك عن انس رضى اللّه عنه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو دعا بمائة مرة يفتح بها و يختم بها رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ و لو دعا بدعوتين لجعلها أحدهما- و روى تقى بن مخلد عنه قال-

كان في أول دعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و في وسطه و في آخره اللّهم اتنا في الدّنيا حسنة و في الاخرة حسنة و قنا عذاب النّار.

٢٠٢

أُولئِكَ اشارة الى القريق الثاني و قيل إليهما

لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا سمى الدعاء كسبا لانه من الأعمال

وَ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) قال الحسن اسرع من لمح البصر و قيل معناه إتيان القيامة قريب فاطلبوا الاخرة-.

٢٠٣

وَ اذْكُرُوا اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ و هى ايام التشريق سميت معدودات لقلتهن كذا روى عن ابن عباس و غيره و يدل على ذلك قوله تعالى

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ من ايام التشريق يعنى استعجل في النفر و نفر في ثانى ايام التشريق- اتفقوا على انه من لم ينفر و دخل عليه الثالث من ايام التشريق وجب عليه رمى ذلك اليوم و اختلفوا في انه هل يعتبر دخول الليلة الثالثة من ليالى ايام التشريق او الثالث من أيامها فقال الجمهور المعتبر دخول الليل فمن اقام بمنى حتى دخلت الليلة الثالثة لا يحل له النفر حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث- و قال ابو حنيفة لا يجب ذلك حتى يصبح بمنى و له ان ينفر من الليل و إذا طلع الفجر لزمه الرمي- قال ابو حنيفة وقت الرمي انما هو النهار فمن نفر من الليل كان كمن سافر قبل وقت الجمعة- و قال غيره الليل و ان لم يكن وقت المرمى فهو وقت للمبيت و المبيت بمنى واجب فبعد دخول الليل وجب المبيت فلا يحل النفر- و اللّه اعلم

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فانه أخذ بالرخصة وَ مَنْ تَأَخَّرَ فى النفر حتى يرمى اليوم الثالث

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ و هو اولى و أفضل و فيه رد على اهل الجاهلية كان منهم من اثم المتعجل و منهم من اثم المتأخر

لِمَنِ اتَّقى اى هذه الاحكام لمن اتقى فانه هو المنتفع به- و قيل لمن اتقى ان يصيب في حجه شيئا مما نهاه اللّه عنه رجع مغفورا لا ذنب عليه سواء تعجل في النفر او تأخر

قال البغوي هذا قول على و ابن مسعود رضى اللّه عنهما- و يؤيده من المرفوع قوله صلى اللّه عليه و سلم من حج للّه و لم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدته امه- متفق عليه من حديث ابى هريرة و عنه في الصحيحين مرفوعا الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة- و عن ابن مسعود قال- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحج و العمرة ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفى الكبير خبث الحديد رواه الشافعي و الترمذي و عن عمر و نحوه رواه احمد اعلم ان المقام بمنى ايام التشريق و المبيت بها في لياليها و كذا الرمي ليس بركن اجماعا لقوله تعالى فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّه فان الترتيب و التعقيب يدل على المغائرة- و اختلفوا فى وجوبها فقال احمد المبيت و الرمي كلاهما واجبان- و قال مالك المقام و المبيت واجب و الرمي سنة مؤكدة- و قال ابو حنيفة بالعكس و هو رواية عن احمد- و للشافعى قولان أحدهما كاحمد و الثاني كابى حنيفة- و قال بعضهم انما شرع الرمي حفظا للتكبير فان ترك و كبر أجزأه حكاه ابن جرير عن عائشة و غيرها و هذا المذهب يوافق ظاهر الاية لكنه خلاف ما استقر عليه الإجماع احتج احمد بهذه الاية و قال هذه الاية يحتمل إيجاب الامرين و فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم التحق بيانا لاجمالها و قد قال خذوا عنى مناسككم-

و قال ابو حنيفة- المقصود بالمقام و المبيت هو الرمي بدليل ما رواه البخاري عن ابن مسعود انه رمى من بطن الوادي فقيل له ان نا ساير مونها من فوقها فقال و الذي لا اللّه غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة فان هذا القول اشارة الى ان هذه الاية في الرمي لا غير- و ما رواه عاصم بن عدى قال- أرخص رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لرعاء الإبل في البيتوتة بمنى يرمون يوم النحر ثم- يرمون الغدو من بعد الغد ثم يرمون يوم النفر- رواه مالك و غيره و في النسائي رخص للرعاء فى البيتوتة يرمون يوم النحر و اليومين الذين بعده يجمعونهما في أحدهما- قال مالك تفسير الحديث انهم يرمون يوم النحر فاذا مضى اليوم الذي يلى يوم النحر رموا من الغد و ذلك اليوم النفر الاول يرمون اليوم الذي مضى قضاء ثم يرمون ليومهم وجه الاحتجاج ان إيجاب قضاء الرمي دون المبيت دليل على وجوب الرمي مقصودا و عدم وجوب المبيت الا تبعا للرمى- قال احمد الترخيص في المبيت للرعاء للضرورة لا يدل على عدم الوجوب مطلقا بل يدل على الوجوب فان الرخصة لا يكون الا فيما هو واجب- و الحجة لمالك انه قد روى عن عمر و ابنه انهما كانا يكبران تلك الأيام خلف الصلوات و في المجالس و على الفراش و الفسطاط و في الطريق و يكبر الناس بتكبيرهما و يتاولان هذه الاية- وجه الاحتجاج ان الذكر في ايام التشريق مطلقا سواء كان بمنى او غيره ليس بواجب اجماعا بل هو مقيد بمنى يدل عليه قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ يعنى في النفر الاية و لا شك ان المقام هناك بنية التقرب ذكر و انضمام الذكر اللساني اولى و أفضل فمحمل الاية هو المقام بمنى دون الرمي

قلنا هذا لا ينافى ان يكون محمل الاية كلا الامرين المقام و الرمي كما لا يخفى و اللّه اعلم و اعلم انه ثبت بالسنة و هو بيان لا جمال الاية ان الرمي يوم النحر في جمرة العقبة بسبع حصيات و وقته من طلوع الفجر يوم النحر عند ابى حنيفة و مالك- و مما بعد نصف الليل من ليلة النحر عند احمد و الشافعي- و من طلوع الشمس يوم النحر عند مجاهد و الحجة لمجاهد حديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قدّم ضعفة اهله و قال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس- رواه الترمذي و قال هذا حديث صحيح-

قلنا هذا محمول على الاستحباب و يدل على الجواز بعد الصبح قبل طلوع الشمس ما رواه الطحاوي بأسانيده عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعثه مع النقل و قال لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا «١»-

(١) فى الأصل حتى يسبحوا

و هو حجة لنا على الشافعي و احمد في عدم جواز الرمي قبل الصبح- و ما احتج به الشافعي و احمد من حديث عائشة قالت أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فافاضت- رواه الدارقطني حديث ضعيف في سنده لا ضحاك بن عثمان لينه القطان ثم هو محمول على انها «٢» رمت قبل صلوة الفجر لا قبل طلوع الفجر فهو حجة لنا على مجاهد- و اخر وقته عند ابى يوسف الى الزوال لانه صلى اللّه عليه و سلم رمى الجمرة- يوم النحر ضحوة- و عند الجمهور الى الغروب لحديث ابن عباس قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يسئل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج- فساله رجل فقال حلقت قبل ان اذبح قال اذبح و لا حرج- قال رميت بعد ما أمسيت فقال لا حرج- رواه البخاري و غيره و معنى قوله بعد ما أمسيت اى بعد الزوال إذ المساء يطلق على بعد الزوال و ليس المراد بعد الغروب لان يوم النحر يطلق قبل الغروب لا بعده و في بعض طرق الحديث صريح ان السؤال كان وقت الظهر- و اخر وقته المكروه الى طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر لان النبي صلى اللّه عليه و سلم رخص للرعاء ان يرموا ليلا رواه ابن ابى شيبة عن ابن عباس و هذا يدل على الجواز للمعذور و على الكراهة لغير المعذور و الرمي فى ايام التشريق في ثلثة جمار الجمرة الدنيا و الجمرة الوسطى و الجمرة العقبة يرمى عند كل جمرة بسبع حصيات و أول وقتها في أول ايام التشريق يعنى يوم القرار «٣» و ثانيها يعنى يوم النفر الاول بعد الزوال اجماعا لما في حديث جابر و غيره- ثم لم يرم النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى زالت الشمس و اخر وقته في كل يوم بلا كراهة الى الغروب و للمعذورين الى طلوع الفجر من اليوم الثاني و ذلك مع كراهة لغير المعذور لما مر انه صلى اللّه عليه و سلم رخص للرعاء ان يرموا ليلا و كذا في اليوم الثالث من ايام التشريق يوم النفر الاخر عند الجمهور و به قال ابو يوسف و محمد غير انه لا يجوز الرمي بعد الغروب من ذلك اليوم اجماعا لان تلك الليلة ليست من ايام التشريق-

(٢) فى الأصل انه

(٣) فى الأصل يوم القر

و قال ابو حنيفة يجوز الرمي في ذلك اليوم قبل الزوال- و لم اطلع على دليل لهذا القول غير ما ذكر ابن همام عن ابن عباس انه قال إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي و الصدر- رواه البيهقي قال و الانتفاخ الارتفاع- و في سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي و ابن معين و الدارقطني و قال احمد متروك الحديث- و هل يشترط الترتيب بين الجمار في ايام التشريق فعند الجمهور الترتيب واجب و عند ابى حنيفة سنة- وجه قول الجمهور- ان كل شى ء لا يدرك بالراى فرعاية جميع الخصوصيات الواردة فيه واجب و لم ينقل فوات الترتيب- و قال ابو حنيفة لو كان الرمي

فى الجمرات الثلاث نسكا واحدا كان مراعات خصوصياته واجبا لكن الرمي في كل جمرة نسك برأسه فلابد في كل واحد منها رعاية خصوصياته و اما الترتيب بين المناسك العديدة فليس بشرط كما ان الترتيب بين الرمي و الذبح و الحلق ليس بشرط-

قلت فكان القياس على قول ابى حنيفة ان ذلك الترتيب ان لم يكن شرطا لكن ليكن واجبا ينجبر بالدم كالترتيب بين الرمي و الذبح و الحلق و لم يظهر لى وجه الفرق بين المسألتين و اللّه اعلم

وَ اتَّقُوا اللّه وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) فيجازيكم على حسب أعمالكم و إخلاصكم و اللّه اعلم

قال البغوي قال الكلبي و مقاتل و عطاء كان الأخنس بن شريف الثقفي حليف بنى زهرة و سمى الأخنس لانه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بنى زهرة عن قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كان رجلا حلو الكلام حلو المنظر و كان يأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيجالسه و يظهر الإسلام و يقول انى لاحبك و يحلف باللّه على ذلك- و كان منافقا و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدنى مجلسه فنزل.

٢٠٤

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ اى يعظم في قلبك و تستحسنه

قوله يعنى الأخنس كذا اخرج ابن جرير عن السدى-

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن إسحاق عن ابن عباس قال لما أصيب السرية التي يعينها عاصم و مرثد بالرجيع قال رجلان من المنافقين- يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا لا هم قعدوا في أهليهم و لا هم أدوا رسالة صاحبهم فانزل اللّه وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قوله

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بيعجبك يعنى يعجبك قوله في الحيوة الدنيا حلاوة و فصاحة و لا يعجبك في الاخرة لما يعتريه الفضيحة او متعلق بالقول اى قوله في معنى الدنيا من ادعاء المحبة و اظهار الإسلام

وَ يُشْهِدُ اللّه ذلك المنافق اى يحلف باللّه و يستشهده

عَلى ما فِي قَلْبِهِ يعنى على ان ما فى قلبه مطابق للسانه فيقول و اللّه انى بك مومن و لك محب

وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) اى أشد الخصومة و الجدال للمسلمين و الخصام مصدر خاصمه خصاما- و قال الزجاج هو جمع خصم مثل بحر و بحار- و الجملة حال من فاعل يشهد- عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان ابغض الرجال الى اللّه عز و جل الألد الخصم- قال قتادة هو شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة و يعمل بالخطيئة.

٢٠٥

وَ إِذا تَوَلَّى اى أدبر سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ روى ان الأخنس كانت بينه و بين ثقيف خصومة فبيّنهم ليلا فاخرق زروعهم و أهلك مواشيهم- و قال مقاتل خرج الى الطائف مقتضيا مالا له على غريم فاحرق له كدسا و عقر له أتانا-

و النسل نسل كل دابة و الإنسان منهم و قال الضحاك معنى إذا تولى اى صار واليا ملكا سعى في الأرض بالفساد-

و قال مجاهد في قوله تعالى إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ انه إذا ولى عمل بالعدوان و الظلم فامسك اللّه المطر و أهلك الحرث و النسل

وَ اللّه لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه.

٢٠٦

وَ إِذا قيل لَهُ للاخنس اتَّقِ خف اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ حملته الانفة و حميّة الجاهلية و التكبر

بِالْإِثْمِ اى على الإثم يقال أخذته بكذا اى حملته عليه و ألزمته إياه- او الباء للسببية و المعنى أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه و هو الكفر

فَحَسْبُهُ كفته جزاء- و عذابا جَهَنَّمُ علم لدار العقاب و هو في الأصل مرادف لنار و قيل معرّب

وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) اى الفراش جواب قسم مقدر و المخصوص بالذم محذوف يعنى جهنم-

قال البغوي قال ابن مسعود ان من اكبر الذنب عند اللّه ان يقال للعبد اتق اللّه فيقول عليك بنفسك- و روى انه قيل لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه اتق اللّه فوضع خده على الأرض تواضعا للّه عز و جل.

٢٠٧

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي اى يبيع و يبذل في الجهاد او الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر

نَفْسَهُ حتى يقتل نظيره قوله تعالى إِنَّ اللّه اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الاية عن ابى امامة ان رجلا قال يا رسول اللّه اى الجهاد أفضل- قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر- رواه احمد و ابن ماجة و الطبراني و البيهقي- و ابن ماجة عن ابى سعيد

ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه- طلبا لرضائه كانّ مرضات اللّه ثمن يطلبها ببذل نفسه

وَ اللّه رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) حيث ارشدهم لمثل هذه التجارة الرابحة- اخرج الحارث بن ابى اسامة في مسنده و ابن ابى حاتم عن سعيد بن السيب قال اقبل صهيب مهاجرا الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته و انتثل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا و ايم اللّه لا تصلون الىّ حتى ارمى كل سهم معى في كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقي منه شى ء ثم افعلوا ما شئتم و ان شئتم و للتم على ما لى بمكة و خليتم سبيلى قالوا نعم- فلما قدم على النبي صلى اللّه عليه و سلم المدينة قال ريح البيع أبا يحيى ريح البيع أبا يحيى و نزلت هذه الاية

و اخرج الحاكم في المستدرك نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب نفسه موصولا

و اخرج ايضا من طريق حماد بن سلمة عن انس و فيه التصريح بنزول الاية فيه و قال صحيح على شرط مسلم-

و اخرج ابن جرير عن عكرمة قال نزلت في صهيب بن سنان الرومي اخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوه فقال لهم صهيب انى شيخ كبير لا يضركم امنكم كنت أم من غيركم فهل لكم ان تأخذوا مالى و تذرونى و دينى ففعلوا- و سياق هذا الحديث- يخالف سياق ما سبق و الاول هو الصحيح-

و قيل نزلت الاية في سرية الرجيع ذكر ابن إسحاق و محمد بن سعد و غيرهم ان بنى لحيان من هذيل بعد قتل سفيان بن نبيح الهذلي مشوا الى عضل و القارة و هما حيان و جعلوا لهم فرائض على ان يقدموا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيكلموه فيخرج إليهم نفر من أصحابه يدعونهم الى الإسلام و يعلمونهم الشرائع قالوا فنقتل من أردنا و نسير بهم الى قريش بمكة فنصيب بهم ثمنا فقدم سبعة نفر من عضل و القارة مقرين بالإسلام فقالوا يا رسول اللّه ان فينا الإسلام فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خبيب بن عدى الأنصاري و مرثد بن ابى مرشد الغنوي و خالد بن بكير و عبد اللّه بن طارق و زيد بن الدثنة و امّر عليهم عاصم بن ثانت الأنصاري-

و في الصحيح البخاري عن ابى هريرة بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عشرة عينا و امّر عليهم عاصم بن ثابت فغدروا بهم فاستصرخوا عليهم قريبا من مائة رام و في رواية فنفروا لهم من مائتى رجل-

قلت لعل الرامي منهم مائة- فلما احسن بهم عاصم و أصحابه لجاءوا الى فدقد و جاء القوم فاحاطوا بهم فقالوا لكم العهد و الميثاق ان نزلتم ان لا نقتل منكم و انّا و اللّه لا نريد قتلكم انما نريد نصيب شيئا من اهل مكة فقال عاصم اما انا فلا انزل في ذمة كافر اللّهم انى احمى لك اليوم دينك فاحم لحمى اللّهم اخبر عنا رسولك فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خبرهم يوم أصيبوا فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة و بقي خبيب و زيد و عبد اللّه بن طارق فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه فمنعه الدبر فسمى حمى الدبر فبعث اللّه سبحانه فسال الوادي فاحتمله فذهب به و كان عاصم قد اعطى اللّه العهد ان لا يمس مشركا و لا يمسه مشرك فبرّا اللّه قسمه و اما زيد بن الدثنة و ابن طارق و خبيب فاسروهم ثم خرجوا الى مكة ليبيعوهم حتى انا كانوا بالظهر ان انتزع عبد اللّه بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه فرموه بالحجارة حتى قتلوه و قبره بالظهران و باعوا زيدا و خبيبا بمكة- قال ابن إسحاق و ابن سعد اشترى زيدا صفوان بن امية (و اسلم بعد ذلك) ليقتله بابيه امية بن خلف فبعثه مع نسطاس مولى له (و اسلم بعد ذلك) الى التنعيم ليقتله و اجتمع من جمع قريش فيهم ابو سفيان حتى قدم ليقتل فقال ابو سفيان أنشدك اللّه يا زيد أ تحب ان محمدا عندنا بمكانك يضرب عنقه و انك في أهلك فقال و اللّه ما أحب ان محمدا صلى اللّه عليه و سلم الان في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه و انا جالس في أهلي فقال ابو سفيان ما رايت من الناس أحدا يحب أحدا كحب اصحاب محمد ثم قتله نسطاس-

و اما خبيب فابتاعه بنو الحارث حيث قتل خبيب الحارث يوم بدر فلبث خبيث عندهم أسيرا حتى اجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى لتستحد بها فاعارث فدرج بنى لها و هى غافلة فما راع المرأة إلا بخبيب قد اجلس الصبى على فخذه و الموسى بيده فصاحت المرأة- فقال خبيب أ تخشين ان اقتله ما كنت لأفعل ذلك ان الندر ليس من شأتنا- فقالت بعد- و اللّه ما رايت أسيرا خيرا من خبيب و اللّه لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده و هو الموثق بالحديد و ما كان بمكة من ثمرة الا كان رزقا رزقه اللّه ثم انهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل و أرادوا ان يصلبوا فقال لهم دعونى أصلي ركعتين فتركوه فكانّ خبيبا هو سنّ لكل مسلم قتل صبرا الصلاة فركع ركعتين ثم قال لهم لو لا ان تحسبوا ان مابى من جزع لزدتّ فقال اللّهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا «١»

(١) بددي بكسر الباء جمع بدة و هى الحصة و النصيب اى اقتلهم حصصا مقسّمة لكل واحد حصته و نصيب و يروى بالفتح اى متفرقين في القتل واحدا بعد واحد من التبديد- نهاية جزرى منه رحمة اللّه-

و لا تبق منهم أحدا و إنشاء يقول (شعر) و لست أبالي حين اقتل مسلما على اى شق كان في اللّه مصرع و ذلك في ذات الإله و ان يشاء يبارك في او ضال شلو؟؟ ممزع- فصلبوه حيا رواه البخاري فقال خبيب اللّهم بلغ سلامى رسولك.

و يقال كان رجل من المشركين يقال له سلامان ابو ميسرة معه رمح فوضعه بين ثدى خبيب فقال له خبيب اتق اللّه فما زاده ذلك الا عتوا و طعنه فابعده- فذلك قوله تعالى وَ إِذا قيل لَهُ اتَّقِ اللّه الاية-

روى محمد بن عمرو بن مسلمة عن اسامة بن زيد سمعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول عليه السلام و رحمة اللّه و بركاته هذا جبرئيل يقرؤنى من خبيب السلام- فلما بلغ النبي صلى اللّه عليه و سلم الخبر قال لاصحابه أيكم يختزل «٢» خبيبا من خشبته و له الجنة- فقال الزبير انا و صاحبى المقداد بن الأسود- فخرجا يمشيان بالليل و يكتمان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلا و إذا حول الخشبة أربعون من المشركين فانزلا فاذا هو رطب يتثنى لم يتغير منه شى ء بعد أربعين يوما و يده على جراحته ينض «٣» دما اللون لون الدم و الريح ريح المسك

(٢) يختزل اى يقتطع و يذهب به و يتفرد به- نهاية منه- رح

(٣) ينض و ما اى ينبع يقال نضّ الماء من العين اى نبع (منه رحمه اللّه).

فحمله الزبير على فرسه و سارا فانتبه الكفار و قد فقدوا خبيبا فاخبروا قريشا فركب منهم سبعون فلما الحقوهما قذف الزبير خبيبا فابتلعه الأرض فسمى بليع الأرض و قد ما على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و جبرئيل عنده فقال يا محمد ان الملائكة لتباهى بهذين من أصحابك- فنزل في الزبير و المقداد وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه حين شريا أنفسهما لانزال خبيب من خشبته و اللّه اعلم

اخرج ابن جرير عن عكرمة قال قال عبد اللّه بن سلام و ثعلبة و ابن يامين و اسد و أسيدا بنى كعب- و سعيد بن عمرو و قيس بن زيد كلهم مؤمنى اليهود يا رسول اللّه يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه و ان التوراة كتاب اللّه فدعنا فلتقم بها بالليل و كذا

قال البغوي و قال و كانوا يكرهون لحوم الإبل و ألبانها بعد ما اسلموا فنزلت.

٢٠٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السلم بالكسر و الفتح الاستسلام و الطاعة لذلك يطلق على المصلح و الإسلام و المراد هاهنا الإسلام قرا نافع و ابن كثير و الكسائي السّلم هاهنا بفتح السين و الباقون بكسرها- و في سورة الأنفال بالكسر ابو بكر و الباقون بالفتح و في سورة محمد صلى اللّه عليه و سلم بالكسر حمزة و ابو بكر و الباقون بفتحها- و كآفّة اسم للجملة لانها تكف الاجزاء من التفرق حال من الضمير او السلم لانها تؤنث كالحرب- و المعنى استسلموا للّه و أطيعوه جملة ظاهرا و باطنا-

قلت و ذا لا يتصور الا عند الصوفية- او المعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم و لا تخلطوا به غيره- او في شعب الإسلام و أحكامه كلها و لا تخلّوا بشى ء منها- قال حذيفة بن اليمان في هذه الاية ان الإسلام ثمانية أسهم فعدّ الصلاة و الصوم و الزكوة و الحج و العمرة و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر قال و قد خاب من لا سهم له-

قلت انما ذكر ما ذكر على سبيل التمثيل و الا فالمراد بالاية الامتثال بكل ما امر اللّه به و الانتهاء عن كل ما نهى عنه او يقال ان الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر يشتمل الجميع- فان الأمر بالمعروف يقتضى الإتيان به و النهى عن المنكر يقتضى الانتهاء عنه عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الايمان بضع و سبعون شعبة فافضلها قول لا اللّه الا اللّه و أدناها اماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الايمان- رواه مسلم و ابو داود و النسائي و ابن ماجة

وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ قد مر اختلاف القراءة فيه الشَّيْطانِ يعنى إنارة من تحريم السبت و تحريم الإبل و غير ذلك بعد ما نسخ

إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) ظاهر العداوة عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم حين أتاه عمر فقال انا نسمع أحاديث من يهود يعجبنا افترى ان نكتب بعضها- فقال «١» أ متهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية و لو كان موسى حيا ما وسعه الا اتباعى- رواه احمد و البيهقي في شعب الايمان.

(١) التهوك الوقوع في الأمر بغير رويّة قبيل التحبير منه رحمه اللّه

٢٠٩

فَإِنْ زَلَلْتُمْ يعنى زلت أقدامكم فلم تستقيموا على الإسلام

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الآيات و الحجج الشاهدة على انه الحق

فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَزِيزٌ لا يعجزه الانتقام حَكِيمٌ (٢٠٩) لا ينتقم الا بحق و لا يمهل الا لحكمة فيه دفع توهم الناشي من الامهال.

٢١٠

هَلْ يَنْظُرُونَ النظر بمعنى الانتظار يعنى ما ينتظرون

إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ جمع ظلة و هى كلما اظلك

مِنَ الْغَمامِ

قال البغوي هو السحاب الأبيض الرقيق سمى غماما لانه يغم اى يستر-

و قال مجاهد هو غير السحاب و لم يكن الا لبنى إسرائيل في تيههم و قال مقاتل كهيئة الضباب ابيض- و قال الحسن في سترة من الغمام فلا ينظر اليه اهل الأرض

وَ الْمَلائِكَةُ قرا ابو جعفر بالجر عطفا على الغمام او يكون الجر للجوار و الباقون بالرفع اى و يأتيهم الملائكة

وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وجب العذاب للكفار و الثواب للمؤمنين- و فزع من الحساب و ذلك يوم القيامة و اللّه اعلم- اجمع علماء اهل السنة من السلف و الخلف ان اللّه سبحانه منزه عن صفات الأجسام و سمات الحدوث فلهم في هذه الاية سبيلان أحدهما الايمان به و تفويض علمه الى اللّه تعالى و التحاشى عن البحث فيه و هو مسلك السلف قال الكلبي هذا من المكتوم الذي لا يفسر و كان مكحول و الزهري و الأوزاعي و مالك و ابن المبارك و سفيان الثوري و الليث و احمد و إسحاق رحمهم اللّه تعالى يقولون فيه و في أمثاله امرّوها كما جاءت بلا كيف قال سفيان بن عيينة كل ما وصف اللّه تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته و السكوت عنه ليس لاحدان يفسره الا اللّه و رسوله و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه حيث قال في المتشابهات ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه بالوقف عليه ثانيهما تأويله بما يليق به بناء على ما قيل ما يَعْلَمُ «٢» تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بالعطف

قال البيضاوي و غيره الا ان يأتيهم اللّه اى امره او بأسه بحذف المضاف فهو كقوله تعالى وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ - جاءَهُمْ بَأْسُنا- او المعنى- ان يأتيهم اللّه

(٢) و في القران و ما يعلم إلخ

يبأسه فحذف المأتى به للدلالة عليه بقوله أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال و انما يأتى العذاب في الغمام لان الغمام مظنة الرحمة فاذا جاء منه العذاب جاء من حيث لا يحتسبه فكان أفظع-

قلت و ما ذكر البيضاوي من التأويل يأبى عنه ما جاء في تفسير هذه الاية و أمثاله من الأحاديث اخرج الحاكم و ابن ابى حاتم و ابن ابى الدنيا عن ابن عباس انه قرا يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ قال يجمع اللّه الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن و الانس و البهائم و السباع و الطير و جميع الخلق فيشقق السماء الدنيا فينزل أهلها و هم اكثر ممن فى الأرض من الجن و الانس و جميع الخلق فيحيطون بالجن و الانس و جميع الخلق فيقول اهل الأرض أ فيكم ربنا فيقولون لاثم ينزل اهل السماء الثانية و هم اكثر من اهل السماء الدنيا و من اهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم و بالجن و الانس و جميع الخلائق ثم ينزل اهل السماء الثالثة هكذا ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة و هم اكثر من اهل السموات و اهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل ربنا فى ظلل من الغمام و حوله الكروبيون و هم اكثر من اهل السموات السبع و الأرضين-

و حملة العرش لهم قرون ككعوب القناما بين أقدام أحدهم كذا و كذا- و من اخمص قدمه الى كعبه مسيرة خمسمائة عام و من كعبه الى ركبته خمسمائة عام و من ركبته الى أرينه خمسمائة عام و من ارينه الى ترقوته خمسمائة عام و من ترقوته الى موضع القرط خمسمائة عام قلت و ايضا لو كان معنى الاية كما

قال البيضاوي بحذف المضاف و نحوه فهو نظير قوله تعالى «١» وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنى و اسئلوا اهل القرية-

(١) و في القران و اسئل القرية الّتى إلخ

و لم يقل انه من المتشابهات أحد فحينئذ لم يكن اية في القران من المتشابهات و قد قال اللّه تعالى مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ- و لاصحاب القلوب في تلك الآيات سبيل اخر و هو ان للّه سبحانه تجليات في بعض مخلوقاته و ظهورات لا كيف لها كما ذكرنا في القلب المؤمن و الكعبة الحسناء و العرش العظيم و عامتها تكون على الإنسان فانه خليفة اللّه و تلك التجليات قد تكون برقيا كالبرق الخاطف و قد تكون دائميا و تلك لا تستدعى حدوث امر في ذاته تعالى و كونه محلا للحوادث و متنزلا عن مرتبة التنزيه بل هى مبنية على حدوث امر في الممكن كما ان المرأة المحاذية للشمس كلما صوقلت الجلت الشمس فيها و يظهر في المراءة اثارها من الاضاءة و الإحراق- و هذه التجليات هى المصداق لقوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ و قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ يعنى يتجلّى لهم يوم القيامة في الغمام- فاما من اكتسب قلبه في الدنيا بصيرة ينفذ بصره من وراء الغمام الى اللّه سبحانه كما ينفذ البصر من الاجرام الزجاجية الى الاجرام الفلكية و لا استحالة في الرؤية من وراء الغمام بعد ما اثبتوا لرؤية في الجنة من غير حجاب كما ترون القمر ليلة البدر-

و اما من لم يكتسب قلبه بصيرة و هو فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا فيكون له الغمام ساترا و حجابا- قال السيوطي في البدور السافرة رايت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي ما نصه قال سلمة ابن القاسم في كتاب غرائب الأصول حديث تنزل اللّه يوم القيامة و مجيئه في ظلل محمول على ان اللّه تعالى يغير أبصار خلقه حتى يرونه كذلك و هو على عرشه غير متغير و لا منتقل-

قلت يعنى يرونه كذلك من وراء الحجاب السجنجلى قال السيوطي و كذلك جاء معناه عن عبد العزيز الماجشون انه تعالى يغير أبصار خلقه فيرونه نازلا متجليا مناجى خلقه و مخاطبهم و هو غير متغير عن عظمته و لا منتقل و قد وجدنا ان جبرئيل كان يأتى النبي صلى اللّه عليه و سلم تارة في صورته و تارة في صورة دحية و جبرئيل أجل من صورة دحية انتهى قلت و ما ذكرنا من التأويل لا مساس له بأقوال الخلف لكنه هو المراد مما ذكرنا من اقوال السلف امّروها كما جاءت بلا كيف يعنى هذه الأمور كلها من الاستواء و النزول و غير ذلك ثابتة كما جاءت في النصوص لكن بلا كيف بحيث لا يزاحم مرتبة التنزيه-

و هذا امر من لم يذقه لم يدر و من ورى لا يمكنه التعبير عنه كما هو بل يختبط إفهام السامعين فيفهون غير مراده فعليكم بالسكوت عنه و الايمان به و ليس لاحدان يفسره الا اللّه و رسوله و عطف الرسول على اللّه يقتضى انه صلى اللّه عليه و سلم كان عالما بتفسير المتشابهات قلت و كذا كمل اتباعه و اللّه اعلم

وَ إِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) قرا ابن عامر حمزة و الكسائي و يعقوب ترجع الأمور حيث وقع بفتح التاء و كسر الجيم من الرجوع اللازم و الباقون بضم التاء و فتح الجيم من الإرجاع المتعدى.

٢١١

سَلْ يا محمد بَنِي إِسْرائِيلَ يهود المرينة و المراد بهذا السؤال تقريعهم

كَمْ آتَيْناهُمْ يعنى آباءهم و أسلافهم و كم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني- او خبرية و هى ثانى مفعولى اتينا و مميزها

مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ظاهرة و يحتمل ان يكون كم مبتدأ و العائد من الخبر محذوف يعنى كم من اية بينة آتيناهم ايالها فبدلوها بعد معرفتها و جملة كم آتيناهم على تقدير كونها استفهامية حال اى سل بنى إسرائيل قائلا كم آتيناهم و على تقدير كونها خبرية جواب عن سوال هل كانت لهم آيات متكثرة و المراد بالآيات اما المعجزات الواضحات الدالة على نبوة موسى عليه السلام و الآيات المحكمات في التورية الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم و الثاني اظهر

وَ مَنْ يُبَدِّلْ يغير نِعْمَةَ اللّه اى ما أنعم اللّه عليه من الآيات لانها سبب الهداية او كتاب اللّه فترك العمل به

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ اى وصلت اليه و تمكن من معرفتها فيه تعريض بانهم بدلوها بعد ما عقلوها

فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) فيعاقبه أشد عقوبة حيث ارتكب أشد جريمة.

٢١٢

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا و المزين هو اللّه تعالى حيث خلق الأشياء الحسنة و المناظر العجيبة و خلق فيهم القوى الشهوانية- و اشرب محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها و قال الزجاج زين لهم الشيطان يعنى وسوس إليهم الخواطر الشهوانية-

قلت و اللّه سبحانه خالق افعال العباد و منهم الشياطين فهو المزين نعم تجوّز الاسناد الى الشياطين من حيث كونها كاسبة للوسوسة و اللّه اعلم قيل نزلت الاية في مشركى العرب ابى جهل و أصحابه و هم

يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اى يستهزءون فقراء المؤمنين- قال ابن عباس أراد بالذين أمنوا عبد اللّه بن مسعود و عمارا و صهيبا و بلالا و خبيبا و أمثالهم- و قال مقاتل- نزلت في المنافقين عبد اللّه بن ابى و أصحابه كانوا يتنعمون «١» فى الدنيا و يسخرون من ضعفاء المؤمنين و يقولون انظروا الى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى اللّه عليه و سلم انه يغلب بهم و قال عطاء نزلت في رؤساء اليهود كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين فوعد اللّه المؤمنين ان يعطيهم اموال بنى قريظة و النضير بغير قتال

(١) فى الأصل ينعمون-

وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا يعنى هؤلاء الفقراء الذين كنوا بالّذين أمنوا وضع المظهر موضع المضمر ليدل على انهم متقون و ان استعلاء هم للتقوى و ان العمل خارج من الايمان

فَوْقَهُمْ فى المكان او الرتبة او الغلبة لان المتقين فى أعلى عليين و في كرامة اللّه و يتطاولون على الكفار فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا و الكفار في أسفل السافلين و في مذلة

يَوْمَ الْقِيامَةِ كما ان المؤمنين خير و اشرف عند اللّه من الكفار في الدارين عن سهل بن سعد رضى اللّه عنه قال مرّ رجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا- فقال رجل من اشراف الناس هذا و اللّه حرّى ان خطب ان ينكح و ان شفع ان يشفع- قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم مر رجل فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رأيك في هذا فقال يا رسول اللّه هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حرّى ان خطب ان لا ينكح و ان شفع ان لا يشفع و ان قال ان لا يسمع لقوله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذا خير من ملا الأرض مثل هذا رواه البخاري و عن اسامة بن زيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقفت على باب الجنة فرايت اكثر أهلها المساكين و وقفت على باب النار فرايت اكثر أهلها النساء و إذا اهل الجد محبوسون الا من كان منهم من اهل النار فقد امر به الى النار- رواه البغوي

وَ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فى الدارين بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٠٢) قال ابن عباس يعنى كثيرا لان كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل-

و قيل معناه بغير حساب عليه تعالى فيما يعطى و لا اعتراض فقد يعطى الكثير من لا يحتاج اليه و قد لا يعطى القليل من يحتاج

و قيل معناه لا يخاف نفاد خزائنة فيحتاج الى حساب ..

٢١٣

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً اخرج البزار في مسنده و ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن المنذر في تفاسيرهم و الحاكم فى المستدرك و صححه عن ابن عباس قال كان بين آدم و نوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا و كذا اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة انهم كانوا عشرة قرون كلهم علماء يهتدون من الحق ثم اختلفوا فبعث اللّه نوحا و كان نوح أول رسول أرسله اللّه الى الأرض- و قال الحسن و عطاء كان الناس من وقت وفات آدم الى مبعث نوح عليه السلام امة واحدة على الكفر أمثال البهائم فبعث اللّه نوحا و غيره من النبيين- و الجمع بين القولين انهم كانوا اولا كلهم مسلمين ثم اختلفوا حتى صاروا كلهم كفارا في زمن نوح غير أبوي نوح فانهما كانا مؤمنين بدليل قول نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ الاية-

و قيل المراد بالناس العرب قال الحافظ عماد الدين بن كثير كان العرب على دين ابراهيم الى ان ولى عمرو بن عامر الخزاعي مكة اخرج احمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال أول من سيّب السوائب و عبد الأصنام ابو حزاعة عمرو بن عامر و انى رايت قصبه في النار- و في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رايت عمرو بن عامر بن لحى ابن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار انه أول من سيّب السوائب-

و اخرج ابن جرير في تفسيره عنه نحوه و فيه انه أول من غير دين ابراهيم- لكن يأبى تأويل الناس بالعرب صيغة النبيين بالجمع إذ لم يبعث في العرب غير محمد صلى اللّه عليه و سلم- لينذر قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ

و روى عن ابى العالية عن ابى بن كعب قال كان الناس حين عرضوا على آدم عليه السلام اخرجوا من ظهره و أقروا بالعبودية امة واحدة مسلمين كلهم و لم يكونوا امة واحدة قط غير ذلك اليوم-

قلت و يمكن ان يقال كان الناس امة واحدة مستعدين لقبول الحق مولودين على القطرة فاخبطهم شياطين الانس و الجن فاختلفوا عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء متفق عليه

فَبَعَثَ اللّه معطوف على كان النّاس امّة واحدة ان كان المراد اجتماعهم على الكفر و معطوف على مقدر يعنى فاختلفوا فبعث اللّه ان كان المراد اجتماعهم على الحق- فان البعث ليس الا لدفع الكفر و الفساد و يدل على هذا التقدير قوله تعالى فيما بعد فيما اختلفوا فيه

النَّبِيِّينَ قال ابو ذر قلت يا رسول اللّه كم وفاء عدة الأنبياء قال- مائة الف و اربعة و عشرون الفا المرسل من ذلك ثلاثمائة و خمسة عشر جما غفيرا- رواه احمد-

و في رواية عنه ثلاثمائة و بضعة عشر-

قال البغوي و المرسل منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر و المذكور في القران باسمه العلم ثمانية و عشرون نبيا-

قلت بل المذكور في القران انما هم ستة و عشرون منهم ثمانية عشر في قوله تعالى وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ... وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ و ثمانية غيرهم آدم و إدريس و هود و صالح و شعيب و ذو الكفل و عزير و محمد سيد الأنبياء صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين

و قيل يوسف الذي ذكر في سورة المؤمن غير يوسف بن يعقوب عليه السلام بل هو يوسف بن ابراهيم بن يوسف بن يعقوب فصاروا سبعة و عشرين- و قيل بنبوة مريم أم عيسى فكمل ثمانية و عشرون لكن قوله تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ... مِنْ أَهْلِ الْقُرى «١» يأبى نبوة مريم- و يحتمل ان يكون الثامن و العشرون لقمان و اللّه اعلم

(١) و في القران الّا رجالا نوحى إليهم

مُبَشِّرِينَ بالثواب لمن أطاع وَ مُنْذِرِينَ بالعقاب لمن عصى

وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس بِالْحَقِّ حال من الكتاب اى متلبسا بالحق شاهدا به

لِيَحْكُمَ اللّه او الكتاب او النبي المبعوث معه

و قرا ابو جعفر ليحكم بضم الياء و فتح الكاف هاهنا و فى ال عمران و في النور في الموضعين فحينئذ نائب الفاعل الظرف و المعنى ليحكم به يعنى بالكتاب

بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اى في الحق الذي اختلفوا فيه او فيما التبس عليهم

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ اى في الكتاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ الموصول للعهد و المراد به اليهود و النصارى

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ اى الآيات المحكمات في التورية الآمرة بالمعروف و الناهية عن المنكر و المبشرة بمجى ء محمد صلى اللّه عليه و سلم الناعتة بصفاته الكريمة- قال السيوطي في التفسير قوله من بعد متعلق باختلف و هى و ما بعده مقدم على الاستثناء في المعنى يعنى في الكلام تقديم و تأخير-

قلت و الاولى ان يقال انه متعلق بمحذوف اى اختلفوا

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ لان ما قبل الا لا تعمل فيما بعدها الا في المستثنى و لا يستثنى متعدد بحرف واحد فهو جواب سوال مقدر كانّه قيل متى اختلفوا فاجيب- و معنى اختلافهم قولهم نؤمن ببعض الكتاب و نكفر ببعض و تحريفهم الكلم عن مواضعه و انكارهم صفات محمد صلى اللّه عليه و سلم و القران

بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّه الَّذِينَ آمَنُوا يعنى امة محمد صلى اللّه عليه و سلم

لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ للحق الذي اختلفوا فيه

مِنَ الْحَقِّ بيان لما بِإِذْنِهِ بامره او بإرادته او بلطفه- قال ابن زيد اختلفوا فى القبلة فمنهم من يصلى الى المشرق و منهم من يصلى الى المغرب و منهم من يصلى الى البيت المقدس فهدانا اللّه للكعبة و اختلفوا في الصيام فهدانا اللّه لشهر رمضان- و اختلفوا في الأيام فاخذت النصارى الأحد و اليهود السبت فهدانا اللّه للجمعة و اختلفوا في ابراهيم قالت اليهود كان يهوديا و النصارى نصرانيا فهدانا اللّه للحق من ذلك و اختلفوا في عيسى فجعله اليهود الفرية و جعله النصارى الها فهدانا اللّه للحق فيه

وَ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) لا يضل سالكه.

٢١٤

أَمْ حَسِبْتُمْ- أم منقطعة لان المتصلة يلزمه الهمزة و هى بمعنى بل و الهمزة فبل للاضراب عن اختلاف اليهود و النصارى- و الهمزة لانكار حسبان المؤمنين و استبعاده و الغرض منه تشجيعهم على الصبر و الثبات على البأساء و الضراع و قال الفراء معناه احسبتم و الميم زائدة و قال الزجاج بل حسبتم- نزلت الاية يوم الأحزاب حين أصاب النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه بلاء و حضروا شدة الخوف و البرد و انواع الأذى قال اللّه تعالى وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً-

و قيل نزلت في حرب أحد و قال عطاء لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة اشتد عليهم لانهم كانوا خرجوا بلا مال و تركوا ديارهم و أموالهم ما يدى المشركين و أظهرت اليهود العداوة فانزل اللّه أم حسبتم

أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ لمّا كلم في المعنى و العمل و فيه توقع لا في لم

مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا حالهم الذي هو مثل في الشدة

مِنْ قَبْلِكُمْ من النبيين و المؤمنين

مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ شدة الفقر و المرض

وَ زُلْزِلُوا حركوا بانواع البلا و الشدائد

حَتَّى يَقُولَ إذا كان بعد حتى مستقبلا بمعنى الماضي يجوز فيه النصب و الرفع فقرا نافع بالرفع و الباقون بالنصب

الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّه استبطؤا النصر فقيل لهم

أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ (٢١٤) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات- رواه مسلم عن انس و ابى هريرة و احمد عن ابى هريرة و ابن مسعود و اللّه اعلم- اخرج ابن المنذر عن ابى حيان ان عمر بن الجموح سأل النبي صلى اللّه عليه و سلم ما ننفق من أموالنا و اين نضعها-

و اخرج ابن جرير عن ابن جريح قال سال المؤمنون فنزلت.

٢١٥

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ بيّن المصرف بالعبارة و جواب السائل بالاشارة بتعميم ما أنفقتم من خير بناء على ان ملاحظة المصرف أهم فان اعتداد النفقة باعتباره

وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ اى خير كان صدقة او غير ذلك فيه معنى الشرط و حوابه

فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) يعلم به كنهه و نياتكم فيوفى ثوابه على حسب نياتكم قال اهل التفسير كان هذا قبل فرض الزكاة فنسخت بالزكاة- و الحق انه لا ينافى فرضية الزكوة حتى ينسخ به فالاية محكمة.

٢١٦

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ قال عطاء الجهاد تطوع و المأمورون بالآيات اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خاصة دون غيرهم و اليه ذهب الثوري محتجا بقوله تعالى فَضَّلَ اللّه الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنى قالا لو كان القاعد تاركا للفريضة لم يكن وعدا له بالحسنى- و قال سعيد بن المسيب انه فرض عين على كافة المسلمين الى قيام الساعة و الحجة له هذه الاية و حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مات و لم يعز و لم يحدث نفسه بالغزو و مات على شعبة من النفاق- رواه مسلم و الجمهور على ان الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقيين مثل صلوة الجنازة و عليه انعقد الإجماع-

و اتفقت الائمة على انه يجب على كل اهل بلد ان يقاتلوا من يليهم من الكفار فان عجزوا او جبنوا وجب على من يليهم الأقرب فالاقرب و على انه يجب الجهاد على الأعيان عند النفير العام و عند هجوم الكفار على بلاد الإسلام و على انه من لم يتعين عليه الجهاد لا يخرج الا بإذن أبويه ان كانا مسلمين و من عليه الدين لا يخرج الا بإذن غريمه- و الحجة للجمهور ما ذكرنا من ادلة الفريقين و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قيل لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه اثَّاقَلْتُمْ و سيجيئ في سورة التوبة ان شاء اللّه تعالى و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان رجلا استأذن النبي صلى اللّه عليه و سلم في الجهاد فقال أ حى والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد اذهب فبرّهما متفق عليه و لابى داود و النسائي و ابن ماجة نحوه-

وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ اى شاق عليكم قال اهل المعاني هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال و النفس لا انهم كرهوا امر اللّه

وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و منه الجهاد فان فيه الظفر و الغنيمة و الاستيلاء في الدنيا و الشهادة و الثواب

وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ كالقعود «١» عن الجهاد فان فيه المعصية و الذلة و الحرمان من الاجر و الغنيمة- و انما ذكر كلمة عسى و هو للشك لان النفس إذا ارتاضت يكون هواه تبعا لما شرع فلا يكره الا ما كره اللّه و لا يحب الا ما أحب اللّه تعالى

(١) فى الأصل كالعقود [.....]

وَ اللّه يَعْلَمُ خيركم و شركم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) ذلك فبادروا بما أمركم اللّه تعالى حتى تفوزوا بما هو خير لكم في الدارين

(فصل) فى فضائل الجهاد عن ابن مسعود قلت يا رسول اللّه اى الأعمال أفضل قال الصلاة على ميقاتها قلت ثم اى قال بر الوالدين قلت ثم اى قال الجهاد في سبيل اللّه و لو استزدته لزادنى- رواه البخاري و عن ابى هريرة قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اى العمل أفضل قال ايمان باللّه و رسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل اللّه قيل ثم ماذا قال حج مبرور متفق عليه و هذه و ان كان في الصورة معارضة فان الحديث الاول يدل على افضلية الصلاة على الجهاد و الثاني بالعكس لكن الجمع بينهما بحمل كل على ما يليق بحال السائل- او يقال ان الصلاة و الزكوة المفروضتين مرادة بلفظ الايمان في حديث ابى هريرة- فلا تعارض او يقال جعل الجهاد بعد الايمان في حديث ابى هريرة صادق و ان كان الجهاد بعد الصلاة و الزكوة-

و عن عمران بن حصين ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال مقام الرجل في الصف في سبيل اللّه أفضل عند اللّه من عبادة ستين سنة- رواه الحاكم و قال صحيح على شرط البخاري- و عن ابى هريرة مرفوعا مقام أحدكم في سبيل اللّه أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما- رواه الترمذي و عن ابى هريرة قيل يا رسول اللّه ما يعدل الجهاد في سبيل اللّه قال لا تستطيعونه فاعادوا عليه مرتين او ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه ثم قال مثل المجاهد في سبيل اللّه كمثل القائم القانت بايات اللّه لا يفتر عن صلاته و لا صيامه حتى يرجع المجاهد في سهيل اللّه- متفق عليه و عن ابى امامة قال خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في سرية قمر رجل بغار فيه شى ء من ماء و يقل فحدث نفسه بان يقيم فيه و يتخلى من الدنيا فاستأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى لم ابعث باليهودية و لا بالنصرانية و لكنى بعثت بالحنفية السمحة و الذي نفس محمد بيده لغدوة او روحة في سبيل اللّه خير من الدنيا و ما فيها و لمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة- رواه احمد قلت و هذه الأحاديث يدل على افضلية الجهاد على الصلاة و الصيام و النوافل و ذلك لان الجهاد فرض على الكفاية و كلما وقع عن أحد يقع فريضته و يستوعب الأوقات و يفضى الى الشهادة التي هى قرينة للنبوة بخلاف الصلاة و الصوم فانهما ما عدا الفرائض لا يقع الا نافلة و النافلة لا تعدل الفريضة-

فان قيل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- ما عمل آدمي أنجى من عذاب اللّه من ذكر اللّه- قالوا و لا الجهاد في سبيل اللّه قال و لا الجهاد في سبيل اللّه الا ان يضرب لسيفه حتى ينقطع قاله ثلث مرات رواه احمد و الطبراني و ابن ابى شيبة من حديث معاذ و هذا يعارض مامر من أحاديث و عمران و ابى هريرة و ابى امامة فما وجه التوفيق-

قلنا المراد بالذكر في هذا الحديث الحضور الدائمى الذي لا فتور فيه لا الصلاة و الصوم الذين هما حظ الزهاد- و هو المراد من الجهاد الأكبر فيما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قد رجع من الغزو رجعتا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر

فان قيل الم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا كان في الجهاد الأصغر مشتغلا بالجهاد الأكبر-

قلنا نعم كان مشتغلا بذلك لكن الحال تتفاوت بمزيد الاهتمام و اللّه اعلم عن ابى هريرة مرفوعا في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه ما بين الدرجتين كما بين السماء و الأرض فاذا سالتم اللّه فسئلوه الفردوس فانه اوسط الجنة و أعلى الجنة و فوقه عرش الرحمن و منه تنفجرا نهار الجنة- رواه البخاري-

و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تعس عبد الدينار و عبد الدرهم و عبد القطيفة و عبد الخميصة ان اعطى رضى و ان لم يعط سخط طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه اشعث رأسه مغيرة قدماه و ان كان في الحراسة في الحراسة و ان كان فى الساقة كان في الساقة ان استأذن لم يؤذن له و ان شفع لم يشفع «١»- رواه البخاري و سيأتى فضائل الرباط اخر سورة ال عمران ان شاء اللّه تعالى-

(١) و عن ابى بكر الصديق ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من اغبرت قدماه في سبيل اللّه حرم اللّه عليه النار- و كذا روى احمد و البخاري و الترمذي و السنائي عن ابى عيص- و عن عثمان قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول خرس ليلة في سبيل اللّه أفضل من الف ليلة قيام ليلها و صيام نهاره و عن ابى بكر الصديق قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما ترك قوم الجهاد الا عمهم اللّه تعالى بالعذاب منه رحمه اللّه

و انما فضل الجهاد على سائر الحسنات و كونه ذروة سنام الإسلام لانه سبب الا شاعة الإسلام و هداية الخلق فمن اهتدى ببدل جهده كان حسناته داخلا في حسناته و أفضل من ذلك تعليم العلوم الظاهرة و الباطنة فان فيه اشاعة حقيقة الإسلام و اللّه اعلم.

٢١٧

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال يعنى يسئلونك عن قتال في الشهر- اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و الطبراني في الكبير و ابن سعد و البيهقي في سننه عن جندب بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث عبد اللّه بن جحش و هو ابن عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في جمادى الاخر سنة قبل قتال بدر بشهرين و بعث معه ثمانية نفر من المهاجرين سعد بن ابى وقاص الزهري- و عكاشة بن محصن الأسدي- و عتبة بن غزوان السلمى- و أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة- و سهيل بن بيضاء و عامر بن ربيعة-

و واقد بن عبد اللّه- و خالد بن بكير- و ذكر بعضهم سهل بن بيضاء و لم يذكر سهيلا و لا خالدا و لا عكاشة و ذكر بعضهم المقداد بن عمر- قال ابن سعد كانوا اثنى عشر كل اثنين يعتقبان بعيرا و كتب لاميرهم عبد اللّه بن جحش كتابا و قال سر على اسم اللّه و لا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فاذا نزلت فافتح الكتاب و اقراه على أصحابك ثم امض ما امرتك و لا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك فسار و كان قبل مسيره قال يا رسول اللّه اى ناحية قال النجدية فسار عبد اللّه يومين ثم نزل و فتح الكتاب فاذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم اما بعد فسر على بركة اللّه بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بما عير قريش لعلك ان تأتينا منه بخير فلما نظر في الكتاب قال سمعا و طاعة-

ثم قال لاصحابه ذلك و قال انه نهانى ان استكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق و من كره فليرجع ثم مضى و مضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق القرع بموضع من الحجاز يقال له بخران أضل سعد بن ابى وقاص و عتبة بن غزوان بغيرهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه و مضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة و الطائف- فبينماهم كذلك مرت عير لقريش تحمل زبيبا و أدما و تجارة من تجارة الطائف فيهم عمر و الحضرمي و الحكم بن كيسان مولى هشام بن مغيرة و عثمان بن عبد اللّه بن مغيرة و اخوه نوفل بن عبد اللّه المخزوميان-

فلما راوا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هابوهم فقال عبد اللّه بن جحش ان القوم قد وعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة ثم اشرف عليهم فقالوا قوم عمار لا بأس عليكم فامنوهم و كان ذلك في يوم يرونه اخر يوم من جمادى الاخر و هو من رجب فتشاور القوم و قالوا لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم و يدخل عليكم الشهر الحرام فرمى واقد بن عبد اللّه السهمي عمرو الحضرمي بسهم فقتله و شد المسلمون عليهم فاسروا عثمان بن عبد اللّه بن مغيرة و الحكم بن كيسان و هرب نوفل فاعجزهم و استاق المؤمنون العير و الأسيرين حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و قيل عزل عبد اللّه بن جحش لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خمس تلك الغنيمة و قسم سائرها بين أصحابه و كان أول خمس خمس في الإسلام و أول غنيمة و أول قتيل من المشركين عمر و الحضرمي و أول أسير عثمان و الحكم و كان ذلك قبل ان يفرض الخمس من المغانم ثم فرض الخمس على ما صنع عبد اللّه بن جحش في تلك الغير فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاوقف العير و الأسيرين و ابى ان يأخذ من ذلك شيئا-

و قالت قريش لمن كان بمكة من المسلمين يا معشر الصبأة استحللتم الشهر الحرام و قاتلتم فيه- فعظم ذلك على اصحاب السرية و ظنوا انهم قد هلكوا و سقط في أيديهم و قالوا يا رسول اللّه انا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا الى هلال رجب فلا ندرى أ في رجب أصبناه أم في الجمادى- فاكثر الناس في ذلك فانزل اللّه تعالى هذه الاية- فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الخمس الذي عزله عبد اللّه بن جحش- او أخذ العير فعزل منها الخمس و قسّم الباقي بين اصحاب السرية-

و قيل أوقف غنائم اهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم اهل بدر- و بعث اهل مكة في فداء اسيريهم فقال- بل نوقفهما «١» حتى يقدم سعد و عتبة فانا نخشاكم عليهما- و ان لم يقدما قتلناهما بهما فقدم سعد و عتبة فافدى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الأسيرين بأربعين اوقية كل أسير- فاما الحكم فاسلم و اقام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالمدينة فقتل يوم بير معونة شهيدا و اما عثمان بن عبد اللّه بن مغيرة فرجع الى مكة فمات بها كافرا و اما نوفل فضرب بصن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا و قتله اللّه فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خذوه فانه خبيث الجيفة خبيث الدية

(١) فى الأصل نقفهما

قُلْ يا محمد قِتالٍ فِيهِ اى في الأشهر الحرم

كَبِيرٌ ذنب كبير قال اكثر العلماء انه منسوخ بقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال ابن الهمام و هو بناء على التجوز بلفظ حيث في الزمان و لا شك انه كثير الاستعمال قلت لفظ حيث للمكان حقيقة و مجيئه للزمن تجوز لا دليل عليه- و لو فرضا انه مشترك في الزمان و المكان ففى شموله للازمنة شك و لا يجوز النسخ مع الشك- و

قال البيضاوي هو نسخ الخاص بالعام- و فيه خلاف يعنى نسخ الخاص بالعام جائز عند ابى حنيفة حيث يقول العام ايضا قطعى الدلالة فيما يشتمله كالخاص- و غير جائز عند الشافعي و غيره حيث قالوا ان العام ظنى الدلالة بخلاف الخاص إذ ما من عام الا و قد خص منه البعض- و البحث عنه في اصول الفقه

قال البيضاوي و الاولى منع دلالة الاية على حرمة القتال في الأشهر الحرام مطلقا فان قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا تعم-

قلت النكرة في الإثبات تعم عند قيام القرينة كما في قوله - تمرة خير من جرادة و لو لا هاهنا النكرة للعموم لما استقام جواب السؤال و استدل ابن همام على نسخ الحرمة بالعمومات نحو قوله تعالى وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «٢»- و قوله عليه السلام أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اللّه الا اللّه-

(٢) فى الأصل اقتلوا المشركين

قلت و هذا ليس بسديد فان عموم تلك الآيات في المكلفين و أحوالهم دون الازمنة حتى يدخل فيها الأشهر الحرم فيلحقها الفسخ بل عموم الازمنة لو ثبت لثبت باقتضاء النص و لا عموم للمقتضى فلا يجرى فيه التخصيص و النسخ و كيف يدعى نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم مع ان قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يعنى بالقتال فيهن وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ- إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّه فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللّه يعنى القتال في الشهر الحرام زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ

و هذه الاية اخر آيات القتال نزولا و هى اية السيف نزلت في اخر السنة التاسعة و فيه ذكر حرمة الأشهر فهو مخصص لوجوب القتال فيما عدا الأشهر و اللّه اعلم و ايضا يدل على حرمة القتال في الأشهر الحرم خطبته صلى اللّه عليه و سلم يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بشهرين حيث قال فيه الا ان الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات و الأرض السنة اثنا عشر «١» شهرا منها اربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر و قال في اخر الحديث ان دماءكم و أموالكم و اعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا- متفق عليه من حديث ابى بكرة-

(١) فى الأصل اثنى عشر

قال ابن همام حاصر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الطائف لعشر يقين من ذى الحجة الى اخر المحرم او الى شهر يعنى بهذا منسوخية الاية و هذا القول غريب و انما كان حصار الطائف في شوال سنه- عن ابى سعيد الخدري خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عام الفتح من المدينة لليلتين خلتا من شهر رمضان رواه احمد بسند صحيح-

و روى البيهقي عن الزهري بسند صحيح قال فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لثلاث عشرة خلت من رمضان-

قلت بهذا ظهر انه اقام في الطريق اثنى عشر يوما و اقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمكة تسعة عشر يوما- و في لفظ سبعة عشر رواه البخاري و في رواية ثمانى عشرة ثم بعد فتح مكة خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى حنين يوم السبت لست خلون من شوال-

و قال ابن إسحاق لخمس و به قال عروة و اختاره ابن جرير و روى ابن مسعود فوصل الى حنين لعشر خلون من شوال فلما انهزم الهوازن و جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غنائم حنين قدم فل ثقيف بالطائف و أغلقوا عليهم الأبواب و تهيئوا للقتال فلم يرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى مكة و لا عرج على شى ء الا على غزو الطائف قبل ان يقسم غنائم حنين و ترك السبي بالجعرانة و حاصر الطائف روى مسلم عن انس انه كان مدة حصاره أربعين ليلة- و استغربه في البداية- و ذكر ابن إسحاق حاضر ثلاثين ليلة-

و قال ابن إسحاق فى رواية حاصرهم بضعا و عشرين ليلة-

و قيل عشرين يوما- و قيل بضع عشرة ليلة- رواه ابو داود- قال ابن حزم هو الصحيح بلا شك ثم ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى مكة و انتهى مسيره الى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذى القعدة- فاقام بالجعرانة ثلث عشرة ليلة و اعتمر ثم انصرف الى المدينة ليلة الأربعاء لثنتى عشر ليلة بقيت من ذى القعدة و دخل المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذى القعدة- قال ابو عمر كان مدة غيبته صلى اللّه عليه و سلم من حين خرج من المدينة الى مكة فافتتحها و واقع هوازن و حارب اهل الطائف الى ان رجع الى المدينة شهرين و ستة عشر يوما- بل شهرين و ستة و عشرين يوما- فكيف يتصور ما قال ابن همام حاصر الطائف لعشر بقين من ذى الحجة الى اخر المحرم- فلم يثبت منسوخية حرمة الأشهر و اللّه اعلم لكن هذه الاية منسوخة بما مر من قوله تعالى لشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ لانها تدل على اباحة القتال في الأشهر الحرم ان كانت البداية في القتال من الكفار لان هذه الاية نزلت قبل غزوة بدر و تلك نزلت في عمرة القضاء سنة سبع كما ذكرنا فبقى البداية بالقتال في الأشهر محرما و اللّه اعلم

وَ صَدٌّ اى صرف و منع عَنْ سَبِيلِ اللّه اى عن الإسلام و الطاعات

وَ كُفْرٌ بِهِ اى باللّه وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بحذف المضاف يعنى و صد المسجد الحرام و لا يجوز عطفه على الضمير المجرور لوجوب إعادة الجار حينئذ- و لا على سبيل اللّه لان عطف قوله و كفر به مانع منه إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة

وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ اى اهل المسجد و هم النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه

مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّه مما فعله السرية فان كلما ذكر مما صدى عن كفار مكة صدر عمدا و تعنتا و ما صدر من السرية انما صدر خطا و بناء على الظن

وَ الْفِتْنَةُ يعنى الشرك أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ اى قتل الحضرمي فكيف يعيرونهم كفار مكة على ما ارتكبوه خطا مع ارتكابهم ما هو أشد من ذلك عمدا

وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ يعنى كفار قريش حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ اخبار عن دوام عداوتهم

إِنِ اسْتَطاعُوا هو استبعاد لاستطاعتهم

وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ استدل الشافعي بهذه الاية على ان المرتد لا يحبط عمله ما لم يمت على الكفر فان صلى رجل الظهر مثلا ثم ارتد نعوذ باللّه منها ثم أمن و الوقت باق لا يجب عليه إعادة الصلاة و كذا من حج ثم ارتد ثم اسلم لا يجب عليه الحج و هذا احتجاج بمفهوم الصفة و هو غير معتبر عند ابى حنيفة رحمه اللّه-

و قال ابو حنيفة يجب عليه إعادة الصلاة ان اسلم و الوقت باق و كذا يجب عليه الحج- لنا قوله تعالى وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ و هذا مطلق و المطلق لا يحمل على المقيد عندنا و اللّه اعلم

فِي الدُّنْيا فلا يترتب على إسلامه في الدنيا عصمة الدم و المال فيحل قتله و لا يجب استمهاله الى ثلثة ايام لكنه يستحب فهو حجة على الشافعي في قوله بوجوب الامهال

وَ الْآخِرَةِ بسقوط الثواب

وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) كسائر الكفار- فقال اصحاب السرية- يا رسول اللّه هل نؤجر على وجهنا هذا و هل يكون سفرنا هذا غزوا فانزل اللّه تعالى.

٢١٨

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه كروا الموصول لتعظيم الهجرة و الجهاد كانهما مستقلان فى تحقق الرجاء

أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّه اى ثوابه اثبت لهم الرجاء اشعارا «١» بان العمل غير موجب و لا قاطع في الدلالة لا سيما انما العبرة بالخواتيم

(١) فى الأصل اشعار

وَ اللّه غَفُورٌ لما فعلوا خطأ رَحِيمٌ (٢١٠) بإعطاء الثواب.

٢١٩

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ اخرج احمد عن ابى هريرة قال قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة و هم يشربون الخمر و يأكلون الميسر فسالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منهما فانزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ فقال الناس ما حرم علينا انما قال اثم كبير و كانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين امّ أصحابه في المغرب خلط فى قرأته فانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى الاية ثم نزلت اغلظ من ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الاية في المائدة الى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا انتهينا ربنا الحديث-

قال البغوي جملة القول ان اللّه تعالى انزل في الخمر اربع آيات نزلت بمكة وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها و هى لهم حلال يومئذ ثم لما نزلت في عمر بن الخطاب و معاذ بن جبل و نفر من الأنصار لما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا رسول اللّه أفتنا في الخمر و الميسر فانهما مذهبتان «٢» للعقل مسلبتان «٣» للمال فانزل اللّه هذه الاية فتركها قوم لقوله تعالى إِثْمٌ كَبِيرٌ و شربها قوم لقوله منافع للنّاس الى ان صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

(٢) فى الأصل مذهبة

(٣) فى الأصل مسلبة

و أتاهم بخمر فشربوا و سكروا فحضرت صلوة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلى بهم فقرا (قل يا ايّها الكافرون اعبد ما تعبدون) هكذا الى اخر السورة بحذف لا فانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سكارى الاية فحرم السكر في اوقات الصلاة فتركها قوم و قالوا لا خير في شى ء يحول بيننا و بين الصلاة و شربها قوم في غير اوقات الصلاة كان الرجل يشرب بعد صلوة العشاء فيصبح و قد زال عنه السكر او بعد صلوة الصبح فيصحوا الى وقت الظهر و اتخذ عتبان بن مالك صيفا و دعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن ابى وقاص و كان قد شوى لهم رأس بعير فاكلوا منه و شربوا الخمر حتى سكروا منها ثم انهم افتخروا عند ذلك و انتسبوا و تناشدوا الاشعار و انشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار و فخر لقومه فاخذ رجل من الأنصار لحيى بعير فضرب به رأس سعد فشجّه موضحة فانطلق سعد الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و شكا اليه الأنصاري فقال اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا- فنزلت ما في المائدة و اللّه اعلم.

اختلف العلماء في ان الخمر ما هو فقال ابو حنيفة رحمه اللّه هو التي من ماء العنب إذا صار مسكر او قذف بالزبد و لم يشترط صاحباه القذف بالزبد- و قال مالك و الشافعي و احمد كل شراب أسكر كثيره فهو خمر- قالت الحنفية الخمر اسم خاص لما ذكرنا و هو المعروف عند اهل اللغة و لهذا اشتهر استعماله فيه و اشتهر في غيرها مما ذكرنا من المسكرات اسم اخر كالمثلث- و الطلا- و المنصف- و الباذق-

و نحو ذلك و اللغة لا يجرى فيها القياس- و قال الجمهور اسم الخمر لغة لكل ما خامر العقل- و التحقيق عندى ان الخمر لفظ مشترك بين الخاص و العام اما حقيقة و اما بعموم المجاز و المراد في الاية هو المعنى الأعم-

قال صاحب القاموس الخمر ما أسكر من عصير العنب او عام و العموم أصح- و قال ابن عمر حرمت الخمر و ما بالمدينة منها شى ء رواه البخاري و حديث انس كنت ساقى القوم يوم حرمت الخمر و ما شرابهم الا الفضيح البسر و التمر- متفق عليه و في رواية- انى لقائم أسقي أبا طلحة فلانا فلانا و سمى في بعض الروايات أبا عبيدة بن الجراح و ابى بن كعب و سهيلا «١» إذ جاء رجل فقال قد حرمت الخمر فقالوا أهرق هذا القلال يا انس قال فما سالوا عنها و لا راجعوها بعد خبر الرجل-

(١) فى الأصل سهيل

و عنه قال لقد حرمت الخمر حين حرمت و ما نجد خمر الأعناب الا قليلا و عامة خمرنا اليسر و التمر- فهذه الآثار تدل على ما ذكرت ان الخمر قد يستعمل فى المعنى الأخص لكن المراد بالاية هو المعنى الأعم و لو بالمجاز و ان كان المراد بالخمر في الاية المعنى الأخص لما طابق الجواب السؤال فان السؤال انما كان عن الشراب الذي كانوا يشربونه حين سالوا قال عمر و معاذ- أفتنا يا رسول اللّه عن الخمر فانها مذهبة للعقل- و قال اللّه تعالى إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَ عَنِ الصَّلاةِ و هذا غير مختص بماء العنب بل لم يكن ماء العنب مستعملا لهم و اللّه اعلم و في الباب حديث عمر بن الخطاب انه قال فى خطبته- نزل تحريم الخمر و هى من خمسة أشياء العنب و التمر و الحنطة و الشعير و العسل و الخمر ما خامر العقل- متفق عليه و رواه احمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم من الحنطة خمر و من الشعير خمر و من التمر خمر و من الزبيب خمر و من العسل خمر- و في الباب عن النعمان بن بشير مرفوعا نحوه رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و روى احمد و في آخره و انما انهى عن كل مسكر و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل مسكر حرام و كل مسكر خمر- رواه مسلم و عن انس قال الخمر من العنب و التمر و العسل و الذرة فما خمرت من ذلك فهو الخمر- رواه احمد و إذا ثبت ان اسم الخمر تعم الاشربة المسكرة فثبت بنص القران ان ما أسكر كثيره فقليله حرام و نجس فيحد شاربه من اى شى ء كان و لا يجوز بيعها و لا يضمن متلفها غير انه لا يكفر مستحل ما سوى التي من ماء العنب لمكان الاختلاف و قال ابو حنيفة رحمه اللّه يحرم من الاشربة سوى الخمر ثلثة أحدها الطلا و هو عصير العنب إذا طبخ حتى يذهب اقل من ثلثه فان ذهب نصفه فهو المنصف او اقل منه و هو الباذق إذا غلا و اشتد و قدف بالزبد ثانيها السكر و هو التي من ماء التمر إذا غلا و اشتد و قذف بالزبلة ثالثها نقيع الزبيب و هو التي من الزبيب إذا اشتد و غلا و قذف بالزبد و لم يشترط ابو يوسف القذف بالزبد فهذه الاشربة نجسة نجاسة خفيفة فى رواية و غليظة في اخرى فيحرم القليل منه كما يحرم البول لما مر من قوله صلى اللّه عليه و سلم الخمر من هاتين الشجرتين لكن لا يحد شاربه حتى يسكر لان حرمتها اجتهادية ظنية و الحدود تندرئ بالشبهات و يجوز بيعها و يضمن متلفها عند ابى حنيفة خلافا لصاحبيه- و المثلث العنبي و نبيذ التمر و الزبيب إذا طبخ ادنى طبخة و ان اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه انه لا يسكر فكل ذلك عند ابى حنيفة و ابى يوسف رحمهما اللّه حلال خلافا لمحمد رحمه اللّه هذا إذا قصد به التقوى و اما إذا قصد به التلهي فلا يحل بالاتفاق- و القدر المسكر من هذه الثلاثة حرام بالاتفاق يحد شاربه- قال ابو حنيفة و ابو يوسف انما يحرم من هذه الثلاثة إذا اسكرت القدح الأخير لانه هو المسكر حقيقة- و ما سوى ذلك من الاشربة و هو ما يتخذ من الحنطة و الشعير و الذرة و العسل و الفانبذ و البنج و لبن الرماك و غير ذلك فهو حلال عند ابى حنيفة و ابى يوسف رحمهما اللّه و ان أسكر و لا يحد شاربه و لا يقع طلاق السكران منه-

و في رواية عنهما انه ان أسكر فهو حرام و يحد شاربه قال في الهداية قالوا الأصح انه يحد و به قال محمد رحمه اللّه انه حرام و يحد شاربه و يقع طلاقه إذا أسكر منه كما في سائر الاشربة لكن هذه الاشربة ليست بنجسة عند الثلاثة حيث لا يقولون بحرمة قليلها-

و في فتاوى النسفي ان البنج حرام و طلاق البنجى واقع و من يعتقد حليته يقتل و يحد شاربه كما يحد شارب الخمر- و يدل على ان كل مسكر حرام و على ان ما أسكر كثيره فقليله حرام من الأحاديث حديث جابر ان رجلا قدم من اليمن سال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له الموز فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم او مسكر هو قال نعم قال كل مسكر حرام- رواه مسلم- و عن سعد بن ابى وقاص انه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره- رواه النسائي و ابن حبان و البزار و رجاله رجال الصحيح و عن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما أسكر كثيره فقليله حرام- رواه الترمذي و حسنه و ابو داود و ابن ماجة و حديث عائشة عنه صلى اللّه عليه و سلم قال ما أسكر منه الفرق فملا الكف منه حرام- رواه احمد و الترمذي و حسنه و ابو داود و ابن حبان في صحيحه و عن أم سلمة قالت نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن كل مسكر و مفتر رواه ابو داود و عن ديلم الحميرى قال قلت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا بأرض باردة و نعالج فيها عملا شديدا و انا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على عملنا و على برد بلادنا قال هل يسكر قلت نعم قال فاجتنبوه قلت ان الناس غير تاركيه قال ان لم يتركوه قاتلوهم رواه ابو داود و عن ابى مالك الأشعري انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها- رواه ابو داود-

و في الباب عن على عند الدارقطني- و عن خوات بن جبير في المستدرك و احتجوا على اباحة النبيذ بأحاديث منها حديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان ينبذله أول الليلة فيشربه إذا أصبح يومه ذلك و الليلة التي تجى ء و الغد و الليلة الاخرى و الغد الى العصر فان بقي شى ء سقاه الخادم او امر به فصب- رواه مسلم قالوا لو كان حراما لما سقاه الخادم- و الجواب انه ان لم يكن مسكرا و لكن ذهب حلاوته و خاف ان سيكون مسكرا اعطى الخادم و ان غلب على ظنه كونه مسكرا امر به فصب فلا حجة فيه- و احتجوا على ان الحرام مما سوى الخمر القدح الأخير دون قليله بما أسند الى ابن مسعود كل مسكر حرام قال هى الشربة التي اسكرتك- أخرجه الدارقطني-

قال ابن همام انه ضعيف فيه الحجاج بن ارطاة و عمار بن مطر و انما هو قول النخعي و أسند ابن المبارك انه ذكر له حديث ابن مسعود هذا فقال حديث باطل- و احتجوا بما روى عن ابن عباس حرمة الخمر بعينها و السكر من كل شراب-

قال ابن همام انه لم يسلم و ذكر ابن الجوزي انه روى ابو سعيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم نحوه فقال هذا موقوف و لا يتصل الى ابى سعيد- قال ابن همام نعم هو متصل من طريق جيد عن ابن عباس بلفظ حرمت الخمر بعينها قليلها و كثيرها و المسكر من كل شراب-

و في لفظ و ما أسكر من كل شراب- قال ابن همام و لفظ أسكر تصحيف-

قلت و معنى اثر ابن عباس ان المسكر من كل شراب حرام قليلها و كثيرها و احتجوا ايضا بحديث ابى مسعود الأنصاري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم عطش و هو يطوف بالبيت فأتى بنبيذ من السقاية فعطب فقال رجل أ حرام يا رسول اللّه قال لا علىّ بدلو من ماء زمزم فصبه عليه ثم شرب و هو يطوف بالبيت- و عن المطلب بن ابى وداعة السهمي نحوه و في آخره إذا اشتد عليكم شرابكم فاصنعوا هكذا-

و عن ابن عمر انه سئل عن النبيذ الشديد فقال جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في مجلس فوجد ريح نبيذ فارسل فاتى به فوضع رأسه فيه فوجده شديدا فصب عليه الماء ثم شرب ثم قال إذا اغتلت أسقيتكم فاكسروها بالماء- و عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم نحوه روى هذه الأحاديث كلها الدارقطني-

و عن ابى مسعود سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن النبيذ إحلال أم حرام قال حلال- رواه ابن الجوزي- و عن سعيد بن ذى لقوة قال شرب أعرابي نبيذا من اداوة عمر فسكر فامر به فجلد فقال انما شربت نبيذا من إداوتك فقال عمر انما نجلدك على السكر- رواه ابن الجوزي- و الجواب ان حديث ابى مسعود قال الدارقطني هو معروف بيحيى بن يمان قال احمد بن حنبل كان يحيى بن يمان مغلط و ضعفه قيل له أ رواه غيره قال لا الا من هو أضعف منه قال النسائي لا يحتج به و قال ابو حاتم مضطرب الحديث- و حديث المطلب بن وداعة في رواته محمد بن السائب الكلبي و هو كذاب ساقط كذا قال ليث و سليمان و السعدي و قال النسائي و الدارقطني متروك و قال ابن حبان وضوح الكذب اظهر فيه-

و اما حديث ابن عمر فيه عبد الملك بن نافع و هو مجهول ضعيف و الصحيح عن ابن عمر مرفوعا ما أسكر كثيره فقليله حرام- و اما حديث ابن عباس فتفرد به القاسم بن بهرام قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به بحال- و اما حديث ابى مسعود فيه عبد العزيز بن ابان قال احمد تركته و قال ابن نمير هو كذاب يضع الحديث-

و اما حديث سعيد بن لقوة فقال ابو حاتم هو شيخ دجال و روى ابن ابى شيبة عن عمرو نحوه و فيه انقطاع- ثم انه لا خلاف في النبيذ فانه ان غلا و اشتد فهو حرام قليله و كثيره بالاتفاق و ان كم يسكر فهو حلال بالاتفاق فلا مساس لهذه الأحاديث بالخلافية أصلا و اللّه اعلم

وَ الْمَيْسِرِ مصدر كالموعد سمى به القمار لانه أخذ مال الغير بيسر او سلب يسار الغير- قال عطاء و طاوس و مجاهد كل شى ء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز و الكعاب-

قال البغوي روى عن على رضى اللّه عنه في النرد و الشطرنج انهما من الميسر-

روى البيهقي في شعب الايمان عن على انه كان يقول الشطرنج هو ميسر الأعاجم- و قد ورد في النهى عن عن النرد و الشطرنج و نحوهما عن بريدة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال- من لعب بالنردشير فكانما صبغ يده بلحم خنزير-

و روى عبدان و ابو موسى و ابن حزم عن حبة بن مسلم مرسلا- ملعون من لعب بالشطرنج و الناظر إليها كالاكل لحم الخنزير- و عن ابى موسى الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من لعب بالنرد فقد عصى اللّه و رسوله- رواه احمد و ابو داود- و عنه انه قال لا يلعب بالشطرنج الا خاطئ و عنه انه سئل عن لعب الشطرنج فقال هى من الباطل و لا يحب اللّه الباطل رواه البيهقي في شعب الايمان و عن ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم- نهى عن الخمر و الميسر و الكوبة- رواه ابو داود و عن ابن عباس مرفوعا نحوه قيل الكوبة الطبل رواه البيهقي في شعب الايمان و عن ابى هريرة- ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راى رجلا يتبع حمامة قال شيطان يتبع شيطانة رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة و البيهقي في الشعب- و التحقيق ان اللعب بكل شى ء حرام اجماعا و ما روى عن الشافعي انه أباح اللعب بالشطرنج فقد صح انه رجع عن هذا القول- و ان اضاعة المال و التبذير باى وجه كان كالرشوة و القمار و الربوا و غير ذلك ايضا حرام اجماعا قال اللّه تعالى إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ و في الميسر اجتمع الأمران اللعب و اضاعة المال فامره أشد و هو كبيرة من الكبائر اجماعا سواء كان المقامرة بما كان به عادة العرب او بغير ذلك من الشطرنج و الغرد و نحوهما

قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فانهما يستلزمان الأوزار العظيمة من المخاصمة ما لمشاتمة و يوقعان العداوة و البغضاء و يصدان عن ذكر اللّه و عن الصلاة قرا حمزة و الكسائي أتم كثير بالثاء من حيث تعدد اقسام الأوزار- و قال الباقون كبير بالباء بناء على عظم المعصية و كونهما من الكبائر عن معاذ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تشربنّ خمرا فانه رأس كل فاحشة- رواه احمد و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يزنى الزاني حين يزنى و هو مؤمن و لا يسرق السارق حين لسرق و هو مؤمن و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن الحديث رواه البخاري و عن ابن عمر و قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- الخمر أم الفواحش و اكبر الكبائر و من شرب الخمر ترك الصلاة و وقع على امه و خالته و عمته- رواه الطبراني بسند صحيح- و عن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب من شرب الخمر لم يقبل اللّه لصلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد لم تهبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد في الرابعة لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب لم يتب اللّه عليه و سقاه من نهر الخيال رواه النسائي و ابن ماجة و الدارمي و عن عبد اللّه بن عمر و قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- الخمر أم الخبائث فمن شربها لم يقبل صلاته أربعين يوما فان مات و هى في بطنه مات ميتة جاهلية- رواه الطبراني بسند حسن و عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم- قال لا يدخل الجنة عاق و لا قمار و لا منان و لا مدمن خمر رواه الدارمي و عن ابن عمر مرفوعا ثلاثة قد حرم اللّه عليهم الجنة مد من الخمر و العاق و الديوث- رواه احمد و النسائي و عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه بعثني رحمة للعالمين و هدى للعالمين و أمرني ربى عز و جل بمحق المعازف و المزامير و الأوثان و الصليب و امر الجاهلية و حلف ربى عز و جل بعزتي لا يشرب عبد من عبيدى جرعة من خمر الا سقيته من الصديد مثلها و لا يتركها مخافتى إلا سقيته من حياض القدس- رواه احمد و عن ابى موسى الأشعري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ثلاثة لا يدخل الجنة مدمن الخمر و قاطع الرحم و مصدق السحر- رواه احمد و عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مدمن الخمر ان مات لقى اللّه كعابد وثن- رواه احمد- و روى ابن ماجة عن ابى هريرة و البيهقي- و عن ابى موسى انه كان يقول ما أبالي شربت الخمر او عبدت هذه السارية دون اللّه- رواه النسائي

وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ فان في الخمر لذة عند شربها و الفرح و استمراء الطعام و تشجيع الجبان و توقير المروة و تقوية الطبيعة- و دفع بعض الأمراض و في الميسر إصابة المال من غير كد و لا تعب

(مسئلة) اجمعوا على انه لا يجوز الانتفاع بالخمر في حالة الاختيار و اما في حالة الإكراه و الاضطرار فيجوز لقوله تعالى إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ- و قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ- فمن غص بلقمة و لم يجد غير الخمر جاز له ان يسقيها عند ابى حنيفة و الشافعي و احمد و قال مالك في المشهور عنه لا يجوز- و اختلفوا في انه هل يجوز التداوى بالخمر فقال ابو حنيفة و مالك و احمد لا يجوز و به قال الشافعي في أصح قوليه و في قول له انه يجوز القليل للتداوى قال في الهداية كره شرب و دردى الخمر و الامتشاط به لان فيه اجزاء الخمر و الانتفاع بالمحرم حرام-

و لهذا لا يجوز ان يداوى به جرحا او دبرة دابة و لا ان يسقى ذميا و لا ان يسقى صبيا للتداوى و الوبال على من سقاه- و كذا لا يسقيها الدّواب عن وائل بن حجر ان رجلا سال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن الخمر فنهاه عنها قال انما صنعتها للدواء فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم انها داء و ليست بدواء- رواه مسلم و عن طارق بن سويد قال قلت يا رسول اللّه ان بأرضنا أعنابا نعصرها و نشربها قال لا فعاودته فقال لا فقلت انا نستسقى بها المريض قال ان ذاك ليس بشفاء لكنه داء- رواه احمد- و عن أم سلمة قالت نبذت نبيذا في كور فدخل النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو يغلى فقال ما هذا قلت اشتكت ابنة لى فصنعت لها هذا فقال ان اللّه لم يجعل شفاء كم فيما حرم عليكم- رواه البيهقي و ابن حبان و لفظ ابن حبان ان اللّه لم يجعل شفاءكم فى حرام و ذكره البخاري عن ابن مسعود تعليقا-

قلت ليس معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم لم يجعل شفاءكم في حرام انه لم يخلق فيه شفاء فانه خلاف منطوق الاية و بالتحريم لا ينتفى المنافع الخلقية لا تبديل لخلق اللّه- بل المعنى انه لم يرخص لكم في تحصيل الشفاء بالحرام و قد يحتج على جواز التداوى بالحرام بحديث انس ان رهطا من عكل او قال عرينة قدموا المدينة فامولهم النبي صلى اللّه عليه و سلم بلقاح و أمرهم ان يخرجوا فيشربوا من أبوالها و ألبانها فشربوا حتى إذا برءوا قتلوا الراعي الحديث متفق عليه و الجواب انه منسوخ فان قصة العرنيين كان قبل نزول سورة المائدة على ان الشافعي يستدل بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه فلا يجوز له الاحتجاج بهذا الحديث على جواز التداوى بالمحرم-

و اختلفوا في انه هل يجوز تخليل الخمر فقال ابو حنيفة يجوز و يطهر بالتخليل و قال مالك يكره لكن يطهر بالتخليل و قال الشافعي و احمد لا يجوز و لا يطهر- لابى حنيفة حديث أم سلمة انها كانت لها شاة يحلبها ففقدها النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ما فعلت الشاة قالوا ماتت قال أ فلا انتفعتم باهابها فقلنا انها ميتة فقال دباغتها تحل كما تحل خل الخمر- رواه الدارقطني قال الدارقطني تفرد به الفرج بن فضالة و هو ضعيف

و قال ابن حبان بقلب الأسانيد يلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة لا يحل الاحتجاج به- و قد ذكروا أحاديث لا اصل لها منها خير خلكم خل خمركم و يطهر الدباغ الجلد كما يحل الخمر- و هذا لا يعرف و الحجة للشافعى و احمد حديث انس ان أبا طلحة سال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن أيتام و رثوا خمرا قال اهرقها قال اولا نجعلها خلا- قال لا أخرجه مسلم و لهذا الحديث طرق اخر أخرجها الدارقطني و في بعضها الى اشتريت لايتام في حجرى خمرا فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم أهرق الخمر و اكسر الدنان فاعاد ذلك عليه ثلاث مرات- و حديث ابى سعيد قال

قلنا الرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما حرمت الخمر ان عندنا خمر ليتيم لنا فامرنا فاهرقناها

وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما

قال البغوي قال الضحاك إثمهما بعد التحريم اكبر من نفعهما قبل التحريم- و قيل إثمهما اكبر من نفعهما قبل التحريم- و الظاهر عندى ان إثمهما بعد التحريم اكبر من نفعهما كذلك لان مضار الإثم راجعة الى الاخرة و منافعها راجعة الى الدنيا و متاع الدنيا قليل و الساعة أدهى و امر و اللّه اعلم اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد و عكرمة عن ابن عباس ان نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل اللّه أتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا انا لا ندرى ما هذه النفقة التي امرتنا بها في أموالنا فما ننفق منها-

و اخرج ايضا عن يحيى انه بلغه ان معاذ بن جبل و ثعلبة أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالا يا رسول اللّه ان لنا ارقاء و أهلين فما ننفق من أموالنا فانزل اللّه تعالى

وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْو قرا ابو عمر و بالرفع يعنى الذي ينفقون هو العفو قال عطاء و قتادة و السدى هو ما فضل عن الحاجة و كان الصحابة يكتسبون المال فيمسكون قدر النفقة و يتصدقون بالفضل بحكم هذه الاية- عن ابى امامة ان رجلا من اهل الصفة نوفى و ترك دينارا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كيّة قال ثم توفى اخر و ترك دينارين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كيتان- رواه احمد و البيهقي في شعب الايمان و عن ابى هاشم بن عقبة قال عهد إلينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عهدا سمعته يقول انما يكفيك من جمع المال خادم و مركب- رواه احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة ثم نسخ هذا الحكم باية الزكوة قلت و هذا ليس بسديد فان إنزال الحكم بالزكاة في صدر سورة البقرة و نزولها في السنة الاولى او الثانية من الهجرة فآية الزكوة مقدمة نزولا على هذه الاية- فاما ان يقال المراد بهذه الاية اشتراط ان يكون نصاب المال في الزكوة فاضلا عن الحاجة الاصلية من الدين و غير ذلك او يقال السؤال انما كانت عن الصدقة النافلة و مقتضى الاية ان الأفضل التصدق عن ظهر غنى قال مجاهد معناه التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلا على الناس- و قال عمرو بن دينار العفو الوسط من غير إسراف و لا إقتار قال اللّه تعالى وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا- و قال طاؤس العفو ما يسر و منه قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ اى الميسور من اخلاق الناس فينفق ما تيسر له بذله و لا يبلغ منه الجهد عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى و ابدأ بمن تعول- رواه البخاري و ابو داود و النسائي- و عن حكيم بن حزام نحوه متفق عليه و روى البغوي عن ابى هريرة نحوه و زاد و اليد العليا خير من اليد السفلى- و عن ابن عباس مثله بلفظ خير الصدقة ما أبقت غنى- رواه الطبراني و عن ابى هريرة قال جاء رجل الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه عندى دينار فقال أنفقه على نفسك-

قال عندى اخر قال أنفقه على ولدك قال عندى اخر قال أنفقه على أهلك قال عندى اخر قال أنفقه على خادمك قال عندى أنت اعلم- رواه ابو داود و النسائي-

و عن جابر ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم ببيضة من ذهب أصابها فى بعض المغانم فقال خذها منى صدقة فاعرض عنه ثم كرر مرارا فقال هاتها مغضبا فاخذها فخذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال يأتى أحدكم بماله كله يتصدق به و يجلس يتكفف الناس انما الصدقات عن ظهر غنى- رواه البزار و ابو داود ابن حبان و الحاكم عند البزار في بعض المغانم و الباقيين في بعض المغازي

فان قيل لهذا الحديث و الاية يدلان على كراهة انفاق جميع المال و كراهة جهد المقل- فان العفو ضد الجهد و حديث ابى امامة يدل على وجوب انفاق جميع المال- و قد صح عنه صلى اللّه عليه و سلم- انه سئل اى صدقة أفضل قال جهد المقل و ابدأ بمن تقول- رواه ابو داود من حديث ابى هريرة- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو كان لى مثل أحد ذهبا لسرنى ان لا يمر على ثلاث ليال و عندى منه شى ء الا شى ء ارصده لدين رواه البخاري و عن اسماء قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انفقى و لا تحصى فيحصلى اللّه عليك و لا توعى فيوعى اللّه عليك ارضحى ما استطعت- متفق عليه قلت الحكم يختلف باختلاف الاشخاص و الأحوال فمن كان بعد ما يتصدق كل ماله يتكفف الناس و لا يستطيع الصبر على الفقر لا يجوز له ذلك و من يقدر على الصبر و ليس عليه حق من حقوق الناس فالافضل فى حقه البذل في سبيل اللّه- و حقوق الناس من الديون و نفقة العيال و الخادم مقدم على التصدق على الأجنبي لا محالة فان ذلك فريضة و هذه نافلة-

و من التزم على نفسه التزهد و المعاش على حسب عيش النبي صلى اللّه عليه و سلم كاهل الصفة من الصحابة و اهل الخانقاه من الصوفية فيكره له إمساك ما فضل عن الحاجة و عليه يحمل حديث ابى امامة و لعل النبي صلى اللّه عليه و سلم عبر التحسر على فوات الأفضل من الأعمال بالكلية-

فان قيل لو أنفق ما فضل عن الحاجة قبل بلوغ النصاب و الحول فقط ادى نافلة و لو اتفق بعد ما بلغ المال نصابا و حال عليه الحول فقد ادى فريضة و أداء الفريضة يكون أفضل من النافلة فكيف يقال بالعكس-

قلنا سبب وجوب الانفاق هو نفس تملك المال و به يحصل القدرة الممكنة فان الشكر عبارة عن صرف النعمة في رضاء المنعم و اشتراط النصاب و النماء و الحول رخصة من اللّه تيسيرا و تفضلا و به يحصل القدرة الميسرة فمن ترك الانفاق لفوات القدرة الميسرة فلا اثم عليه بناء على الرخصة- و لكن من أنفق مع فوات القدرة الميسرة بعد الممكنة فقد اتى بالعزيمة- و الواجب في المال بعد النصاب و ان كان ربع العشر مثلا لكن من أنفق كل المال في سبيل اللّه يقع كل ذلك عن الفريضة كما ان الواجب من القراءة في الصلاة يتادى بالفاتحة و ثلاث آيات قصار لكن من قرا القران كله في ركعة يقع عن الواجب لان فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ- و أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ شامل لهما- و كون المال فاضلا عن الحاجة يكفى لصدق من التبعيضية في قمار رزقنكم

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ الكاف في موضع النصب صفة مصدر محذوف يعنى

يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ تبيينا مثل ذلك التبيين فى امر النفقة و غيرها من الاحكام و انما و حدّ العلامة و المخاطب به جمع على تأويل القبيل و الجمع او هو خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و خطابه يشتمل على خطاب الامة كقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ

لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فى الدلائل و الاحكام فتعلمون ان تلك الآيات لا يتصور الا من اللّه العليم بمصالح الأمور و عواقبها الحكيم المتقن فتبادروا بامتثال أوامره و الانتهاء عن مناهيه فتفوزوا بمنافع الدارين.

٢٢٠

فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ الظرف متعلق بيبين تقدير الكلام يبين اللّه لكم الآيات ما يصلح لكم في امر الدنيا و الاخرة لعلكم تتفكرون و قيل الظرف متعلق بتتفكرون و المعنى تتفكرون فيما يتعلق بالدنيا و الاخرة فتأخذون بما هو أصلح لكم فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم المعاش في الدنيا و تنفقون الفاضل فيما ينفعكم في العقبى او المعنى لعلكم تتفكرون في الدارين فتؤثرون ابقاءهما و أكثرهما منافع- عن على رضى اللّه عنه قال ارتحلت الدنيا مدبرة و ارتحلت الاخرة مقبلة و لكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الاخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا فان اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل- رواه البخاري في ترجمة باب و رواه البيهقي فى شعب الايمان عن جابر مرفوعا- و عن ابن مسعود ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نام على حصير و قام و قد اثر في جسده فقال ابن مسعود يا رسول اللّه لو امرتنا ان نبسط لك فقال ما لى و للدنيا ما انا و الدينا الا كراكب استظل نحت شجرة ثم راح و تركها- رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة-

و عن ابى الدرداء مرفوعا ان إمامكم عقبة كؤدا لا يجوّزها المثقلون- رواه البيهقي في الشعب و اللّه اعلم اخرج ابو داود و النسائي و الحاكم و صححه من حديث ابن عباس انه لما نزلت قوله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الاية تحرج المسلمون تحرجا شديدا حتى عزلوا اموال اليتامى عن أموالهم فكان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شى ء فيتركونه و لا يأكلونه حتى يفسد فاشتد ذلك عليهم و سالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ يعنى إصلاح اموال اليتامى و أمورهم خير فان رايتم الإصلاح في المجانبة فذاك

وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ و رايتم إصلاحهم في المخالطة

فَإِخْوانُكُمْ اى انهم إخوانكم فى الدين و النسب و الاخوان يعين بعضهم بعضا و يصيب بعضهم من مال بعض على وجه الإصلاح

وَ اللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ يعنى الذي يقصد بالمخالطة الخيانة و إفساد مال اليتيم و أكله بغير حق

مِنَ الْمُصْلِحِ الذي يقصد به الإصلاح

وَ لَوْ شاءَ اللّه لَأَعْنَتَكُمْ اى لضيّق عليكم و ما أباح لكم ذلك و لكنه خفف عنكم فاباح لكم مخالطتهم على قصد الإصلاح

إِنَّ اللّه عَزِيزٌ غالب يحكم ما يشاء سهّل على العبادا و شق عليهم

حَكِيمٌ يحكم بفضله على ما يقتضيه الحكمة و يتسع له الطاقة و اللّه اعلم

قال البغوي بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبا مرثد الغنوي الى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرّا- فلما قدمها سمعت به امراة مشركة يقال لها عناق و كانت خليلة له في الجاهلية فاتته و قالت يا أبا مرثد الا تخلو فقال لها ويحك يا عناق ان الإسلام قد حال بيننا و بين ذلك قالت فهل لك ان تتزوج بي قال نعم و لكن ارجعه الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاستأمره فقالت ابى تبترم ثم استغاثت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة و انصرف الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اعلمه بالذي كان من امره و امر عناق و قال يا رسول اللّه أ تحل لى ان أتزوجها فانزل اللّه تعالى.

٢٢١

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ و كذا اخرج ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الواحدي عن مقاتل- و قال السيوطي ليس هو في نزول هذه الاية انما هو في نزول اية سورة النور الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً الاية كذا أخرجه ابو داود و الترمذي و النسائي من حديث ابن عمر و هذه الاية منسوخة في حق الكتابيات لقوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هن مشركات حيث يعبدون عزيرا او مسيحا

وَ لَأَمَةٌ اى امراة حرة كانت او امة فان الناس عباد اللّه و اماؤه

مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يعني بمالها و جمالها و شمائلها- و الواو للحال و لو بمعنى ان تعليل لما سبق من النهى-

قال البغوي نزلت في خنساء وليدة كانت كحذيفة بن اليمان فاعتقها فتزوجها

و اخرج الواحدي من طريق الواقدي عن ابى مالك عن ابن عباس انه كانت امة سوداء لعبد اللّه بن رواحة و انه غضب عليها فلطمها ثم فزع فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبره بذلك فقال له عليه السلام و ما هى يا عبد اللّه فقال هى تشهدان لا اللّه الا اللّه و انك رسول اللّه و تصوم رمضان و تحسن الوضوء و تصلى- فقال هذه مؤمنة- قال عبد اللّه فو الذي بعثك بالحق لاعتقها و لا تزوجها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين و قالوا أ تنكح امة و عرضوا عليه حرة مشركة فانزل اللّه هذه الاية- و يستفاذ من هذه الاية بالقياس ان امرأة تقية ذات اخلاق حسنة و ان كانت فقيرة ذميمة اولى بالنكاح من امراة فاسقة سيئة الأخلاق و ان كانت غنية جميلة- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تنكح المرأة لاربع لمالها و لحسبها و لجمالها و لدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك- متفق عليه و عن عبد اللّه بن عمر و مرفوعا خير متاع الدنيا المرأة الصالحة- رواه مسلم و عن ابى سعيد الخدري مرفوعا اتقوا النساء فان أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء رواه مسلم-

وَ لا تَنْكِحُوا مسلمة حذف احدى المفعولين و الخطاب الى الأولياء او الى الحكام يعنى امنعوهن عن نكاح المشركين

الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا- هذه الاية محكمة لا يجوز نكاح المؤمنة بالمشرك كتابيا كان او غيره اجماعا

وَ لَعَبْدٌ اى رجل مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ بماله او جاهه او غير ذلك

أُولئِكَ يعنى المشركات و المشركين يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ اى الى الكفر و المعاصي فان للصحبة و الموالات تأثير في النفوس يصير المرء على دين خليله و جليسه

وَ اللّه يَدْعُوا على لسان رسله- او المعنى و اولياء اللّه حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه تفخيما لشأنهم

إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ يعنى الى اعتقادات و اعمال توجب الجنة و المغفرة فاولياء اللّه أحق بالمواصلة بِإِذْنِهِ بتوفيقه و تيسيره او لقضائه و إرادته

وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ او امره و نواهيه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢١٢) لكى يتذكروا او ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر و اللّه اعلم روى البخاري و مسلم و الترمذي عن انس ان اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها و لم يجامعوها في البيوت فسأل اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم عن ذلك-

و اخرج «١» عن ابن عباس ان السائل ثابت بن الدحداح-

و اخرج ابن جرير عن السدى نحوه فانزل اللّه تعالى.

(١) هكذا بياض في الأصل ١٢

٢٢٢

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ- المحيض مصدر كالمجئ و المبيت- و المعنى يسئلونك عما يفعل بالنساء في المحيض- ذكر اللّه سبحانه يسئلونك بغير و او ثلثا ثم بالواو ثلثا لعله كانت السؤالات السابقة في اوقات متفرقة و الثلاثة الاخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بلفظ الجمع.

قُلْ يا محمد هُوَ يعنى المحيض أَذىً قذر مستقذر

فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ و المراد باعتزال النساء ترك الوطي اجماعا- دون ترك المخالطة في الاكل و الشرب و المضاجعة و غير ذلك- روى البخاري و مسلم في حديث انس المذكور انه حين نزل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اصنعوا كل شى ء الا النكاح و عن عائشة قالت كنت اغتسل انا و النبي صلى اللّه عليه و سلم من اناء واحد و كلانا جنب و كان يأمرنى فاتزر فيباشرنى و انا حائض و كان يخرج رأسه الىّ و هو معتكف فاغسله و انا حائض متفق عليه و عنها قالت كنت اشرب و انا حائض ثم انا و له النبي صلى اللّه عليه و سلم فيضع فاه موضع فيّ فيشرب و اتعرق العرق و انا حائض ثم انا و له النبي صلى اللّه عليه و سلم فيضع فاه موضع فيّ رواه مسلم و عنها قالت كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يتكى في حجرى و انا حائض ثم يقرأ القران متفق عليه و عنها قالت قال لى النبي صلى اللّه عليه و سلم ناولنى الخمرة من المسجد فقلت انى حائض فقال ان حيضتك ليست في يدك- رواه مسلم عن ميمونة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يصلى في مرط بعيضه علىّ و بعضه عليه و انا حائض- متفق عليه و عن أم سلمة قالت حضت فاخذت ثياب حيضتى فلبستها فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ نفست قلت نعم فادخلنى معه في الخميلة- رواه البخاري

وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تأكيد للحكم السابق و بيان للغاية قرا عاصم برواية ابى بكر و حمزة و الكسائي بتشديد الطاء و الهاء

و قرا الآخرون بسكون الطاء و ضم الهاء مخففا و معنى القراءتين عند مالك و الشافعي و احمد و أحد يعنى حتى يغتسلن فلا يجوز عندهم قربان الحائض بعد انقطاع دمها قبل الاغتسال أصلا-

و قال ابو حنيفة معنى قراءة التخفيف حتى يطهرن من الحيض و تنقطع دمهن فيجوز على هذه القراءة القربان بغد الانقطاع قبل الغسل و معنى قراءة التشديد الاغتسال فعلى هذه القراءة لا يجوز ذلك فيحمل ابو حنيفة قراءة التخفيف على ما إذا انقطع دمها بعد عشرة ايام و قراءة التشديد على ما دون العشرة- و يرد عليه ان قراءة التشديد ناطق بالمنع عن القربان قبل الاغتسال و قراءة التخفيف لا يدل على اباحة القربان قبل الاغتسال الا بالمفهوم و المفهوم لا يعارض المنطوق- و بعد ما اجمعوا على حرمة الوطي في الحيض اختلفوا في انه من ارتكب ذلك هل يجب عليه كفارة أم لا- فقال ابو حنيفة و مالك لا يجب عليه الكفارة بل الاستغفار فحسب- و هو الجديد من قول الشافعي- و قال احمد يتصدق بدينار فان لم يجد فنصف دينار-

و قال الشافعي في القديم ان اتى حائضا فى اقبال الدم فعليه دينار و في ادبار الدم فنصف دينار- لحديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى الذي يأتى امرأته و هى حائض قال يتصدق بدينار او نصف دينار- رواه احمد عن يحيى عن شعبة عن الحكم عن عبد الحميد عن مقيم عنه و رواه اهل السنن و الدارقطني و رواة هذا الحديث مخرج في الصحيحين الا مقيما انفرد بإخراجه البخاري و صححه ابن القطان و الحاكم و ابن دقيق العبد فلا يضر رواية من رواه موقوفا فان الرفع زيادة مقبولة من الثقة و احتجوا للقول القديم الشافعي بما روى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم-

إذا كان دما اصفر فنصف دينار و احمر فدينار- و مدار هذا الحديث على عبد الكريم ابى امية و هو مجمع على تركه كان ابو أيوب السجستاني يرميه بالكذب و قال احمد و يحيى ليس بشى ء و اختلفوا في الاستمتاع بما تحت الإزار دون الجماع فقال احمد يجوز و قال الجمهور لا يجوز لاحمد ما مر من حديث انس اصنعوا كل شى ء الا النكاح-

و عن عكرمة عن بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان إذا أراد من الحائض شيئا القى على فرجها شيئا رواه ابن الجوزي- و احتج الجمهور بحديث معاذ بن جبل قال قلت يا رسول اللّه ما يحل لى من امراتى و هى حائض قال ما فوق الإزار و التعفف عن ذلك أفضل- رواه رزين- قال محيى السنة اسناده ليس بالقوى- و عن عبد اللّه بن «١» نحوه رواه ابو داود-

(١) هكذا في الأصل

و عن زيد بن اسلم قال- ان رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ما يحل لى من امراتى و هى حائض فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها- رواه مالك و الدارمي مرسلا- و التحقيق انه ان ملك اربته فلا بأس بالمساس تحت الإزار دون الفرج لان المراد بالاية هو النهى عن الجماع و الجمع بين الحقيقة و و المجاز لا يجوز- و الا فالترك واجب فانه من حال حول الحمى يوشك ان يقع فيه- و اجمعوا على ان الحيض يمنع جواز الصلاة و وجوبها و يمنع جواز الصوم لا وجوبه- فلذا لا تقضى الصلاة و تقضى الصوم قالت عائشة- كنا نحيض عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيأمرنا بقضاء الصيام و لا يأمرنا بقضاء الصلاة- رواه مسلم و الترمذي- و هذا حديث مشهور روى معناه عن كثير من الصحابة صريحا و دلالة- و في الصحيحين قوله عليه السلام أ ليس إذا حاضت لم تصل و لم تصم- و ايضا قوله صلى اللّه عليه و سلم إذا أقبلت الحيضة فاتركى الصلاة- و يمنع الحيض دخول المسجد و الطواف و مس المصحف و قراءته اجماعا- قال اللّه تعالى لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و جهوا هذه البيوت عن المسجد فانى لا أحل المسجد لحائض و لا جنب رواه ابو داود و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تقرا الحائض و لا الجنب شيئا من القران- رواه الترمذي و ابن ماجة و الدارقطني- و له شاهد من حديث جابر- رواه الدارقطني مرفوعا و في اسناد هذين الحديثين مقال و اللّه اعلم

فَإِذا تَطَهَّرْنَ اتفق القراء هاهنا على التشديد فظهر ان الاغتسال شرط لاباحة الوطي

فَأْتُوهُنَّ فجامعوهن يعنى أبا حكم اللّه الجماع بعد التطهر

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه يعنى الفرج دون الدبر-

و انما ذكرنا الإباحة لان الأمر بالجماع للاباحة دون الوجوب- قال مجاهد و قتادة و عكرمة اى من حيث أمركم ان تعتزلوهن منه و هو الفرج- و كذا قال ابن عباس قيل من هاهنا بمعنى في يعنى فى حيث أمركم اللّه و هو الفرج كقوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ اى في يوم الجمعة- و قال ابن الحنفية من قبل الحلال دون الفجور

إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الكفر و المعاصي وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) من الاقذار كمجامعة الحائض و الإتيان في الدبر و من الأحداث و الاخباث فحرمة إتيان النساء في أدبارهن ثبت بهذه الاية بالاشارة او بالقياس على حرمة و طى الحائض فانه مستقذر كالوطى في الحيض- بل الوطي مطلقا مستقذر سواء كان في القبل او في دبر الرجل او الامرأة و من ثم يجب الغسل به لكن أبيح الوطي في القبل لضرورة ابقاء النسل و جعل للاباحة شرائط من النكاح و عدم المحرمية و براءة الرحم و الطهارة من الحيض و غير ذلك- و لا ضرورة في الوطي في الدبر سواء كان المفعول به رجلا او امراة فبقى على حرمته لعلة الاستقدار- و قد ثبت حرمة إتيان الرجل الرجل في دبره بالنصوص القطعية و الإجماع و هلك في ذلك قوم لوط عليه السلام فكذا إتيان المرأة في دبرها- و من ثم قيد اللّه سبحانه قوله فَأْتُوهُنَّ بقوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه- و لدفع توهم حرمة الجماع بعلة الأذى و بيان وجه ضرورة الإباحة عقب اللّه تعالى تلك الاية بقوله-.

٢٢٣

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ- يعنى مواضع حرث لكم شبههن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور يعنى أبيح لكم إتيانهن ضرورة ابقاء النسل

فَأْتُوا حَرْثَكُمْ يعنى فروجهن فهو كالبيان لقوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه أَنَّى شِئْتُمْ يعنى كيف شئتم فان كلمة انى مشتركة في معنى كيف و اين و لا يتصور هاهنا معنى اين فانه تدل على عموم المحل و محل الحرث ليس؟؟ فتعين معنى كيف و يقتضيه ما سنذكر من التحقيق في سبب نزول الاية و اللّه اعلم

و بما قلنا من حرمة إتيان النساء فى أدبارهن قال ابو حنيفة و احمد و جمهور اهل السنة-

و يحكى عن مالك جواز إتيان المرأة في دبرها و اكثر أصحابه ينكرون ان يكون ذلك مذهبا له و الصحيح انه كان مذهبا له ثم رجع عنه هو او رجع عنه أصحابه- و الشافعي فيه قولان القول القديم عنه ما حكى عن ابن عبد الحكم عن الشافعي انه قال لم يصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في تحريمه و لا في تحليله شى ء و القياس انه حلال فكانه قاس على من عالج امرأته بذكره في فخذها او يدها- روى الحاكم بسنده عن ابن عبد الحكم انه كلم الشافعي فى مسئلة إتيان المرأة في دبرها فقال سالنى محمد بن الحسن فقلت له ان كنت تريد المكابرة و تصحيح الروايات و ان لم تصح فانت اعلم و ان تكلمت بالمناصفة كلمتك قال على المناصفة قلت فباى شى ء حرمته قال لقوله عز و جل

فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه- فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ و الحرث لا يكون الا في الفرج قلت أ فيكون ذلك محرما لما سواه قال نعم قلت فما تقول لو وطيها بين ساقيها او تحت بطنها او أخذت ذكره بيدها أ في ذلك حرث قال لا قلت أ فتحرم ذلك قال لا قلت فلم تحتج بما لا حجة فيه قال فان اللّه قال وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الاية قال فقلت له ان هذا ما يحتجون به للجواز ان اللّه اثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته و ما ملكت يمينه فقلت أنت تقول للحفظ من زوجته و ما ملكت يمينه-

قلت و لما ذكرنا من ان سبب حرمة إتيان النساء في الأدبار الاستقذار و ذلك منتف فيمن وطيها بين ساقيها و نحو ذلك فظهروهن قياس الشافعي و من ثم رجع الشافعي عن قوله ذلك- قال الحاكم لعل الشافعي كان يقول ذلك في القول القديم فاما في الجديد المشهور انه حرمه- و قال الربيع كذب ابن عبد الحكم و اللّه الذي لا اللّه الا هو قد نص الشافعي على تحريمه في سننه و حكاه عنه جماعة منهم الماوردي في الحاوي و ابو نصر بن الصباح في الشامل و غيرهم- و قال الشيخ ابن حجر العسقلاني بتكذيب الربيع لابن عبد الحكم لا معنى له لانه لم يتفرد به فقد تابعه اخوه عبد الرحمن- و التحقيق ان للشافعى فيه قولان و الجديد المرجوع اليه انه و أفق الجمهور في التحريم- و قد ورد في حرمة الإتيان في الدبر أحاديث

قال ابن الجوزي روى ذلك عن جماعة من الصحابة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منهم عمر بن الخطاب و على بن ابى طالب و خزيمة بن ثابت و ابى هريرة و ابن عباس و عبد اللّه بن عمرو بن العاص و ابن مسعود و عقبة بن عامر و البراء بن عازب و طلق بن على و أبو ذر و جابر بن عبد اللّه-

قلت اما حديث عمر فقد أخرجه النسائي و البزار من طريق زمعة بن صالح عن ابن طاءوس عن أبيه عن الهاد عن عمر و زمعة ضعيف ضعفه احمد و ابو حاتم و قال الذهبي صالح الحديث و قد اختلف عليه في رفعه و وقفه- و اما حديث على فقد أخرجه الترمذي و النسائي و ابن ماجة بلفظ ان اللّه لا يستحيى من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن- و اما حديث خزيمة بن ثابت ان رجلا سال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال- حلال-

فلما ولى الرجل دعا فقال كيف قلت فى اى الحزبتين أمن دبرها في قبلها فنعم او من دبرها في دبرها فلا ان اللّه لا يستحى من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن- رواه الشافعي و احمد و الترمذي و ابن ماجة و الدارمي و فيه عمرو بن اجنحة مجهول الحال و رواه النسائي من طريق وهب بن سويد بن هلال عن أبيه عن على بن السائب عن حصين بن محصين عن هرمى بن عبد

اللّه عن خزيمة- و من طريق هرمى ايضا أخرجه احمد و النسائي و ابن حبان و هو لا يعرف حاله ايضا- و قال البزار لا اعلم في هذا الباب حديثا صحيحا و كلما روى عن خزيمة بن ثابت فغير صحيح و كذا روى الحاكم عن الحافظ ابى على النيشابوري و مثله عن النسائي و قال قبلهما البخاري- و اما حديث ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ملعون من اتى امراة في دبرها و في لفظ لا ينظر اللّه يوم القيمة الى رجل اتى امراة في دبرها- رواه احمد و ابو داود و بقية اصحاب السنن من طريق سهيل بن ابى صالح عن الحارث بن مخلد عن ابى هريرة- و أخرجه البزار و قال- الحارث بن مخلد ليس بمشهور-

و قال ابن القطان لا يعرف حاله- و قد اختلف فيه على سهيل فرواه إسماعيل بن عيّاش عنه عن محمد بن المنكدر عن جابر أخرجه الدارقطني و ابن شاهين- و رواه عمر مولى عفرة عن سهيل عن أبيه عن جابر أخرجه ابن عدى و اسناده ضعيف- و لحديث ابى هريرة طريق اخر أخرجها احمد و الترمذي من طريق حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن ابى تميمة عنه بلفظ من اتى حائضا او امرأة في دبرها او كاهنا فصدقه ما يقول فقد كفر بما انزل على محمد قال الترمذي غريب لا نعرفه الا من حديث حكيم و قال البخاري لا يعرف لابى تميمة سماعا عن ابى هريرة- و قال البزار هذا حديث منكر و حكيم لا يحتج به و ما تفرد به فليس بشى ء- و له طريق ثالث أخرجها النسائي من رواية الزهري عن ابى سلمة عنه- قال حمزة الكتاني هذا حديث منكر و عبد الملك راويه قد تكلم فيه دحيم و ابو حاتم و غيرهما-

و المحفوظ الموقوف و له طريق رابع أخرجها النسائي من طريق بكر بن خنيس عن ليث عن مجاهد عن ابى هريرة بلفظ- من اتى شيئا من الرجال او النساء في الأدبار فقد كفر و بكر و ليث ضعيفان- و له طريق خامس رواه عبد اللّه بن عمر بن حبان عن مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء عن أبيه عن ابى هريرة بلفظ ملعون من اتى النساء في أدبارهن- رواه احمد و النسائي و مسلم ضعفه النسائي و غيره و قال الذهبي صدوق و ثقة يحيى بن معين و غيره-

و اما حديث ابن عباس أخرجه الترمذي و النسائي و ابن حبان و احمد و البزار من طريق كثير بن عباس قال البزار لا نعلمه يروى عن ابن عباس بإسناد احسن من وهب- انفرد به ابو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن محمد بن سلميان عن كريب- و كذا قال ابن عدى و رواه النسائي عن هناد عن وكيع عن الضحاك موقوفا و هو أصح عندهم من المرفوع و عن ابن عباس من طريق اخر موقوفا رواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاؤس عن أبيه ان رجلا سأل عن ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال تسئلنى عن الكفر و أخرجه النسائي من رواية ابن المبارك عن معمر و اسناده قوى-

و اما حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقد أخرجه احمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الرجل يأتى المرأة في دبرها فقال هى اللواطة الصغرى- و أخرجه النسائي و أعله و المحفوظ عن عبد اللّه بن عمرو من قوله كذا أخرجه عبد الرزاق و غيره- و في الباب عن انس أخرجه الإسماعيلي في معجمه و فيه يزيد الرقاشي و هو ضعيف و عن ابى بن كعب في خبر الحسن بن عرفة بإسناد ضعيف جدا و عن ابن مسعود عند ابن عدى بإسناد واه و عن عقبة بن عامر عند احمد فيه ابن لهيعة- و هذا الأحاديث كلها و ان كانت ضعيفة كما سمعت لكن باعتضاد بعضها ببعض يحصل العلم قطعا بورود النهى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم بحيث لا مرد له فوجب القول به و اللّه اعلم- و احتج القائلون بإباحته بما صح عن ابن عمر بطرق كثيرة انه قال نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ نزلت في إتيان النساء في أدبارهن- رواه البخاري- و كذا روى الطبراني بسند جيد عنه انه قال- انما نزلت رخصة في الإتيان الدبر-

و اخرج ايضا عنه- ان رجلا أصاب امراة فى دبرها في زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم فانكر ذلك الناس فانزل اللّه تعالى-

و كذا اخرج ابن جرير و ابو يعلى و ابن مردوية من طريق عبد اللّه بن نافع عن هشام بن سعد عن زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار عن ابى سعيد الخدري ان رجلا أصاب امراة في دبرها فانكر الناس عليه ذلك فانزل اللّه تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ-

قلت هذا وهم من ابن عمر و ابى سعيد اخطئا في تاويل الاية- و لو كان هذا سبب نزول هذه الاية لما طابق الحكم الوقعة فان قوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ حكم بإتيان الحرث لا بإتيان الدبر فانه ليس بمحل الحرث فلا ينتهض حجة لاباحة الدبر-

و قيل هذا و هم من نافع لما روى عن عبد اللّه بن الحسن انه لقى سالم بن عبد اللّه فقال له يا أبا عمر ما حديث يحدث نافع عن ابن عمر انه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء في أدبارهن قال كذب العبد و اخطأ انما قال عبد اللّه يؤتون في فروجهن من أدبارهن-

قلت و قول سالم هذا ليس بسديد فانه لم ينفرد به نافع عن ابن عمر بل رواه زيد بن اسلم و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر و سعيد بن يسار و غيرهم عنه كذا ذكر الشيخ ابن حجر فالصحيح ان الوهم انما هو من ابن عمر و قد حكم بكونه و هما من ابن عمر رأس المفسرين ابن عباس-

اخرج ابو داود و الحاكم عن ابن عباس قال ان ابن عمر و اللّه يغفر له أوهم- انما كان اهل هذا الحي من الأنصار و هم اهل وثن مع هذا الحي من اليهود و هم اهل كتاب كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم و كان من امر اهل الكتاب لا يأتون النساء الا على حرف و ذلك استر ما تكون المرأة فكان هذا الحي من الأنصار أخذوا بذلك و كان هذا الحي من قريش يسرحون النساء سرحا و يتلذ ذون منهن مقبلات و مدبرات و مستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امراة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فانكرته عليه و قالت انما كنا نؤتى على حرف فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ- اى مقبلات و مدبرات و مستلقيات يعنى بذلك موضع الولد و هكذا في سبب نزول هذه الاية روى البخاري و ابو داود و الترمذي عن جابر قال كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فاكذبهم اللّه تعالى و قال نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ

أَنَّى شِئْتُمْ اى كيف شئتم في الفرج يريد بذلك موضع الولد للحرث-

و كذا روى احمد عن عبد الرحمن بن سابط قال دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن فقلت انى سائلك عن أمر و أنا استحيى ان أسئلك- قالت لا تستحيى يا ابن أخي قلت عن إتيان النساء في أدبارهن قالت كانت اليهود تقول من حبا امرأته كان ولده أحول فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فحبوهن فابت امراة ان تطيع زوجها قالت لن نفعل ذلك حتى اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فدخلت على أم سلمة- فذكرت لها ذلك فقالت اجلسي حتى يأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلما جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استحيت الانصارية ان تسئله فخرجت فحدثت أم سلمة فقال ادعى الانصارية فدعيت فتلا عليها هذه الاية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ صماما واحدا-

و اخرج احمد و الترمذي عن ابن عباس قال جاء عمر الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه هلكت قال و ما أهلكك- قال حولت رجلى الليلة- فلم يرد عليه فانزل اللّه تعالى هذه الاية فقال عليه السلام اقبل و أدبر و اتق الدبر و الحيضة- و بهذا ظهر انه صلى اللّه عليه و سلم فسر هذه الاية بقوله اقبل و أدبر و اتق الدبر و الحيضة كما فسر قوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ بقوله اصنعوا كل شى ء الا النكاح و ان كان ظاهر تلك الاية لا تدل على جواز مخالطة النساء في المأكل و المشارب فظهر اندفاع ما ذكر ابن عبد الحكم عن الشافعي- ان هذه الاية ليست محرمة للدبر كما انها ليست محرمة للموطى في الساق

وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ- يعنى لا تقصدوا بالنكاح الحظوظ العاجلة فقط بل اقصدوا المنافع الراجعة الى الدين من تحصين الفرج و الولد الصالح يدعو له و يستغفر و لا افراط فان الأمور المباحة باقتران النية الصحيحة الصالحة تصير عبادة- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و في بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول اللّه أ يأتي أحدنا شهوته و يكون له فيها اجر قال أ رأيتم لو وضعها في حرام أ كان عليه فيه وزر فكذلك إذا وضعها في حلال كان له اجر- رواه مسلم في حديث ابى ذر و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلثة صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له- رواه مسلم و عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يموت لاحد من المسلمين ثلثة من الولد فتمسه النار الا تحله القسم- متفق عليه و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لنسوة من الأنصار لا يموت لاحداكن ثلثة من الولد فتحتسبه الا دخلت الجنة فقالت امراة منهن او اثنان يا رسول اللّه قال و اثنان- رواه مسلم و عن ابن عباس مرفوعا من كان له فرطان من أمتي ادخله اللّه بهما الجنة- فقالت عائشة فمن كان له فرط من أمتك قال و من كان له فرط الحديث- رواه الترمذي و يمكن ان يقال قوله تعالى وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ عطف تفسيرى لقوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ- و معناه ان في إتيانكم حرثكم تقديم منكم لانفسكم من الافراط و الدعوات و الاستغفارات من صالحى الأولاد و به يظهر فائدة النكاح و ان لم تكن له نية صالحة-

و قال عطاء و مجاهد المراد به التسمية و الدعاء عند الجماع- روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال- لو ان أحدكم إذا أراد ان يأتى اهله قال بسم اللّه اللّهم جنبنا الشيطان و جنب الشيطان ما رزقتنا- فانه ان يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان ابدا

وَ اتَّقُوا اللّه بالاجتناب عن معاصيه وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فيجزيكم بأعمالكم ان خيرا فخيرا و ان شرا فشرا

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٣٣) عن صهيب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عجبا لامر المؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خير انه و ان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له- رواه مسلم ذكر البغوي انه كان بين عبد اللّه بن رواحة و بين ختنه على أخته بشير بن النعمان الأنصاري شى ء فحلف عبد اللّه ان لا يدخل عليه و لا يكلمه و لا يصلح بينه و بين خصمه و إذا قيل له قال حلفت باللّه ان لا افعل فلا يحل لى الا ان تبر يمينى فانزل اللّه تعالى.

٢٢٤

وَ لا تَجْعَلُوا اللّه اى الحلف باللّه او يمين اللّه على حذف المضاف

عُرْضَةً فعلة بمعنى المفعول كالقبضة يطلق لما يعرض دون الشي ء فيكون حاجزا عنه يعنى لا تجعلوا الحلف باللّه مانعا عن الحسنات

لِأَيْمانِكُمْ اللام صلة لعرضة لما فيها من الاعتراض- و المراد- بالايمان الأمور التي يحلف عليها

أَنْ تَبَرُّوا مع ما عطف عليه عطف بيان لايمانكم- و يحتمل ان يكون اللام في لايمانكم للتعليل و يتعلق ان بالفعل او بعرضة اى لا تجعلوا اللّه عرضة لاجل ايمانكم لان تبرّوا- و قد يطلق عرضة للمعرض للامور لا يزال يقع عليه يقال جعلته عرضة لكذا اى نصبته له و في القاموس العرضة الاعتراض في الخير و الشر يعنى لا تقعوا على الحلف باللّه في كل امر و لا تجعلوه كالهدف المنصوب للزمى- و لا تعرضوا باليمين في كل ساعة فحينئذ

أَنْ تَبَرُّوا اما علة للنهى اى أنهاكم عن الحلف لان تبروا و علة للمنهى بتقدير لا اى لا تكثر و الحلف لان لا تبروا

وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ و بهذه الاية تبت ان الإكثار بالحلف مكروه و ان الحلّاف مجترئ على اللّه لا يكون برا متقيا و لا موثوقا به في إصلاح ذات البين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحلف حنث او ندم- رواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر و رواه البخاري في تاريخه- و انه من حلف على ترك عمل من اعمال البر يجب عليه ان لا يجعل يمينه مانعا من البر بل يحنث و يكفر- عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من حلف بيمين فراى غيرها خيل منها فليكفر عن يمينه و ليفعل الذي هو خير- رواه مسلم و في الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة نحوه و عن ابى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى و اللّه ان شاء اللّه لا احلف على يمين فارى غيرها خيرا منها الا كفرت عن يمينى و أتيت الذي هو خير- متفق عليه و قيل هذه الاية نزلت في الصديق رضى اللّه عنه لما حلف ان لا ينفق على مسطح لافترائه على عائشة أخرجه ابن جرير عن ابن جريج

وَ اللّه سَمِيعٌ لايمانكم عَلِيمٌ (٢٢٤) لنياتكم-.

٢٢٥

لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بالعقاب في الاخرة و هو المراد بالمؤاخذة هاهنا في كلا الكلمتين و كذا في المائدة لا كما قيل ان المراد فى المائدة و المؤاخذة الدنيوية بالكفارة او أعم منهما- لان الكفارة كالزكوة خالص حق اللّه تعالى لا مؤاخذة به في الدنيا و لهذا من مات و عليه الزكوة او الكفارة و لم يوص لا يمنعان من تعلق حق الورثة بخلاف ديون العباد و العشر و الخراج و ايضا لا يجب الكفارة بنفس اليمين بل بالحنث بعد اليمين فلا يتصور تعليق المؤاخذة بالكفارة بعقد اليمين- فالمراد بالمؤاخذة هو العقاب و الكفارة شرعت لرفع ذلك المؤاخذة

بِاللَّغْوِ الكائن فِي أَيْمانِكُمْ و اللغو في اللغة الساقط الذي لا يعتد به من الكلام او من غيره كذا في القاموس و المراد هاهنا ماجرى من اليمين على اللسان من غير عقد و قصد سواء كان في الإنشاء او الخير الماضي او المستقبل- و هذا التفسير مروى عن عائشة روى الشافعي انها قالت لغواليمين قول الإنسان لا و اللّه و بلى و اللّه- و أخرجه ابو داود عن عائشة مرفوعا- و الى هذا ذهب الشعبي و عكرمة و به قال الشافعي-

و هذا هو المناسب للمعنى اللغوي المذكور فانه إذا كان من غير قصد فهو ساقط عن الاعتبار غير معتد به و لا يترتب عليه الإثم اجماعا ان كان في الاخبار- و كذا لا ينعقد عند الشافعي إذا كان هذا القسم من اليمين فى الإنشاء- فلا يجب عليه الكفارة ان حنث و الحجة له هذه الاية بهذه لتفسير و قال ابو حنيفة رحمه اللّه ينعقد اليمين و يجب الكفارة ان حنث لقوله صلى اللّه عليه و سلم ثلاث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و اليمين كذا قال صاحب الهداية- و هذا الحديث لم نجده في كتب الحديث لكن وجدنا حديث ابى هريرة من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء عن يوسف بن ماهك عنه مرفوعا ثلاث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و الرجعة- أخرجه احمد و ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و الدارقطني قال الترمذي حسن و قال الحاكم صحيح و قال ابن الجوزي عطاء هو ابن عجلان متروك الحديث و قال الحافظ ابن حجر و هم ابن الجوزي انما هو عطاء بن ابى رباح- و عبد الرحمن بن حبيب مختلف فيه قال النسائي- منكر الحديث و وثقه غيره فالحديث حسن و أخرجه ابن عدى في الكامل بلفظ ثلاث ليس فيها لعب من تكلم بشى ء منها لاعبا فقد وجب عليه الطلاق و العتاق و النكاح و فيه ابن لهيعة ضعيف

و اخرج عبد الرزاق عن على و عمر موقوفا انهما قالا- ثلاث لا لعب فيهن النكاح و الطلاق و العتاق- و في رواية عنها اربع و زاد النذر- قال ابن همام و لا شك ان اليمين في معنى النذر فيقاس عليه-

قلت ما ذكره الشافعي حديث مرفوع التحق بيانا و تفسيرا للاية و القياس في مقابلة النص لا يعتد به مع ان المقيس عليه وقع في اثر موقوف ليس بمرفوع و قال ابن همام و لو ثبت حديث اليمين لم يكن فيه دليل لان المذكور فيه جعل الهزل باليمين جدا و الهازل قاصد لليمين غير راض لحكمه فلا يعتبر عدم رضاه به بعد مباشرته السبب مختارا- و الناسي لم يقصد شيئا أصلا و لم يدر ما صنع و كذا المخطى لم يقصد التلفظ به بل بشى ء اخر فليس هو في معنى الهازل فلا نص فيه و لا قياس على ان أبا حنيفة قال في تفسير اللغو في اليمين ان يحلف على شى ء يرى انه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك و هو قول الزهري و الحسن و ابراهيم النخعي و قتادة و مكحول قالوا لا كفارة فيه و لا؟؟ اثم مع ان الحالف يقصد فيه اليمين مع ظن البر فما لم يقصد لا أصلا بل هو كالنائم يجرى على لسانه اولى ان لا يعتد بيمينه و قال الشافعي اليمين الذي تعلق به القصد و ان كان على ظن الصدق ان كان على خلاف نفس الأمر يجب فيه الكفارة لانه ليس من اللغو على تفسيره بل هو من كسب القلب كالغموس غير انه معذور بناء على ظنه فلا اثم فيه-

قلت و ان لم يكن هو من اللغو لكن لا كفارة فيه و لا اثم اما عدم الإثم فلقوله تعالى وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ و اما عدم الكفارة فلان الكفارة مبنى على الإثم فانها لازالة الإثم و ليس فليس و لانها غير داخلة فيما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ و الكفارة راجعة إليها-

فان قيل لو كانت الكفارة مبينة على الإثم و الإثم مرفوع عن الخطاء و النسيان بالإجماع و الحديث فلم تجب الكفارة على القتل خطأ

قلنا امر القتل أشد فجعل اللّه تعالى إثمين اثم القتل نفسه و هو كبيرة و ذلك في القتل عمدا و لا يرتفع بالكفارة فلهذا لم نقل بوجوب الكفارة فيه و قد ارتفع ذلك الإثم بالخطأ و اثم ترك الاحتياط و انما وجبت الكفارة في الخطأ لذلك الإثم-

و قال سعيد بن جبير اللغو في اليمين هو اليمين على المعصية لا يؤاخذه اللّه بالحنث فيها بل يحنث و يكفر- و على هذا القول يتحدا للغو مع المنعقدة فى مادة و الاية تدل على القسمة و هى ثنا في الشركة- و ايضا القول بوجوب الكفارة تنافي القول بعد ما لمؤاخذة إذا الكفارة تبتنى على الإثم- و قال مسروق ليس عليه كفارة في اليمين على المعصية اتكفر خطوات الشيطان- و قال الشعبي في الرجل حلف على المعصية كفارته ان يتوب منها-

قلت اليمين على المعصية يشتمله عموم قوله تعالى وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فان فيه عقدا على الإيفاء فهو من المنعقدة دون اللغو فهو يوجب الكفارة و كونه على المعصية يوجب الرفض و هذا بعينه مقتضى قوله عليه السلام فليكفر و ليأت بما هو خير و اللّه اعلم

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ اى عزمتم و قصدتم الى اليمين الكاذبة و ارتكبتم العصيان بقصدكم ارادتكم و انما

قلنا ذلك بقرينة المؤاخذة فان المؤاخذة لا يكون الا على العصيان- فخرج بهذا القيد الايمان الصادقة كلها و ما كان بظن الصدق و كذا اخرج به اليمين المنعقدة لانه لا معصية فيه بل في الحنث بعد اليمين-

فان قيل ورد في المائدة وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ و ذلك يدل على ثبوت المعصية و المؤاخذة عليها فكيف تقول انه خرج به اليمين المنعقدة الى آخره-

قلت تقدير الكلام هناك وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ان حنثتم و ليس ذلك التقدير هاهنا لان التقدير نوع من المجاز- و الحقيقة و المجاز لا يجتمعان و المؤاخذة على الغموس بمجرد اليمين- فالمراد بهذه الاية اليمين الغموس بأقسامها فقط و ليس هاهنا ذلك التقدير- و المراد بما في المائدة المنعقدة فقط و فيها التقدير و اللّه اعلم- و قال الشافعي المراد بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ و بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ واحد و هو ضد للغو؟؟ فقالوا كسب القلب هو العقد و النية فقوله بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ و قوله بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ كلاهما يشتملان الغموس و المنعقدة و المظنونة ايضا فيجب الكفارة في جميع ذلك-

قلنا ليس كذلك بل عقد اليمين الزام شى ء على نفسه باليمين بحيث يجب ايفاؤه بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و لا معصية فيه و لا مؤاخذة الا بعد الحنث- و كسب القلب ضد لغو اليمين على تفسير عائشة فكان أعم منه مطلقا لكنا حملناه على كسب المعصية بمجرد اليمين بقرينة المؤاخذة من غير تقدير في الاية فهو الغموس فقط فلا كفارة في الغموس- لان الضمير في قوله تعالى فَكَفَّارَتُهُ راجع الى ما عقّدتّم الايمان فقط و لان الغموس كبيرة محضة فلو وجبت عليها كفارة فاما ان تكون سائرة و مزيلة لمعصية الغموس اولا و على الثاني لا تكون الكفارة كفارة- و على الاول يسع لكل امرئ ان يقتطع مال امرئ مسلم باليمين الفاجرة ثم يكفر عنها و لم يقل به أحد و قد قال اللّه تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و قال إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ- و قال عليه الصلاة و السلام- الصلوات الخمس و الجمعة الى الجمعة و رمضان الى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر- فظهران الطاعات لا تكون مكفرات الا للصغائر دون الكبائر- و اما الكبائر فلا محيص عنها الا بالاستغفار الا ان يتغمّده اللّه برحمته و يغفر له و لعل اللّه سبحانه أشار الى ذلك بقوله

وَ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) يغفر الكبائر ان شاء بتوبة او بغير توبة و الظاهران الوعد بالمغفرة و الحلم راجع الى قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فان سوق الكلام كان في يمين اللغو و اليمين الغموس ذكر تبعا و استطرادا يدل عليه ما رواه البخاري عن عائشة انها قالت أنزلت هذه الاية لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فى قول الرجل لا و اللّه و بلى و اللّه- و اللّه اعلم- اعلم ان اليمين في الأصل القوة قال اللّه تعالى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ و يقال للجارحة ضد اليسار يمين لقوته و يقال للقسم فان فيه تقوية الكلام بذكر اسم اللّه تعالى و هو على نوعين الاول ان يجرى على اللسان من غير قصد سواء وقع في الخير الماضي او المستقبل صادقا كان او كاذبا او في الإنشاء و هو اللغو من اليمين و هو غير معتد به و لا يتعلق به حكم الا ما ذكرنا خلاف ابى حنيفة في الإنشاء- و الثاني ما يتعلق به القصد و هو على نوعين اما في الخبر و اما في الإنشاء فان كان في الخبر فالخبر ان كان صادقا في الواقع و في زعم المتكلم ايضا كقولك و اللّه ان محمدا رسول اللّه و ان الساعة لاتية لا ريب فيها و انه لقد طلعت الشمس فلا كلام فيه انه عبادة و من ثم لا يجوز الحلف بغير اللّه تعالى عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال- ان اللّه ينهاكم ان تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف باللّه او ليصمت- متفق عليه- و عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول- من حلف بغير اللّه فقد أشرك- رواه الترمذي- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تحلفوا بآبائكم و لا بامهاتكم و لا بالأنداد و لا تحلفوا باللّه الا و أنتم صادقون- رواه ابو داود و النسائي-

و ان كان كاذبا في الواقع صادقا في زعم المتكلم فان كان زعمه مبنيا على دليل ظنى كحديث الآحاد و قد كذب فيه الراوي او أخطأ هو في تأويله او اثر من السلف الصالح او غلط في الحس او استصحاب الحال او نحو ذلك و لم يكن هناك دليل قاطع على كذبه فهو اليمين المظنون و اللغو على تفسير ابى حنيفة و قد ذكرنا حكمه- و ان لم يكن زعمه مبنيا على دليل كقوله زيد قائم او سيقوم من غير علم و لا روية و لا اخبار من أحد فهو من الغموس المنهي عنه قال اللّه تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ- و ما قام على كذبه دليل فهو من الغموس بالطريق الاولى كقول الكفار الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه- و انّ اللّه لا يبعث من في القبور- و ان كان صادقا في الواقع كاذبا في زعم المتكلم كقول المنافقين لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه- او كاذبا في الواقع و كذا في زعم المتكلم كقول اليهود ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ و قولهم لا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ و قول المديون ليس لك علىّ شى ء فهو اليمين الغموس لا يحل اقترابه و هو كبيرة من الكبائر عن عبد اللّه ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الكبائر الإشراك باللّه و عقوق الوالدين و قتل النفس و اليمين الغموس- رواه البخاري-

و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من حلف على يمين صبر و هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه يوم القيامة و هو عليه غضبان فانزل اللّه تعالى تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الاية- متفق عليه و عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار و حرم عليه الجنة- رواه مسلم و عن عبد اللّه بن أنيس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان من اكبر الكبائر الشرك باللّه و عقوق الوالدين و اليمين الغموس- رواه الترمذي و عن حزيم ابن فاتك مرفوعا قال عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه ثلث مرات ثم قرا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ- رواه ابو داود و ابن ماجة و ان كان في الإنشاء بان يلزم على نفسه شيئا او كف النفس عن شى ء كان اليمين منعقدة و هو المراد بقوله تعالى وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ- فى المائدة و سنذكر حكمها هناك ان شاء اللّه تعالى-.

٢٢٦

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ اى يحلفون ان لا يجامعوهن- و الالية اليمين و تعديته بعلى لكن لما ضمن معنى البعد عدى بمن قال قتادة كان الإيلاء طلاقا لاهل الجاهلية- و قال سعيد بن المسيب كان ذلك ضرارا من اهل الجاهلية كان الرجل لا يحب امرأته و لا يريد ان يتزوجها غيره فيحلف ان لا يقرابها ابدا فيتركها لا ايمان و لا ذات بعل و كانوا عليه في ابتداء الإسلام فضرب له أجل في الإسلام

تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مبتدأ خبره ما قبله او فاعل للظرف- و التربص الانتظار و التوقف أضيف الى الظرف على الاتساع- اى للمولى حق التلبث في هذه المدة لا يقع فيه الطلاق او لا يطالب فيه بطلاق على خلاف يأتي

فَإِنْ فاؤُ اى رجعوا عن اليمين الى النساء بالوطى بعد الأشهر الاربعة على قول الشافعي و مالك و احمد بتاء على ظاهر الاية فان الفاء للتعقيب و بناء على ذلك قالوا الرجل لا يكون موليا لو حلف على اربعة أشهر كما لا يكون موليا فيما دون ذلك بل إذا حلف على اكثر منها فان الفي ء لا بد ان يكون فى مدة الإيلاء و ان الطلاق لا يقع بمضى أربعة أشهر-

و قرا ابن مسعود فان فاؤا فيهنّ يعنى فى أربعة أشهر و بناء على هذه القراءة قال ابو حنيفة انه لو حلف على اربعة أشهر يكون موليا و انه لا يصح الفي ء الا فى اربعة أشهر فالخلاف مبنى على ان القراءة الشاذة هل يجوز العمل بها أم لا- قالوا لا يجوز فانه ليس بحديث و لا قران و لو كان قرانا لتواتر- و قال ابو حنيفة يجب العمل بها فانها لا تخلوا اما ان تكون قرانا او خبرا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تفسيرا للقران و كل منهما حجة-

فان قيل سلمنا كونه حجة لكنه لما وقع التعارض بينها و بين القراءة المتواترة وجب سقوطها-

قلنا انما يجب سقوطها إذا لم يمكن الجمع بينهما و هاهنا الجمع ممكن فان الفاء كما يجى ء للتعقيب فى الزمان قد يكون لتفصيل مجمل قبلها و غير ذلك كما فى قوله تعالى وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي و قوله تعالى يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّه جَهْرَةً و هاهنا لما ذكر ان لهم تربص اربعة أشهر من غير وطى كان موضعا يقتضى لتفصيل الحال فقال

فَإِنْ فاؤُ الى قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ- و ايضا على تقدير كون الفاء للتعقيب فى الزمان يحتمل ان يكون التعقيب بالنسبة الى الإيلاء يعنى فان فاءو بعد الإيلاء- و القراءة المتواترة يدل على جواز الفي ء مطلقا سواء كان فى اربعة أشهرا و بعدها و الشاذة مقيدة بكون الفى عليهم فيحمل المطلق على المقيد- قال ابو حنيفة قراءة ابن مسعود مشهورة يجوز به تخصيص الكتاب و حمل مطلقه على المقيد

فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) قال الحسن و ابراهيم و قتادة إذا فاء المولى لا كفارة عليه لان اللّه تعالى وعد المغفرة و الرحمة- و عند الجمهور يجب عليه الكفارة فان وعد المغفرة لا ينفى الكفارة الثابتة بالاية فى سورة المائدة و قوله عليه السلام من حلف على يمين فراى غيرها خيرا منها فليكفر و ليأت بما هو خير-.

٢٢٧

وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ قال مالك و الشافعي و احمد معناه ان لم يفيؤا بعد الأشهر الاربعة و عزموا الطلاق و طلقوا

فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ لقولهم بالتطليق عَلِيمٌ (٢٢٧) لنياتهم- و بناء على هذا التأويل قالوا لا يقع الطلاق بمجرد مضى الأشهر الاربعة بل يتوقف على تطليقة إذ لو لم يتوقف على تطليقة و يقع الطلاق بمجرد انقضاء الأشهر لا تكون لعزمه على الطلاق معنى و لا يناسبه التذييل بقوله تعالى فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ و على هذا التأويل ليس الترديد دائرا بين النفي و الإثبات و بقي شق ثالث و هو ان لا يفى ء و لا يعزم على الطلاق و حكم هذا الشق مسكوت عنه فاختلف فيه قول القائلين بهذا التأويل- فقال أكثرهم يطلّق الحاكم عليه لانه لما امتنع عن الإمساك بالمعروف ينوب الحاكم عنه فى التسريح بالإحسان كما فى العنين- و فى رواية عن الشافعي و احمد انه يضيق الحاكم عليه حتى يطلق- و قال ابو حنيفة تأويله ان عزموا وقوع الطلاق باستمراره على ترك الفي ء حتى انقضى المدة وقع الطلاق به «١»- قالوا لو لم يقع الطلاق به لجاز له الفي ء بعد الأشهر فلا يكون لتقييد الفي ء بقوله فيهن على قراءة ابن مسعود معنى-

(١) فى الأصل و وقع الطلاق به

و لو

قلنا بانه لا يجوز له الفي ء بعد الأشهر و عليه التطليق حتما يلزم خرق الإجماع المركب إذ لم يقل به أحد على ان الترديد الواقع فى الاية يأبى عنه و على هذا التأويل معنى قوله تعالى فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ لما يقارن ترك الفي ء من المقاولة و المجادلة و حديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان- او انه سميع للايلاء الذي هو طلاق موقوف على مضى الأشهر الاربعة من غير وطى عليم بما استمروا عليه من الظلم و فيه معنى الوعيد على ذلك و اثار الصحابة فى الباب متعارضة فقد روى عن عمر و عثمان و على و زيد بن ثابت و ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر مثل ما قال ابو حنيفة غير ان ما روى عن عمر يدل على الطلقة الرجعية- اخرج الدارقطني عن إسحاق حدثنى مسلم بن شهاب عن سعيد بن المسيب و ابى بكر بن عبد الرحمن ان عمر بن الخطاب كان يقول إذا مضت اربعة أشهر فهى تطليقة و هو املك بردها ما دامت فى عدتها-

و اخرج عبد الرزاق حدثنا معمر عن عطاء الخراسانى عن ابى سلمة بن عبد الرحمن ان عثمان بن عفان و زيد بن ثابت كانا يقولان فى الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهو تطليقة واحدة و هى أحق بنفسها و تعتد عدة المطلقة

و اخرج عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة أن عليا و ابن مسعود قالا إذا مضت أربعة أشهر فهى تطليقة- و هى أحق بنفسها و تعتد عدة المطلقة-

و اخرج عبد الرزاق حدثنا معمر و ابن عيينة عن ابى قلابة قال الى النعمان من امرأته و كان جالسا عند ابن مسعود فضرب فخذه و قال إذا مضت اربعة أشهر فاعترف بتطليقة-

و اخرج ابن ابى شيبة حدثنا ابو معاوية عن الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس و ابن عمر قالا- إذا الى فلم يفى حتى مضت اربعة أشهر فهى تطليقة بائنة- و قد يروى عن عثمان و على و ابن عمر ايضا ما يخالف ذلك و يوافق مذهب الشافعي- و كذا روى عن غيرهم من الصحابة روى الدارقطني قال حدثنا ابو بكر الميموني قال ذكرت لاحمد بن حنبل حديث عطاء الخراسانى عن عثمان قال لا أدرى ما هو قد روى عن عثمان خلافه قيل له من رواه قال حبيب بن ثابت عن طاؤس عن عثمان- و روى مالك فى المؤطا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على بن ابى طالب انه كان يقول إذا الى الرجل من امرأته لم يقع عليه الطلاق فان مضت الاربعة الأشهر يوقف حتى يطلق او يفى ء- و روى البخاري عن ابن عمر بسنده انه كان يقول فى الإيلاء الذي سمى اللّه تعالى لا تحل بعد ذلك الاجل الا ان يمسك بالمعروف او يعزم بالطلاق كما امر اللّه تعالى- و قال البخاري قال لى إسماعيل بن اويس حدثنى مالك عن نافع عن ابن عمر قال إذا مضت اربعة أشهر يوقف حتى يطلق- و قال الشافعي حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال أدركت بضع عشر رجلا من الصحابة كلهم يقولون يوقف المولى-

قلت و ذكر البغوي فيمن ذهب الى الوقف من الصحابة عمر و أبا الدرداء «١» ايضا قال ابن همام ما روينا عن عثمان و زيد بن ثابت اولى مما روى احمد عن عثمان لان سندنا جيد موصول بخلاف ما رواه احمد فان حال رجاله لا يعرف الى حبيب و هو اعضله و لا يعلم ان طاءوسا أخذ عن عثمان- و رواية محمد بن على عن على بن ابى طالب مرسل مثل رواية قتادة عنه و هما متعاصران- و ما روينا عن ابن عمر و ابن عباس رجاله كلهم اخرج لهم الشيخان فى الصحيحين فلا مزية لما فى صحيح البخاري عن ابن عمر عليه-

(١) فى الأصل و ابى الدرداء

قال البغوي و الى الوقف ذهب من التابعين سعيد بن جبير و سليمان بن يسار و مجاهد و الى خلاقه ذهب سفيان الثوري و سعيد بن المسيب و الزهري لكن قالا يقع تطليقة رجعية-

و اخرج عبد الرزاق نحو مذهب ابى حنيفة من التابعين عن عطاء و جابر بن يزيد و عكرمة و سعيد بن المسيب و ابى بكر «٢» ابن عبد الرحمن و مكحول-

(٢) فى الأصل و أبا بكر

و اخرج الدارقطني نحوه عن ابن الحنفية و الشعبي و النخعي و مسروق و الحسن و ابن سيرين و قبيصة و سالم و ابى سلمة-

و قيل فى الترجيح انه لا شك ان الظاهر من القراءة المتواترة يفيد مذهب الشافعي و غيره و اما مذهب ابى حنيفة فلا يستفاد منه الا بتكلف لا يجوز المصير اليه الا بالسماع فمن قال من الصحابة على ظاهر الاية يعلم انه قال بالراى و من قال منهم بما

قال ابو حنيفة يحمل قوله على السماع قال ابن همام و هذا ترجيح عام- و اللّه اعلم و هاهنا خلافيات اخر

أحدها انه إذا اتى بغير يمين اللّه كالطلاق و العتاق و الصدقة و إيجاب العبادات هل يكون موليا أم لا فقال ابو حنيفة يكون موليا سواء يقصد به الإضرار بها- او المصلحة لها بان كانت مريضة مثلا او المصلحة لنفسه بان كان مريضا مثلا-

و قال مالك لا يكون موليا الا ان يحلف حال الغضب او لقصد الإضرار بها-

و قال احمد الا ان يقصد الإضرار-

و عن الشافعي قولان أصحهما كقول ابى حنيفة-

و ثانيهما انه من ترك وطى زوجته للاضرار بها من غير يمين اكثر من اربعة أشهر هل يكون موليا- فقال مالك و احمد فى احدى روايتيه نعم و قال الجمهور لا

ثالثها ان مدة إيلاء الرقيق كالحر اربعة أشهر عند الشافعي و احمد لعموم الاية قالا انها ضربت لامر يرجع الى الطبع و هو قلة صبر المرأة عن الزوج فى تلك المدة فيستوى فيه الحر و العبد كمدة الغيبة-

و عند ابى حنيفة و مالك ينتصف المدة بالرق لكن عند ابى حنيفة برق المرأة و عند مالك برق الزوج بناء على اختلافهما فى الطلاق

رابعها انه إذا تعذر الوطي فالفى ء عند ابى حنيفة بقوله فئت ثم ان قدر على الوطي قبل مضى المدة يجب عليه الوطي و عند الشافعي لا فى ء الا بالوطى إذ لا حنث الا به-.

٢٢٨

وَ الْمُطَلَّقاتُ هذا اللفظ عام يشتمل الرجعيات و البائنات الحاملات و الحائلات و المدخول بهن و غيرهن و الحرائر و الإماء- خص الإماء عنها بالسنة و الإجماع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلاق الامة طلقتان و عدتها حيضتان- رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و الدارمي من حديث عائشة و سنذكر البحث فى هذا الحديث و ما فى هذه المسألة من تخصيص العام من الكتاب بخبر الآحاد فى تفسير قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ ان شاء اللّه تعالى- و نسخ حكم هذه الاية فى الحوامل بقوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ و فى غير المدخول بها بقوله تعالى فى الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ

يَتَرَبَّصْنَ خبر بمعنى الأمر للتأكيد

بِأَنْفُسِهِنَّ فيه بعث للنساء على التربص اى يحبسن انفسهن و يغلبنّها و ان كان على خلاف هواها

ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فلا يتزوجن فيها- و القرء لفظ مشترك من الاضداد يطلق على الحيض و الطهر كليهما بإجماع اهل اللغة فقال الشافعي و مالك و هو المروي عن عائشة و ابن عمرو زيد بن ثابت ان المراد هاهنا الطهر لحديث ابن عمر انه طلق امرأته و هى حائض فذكر عمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فتغيظ فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم قال ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فان بدا له ان يطلقها فليطلقها طاهرا قبل ان يمسها فتلك العدة التي امر اللّه ان يطلق بها النساء- متفق عليه وجه الاحتجاج ان اللّه سبحانه قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قالوا اللام فى لعدتهن للوقت اى وقت عدتهن و المشار اليه فى الحديث بتلك العدة الطهر الذي لا مسيس فيه فظهر ان المراد بالقروء الاطهار

قلنا اللامر للوقت بمعنى فى غير معهود فى الاستعمال و يستلزم ذلك تقدم العدة على الطلاق او مقارنة له لاقتضائه وقوعه فى وقت العدة- بل اللام هناك لافادة معنى استقبال عدتهن يقال فى التاريخ بإجماع اهل العربية خرج لثلاث بقين من رمضان- و يؤيد ما

قلنا ان ابن عباس و ابن عمر كانا يقران يا ايّها النّبىّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ فى قبل عدّتهنّ- و فى هذا الحديث فى رواية لمسلم انه صلى اللّه عليه و سلم تلا و إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ- او نقول المراد بالعدة فى قوله صلى اللّه عليه و سلم فتلك العدة التي امر اللّه بها الوقت للطلاق اى تلك الوقت الذي امر اللّه ان يطلق بها النساء لا العدة التي يجب بعد الطلاق-

و قد يحتج للشافعى بان التاء فى ثلثة يدل على تذكير المميز و القرء بمعنى الحيض مؤنث و بمعنى الطهر مذكر فهى المراد- و هذا ليس بشى ء فان الشي ء إذا كان له اسمان مذكر كالبر و مؤنث كالحنطة و ليس هناك تأنيث حقيقى فالعبرة للمذكر منهما و هاهنا كذلك فان الحيض مؤنث و القرء مذكر و إذا كان التأنيث حقيقيا و اللفظ مذكر كالشخص يعبر به عن المرأة ففيه وجهان جائزان- و قال ابو حنيفة و احمد المراد به الحيض و يحتج له بوجوه

أحدها ما مر فى احتجاج الشافعي من حديث ابن عمر برواية مسلم و قراءة ابن عباس و ابن عمر-

ثانيها ان لفظ ثلاثة عدد خاص لا يدل على اقل منه و لا على أزيد منه و الطلاق على وجه السنة لا يكون الا فى الطهر اجماعا و لما مر من حديث ابن عمر فثلاثة قروء لا يتصور الا فى الحيض دون الاطهار إذ لا يخلوا اما ان لا يعد هذا الطهر الذي وقع فيه الطلاق من العدة و هو خلاف الإجماع و لم يقل به أحد و ايضا يلزم حينئذ الزيادة على الثلاث- او يعد فتكون العدة طهرين «١» و بعض طهر و ذلك ليست بثلاثة- و لو جاز اطلاق الثلاثة على طهرين و بعض طهر لجاز اطلاق ثلاثة أشهر فى قوله تعالى فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ- على شهرين

(١) فى الأصل طهران [.....]

و بعض شهر و لم يقل به أحد-

فان قيل أ ليس فى قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ اطلاق الأشهر على شهرين و بعض شهر

قلنا هناك لم يقل الحج ثلاثة أشهر بل قال أشهر- و هاهنا لم يقل قروء بل قال ثلاثة قروء فهذا ادل و اصرح فلا يجوز حملها على ما دون ثلاثة تجوزا فان كلمة ثلاثة يمنع عن التجوز و مما يدل على ان المعتبر الأقراء التامات دون بعض القرء ما احتج به الشافعي من حديث ابن عمر فانه صلى اللّه عليه و سلم لم يجوز الطلاق فى الطهر الذي يلى الحيضة التي أوقع فيه الطلاق او لا كيلا يجتمع الطلقتان بلا فصل قرء تام-

ثالثها قوله صلى اللّه عليه و سلم طلاق الامة تطليقتان و عدتهما «١» حيضتان-

(١) فى الأصل و عدته

مع الإجماع على انه لا يخالف الامة الحرة فيما به الاعتداد بل فى الكمية فظهر ان المراد بالقروء الحيض-

رابعها ان العدة شرعت لتعرف براءة الرحم و ذلك بالحيض دون الطهر و من ثم وجب الاستبراء فى الامة بالحيض دون الطهر-

خامسها انه لو كان القرء بمعنى الطهر تنقضى العدة بدخول الحيض الثالثة و لو كان بمعنى الحيض لم ينقض ما لم تطهر من الحيضة الثالثة فلا تنقضى العدة بالشك-

و مذهبنا مأثور من الخلفاء الراشدين و العبادلة و ابى بن كعب و معاذ بن جبل و أبى الدرداء و عبادة بن الصامت و زيد بن ثابت و ابى موسى الأشعري- و زاد ابو داود و النسائي و معبد الجهني و به قال من التابعين سعيد بن المسيب و ابن جبير و عطاء و طاءوس و عكرمة و مجاهد و قتادة و الضحاك و الحسن البصري و مقاتل و شريك القاضي و الثوري و الأوزاعي و ابن شبرمة و ربيعة و السدى و ابو عبيدة و إسحاق و اليه رجع احمد بن حنبل قال محمد بن الحسن فى المؤطا حدثنا عيسى بن ابى عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم كلهم قالوا الرجل أحق بامراته حتى تغتسل من الحيضة الثالثة- و اللّه اعلم

وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّه فِي أَرْحامِهِنَّ من الحمل و الحيض استعجالا فى العدة و ابطالا لحق الزوج فى الرجعة- و فيه دليل على ان قولها مقبول فى ذلك

إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و الجزاء محذوف يعنى إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه لا يكتمن فان من شأن المؤمن ان لا يرتكب المحرم- و الغرض منه التأكيد و التوبيخ و اللّه اعلم

وَ بُعُولَتُهُنَّ جمع يعل و التاء لتانيث الجمع كالعمومة- و اصل البعل المالك و السيد سمى الزوج بعلا لقيامه بأمر زوجته- و الضمير راجع الى الرجعيات منهن و لا امتناع فيه كما كرر الظاهر و خصصه ثانيا-

او البعولة مصدر أقيم مقام المضاف المحذوف اى اهل بعولتهن

أَحَقُّ افعل هاهنا بمعنى الفاعل اى حقيق بِرَدِّهِنَّ الى النكاح بالرجعة سواء رضيت المرأة اولا

فِي ذلِكَ اى فى زمان التربص

إِنْ أَرادُوا بالرجعة إِصْلاحاً لا ضرارا بالمرأة كما كانوا يفعلونه فى الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فاذا اقترب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها- و ليس المراد منه شريطة قصد الإصلاح للرجعة حتى لو راجعها بقصد الإضرار كان رجعة بل هو للمنع عن قصد الإضرار و التحريض على الإصلاح او يكون التقدير ان أرادوا إصلاحا فلا جناح عليه فى الرجعة- اجمعوا على جواز الرجعة من الطلاق الرجعى و اختلفوا فى انه هل يجوز وطيها فى العدة أم لا- فقال ابو حنيفة و احمد فى اظهر روايتيه يجوز و فى اخرى له كقول الشافعي لا يجوز قال الشافعي الزوجية زائلة لوجود القاطع و هو الطلاق-

قلنا تأخر عمل الطلاق الى انقضاء العدة اجماعا لجريان التوارث بينهما و جواز الرجعة بغير رضاها و وجوب النفقة فظهر ان النكاح قائم و يدل عليه قوله تعالى بُعُولَتُهُنَّ قالوا اطلاق البعل تجوز بناء على ما كان و لفظ الرد يدل على زوال النكاح-

قلنا القول بالتجوز فى لفظ البعل ليس اولى من القول به فى الرد فانه يقال رد البيع فى بيع كان الخيار للبائع- ثم إذا تعارض احتمالا «١» المجاز فى لفظ البعل و لفظ الرد فى تلك الاية تساقط اعتبارهما و بقي قوله تعالى

(١) فى الأصل احتمالي المجاز

فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ و قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ سالما فان الإمساك يدل على البقاء- و يمكن حمل الرد على الرد الى الحالة الاولى و هى كونها بحيث لا يحرم بعد مضى العدة فلا إشكال حينئذ أصلا- و اختلفوا فى انه هل يشترط للرجعة القول- فقال الشافعي لا يحصل الرجعة الا بالقول بناء على ما قال ان الرجعة بمنزلة ابتداء النكاح و قال ابو حنيفة و احمد إذا وطيها او قبلها او لمسها بشهوة او نظر الى فرجها بشهوة يصير مراجعا ايضا كما يصير مراجعا بالقول بناء على ما ذكرنا ان الرجعة عندهما ليست بمنزلة ابتداء النكاح بل هو ابقاء لها فيكفى فيها الفعل الدال على الاستدامة كما فى إسقاط الخيار- و قال مالك فى المشهور عنه انّ بالوطى ان نوى الرجعة حصلت و الا فلا- و اختلفوا فى انه هل يشترط الاشهاد للرجعة- فقال احمد و هو قول الشافعي يشترط عملا بقوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فى سورة الطلاق- و قال ابو حنيفة و مالك و الشافعي فى أصح قوليه و احمد فى احدى «٢» روايتيه- انه لا يشترط ذلك و الأمر فى الاية محمول على الاستحباب إذ لو كان الاشهاد واجبا لكان الاشهاد على الفرقة

(٢) فى الأصل أحد-

ايضا واجبا لاقترابه بقوله تعالى او فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ و لم يقل به أحد و لو كان واجبا لكان واجبا بالاستقلال و لم يكن شرطا للرجعة لعموم قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ او سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لَهُنَّ اى للنساء على الأزواج حقوق مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ للازواج فى الوجوب و استحقاق المطالبة لا فى الجنس بِالْمَعْرُوفِ بكل ما يعرف فى الشرع من أداء حقوق النكاح و حسن الصحبة فلا يجوز لاحد ان يقصد ضرار الاخر بل ينبغى ان يريدوا إصلاحا قال ابن عباس انى أحب ان اتزيّن لامراتى كما تحب امراتى ان تتزين لى لان اللّه تعالى قال

وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ- عن معاوية القشيري قال قلت يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا عليه قال ان تطعمها إذا طعمت و ان تكسوها إذا اكتسيت و لا تضرب الوجه و لا تقبح و لا تهجر الا فى البيت- رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة

و عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر فى قصة حجة الوداع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى خطبته يوم عرفة فاتقوا اللّه فى النساء فانكم أخذتموهن بامان اللّه و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه و لكم عليهن ان لا يؤطين فرشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرج و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف- رواه مسلم

و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقا و خياركم خياركم لنسائهم- رواه الترمذي و قال حسن صحيح و رواه ابو داود الى قوله خلقا-

و روى الترمذي نحوه عن عائشة و عن عبد اللّه بن زمعة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد الحديث- متفق عليه و عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خيركم خيركم لاهله و انا خيركم لاهلى- رواه الترمذي و الدارمي

و رواه ابن ماجة عن ابن عباس و عن ابى هريرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استوصوا بالنساء خيرا فانهن خلقن من ضلع و انّ اعوج شى ء فى الضلع أعلاه فان ذهبت تقيمه كسرته و ان تركته لم يزل اعواج فاستوصوا بالنساء- متفق عليه

وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة فى الحق و فضلا قال النبي صلى اللّه عليه و سلم لو كنت امر أحدا «١» ان يسجد لاحد لامرت المرأة ان تسجد لزوجها لما جعل اللّه لهم عليهن من حق- رواه ابو داود عن قيس بن سعد-

(١) فى الأصل امر أحدا

و احمد عن معاذ بن جبل و الترمذي عن ابى هريرة نحوه و البغوي عن ابى ظبيان و عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أيما امراة ماتت و زوجها عنها راض دخلت الجنة- رواه الترمذي و عن طلق بن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا الرجل دعا زوجته فلتأته و ان كانت على التنور- رواه الترمذي

وَ اللّه عَزِيزٌ يقدر على الانتقام ممن ظلم على الاخر

حَكِيمٌ (٢٢٨) يشرع الاحكام لحكم و مصالح.

٢٢٩

الطَّلاقُ الذي يعقب الرجعة بدليل ما سيأتى من ذكر الثالثة و ذكر الإمساك بعد المرتين «١»

(١) فى الأصل المرتبتين-

مَرَّتانِ روى انه صلى اللّه عليه و سلم سئل اين الثالثة فقال عليه السلام او تشريح بإحسان- أخرجه ابو داود فى ناسخه و سعيد بن منصور فى سننه و ابن مردوية من حديث ابن رزين الأسدي و أخرجه الدارقطني و ابن مردوية من حديث انس

قال البغوي روى عروة بن الزبير قال كان الناس فى ابتداء الإسلام يطلقون من غير حصر و لا عدد كان الرجل يطلق امرأته فاذا قاربت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها كذلك ثم راجعها بقصد مضارتها فنزل الطّلاق مرّتن فاذا طلق ثالثا لم تحل له الا بعد نكاح زوج اخر- و فيما قال مرتان دون ثنتان دلالة على كراهة الطلقتين دفعة واحدة فان كلمة مرتان تدل بالعبارة على التفرق و بالاشارة على العدد و اللام للجنس و ليس وراء الجنس شى ء فكان القياس ان لا يكون الطلقتين المجتمعتين معتبرة شرعا- و إذا لم يكن الطلقتين معتبرة لم يكن الثلاث مجتمعة معتبرة بالطريق الاولى لوجودهما فيها مع زيادة-

و قيل المراد بالطلاق التطليق و المعنى ان التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق فى الاطهار دون الجمع و حينئذ لم يرد بالمرتين التثنية بل التكرير كما فى قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يعنى كرة بعد كرة لكن يشكل حينئذ عطف قوله تعالى

فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ و قوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ له من بعد لان قوله تعالى الطلاق على هذا التأويل يشتمل الطلقات الثلاث أيضا و على كلا التأويلين يظهران جمع الطلقتين او ثلاث تطليقات بلفظ واحد او بألفاظ مختلفة فى طهر واحد «٢» حرام بدعة مؤثم خلافا للشافعى فانه يقول لا بأس به- لكنهم أجمعوا على انه من قال لامراته أنت طالق ثلاثا يقع ثلاثا بالإجماع و قالت الامامية ان طلق ثلاثا دفعة واحدة لا يقع أصلا لهذه الاية- و قال بعض الحنابلة- يقع طلقة واحدة لما روى فى الصحيحين ان أبا الصهباء قال لابن عباس- الم تعلم ان الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ابى بكر و ستين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال ان الناس قد استعجلوا فى امر كان لهم اناءة فلو أمضيناه عليهم فامضاه عليهم- و اى تاخرا منه رح

(٢) فى الأصل واحدة

روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد زوجته ثا؟؟ فى مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فساله رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كيف طلقها قال طلقتها ثلاثا فى مجلس واحد قال انما تلك طلقة واحدة فارتجعها- و نقل عن طاؤس و عكرمة انهم قالوا من طلق ثلاثا فقد خالف السنة فيردّ الى السنة و به قال ابن إسحاق و من الناس من قال ان فى قوله أنت طالق ثلاثا يقع فى المدخول بها ثلثا و فى غير المدخول بها واحدة لما روى مسلم و ابو داود و النسائي ان أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس فقال اما علمت ان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا جعلوها واحدة قال ابن عباس- بل كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل ان يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ابى بكر و صدرا من خلافة عمر فلما راى الناس قد تتابعوا فيها قال اجتزوهن عليهم- و الحجة للشافعى على جواز الطلقات بكلمة واحدة و وقوعهن من غير اثم ما فى الصحيحين من حديث سهل بن اسعد ان عويمر العجلى لا عن امرأته فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول اللّه ان أمسكتها فطلقها ثلاثا- و فى لفظ فهى طالق ثلاثا و لم ينكر عليه صلى اللّه عليه و سلم-

و فى بعض روايات فاطمة بنت قيس طلقنى زوجى ثلاثا قلم يجعل لى النبي صلى اللّه عليه و سلم نفقة و لا سكنى- و طلق عبد الرحمن بن عوف تماظر فى مرضه و طلق الحسن بن على امرأته شهباء ثلاثا لما هنّته بالخلافة بعد موت على عليهما السلام فههنا مقامان أحدهما ان فى صورة الإيقاع ثلاثا تقع ثلاثا- و ثانيهما انه يأثم به- و الحجة لنا السنة و الإجماع-

اما السنة فحديث ابن عمر انه طلق امرأته و هى حائض ثم أراد ان يتبعها بطلقتين أخريين عند القرائن فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك اللّه قد اخطأت السنة السنة ان تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء فامرنى فراجعتها فقال إذا هى طهرت فطلق عند ذلك او امسك فقلت يا رسول اللّه ارايت لو طلقتها ثلاثا أ كان يحل لى ان أراجعها قال لا كانت تبين منك و كانت معصية- رواه الدارقطني و ابن ابى شيبة فى مصنفه عن الحسن قال حدثنا ابن عمر قد صرح بسماعه عنه- و أعله البيهقي بعطاء الخراسانى قال اتى بزيادات لم يتابع عليها و هو ضعيف لا يقبل ما تفرد به- قال ابن همام تعليل البيهقي مردود حيث تابعه شعيب بن رزيق سندا و متنا- رواه الطبراني-

و ما ذكر عليه السلام من حديث ابن عباس فيه دلالة على ان الحديث منسوخ فان إمضاء عمر الثلاث بمحضر من الصحابة و تقرر الأمر على ذلك يدل على ثبوت الناسخ عندهم و ان كان قد خفى ذلك قبله فى خلافة ابى بكر- و قد صح فتوى ابن عباس على خلاف ما رواه روى ابو داود عن مجاهد قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال انه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت انه رادها اليه ثم قال يطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول يا ابن عباس-

و ان اللّه عز و جل قال وَ مَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً عصيت ربك و بانت منك امرأتك و روى الطحاوي بلفظ ان رجلا طلق امرأته مائة قال ابن عباس عصيت ربك و بانت منك امرأتك لم تتق اللّه فيجعل لك مخرجا الحديث- و فى مؤطا مالك بلغه ان رجلا قال لابن عباس انى طلقت امراتى مائة تطليقة فما ذا ترى فقال ابن عباس طلقت منك ثلاثا و سبع و تسعون اتخذت بها آيات اللّه هزوا-

و على وقوع الطلقات الثلاث انعقد الإجماع و روى عن فقهاء الصحابة فى المؤطا بلغه ان رجلا جاء الى ابن مسعود فقال انى طلقت امراتى ثمانى تطليقات فقال ما قيل لك فقال قيل لى بانت منك قال صدقوا هو مثل ما يقولون- و ظاهره الإجماع على هذا الجواب و أسند عبد الرزاق عن علقمة قال جاء رجل الى ابن مسعود فقال انى طلقت امراتى تسعا و تسعين فقال له ابن مسعود ثلاث تبينها و سائرهن عدوان-

و فى سنن ابى داود و موطا مالك عن محمد بن إياس بن البكير قال طلق رجل امرأته ثلاثا قبل ان يدخل بها ثم بدا له ان ينكحها فجاء يستفتى فذهبت معه فسال ابن عباس و أبا هريرة عن ذلك معا فقالا لا نرى ان تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال فانما طلاقى إياها واحدة فقال ابن عباس انك أرسلت بين يديك ما كان لك من فضل- و فى مؤطا مالك مثله عن ابن عمرو روى وكيع عن الأعمش عن حبيب بن ثابت قال جاء رجل الى على بن ابى طالب فقال انى طلقت امراتى الفا فقال بانت منك بثلث و اقسم سائرهن على نسائك-

و روى وكيع عن معاوية بن ابى يحيى قال جاء رجل الى عثمان بن عفان فقال طلقت امراتى الفا فقال بانت منك بثلاث و أسند عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت ان أباه طلق امراة له الف تطليقة فانطلق عبادة فسال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بانت بثلاث فى معصية اللّه و بقي تسعمائة و سبع و تسعون عدوان و ظلم ان شاء عذبه و ان شاء غفر له- و روى الطحاوي عن انس قال لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره- و كان عمر بن الخطاب إذا اتى برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره- و روى ايضا

عن انس عن عمر فيمن طلق البكر ثلاثا انه لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره- و ما ذكر الخصم من حديث ابن عباس يمكن تأويله بان قول الرجل أنت طالق أنت طالق أنت طالق كان واحدة فى الزمن الاول لقصدهم التأكيد فى ذلك الزمان- ثم صاروا يقصدون التجديد فالزمهم ثلثا لما علم قصدهم او للاحتياط- و اما حديث ركانة فمنكر و الأصح ما رواه ابو داود و الترمذي و ابن ماجة ان ركانة طلق زوجته البتة فجعله رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه ما أراد الا واحدة فردها اليه فطلقها الثانية فى زمن عمر و الثالثة فى زمن عثمان- قال ابو داود-

هذا أصح و بما ذكرنا من الأحاديث و الآثار كما يثبت وقوع الطلقات الثلاث دفعة واحدة يثبت انه بدعة معصية و ما ذكره الشافعي من تطليق عويمر ثلثا بعد التلاعن فهو استدلال بعدم إنكاره صلى اللّه عليه و سلم فهو شهادة على النفي لا عبرة بعد ما ثبت عنه صلى اللّه عليه و سلم الإنكار فى قصة اخرى و لعله صلى اللّه عليه و سلم أنكر و لم يذكره الراوي- او لم ينكر لانها بعد التلاعن لم تبق محلا لطلاق-

و رواية حديث فاطمة بنت قيس بلفظ الثلاث غير صحيح و الصحيح انه طلقها البتة و ايضا حين طلقها كان زوجها غائبا عنها فى سرية و لم يكن بمحضر من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى يظهر تقريره و انما ثبت تقريره فى وقوع الثلاث- و ايضا حديث فاطمة بنت قيس رده عمر و قال- لا ندرى صدقت أم كذبت حفظت أم نسيت- و اثر عبد الرحمن بن عوف و حسن رضى اللّه عنهما ليس بحجة فى مقابلة المرفوع (مسئلة)- الطلاق ثلاثا مجتمعا بدعي حرام و بالتفريق على الإظهار مباح جائز بهذه الاية الى قوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها الاية و الأحسن من ذلك كله إذا اضطر الرجل الى طلاق امرأته ان يطلقها واحدة ثم ان لم يرد المراجعة يتركها حتى تنقضى عدتها- لان الطلاق ابغض المباحات عند اللّه و الحاجة اندفعت بالواحدة قال اللّه تعالى فى ذم السحر فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ- و عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس فادناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجى ء أحدهم فيقول فعلت كذا و كذا فيقول ما صنعت شيئا ثم يجى ء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه و بين امرأته فيدنيه و يقول نعم أنت- قال الأعمش أراه قال فيلتزمه- رواه مسلم و عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ابغض الحلال الى اللّه الطلاق- رواه ابو داود-

(مسئلة)- الطلاق فى الحيض يقع طلاقا اجماعا خلافا للامامية قالوا لا يقع أصلا- و عندنا يقع لكنه حرام اجماعا يجب الرجعة بعده و ما مر من حديث ابن عمر يدل على الوقوع و الحرمة و وجوب الرجعة- و اختلفوا فى انه ان أراد طلاقها ثانيا بعد الرجعة على وجه السنة متى يفعل- فقال ابو حنيفة إذا طهرت من تلك الحيضة ثم حاضت ثم طهرت فحينئذ يطلقها- كذا ذكر محمد فى المبسوط و لم يذكر خلافا عنه و لا عن صاحبيه و به قال مالك و احمد و هو المشهور من مذهب الشافعي و هو المستفاد من حديث ابن عمر المذكور الذي فى الصحيحين حيث قال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فان بدا له ان يطلقها فليطلقها قبل ان يمسها فتلك العدة كما امر اللّه عز و جل- و فى رواية حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيه- و ذكر الطحاوي قول ابى حنيفة انه يطلقها فى الطهر الذي يلى الحيضة التي طلقها اولا فيها و هو أحد قولى الشافعي و قال الطحاوي الاول قول ابى يوسف- و الحجة للقول الثاني رواية سالم فى حديث ابن عمر المذكور- مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا او حاملا- رواه مسلم و اصحاب السنن- و الاولى اولى لانها أقوى صحة و اكثر تفسيرا و فيها زيادة و الاخذ بالزيادة اولى- قال ابن همام قوله عليه السلام يمسكها حتى تطهر يدل على ان استحباب الرجعة او وجوبها مقيد بتلك الحيضة التي طلقها فيها فان لم يراجع فيها حتى طهرت تقررت المعصية-

فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ- بالمراجعة و حسن المعاشرة- هذا يعنى الإمساك بعد الطلقتين ثابت اجماعا إذا كان الزوجان حرين- و اما إذا كانا رقيقين فلا رجعة بعد الثنتين اجماعا- و ان كانت امة تحت حرا و حرة تحت عبد فاختلفوا فيه- فقال مالك و الشافعي و احمد ان كان الزوج حرا فطلاقه ثلاث و ان كانت تحته امة- و ان كان عبدا فثنتان و ان كانت الزوجة حرة- و هو قول عمر و عثمان و زيد بن ثابت- و قال ابو حنيفة بعكس ذلك يعتبر الطلاق بالنساء و هو قول على و ابن مسعود- قال ابن الجوزي قد رويت الأحاديث فى الطرفين و كلها ضعاف-

روى ابن الجوزي عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلاق العبد ثنتان و قرء الامة حيضتان- و روى ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و الدارمي و الدارقطني عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان- قال ابن الجوزي فى سند كلا الحديثين مظاهر بن اسلم قال يحيى بن سعيد مظاهر ليس بشى ء و قال ابو حاتم هو منكر الحديث و قال ابن همام وثقه ابن حبان و قال الحاكم مظاهر شيخ من اهل البصرة لم يذكر أحد من متقدمى مشائخنا فيه بجرح- و قال ابن الجوزي- قد روى بعض من قال الطلاق بالرجال عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه قال الطلاق بالرجال و العدة بالنساء و انما هو من كلام ابن عباس-

و روى ابن الجوزي من طريق الدارقطني عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلاق الامة ثنتان وعدتها حيضتان- قال ابن الجوزي هذان حديثان لا يثبتان

اما الاول ففيه سليم بن سالم كان ابن المبارك يكذبه و قال يحيى ليس حديثه بشى ء و قال السعدي ليس بثقة-

و اما الثاني فقال الدارقطني تفرد به عمرو بن شبيب مرفوعا و كان ضعيفا قال يحيى بن معين عمرو بن شبيب ليس بشى ء و قال ابو زرعة واهي الحديث- و الصحيح انه من قول ابن عمر و يمكن ترجيح مذهب ابى حنيفة بانا قد أثبتنا من قبل ان الطلاق لا بد فيه من التفريق على الاطهار فعدد الطلقات لا يتصور الا على عدد الاطهار و قد اجمعوا ان عدة الامة حيضتان فثبت ان طلاق الامة ايضا طلقتان و اللّه اعلم

و هاهنا إشكال على مذهب ابى حنيفة ان العام على اصل ابى حنيفة قطعى الشمول لافراده لا يجوز تخصيص العام من الكتاب بخبر الآحاد او القياس كما لا يجوز نسخه بهما و قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ-

و قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ كل منهما عام يشتمل الحرائر و الإماء فتخصيصهما بقوله - طلاق الامة ثنتان وعدتها حيضتان و هو من حديث الآحاد لا يصح لا يقال العام القطعي إذا خص منه اولا بقطعى يصير فى الباقي ظنيا فحينئذ يجوز تخصيصه بخبر الآحاد و القياس و قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ خص اولا بالآيات من قوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ الاية و قوله تعالى وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الاية فجاز تخصيصه بحديث الآحاد لانا نقول المخصص لا يكون الا متصلا و ما كان متراخيا فهو ناسخ و ليس بمخصص و ما تلوتم من الآيات ليس شيئا منها متصلا بهذه الاية بل متراخ فهو ناسخ و نسخ الحكم عن بعض افراد العام لا يجعل العام فى الباقي ظنيا بل هو قطعى فى الباقي كما كان من قبل-

و التفصى عن هذا الاشكال بان يقال لما ثبت اجماع الامة على ان اية العدة و اية الطلاق مخصوصتان بالاحرار يظهر بذلك ان الأوائل من اهل الإجماع و هم الصحابة قد سمعوا قولا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قاطعا فى حقهم خصوا بذلك القول تلك الآيات و ان لم يصل ذلك القول إلينا بالتواتر و لو لم يسمعوا فى ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يجترؤا على تخصيص الاية القطعية و الا يلزم اجتماعهم على الضلالة ثم الاتباع سلكوا مسلكهم للمنع عن ابتغاء سبيل غير سبيلهم-

فان قيل ليس الإجماع على ان الطلاق معتبر بالرجال او النساء فكيف يجرى هذا الجواب هناك

قلنا ثبت بالإجماع ان قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ ليس على عمومه و ذلك الخلاف لا يضر و اللّه اعلم

او تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قيل المراد به الطلقة الثالثة قلت و ذلك غير سديد لانه معطوف على قوله فامساك بمعروف يعنى فالواجب أحد الامرين إمساك بمعروف او طلقه ثالثة و ليس كذلك بل يجوز له ان لا يمسك و لا يطلق و يترك حتى تنقضى عدتها-

و قيل التسريح بإحسان هو ان لا يراجعها حتى تبين بالعدة و يرد على هذا القول مثل ما يرد على الاول- ذكر القولين البغوي و غيره- و الاولى ان يفسر قوله او تسريح بإحسان بان يبينها مطلقا اما بطلاق ثالث او بانقضاء العدة و المعنى فالواجب ان يمسكها بمعروف او يبينها بإحسان سواء طلق ثالثا اولا و الغرض منه تحريم الإمساك بالإضرار بغير معروف و على هذا فقوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ تفصيل لاحد احتماليه- و لو كان المراد بالتسريح الطلقة الاخرى لكان ذلك طلقة رابعة-

فان قيل روى انه صلى اللّه عليه و سلم سئل عن قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ فاين الثالثة يا رسول اللّه قال او تسريح بإحسان- رواه ابو داود فى ناسخه و سعيد بن منصور فى سننه و ابن مردويه من حديث ابى رزين الأسدي مرسلا و أخرجه الدارقطني من حماد بن سلمة عن قتادة عن انس متصلا و صححه ابن القطان و قال البيهقي ليس بشى ء- و رواه ايضا الدارقطني و البيهقي من حديث عبد الواحد بن زياد عن إسماعيل عن انس و قالا جميعا الصواب عن إسماعيل عن ابى رزين عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرسلا- قال البيهقي كذا رواه الجماعة عن الثقات و قال ابن القطان المسند ايضا صحيح

قلنا قوله عليه السلام فى جواب اين الثالثة او تسريح بإحسان- معناه انه أحد احتماليه و اللّه اعلم

روى ابو داود فى الناسخ و المنسوخ عن ابن عباس قال كان الرجل يأكل من مال امرأته الذي نحلها و غيره لا يرى عليه جناحا فانزل اللّه تعالى

وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً اى من المهر خطاب مع الأزواج و قيل خطاب مع الحكام و اسناد الاخذ و الإيتاء إليهم لانهم آمرون بهما عند الترافع و هذا بعيد

إِلَّا أَنْ يَخافا قرا الستة من القراء على البناء للفاعل اى يعلم الزوجان من أنفسهما

أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللّه تخاف «١» المرأة ان تعص اللّه فى امر زوجها- و يخاف الزوج اضاعة حقوقها او انه إذا لم يطلق امرأته ان تعتدى عليه- و فى الكلام التفات من الخطاب

(١) فى الأصل يخاف

الى الغيبة

و قرا ابو جعفر و حمزة و يعقوب يخافا على البناء للمفعول اى يخاف الحكام الزوجين و حينئذ ان مع صلته بدل اشتمال من ضمير يخافا

فَإِنْ خِفْتُمْ ايها الحكام أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ اى افتدت المرأة نفسها به- قال الفراء أراد بقوله عليهما الزوج فقط دون الزوجة و انما ذكرهما جميعا لاقترانهما كقوله تعالى نَسِيا حُوتَهُما و انما الناسي فتى موسى دون موسى-

قلت و الظاهر انه كما كان الجناح على الزوج فى أخذ المال بدليل قوله تعالى- و لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً- الاية و قوله تعالى وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً كذلك كان الجناح على الزوجة فى اعطائها المال على طلب الطلاق فان طلب الطلاق معصية لقوله صلى اللّه عليه و سلم أيما امراة سالت زوجها الطلاق فى غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة- رواه احمد و الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و الدارمي من حديث ثوبان و إعطاء المال على المعصية حرام بل الإنسان ممنوع من إتلاف المال بغير حق يعنى بغير فائدة دينية او دنيوية و هذا هو المحمل لقوله عليه السلام المختلعات هن المنافقات- رواه الترمذي فاذا خيف منهما عدم اقامة حدود اللّه و ارتكاب المعصية جاز لهما الاخذ و الإعطاء هذا على تقدير خوف النشوز من الجانبين-

اما إذا كان النشوز من جانب الزوج فقط فلا يحل له الاخذ قال صاحب الهداية يكره يعنى تحريما و الحق انه يحرم لما تلونا و لعدم دليل الإباحة و لانه أخذ مال المسلم بغير حق و إمساكها لا لرغبة إضرار او تضيقا ليقتطع مالها- و ان كان النشوز من جانبها يحرم عليها و عصت هى لا هو لما ذكرنا- و ان لم يكن النشوز من جانب و لا يخافان ان لا يقيما حدود اللّه فلا يحل أخذ المال للزوج و لا طلب الطلاق و بذل المال للزوجة لكن يقع الخلع و يجب المال للزوج على الزوجة فى جميع الصور قضاء اجماعا خلافا للظاهرية لنا ان الخلع سواء كان طلاقا او فسخا فهو امر شرعى و الناهي عن الأمور الشرعية يدل على الانعقاد و النفاذ حتى يتصور الابتلاء- و ذهب المزني الى ان الخلع غير مشروع أصلا و هذه الاية منسوخة بقوله تعالى وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ لاية و الجواب انه ليس فى تلك الاية ذكر الاخذ و الإعطاء بمعاوضة ملك النكاح برضاء الزوجين فلا تعارض و لا نسخ بدون التعارض و اللّه اعلم و اختلفوا فى ان الخلع هل هو طلاق او فسخ- فقال ابو حنيفة و مالك و هو المشهور من قولى الشافعي انه طلاق و هو رواية عن احمد- و قال احمد و هو رواية عن الشافعي انه فسخ و ليس بطلاق فمن قال انه فسخ لا ينقص عنده منه عدد الطلاق و لا يلحقه طلاق اخر و لا يرث أحدهما من الاخر فى العدة و بهذه الاية استدل كلا الفريقين وجه استدلال القائلين بانه فسخ ان اللّه سبحانه ذكر الطلقتين فى أول الاية ثم ذكر الخلع ثم ذكر الطلاق الثالث بقوله فان طلّقها فلا تحلّ له فلو كان الخلع طلاقا لزم كون عدد الطلاق أربعا و هذا الاستدلال مروى عن ابن عباس روى ابن الجوزي بسنده عن طاؤس قال سمعت ابراهيم بن سعيد يسئل ابن عباس عن رجل طلّق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه فقال ينكحها ان شاء انما ذكر الطلاق فى أول الاية و آخرها و الخلع فيما بين ذلك- و رواه عبد الرزاق و روى الدارقطني عن ابن عباس الخلع فرقة و قالوا روى نافع مولى ابن عمر انه سمع ربيع بنت معوذ بن عفراء تخبر ابن عمر انها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان فجاء عمها الى عثمان فقال ان ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أ فتنتقل فقال عثمان لتنتقل و لا ميراث بينهما و لا عدة عليها الا انها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية ان يكون بها حبل- فقال ابن عمر عثمان خيرنا و أعلمنا-

و وجه استدلالنا ان اللّه تعالى ذكر الطلاق المعقب للرجعة مرتين ثم ذكر افتداء المرأة و فى تخصيص اسناد الافتداء الى المرأة مع اقتضاء سوق الكلام الى اسناد الفعل إليهما و عدم وقوع الفرقة الا بفعل من الزوج دليل واضح على تقرير فعل الزوج على ما سبق و هو الطلاق فقد بين الطلاق بنوعيه بغير مال و بمال ثم قال فان طلّقها فلا تحلّ له- و الفاء لفظ خاص للتعقيب و قد عقب الطلاق الافتداء فان لم يقع الطلاق بعد الخلع تبطل موجب الفاء و القول بانه متصل باول الكلام و قوله تعالى وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ الى قوله الظَّالِمُونَ معترض تحكّم و إخلال بنظم الكلام بلا دليل- و ما قال الشافعي ان اللّه سبحانه ذكر الطلاق فى أول الاية و آخرها و ذكر الخلع فيما بين ذلك ليس بشى ء فانه لم يذكر الخلع و الفسخ فى الكلام أصلا انما ذكر افتداء المرأة و سكت عن فعل الزوج فليس فعله الا ما ذكر من الطلاق فظهر ان الطلاق المذكور سابقا ان لم يكن بمال فهو رجعى و ان كان بمال فهو بائن حتى يتحقق الافتداء و لا يجتمع البدل و المبدل منه فى ملك الزوج سواء كان ذلك بلفظ الطلاق او بلفظ الخلع او غيرهما مما يؤدى معناه و تسميته خلعا اصطلاح لم يثبت من القران و اللّه اعلم-

و يدل على كون الخلع طلاقا سبب نزول هذه الاية و هو ان جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ امراة ثابت بن قيس (

و اخرج الدارقطني ان اسمها زينب قال ابن حجر لعل لها اسمين و وقع فى حديث آخر أن اسمها حبيبة بنت سهل قال ابن حجر و الذي ظهر انهما قضيتين وقعتا له فى امرأتين لشهرة الحديثين و صحة الطريقين و اختلاف السياقين) أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فشكت اليه زوجها وارته اثارا من ضربه و قالت يا رسول اللّه لا انا و لا هو فارسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى ثابت فقال مالك و لا هلك فقال و الذي بعثك بالحق ما على وجه الأرض أحب الىّ منها غيرك قال لها ما تقولين فقالت يا رسول اللّه ما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه هو من أكرم الناس حنة لزوجته و لكن أبغضه فلا انا و لا هو-

و روى البخاري فى صحيحه عن ابن عباس ان امراة ثابت بن قيس أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت يا رسول اللّه ثابت بن قيس ما اعيب عليه فى خلق و لا دين و لكنى اكره الكفر فى الإسلام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ تردين حديقته قالت نعم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقبل الحديقة و طلقها تطليقة-

و اخرج البيهقي من وجه اخر عن ابن عباس- ان جميلة أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم تريد الخلع فقال لها ما أصدقك قالت حديقة قال روى عليه حديقته-

و اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال- أول خلع كان فى الإسلام- امراة ثابت بن قيس أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت يا رسول اللّه لا يجتمع رأسى و رأس ثابت انى رفعت الخباء فرايته اقبل فى عدة فاذا هو أشدهم سوادا و أقصرهم قامة و أقبحهم وجها- فقال أ تردين حديقته قالت «١» نعم و ان شاء زدته ففرق بينهما

و اخرج ابو داود و ابن حبان و البيهقي عن حبيبة بنت سهل انها كانت عند ثابت بن قيس فاتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت لا انا و لا ثابت الحديث-

(١) فى الأصل قال-

و اخرج ابن جرير عن ابن جريح قال- نزلت هذه الاية فى ثابت بن قيس و فى حبيبة و كانت اشتكت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال تردين عليه حديقته قالت نعم فدعاه يذكر ذلك قال و يطيب لى قال نعم قال قد فعلت فنزلت هذه الاية- فهذه القصة تدل على ان الخلع طلاق كما فى الصحيح انه صلى اللّه عليه و سلم قال اقبل الحديقة و طلقها تطليقة-

فان قيل عمل الراوي على خلاف مروية ينزل على اصل ابى حنيفة منزلة الناسخ و ما فى البخاري هو من رواية ابن عباس و قد ذكر قول ابن عباس فيما سبق ان الخلع فرقة

قلنا لعل ابن عباس زعم ان ثابتا طلق امرأته امتثالا لامر النبي صلى اللّه عليه و سلم و صار هذا طلاقا على مال و ليس بخلع ثم افتى بتأويل الاية ان الخلع فسخ فليس عمله على خلاف روايته على زعمه و حين قال ابن عباس كان هذا أول خلع فى الإسلام يحمل قوله على المجاز و لا يلزم علينا اتباع زعم ابن عباس- و مما يدل على كون الخلع طلاقا ما روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب ان النبي صلى اللّه عليه و سلم جعل الخلع تطليقة و هذا مرسل صحيح و المرسل عندنا حجة و قد حكم الشافعي بان مراسيل سعيد بن المسيب لها حكم الوصل قال فانى وجدتها مسانيد- و قد روى كون الخلع طلاقا عن ابن مسعود قال لا يكون طلقة بائنة الا فى فدية او إيلاء- رواه ابن ابى شيبة و كذا روى عن على ايضا-

و روى عن أم بكرة انها اختلعت من زوجها فارتفعها الى عثمان فى ذلك فقال هى طلقة بائنة الا ان يكونا سميا شيئا فهو على ما سميت- رواه مالك و ما قيل ان من رواة هذا الأثر جمها؟؟ ن لا يعرف قال ابن همام هو ابو العلى مولى الأسلميين و يقال مولى يعقوب القبطي تابعي روى عن سعد بن ابى وقاص و عثمان بن عفان و ابى هريرة و أم بكرة و روى عنه عروة بن الزبير و موسى بن عبيدة الزبيدي و غيرهما ذكره ابن حبان فى الثقات-

(مسئلة) اجمعوا على ان الخلع على الأكثر من الصداق صحيح بناء على عموم الاية لكن يكره عند ابى حنيفة و احمد و قال أكثرهم لا يكره و هو رواية جامع الصغير عن ابى حنيفة-

و قد سبق الخلاف فى هذه المسألة بين الصحابة وجه الكراهة ما رواه ابو داود فى مراسيله و ابن ابى شيبة و عبد الرزاق فى قصة امراة ثابت بن قيس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لها أ تردين عليه حديقته التي أصدقك قالت نعم و زيادة قال اما الزيادة فلا و أخرجه الدارقطني كذلك و قال قد أسنده الوليد عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس و المرسل أصح

و اخرج ابن الجوزي من طريق الدارقطني عن ابى الزبير ان ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبد اللّه بن أبيّ ابن «١» سلول و كان أصدقها حديقة فكرهته فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم أ تردين عليه حديقته التي اعطاك قالت نعم و زيادة فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم اما الزيادة فلا و لكن حديقته قالت نعم فاخذها له فخلى سبيلها فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال قد قبلت قضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم-

(١) فى الأصل بنت عبد اللّه ابن ابى سلول

قال ابن الجوزي اسناده صحيح و قال الدارقطني سمعه ابو الزبير من غير واحد

و اخرج الدارقطني بسنده عن عطاء ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا يأخذ الرجل من المختلعة اكثر مما أعطاها-

و روى ابن ماجة عن ابن عباس ان جميلة بنت سلول أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم الحديث و فيه فامره ان يأخذ حديقته و لا يزداد- فلا شك فى ثبوت هذه الزيادة بمرسل صحيح اعتضد بمسند و مرسل- و فى الباب اثر على لا يأخذ منها فوق ما أعطاها- رواه عبد الرزاق و وكيع نحوه-

و ما روى عبد الرزاق عن الربيع بنت معوذ انها اختلعت من زوجها بكل شى ء تملكه فخوصم فى ذلك الى عثمان فاجازه و امره ان يأخذ عقاص رأسها فما دونها- و ما روى عن نافع ان عمر جاءته مولاة لامراته اختلعت من كل شى ء لها و كل ثوب حتى نقبتها فلا ينافى هذان الاثران القول بالكراهة لانهما يدلان على النفاذ قضاء و لم ينكره أحد- و وجه عدم الكراهة هذه الاية حيث قال اللّه تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فان كلمة ما عام يشتمل القليل و الكثير و شرط قبول الأحاديث من الآحاد أن لا يعارض الكتاب القطعي و قد عارضت-

قلت و هذا مبنى على اصل ابى حنيفة ان العام قطعى الدلالة فى الشمول لا يجوز تخصيصه بخبر الآحاد و لو

قلنا بجواز التخصيص بخبر الآحاد لقلنا ان حكم الاية مخصوص بمقدار الصداق و ما دون ذلك بتلك الأحاديث و اللّه اعلم- و قد روى ما يدل على عدم الكراهة حديث ابى سعيد الخدري قال كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة الحديث و فيه قال عليه السلام تردين عليه حديقته و يطلقك قالت نعم و أزيده قال روى عليه حديقته و زيديه رواه ابن الجوزي لكن هذا الحديث لا يصح فيه عطية العوفى قال ابن حبان لا يحل كتب حديثه- و فيه الحسن بن عمارة قال شعبة هو كذاب

تِلْكَ اشارة الى او امر اللّه و نواهيه حُدُودَ اللّه يعنى ما منع عن المجاوزة عنه

فَلا تَعْتَدُوها فلا تجاوزوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. (٢٢٨)

٢٣٠

فَإِنْ طَلَّقَها بعد الثنتين و هو أحد محتملى قوله تعالى او تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ خص اللّه سبحانه ذلك الاحتمال بحكم فقال

فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ذلك و بقي الاحتمال الثاني و هو الترك من غير تطليق الى انقضاء العدة على الأصل و هو حل النكاح مع الزوج الاول

حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ يعنى تتزوج نكاحا صحيحا و انما قيدنا بالصحيح لان المطلق ينصرف الى الكامل و التزوج و النكاح يجوز اسناده الى كل من الزوجين لانه ينعقد بالإيجاب و القبول و ذا يصدر منهما- و بناء على ظاهر هذه الاية قال سعيد بن المسيب و داود ان عقد النكاح من غير جماع من الزوج الثاني يحل للزوج الاول- و الإجماع انعقد على ان الوطي من الزوج الثاني شرط للحمل «١» و من ثم قيل المراد بالنكاح فى الاية الجماع فانه فى اللغة بمعنى الجماع

(١) يعنى لا يحل له أصلا لا بملك اليمين و لا بملك النكاح فلو طلقها ثلاثا فارتدت المرأة و لحقت بدار الحرب ثم ظهر على الدار و استرقت و ملكها الزوج الاول لا يحل له وطيها يملك اليمين حتى يزوجها بزوج غيره و يطاها الزوج الثاني و يطلقها- منه نور اللّه مرقده

فان قيل هذا لا يستقيم فان الوطي فعل الزوج و المرأة محله فاسناده الى المرأة لا يجوز

قلنا يجوز تجوزا و الاية لا تخلوا عن التجوز فان كان النكاح بمعنى العقد فالتجوز فى لفظ الزوج بناء على ما يؤل اليه و ان كان بمعنى الوطي فالتجوز فى الاسناد و يمكن ان يقال المراد بالنكاح تمكينها من الوطي مجازا-

و الباعث على هذا الإجماع و تأويل الاية بهذه التأويلات البعيدة حديث عائشة قالت دخلت امراة رفاعة القرظي و انا و ابو بكر عند النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت ان رفاعة طلقنى البتة و ان عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى و انما عنده مثل الهدبة و أخذت هدبة من جلبابها فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال كانك تريدين الرجوع الى رفاعة لا حتى تذوقين عسيلته و يذوق عسيلتك رواه الجماعة و فى لفظ فى الصحيحين انها كانت تحت رفاعة فطلقها اخر ثلاث طلقات- و فى المؤطا انا مالك عن المسور ابن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير- ان رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثا فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فلم يستطع ان يمسها ففارقها فاراد رفاعة ان ينكحها فنهاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال لا يحل لك حتى تذوق العسيلة-

و روى الجماعة من حديث عائشة انه صلى اللّه عليه و سلم سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل ان يواقعها أ تحل لزوجه الاول قال لا حتى ذاق الاخر من عسيلتها ما ذاق الاول-

و اخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حبان قال نزلت هذه الاية فى عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك و انها كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك و هو ابن عمها فطلقها طلاقا بائنا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي فطلقها فاتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت انه طلقنى قبل ان يمسنى أ فأرجع الى الاول قال لا حتى تمس و نزل فيها فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها بعد ما جامعها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا-

ذكر البغوي انه روى انها لبثت ما شاء اللّه ثم رجعت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت يا رسول اللّه ان زوجى مسنى فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كذبت بقولك الاول فلن نصدقك فى الاخر فلبثت ما شاء اللّه حتى قبض النبي صلى اللّه عليه و سلم فاتت أبا بكر و قالت ان زوجى مسنى و طلقنى فقال لها ابو بكر قد شهدت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين أتيته و قال لك ما قال فلا ترجعى فلما قبض ابو بكر أتت عمرو قالت له مثل ذلك فقال عمر لان رجعت لارجمنك- و على تقدير تأويل النكاح بالتزويج يكون بهذا الحديث زيادة على الكتاب و الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد جائز عند الشافعي و غيره لكن يشكل ذلك على اصل ابى حنيفة فان عنده لا يجوز ذلك- فقيل فى توجيه مذهب ابى حنيفة ان الحديث المشهور يجوز به الزيادة على الكتاب و ليس كذلك فان الحديث من الآحاد لكن يمكن ان يقال انه لما انعقد الإجماع على وفق هذا الحديث و تلقته جمهور الامة بالقبول التحق الحديث بالمشهور فيجوز به الزيادة على الكتاب

فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني بعد الوطي

فَلا جُناحَ عَلَيْهِما اى على المرأة و الزوج الاول

أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد يدل على ذلك اسناد الفعل إليهما بخلاف ما مر من قوله تعالى وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ حيث أسند الفعل هناك الى البعولة بانفرادهم

إِنْ ظَنَّا رجعا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّه و لا يمكن هاهنا تفسير الظن بالعلم لعدم إمكان العلم بالغيب و لان ان الناصبة للتوقع و هو ينافى العلم-

(مسئلة) اجمعوا على ان الوطي من الزوج الثاني يهدم الطلقات الثلاث من الزوج الاول- فان عادت اليه يملك الزوج الاول الطلقات الثلاث اجماعا- و اختلفوا فى انه هل يهدم ما دون الثلاث ايضا أم لا- اعنى ان طلق الزوج الاول طلقة او طلقتين و انقضت عدتها و تزوجت بزوج اخر بنكاح صحيح ثم طلقها الثاني بعد الوطي و انقضت العدة ثم رجعت الى الزوج الاول هل يملك الزوج الاول الطلقات الثلاث او يملك ما بقي بعد الطلقة او الطلقتين- فقال ابو حنيفة و أبو يوسف يهدم مادون الثلاث ايضا و يملك الزوج الاول ثانيا الطلقات الثلاث بتمامها و قال محمد لا يهدم ما دون الثلاث لان اللّه سبحانه جعل الوطي من الزوج الثاني غاية الحرمة المغلظة الحاصلة بالطلقات الثلاث فى قوله فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ فكان منهيا لها و لا إنهاء قبل الثبوت- و لنا ان فى هذه الاية جعل اللّه سبحانه الطلاق من الزوج الثاني بعد الوطي موجبا للحل للزوج الاول حيث قال فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا و كذا قوله صلى اللّه عليه و سلم لعن اللّه المحلّل و المحلّل له جعل الزوج الثاني محللا للزوج الاول و الأصل فى الحل الحل كله فيملك ثلاث تطليقات- و ايضا إذا كان الوطي من الزوج الثاني هادما للحرمة الغليظة كان هادما للحرمة الخفيفة بالطريق الاولى و اللّه اعلم

(مسئلة) اختلفوا فى انه بعد ما طلق الزوج الاول ثلاثا لو نكح المرأة زوجا اخر و اشترطت منه ان يطلقها فطلقها بعد الوطي و انقضت عدتها فقال ابو حنيفة حلت للاول لوجود الدخول فى نكاح صحيح و النكاح لا يبطل بالشروط و عن محمد انه يصح النكاح لما بيّنّا و لا يحلها على الاول لانه استعجل ما آخره الشرع فيجازى بمنع مقصوده كما فى قتل المورث- و قال احمد و مالك و ابو يوسف لا يصح النكاح و للشافعى قولان أصحهما انه لا يصح النكاح لانه فى معنى الموقت و إذا لم يصح النكاح لا يحل للزوج الاول لفقدان الشرط و هو النكاح الصحيح احتجوا على عدم الصحة بحديث ابن مسعود قال لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المحلّل و المحلّل له- رواه الدارمي و قال الترمذي صحيح و رواه ابن ماجة عن على و ابن عباس و عقبة بن عامر-

قلنا هذا حجة لنا لا علينا فانه عليه السلام جعله محللا فيدل على ثبوت الحل و ذلك يقتضى صحة النكاح غير انه يدل على كون الزوج مرتكبا لامر محرم و نحن نقول به فان تزوجها و لم يشترط ذلك الا انه كان فى عزمه صح النكاح عند ابى حنيفة و صاحبيه و الشافعي و قال مالك و احمد لا يصح و لا خلاف فى كراهته

قال البغوي قال نافع اتى رجل ابن عمر فقال ان رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير موامرة فتزوجها ليحلها للاول فقال- لا الا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعن اللّه المحلّل و المحلّل له

وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّه اى الاحكام المذكورة

يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) يفهمون و يعملون بمقتضى العلم.

٢٣١

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ اى عدتهن الاجل يطلق على المدة و على منتهاها فيقال لعمر الإنسان و للموت الذي به ينتهى عمره و المراد هاهنا منتهاه لان شروع العدة عقيب الطلاق و البلوغ هو الوصول الى الشي ء و قد يقال للدنو منه على المجاز و هو المراد فى الاية ليصح ان يترتب عليه

فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ او سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إذ لا إمساك بعد انقضاء الاجل و المعنى فراجعوهن من غير ضرار او اتركوهن حتى تنقضى عدتهن-

وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً اى لا تراجعوهن بارادة الإضرار بهن- و نصب ضرارا على العلة او الحال بمعنى مضارين

لِتَعْتَدُوا اى لتظلموهن بالتطويل و الإلجاء الى الاقتداء- و اللام متعلق بلا تمسكوهنّ فهو ايضا مفعول له كانه بيان للضرار- او هو متعلق بالضرار و على هذا التقدير ايضا بيان للضرار- و ليس بتقييد فان الضرار مطلقا ظلم و اعتداء و منهى عنه امر اللّه سبحانه اولا بالإمساك بالمعروف ثم نهى عن ضده و هو الإمساك بالضرار ثم صرح بكونه اعتداء و ظلما ثم عقب ذلك بقوله

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ يعني بتعريضها للعقاب للمبالغة و الاهتمام-

اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس قال كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها يفعل ذلك ليضارها و يعضلها فانزل اللّه تعالى هذه الاية و ذكر البغوي و كذا اخرج ابن جرير عن السدّى قال نزلت فى رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها مضارة فانزل اللّه تعالى

وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا الاية وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّه هُزُواً بالاعراض عنها و التهاون فى العمل بما فيها- قال الكلبي يعنى قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ او تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و كل من خالف الشرع فهو متخذ آيات اللّه هزوا

و اخرج ابن ابى عمرو فى مسنده و ابن مردوية عن ابى الدرداء قال كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت- و يعتق ثم يقول لعبت و ذكر البغوي قول ابى الدرداء و ذكر فيه و ينكح و يقول مثل ذلك فانزل اللّه وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّه هُزُواً

و اخرج ابن مردوية نحوه عن ابن عباس-

و اخرج ابن جرير نحوه عن الحسن مرسلا-

و اخرج ابن المنذر عن عبادة بن الصامت نحوه بلفظ ثلاث من قالهن لاعبا او غير لاعب فهن جائزات عليه الطلاق و العتاق والنكاح و قد مرّ فى ما سبق حديث ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ثلاث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و الرجعة

وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ و من جملتها الهداية و إنزال آيات القران على محمد صلى اللّه عليه و سلم بالشكر و القيام بحقوقها

وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ يعنى القران وَ الْحِكْمَةِ يعنى الوحى الغير المتلو على محمد صلى اللّه عليه و سلم

يَعِظُكُمْ بِهِ بما انزل عليكم

وَ اتَّقُوا اللّه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) تأكيد و تهديد-.

٢٣٢

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ اى انقضت عدتهن عن الشافعي انه دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين

فَلا تَعْضُلُوهُنَّ اى لا تمنعوهن و العضل المنع و أصله الضيق و الشدة يقال الداء العضال ما لا يطاق علاجه

أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ- المخاطب به الأولياء نزلت الاية فى جملاء بنت يسار اخت معقل بن يسار طلقها بداح بن عاصم بن عدى بن عجلان- روى البخاري و ابو داود و الترمذي و غيرهم عن معقل بن يسار قال زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك و فرشتك و اكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا و اللّه لا تعود إليك ابدا و كان الرجل لا بأس به و كانت المرأة تريدان ترجع اليه فانزل اللّه تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ فقلت الان افعل يا رسول اللّه قال فزوجها إياه و أخرجه ابن جرير من طرق كثيرة ثم اخرج عن السدى قال نزلت في جابر بن عبد اللّه الأنصاري كانت له ابنت عمر فطلقها زوجها فانقضت عدتها ثم رجع يريد نكاحها فابى جابر و الاول أصح لاقوى و لعلها نزلت فى القصتين معا- و سياق الاية يقتضى ان الخطاب مع الأزواج الذين خوطبوا بقوله و إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الذين يعضلون نساءهم بعد مضى العدة ان ينكحن أزواجا غيرهم عدوانا و قسرا و ما ذكرنا من رواية البخاري و غيره فى شأن النزول يقتضى ان الخطاب مع الأولياء حيث كان العضل من معقل بن يسار أخو جملاء- فالصواب عندى ان الخطاب مع الناس كلهم فانه يضاف الفعل الى الجماعة حين يصدر عن واحد منهم كما فى قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يعنى لا يأكل بعضكم اموال بعض و قوله تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ يعنى لا يخرج بعضكم نفس بعضكم من ديارهم- و حينئذ لا مزاحمة بين سياق الاية و سبب نزولها و المعنى حينئذ إذا طلق رجال منكم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ايها الأولياء و الأزواج السابقين و غيرهم ان ينكحن أزواجهن- و فى لفظ الأزواج تجوز على جميع التقادير فانه اطلاق بناء على ما كان او على ما يؤل اليه و اللّه اعلم و الشافعية بعد ما حملوا الخطاب فى الاية على انه مع الأولياء قالوا فيه دليل على ان المرأة لا تزوج نفسها إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولىّ معنى و حملوا اسناد النكاح الى المرأة على التجوز و قالوا اسناد النكاح إليهن بسبب توقفه على اذنهن- و هذا الاستدلال ضعيف فانه يمكن المنع من الولي على تقدير كون النكاح فعلا اختياريا للمرءة الا ترى انه صلى اللّه عليه و سلم قال لا تمنعوا إماء اللّه عن مساجد اللّه مع ان إتيان المساجد فعل اختياري للمرءة بل المنع و الحث انما يتصوران فى الفعل الاختياري فالاولى لهم فى هذه المسألة الاستدلال بقوله تعالى وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا فان الأصل فى الاسناد الحقيقة.

(مسئلة) هل يجوز نكاح الحرة العاقلة البالغة من غير ولى- فقال ابو حنيفة و ابو يوسف يجوز لها نكاحها نفسها بعبارتها و عبارة وكيلها برضاها و ان لم يعقد عليها ولى سواء كان الزوج كفوالها اولا الا انه فى غير الكفو للولى الاعتراض و فى رواية عنهما لا ينعقد فى غير الكفو و عند محمد ينعقد فى الكفو و غيره موقوفا على اجازة الولي- و قال مالك ان كانت ذات شرف و جمال او مال يرغب فى مثلها لا يصح نكاحها الا بولي و ان كانت بخلاف ذلك جاز ان يتولى نكاحها اجنبى برضاها و لا يجوز النكاح بعبارتها و قال الشافعي و احمد لا نكاح الا بولي و هى رواية عن ابى يوسف احتجوا بهذه الاية و قد سمعت ما عليه و بأحاديث منها حديث عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أيما امراة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فان اشتجر فالسلطان ولى من لا ولى له- رواه اصحاب السنن من حديث ابن جريح عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة و حسنه الترمذي- قال الطحاوي حدثنا ابن ابى عمران قال أخبرنا يحيى بن معين عن ابن علية عن ابن جريح انه قال لقيت الزهري فأخبرته عن هذا الحديث فانكره- و أجاب عنه ابن الجوزي بان الزهري اثنى على سليمان بن موسى فكان الإنكار عن نسيان من الزهري- و حديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا نكاح الا بولي و السلطان ولى من لاولى له رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و فيه الحجاج بن ارطاة ضعيف- و عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا نكاح الا بولي و شاهدى عدل رواه الدارقطني و فيه يزيد بن سنان و أبوه قال الدارقطني هو و أبوه ضعيفان و قال النسائي هو متروك الحديث و ضعفه احمد و غيره و عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا بد للنكاح من أربعة الولي و الزوج و شاهدين رواه الدارقطني و فيه نافع بن ميسر ابو خطيب مجهول- و حديث ابى بردة عن أبيه ابى موسى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم لا نكاح الا بولي رواه احمد و حديث ابن عباس مرفوعا لا نكاح الا بولي و السلطان ولى من لاولى له رواه احمد من طريق الحجاج بن ارطاة و هو ضعيف و من طريق أخر فيه عدى بن الفضل و عبد اللّه بن عثمان ضعيفان- و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البغايا اللتي ينكحن انفسهن لا يجوز النكاح الا بولي و شاهدين و مهر قل و كثر رواه ابن الجوزي و فيه النهاس قال يحيى ضعيف و قال ابن عدى لا يساوى شيئا- و حديث ابن مسعود و ابن عمر قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا نكاح الا بولي و شاهدى عدل فى حديث ابن مسعود بكير بن بكار قال يحيى ليس بشى ء و فيه عبد اللّه بن محرز قال الدارقطني متروك و فى حديث ابن عمر ثابت بن زهير منكر الحديث كذا قال ابو حاتم و قال ابن حبان لا يحتج به- و حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يزوج المرأة المرأة و لا يزوج المرأة نفسها فان الزانية هى التي يزوج نفسها رواه الدارقطني من طريقين فى أحدهما جميل بن الحسن و فى الثاني مسلم بن ابى مسلم لا يعرفان- و حديث جابر مرفوعا لا نكاح الا بولي مرشد و شاهدى عدل رواه ابن الجوزي و فيه محمد بن عبيد اللّه العزرمي قال النسائي و يحيى متروك لا يكتب حديثه و فيه قطن بن يسير ضعيف- و حديث معاذ بن جبل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أيما امراة زوجت نفسها من غير ولى فهى زانية رواه الدارقطني و فيه ابو عصمة اسم ابن ابى مريم قال يحيى ليس بشى ء و قال الدارقطني هو متروك و احتج الحنفية بقوله تعالى حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ و قوله أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ لان الأصل فى الاسناد حقيقة ان تباشر المرأة- و بحديث ابن عباس مرفوعا الايم أحق بنفسها من وليها و البكر تستأذن فى نفسها و اذنها صماتها رواه مسلم و مالك و ابو داود و الترمذي و النسائي وجه الاستدلال ان للاولياء ليس الا حق المباشرة و الايم أحق منه بنفسها فهى اولى بالمباشرة و بحديث ابى سلمة بن عبد الرحمن قال جاءت امراة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت ان ابى انكحنى رجلا و انا كارهة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لابيها لا نكاح لك اذهبي انكحى من شئت رواه ابن الجوزي قالوا هذا مرسل و المرسل ليس بحجة

قلنا المرسل حجة- و بحديث عائشة ان فتاة دخلت عليها فقالت ان ابى زوجنى ابن أخيه ليرفع خسيسته و انا كارهة- قالت اجلسي فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاخبرته فأرسل الى أبيها فجعل الأمر إليها فقالت يا رسول اللّه قد أجزت ما صنع ابى و انما أردت ان أعلّم النساء ان ليس الى الآباء من الأمر شى ء رواه النسائي وجه الاستدلال ان فى هذا الحديث تقريره صلى اللّه عليه و سلم قولها ان ليس الى الآباء من الأمر شى ء يعارض حديث عائشة المذكورة و حديث لا نكاح الا بولي قالت الحنفية إذا تعارضت النصوص فيجب سلوك طريق الترجيح او الجمع بضرب من التأويل- فعلى طريقة الترجيح ما رواه مسلم أصح و أقوى سندا بخلاف ما رووه من الأحاديث فانها لم تخل من ضعف او اضطراب- و على طريقة الجمع فنقول معنى قوله عليه الصلاة و السلام لا نكاح الا بولي يعنى لا نكاح على الوجه المسنون او نقول لا نكاح الا بمن له ولاية لينفى نكاح الكافر المسلمة و النكاح مع المحرمية و النكاح فى عدة زوج قبله و غير ذلك من الانكحة الفاسدة و يحمل حديث عائشة على امراة نكحت نفسها من غير كفو- و المراد بالباطل حقيقة على قول من لم يصحح ما باشرته من غير كفو و حكما على قول من يصححه و يثبت للولى حق الخصومة فى فسخه و كل ذلك شائع فى إطلاقات النصوص و يجب ارتكابه لدفع التعارض او نقول حديث عائشة يدل على ان المرأة إذا نكحت نفسها بإذن وليها فذلك النكاح جائز اما على اصل الشافعي فانه يقول بالمفهوم- و اما على اصل ابى حنيفة فانه غير داخل فى حكم البطلان و الأصل الجواز فثبت بهذا ان مباشرة المرأة غير قادحة فى النكاح انما القادح حق الولي المستفاد من قوله صلى اللّه عليه و سلم الايم أحق بنفسها من وليها و حق الولي الاعتراض فى غير الكفو دفعا للعار-

إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ اى الخطّاب و النساء- و هو ظرف لان ينكحن- و بناء على اشتراط التراضي اجمعوا على انه لا يجوز إجبار المرأة البالغة إذا كانت ثيبة و اختلفوا فى البكر البالغة فقال الشافعي يجوز للاب و الجد انكاحها بغير رضاها و به قال مالك فى الأب و هو أشهر الروايتين عن احمد لان الاية فى الثيبات و احتج ابن الجوزي بمفهوم ما رواه ابن عباس مرفوعا بلفظ الثيب أحق بنفسها من وليها و البكر يستأمرها أبوها فى نفسها-

قلنا هذا استدلال بالمفهوم المخالف من الحديث او الاية و المفهوم ليس بحجة عندنا على ان هذا الحديث و هذه الاية حجة لنا لا علينا فان الحديث منطوقه يدل على وجوب استيمار البكر و الاستيمار ينافى الإجبار و فى الاية قوله تعالى ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ الاية يدل على ان تحريم العضل و اشتراط الرضاء مبنى على المفاسد فى العضل و الإجبار كما سنذكر و المفاسد فى إجبار البكر و الثيب سواء-

فان قيل لو كان البكر و الثيب فى اثبات الاختيار لهما سيّان فما وجه الفرق فى قوله عليه الصلاة و السلام الثيب أحق بنفسها من وليها و البكر تستأمر و كذا ما وجه ذكر البكر بعد قوله الايم أحق على رواية مسلم-

قلنا وجه الفرق بيان كيفية اذنها بقوله اذنها صماتها بخلاف الثيب فان صماتها لم تعتبر اذنا بل لا بد لها من توكيل سابق او اذن لا حق صريحا- و ايضا البكر لا تباشر العقد غالبا و لهذا خصها بعد التعميم كيلا يتساهلون فى الاستيمار- و احتج ابن الجوزي ايضا بما روى عن الحسن مرسلا قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليستأمر الابكار فى انفسهن فان أبين اجبرن و هذا الحديث ساقط متنا و سندا اما متنا فللتناقض بين الاستيمار و الإجبار إذ لا فائدة حينئذ فى الاستيمار و اما سندا فلان فى سنده عبد الكريم قال ابن الجوزي قد اجمعوا على الطعن فيه و لنا أحاديث منها ما ذكرنا و منها حديث ابن عباس ان جارية بكرا أتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فذكرت ان أباها زوجها و هى كارهة فخيرها النبي صلى اللّه عليه و سلم رواه احمد و ابو داود و النسائي و ابن ماجة بسند متصل و رجال صحيح و قول البيهقي انه مرسل لا يضر فانه مرسل من بعض الطرق و المرسل حجة و متصل من طرق اخر صحيحة قال ابن القطان حديث ابن عباس هذا صحيح و ليست هذه خنساء بنت خدام التي زوجها أبوها و هى ثيب فكرهت فرد النبي صلى اللّه عليه و سلم نكاحها رواه البخاري و قال ابن همام روى ان خنساء ايضا كانت بكرا اخرج النسائي حديثها و فيه انها كانت بكرا لكن رواية البخاري يترجح و روى الدارقطني حديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رد نكاح بكر و ثيب انكحهما أبو هما و هما كارهتان و روى الدارقطني عن ابن عمران رجلا زوج ابنته بكرا فكرهت ذلك فرد النبي صلى اللّه عليه و سلم نكاحها و فى رواية اخرى عن ابن عمر قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم ينتزع النساء من أزواجهن ثيبات و أبكار ابعد ان يزوجهن الآباء إذا كرهن ذلك و روى الدارقطني عن جابران رجلا زوج ابنته و هى بكر من غير أمرها فاتت النبي النبي صلى اللّه عليه و سلم ففرق بينهما و حديث عائشة قالت جاءت فتاة الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت ان ابى نعم الأب هو زوجنى ابن أخيه ليرفع من خسيسته «١» قالت «٢» فجعل الأمر

(١) الخسيس الدنى و الخسيسة و الخساسة الحالة التي يكون عليها الخسيس يقال رفعت خسيسته و من خسيسة إذا فعلت فعلا يكون فيه رفعته- منه رحمه اللّه

(٢) فى الأصل قال

إليها فقالت انى قد أجزت ما صنع ابى و لكنى أردت ان «١» تعلم النساء ان ليس الى الآباء قال الدارقطني حديث ابن عباس و جابر و عائشة مراسيل و ابن بريدة لم يسمع من عائشة و قد أنكر احمد حديث جابر و قال الدارقطني الصحيح انه مرسل عن عطاء ان رجلا- و وهم شعيب في رفعه و قال ابن الجوزي حديث ابن عمر لا يثبت فان ابن ابى ذئب لم يسمعه عن نافع انما سمعه من عمر بن حسين و قد سئل عن هذا الحديث احمد فقال باطل

قلنا المراسيل حجة لا سيما للاستشهاد و التقوية- و قول ابن الجوزي ان هذه الأحاديث محمول على ما أنكحت البكر البالغة من غير كفو حمل على خلاف الظاهر من غير سبب على ان في حديث عائشة زوجنى ابى ابن أخيه صريح على ابطال ذلك الحمل فان ابن العم يكون كفوا و القول بان ابن الأخ كان من قبل أم ايضا احتمال بعيد بلا دليل و اللّه اعلم ( (مسئلة)) اجمعوا على ان للاب و لاية الكاح الصغيرة البكر و اختلفوا في الثيب الصغيرة فقال مالك و الشافعي و احمد لا يجوز نكاح الثيب الصغيرة أصلا لان اذنها لا يصح قبل البلوغ لابتنائه على العقل و لا معتبر بالعقل قبل البلوغ فنكاحها لا يكون الا بغير اذنها و نكاح الثيب بغير اذنها لا يجوز فنكاحها لا يجوز اما الصغرى فبديهى بعد الإجماع و اما الكبرى فلقوله عليه الصلاة و السلام الثيب أحق بنفسها و قد مر و حديث ابى هريرة لا ينكح الثيب حتى تستامر- رواه الترمذي و قال هذا حديث صحيح و حديث خنساء ان أباها زوجها و هى كارهة و كانت ثيبا فرد النبي صلى اللّه عليه و سلم نكاحها- رواه البخاري و حديث ابن عباس ليس للولى مع الثيب امر رواه الدارقطني و هذا حديث ضعيف أعله الدارقطني- و الجواب ان خنساء كانت بالغة للاجماع على ان الثيب الصغيرة لا تستأمر و لا يصح اذنها و على انه لا يجوز لها مباشرة النكاح- و قال ابو حنيفة يجوز للاب انكاحها و ان لم ترض لان سبب الولاية في البكر الصغيرة اما الصغر او البكارة لا غير و البكارة غير معتبر في البالغة لما قررنا فكذا في الصغيرة فلم يبق الا الصغر و هو موجود فيها-

بِالْمَعْرُوفِ اى بما يعرفه الشرع و يستحسنه المروّة- حال من الضمير المرفوع او صفة مصدر محذوف اى تراضيا كائنا بالمعروف- و فيه دلالة على ان العضل عن التزويج من غير كفو و التزويج الذي لا يجوز في الشرع كالنكاح في العدة و غير ذلك من الموانع جائز غير منهى عنه

ذلِكَ اشارة الى ما مضى من الاجتناب عن العضل و رعاية التراضي و الخطاب الى الجميع على تأويل كل واحد

(١) فى الأصل يعلم

او يكون الكاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطبين- او يقال الكاف ليس لها محل من الاعراب فيتوهم ان الكاف من نفس الكلمة و ليست بكاف خطاب و على هذا يقول العرب موحدا منصوبة في الواحد و التثنية و الجمع و المذكر و المؤنث- او يقال انه خطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم على طريقة قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ

يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ هذا يدل على ان الكفار غير مخاطبين بالشرائع- او يقال خصهم بالذكر لانهم هم المتعظون المنتفعون بها

ذلِكُمْ خطاب الى الناس أجمعين أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ من دنس الآثام فان العضل ان كان عن مطلق النكاح يلزم غالبا وقوعهن في العنت و ان كان عن النكاح ممن يرضين مع الإجبار على النكاح ممن لا يرضين يخاف ان لا يقيما حدود اللّه و يقع الخلع او الطلاق

وَ اللّه يَعْلَمُ ما فيه النفع و الصلاح وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) لقصور عقلكم و جهلكم بعواقب الأمور.

٢٣٣

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أضاف الأولاد إليهن لتكون باعثا على العطف و الأوضاع و هذا امر عبر عنه بالخير للمبالغة و هو للوجوب لكنه نسخ ذلك فيما إذا تعاسرت الامّ من الإرضاع اى لم تقدر و يقدر الأب على الاستيجار و يرتضع الصبى من غيرها بقوله تعالى وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى - او مخصوص بقوله تعالى لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها و بقي الحكم فيما سوى ذلك على أصله- و من ثم قال ابو حنيفه رحمه اللّه ان استأجر رجل زوجته او متعته لترضع ولدها لم يجز و قال الشافعي يجوز استيجارها- لنا ان الإرضاع مستحق عليها ديانة الا انه عذرت قضاء لظن عجزها حين امتنعت عن الرضاع مع وفور شفقتها فاذا أقدمت عليه بالأجر ظهرت قدرتها و كان الفعل واجبا عليها فلا يجوز أخذ الاجر عليه

فان قيل هذا الدليل يقتضى ان لا يجوز استيجار المطلقة بعد انقضاء عدتها لترضع ولدها مع انه جائز اتفاقا-

قلنا جواز استيجارها بعد انقضاء العدة ثبت بقوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الاية فظهر بهذا ان إيجاب الإرضاع على الام مقيد بايجاب رزقها على الأب بقوله تعالى وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ففى حالة الزوجية و العدة هو قائم برزقها و فيما بعد العدة ليس عليه رزق فيقوم الاجرة مقامه

حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ أكده بصفة الكمال لانه يتسامح فيه و كان مقتضى هذا القيد وجوب الإرضاع الى كمال الحولين لكن لما عقب اللّه سبحانه بقوله فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ظهر ان التقييد لنفى جواز الإرضاع بعد الحولين- و ايضا نفى جواز الإرضاع بعد الحولين مبنى على أصله فان الأصل ان الانتفاع بأجزاء الآدمي غير جائز لكرامته- و ايضا يظهر نفى جواز الإرضاع بعد الحولين بقوله تعالى

لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ إذ لا شى ء بعد تمامه- و هو بيان لمن يتوجه اليه الحكم بالوجوب يعنى ذلك الإرضاع الى حولين لمن أراد إتمام الرضاعة او هو متعلق بيرضعن فان الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة و الام يجب عليها الرضاع ان لم يعسر عليها و قال قتادة فرض اللّه تعالى على الوالدات الإرضاع حولين كاملين ثم انزل التخفيف بقوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فبهذه الاية ثبت ان مدة الإرضاع حولين لا يجوز بعدها و لا يثبت المحرمية بالإرضاع بعدها و به قال ابو يوسف و محمد و الشافعي و احمد و هو مروى عن ابن عباس و عمر رواهما الدارقطني و عن ابن مسعود و على أخرجهما ابن ابى شيبة و قال مالك خولان و شى ء و لم يحده و قال ابو حنيفة ثلاثون شهرا و قال زفر ثلاثة سنين و استفادوا الزيادة على الحولين بقوله كاملين لان الكمال يقتضى ان لا يطعم في الحولين فحينئذ لا بد من مدة يعتاد فيها الصبى بالطعام و يغتذى باللبن و قدّر كل الزيادة برأيه و لم يقدر مالك

قلنا اقتضاء الكمال ان لا يطعم فيها ممنوع بل ذكر الكمال لئلا يحمل الحولان على ما دونهما تسامحا و يدل على قولنا من السنة حديث ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لارضاع الا ما كان في حولين و رواه ابن الجوزي و الدارقطني قال الدارقطني عن ابن عيينة رجاله «١» صحيح الا الهيثم بن جميل و هو ثقة حافظ و كذا وثقه احمد و العجلى و ابن حبان و غير واحد

وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ يعنى الأب فان الولد يولد له و ينسب اليه و تغيير العبارة للاشارة الى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع و مؤن المرضعة عليه- و اللام للاختصاص و من ثم قال ابو حنيفة في ظاهر الرواية ان نفقة الابنة البالغة و الابن الزمن البالغ على الأب خاصة دون الام كالولد الصغير و في رواية الخصاف و الحسن عنه انها على أبويه أثلاثا على حسب الميراث

رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و ذلك الرزق و الكسوة ان كانت الام زوجة له او معتدة فهو جار عليهما بحكم الزوجية و ان كانت اجنبيه بانقضاء عدتها يجب ذلك بناء على الاجرة كما يدل عليه قوله تعالى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ و قدر النفقة على قدر وسعه لقوله تعالى

لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها فيه دليل على ان التكليف بما

(١) لعله رجاله رجال صحيح. [.....]

لا يطاق و ان كان جائزا عقلا لكنه منتف شرعا فضلا من اللّه تعالى و منه

لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قرا ابن كثير و يعقوب و ابو عمر- ابو محمد لا تضارّ بالرفع بدلا عن قوله لا تكلّف فهو خبر بمعنى الناهي

و قرا الآخرون بالنصب على صيغة النهى- و على التقديرين الصيغة يحتمل ان يكون مبنيا للفاعل و ان يكون مبنيا للمفعول و الباء للسببية و المعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها فتعنف به و تطلب منه زيادة في النفقة او الاجرة و ان تشتغل قلبه بالتفريط فى شأن الولد و ان تقول بعد ما الفها الصبى اطلب لها ظيرا و ما أشبه ذلك- و لا يضار الأب امرأته بسبب ولده بان يأخذ منها الولد و هى تريد ارضاعه بمثل اجر الاجنبية او ينقص من أجرها او يكرهها على ارضاعه مع إمكان ظير اخرى و هى لا تقدر على ارضاعه و ما أشبه ذلك هذا على انه مبنى للفاعل- و ان كان مبنيا للمفعول فالمعنى كذلك مع عكس الترتيب و يحتمل ان يكون معنى لا تضار لا تضر و الباء زائدة يعنى لا يضر الوالدة ولدها او الأب ولده بان يفرط في شأنه و تعهده و ارضاعه و بذل النفقة عليه و لا يدفعه الام الى الأب- او يأخذه الأب بعد ما الفها و ذكر الولد باضافة كل منهما استعطافا لهما

وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عطف على قوله و على المولود له و ما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف و المعطوف عليه و اختلفوا في تفسير الوارث فقال مالك و الشافعي المراد بالوارث هو الصبى نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى يكون اجر رضاعه و نفقته من ماله فان لم يكن له مال فعلى الام و لا يجبر على نفقة الصبى الا الوالدان و قيل المراد به الباقي من والدي المولود بعد وفات الاخر عليه مثل ما كان على الأب من اجرة الرضاع و النفقة و الكسوة و هذا القول ايضا يوافق مذهب الشافعي و مالك- و يرد على القول الاول ان انفاق الصبى من ماله مقدم على إيجاب نفقته على غيره أبا كان او غيره و لا يجب على الأب الا إذا فرض انه ليس للصبى مال فلا يحسن ان يقال على الصبى نفقته مثل ما كان له على أبيه بل الأمر بالعكس و كيف يقال ذلك بعد ما فرض انه ليس له مال- و على القول الثاني انه ان كان الباقي الأب فقط او الأبوين جميعا فالحكم قد سبق انه عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ فلا حاجة الى التكرار بل هذه الاية تقتضى في صورة بقائهما ان يكون النفقة عليهما و هو ينافى ما سبق و ان كان الباقي الام فقط فالمعنى على الام رزق الام و حينئذ يلزم ان تكون هى مستحقة و مستحقة عليها- و قال احمد و إسحاق و قتادة و ابن ابى ليلى المراد بالوارث وارث الصبى من الرجال و النساء يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه عصبة كان او غيره سواء كان الصبى وارثا منه اولا كما إذا كانت صبية أنثى يرث منها ابن عمها و ابن أخيها دون هى منه و في رواية عن احمد لا يجبر الا من كان ممن يجرى التوارث بينهما و بالرواية الاولى لاحمد قال ابو حنيفة و هو الظاهر المتبادر من الاية لا غبار عليه غير ان أبا حنيفة قيد الوارث بذي رحم محرم فخرج بهذا القيد المعتق و ابن العم و نحو ذلك و وجه التقييد قراءة ابن مسعود و على الوارث ذى الرّحم المحرم مثل ذلك فقد ذهب ابو حنيفة على اصل ان قراءة ابن مسعود يجوز به تخصيص الكتاب و الزيادة عليه- و قيل المراد بالوارث العصبة فيجبر عصبات الصبى مثل الجد و الأخ و ابنه و العم و ابنه-

قال البغوي و هو قول عمر بن الخطاب و به قال ابراهيم و الحسن و مجاهد و عطاء و سفيان و قيل ليس المراد النفقة بل معناه و على الوارث ترك المضارة

قال البغوي به قال الزهري و الشعبي قلت هذا ليس بسديد لان وجوب ترك المضارة غير مختص بالوارث و انما ذكر في الوالدين لدفع توهم المضارة الناشي مما سبق و ايضا كلمة ذلك بحسب الوضع للبعيد و هو وجوب النفقة دون القريب اعنى المضارة و اللّه اعلم و بهذه الاية قال ابو حنيفة يجب النفقة على الغنى لكل ذى رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا او كانت امراة بالغة فقيرة او كان ذكرا زمنا او أعمى فقيرا و انما قيد بهذه الأمور لان مورد النص الصغير و الصغر من اسباب الاحتياج فيلتحق كل واحد منهم بالصغير بجامع الاحتياج بخلاف الفقير المكتسب فانه غنى بكسبه فلا يلتحق بالصغير و لا يجب نفقته على غيره- و يعتبر قدر الميراث لان اضافة الحكم الى المشتق يدل على علية مأخذ الاشتقاق فيكون النفقة على الام و الجد أثلاثا-

و نفقة الأخ الزمن المعسر على الأخوات المتفرقات الموسرات أخماسا على قذر الميراث و قال العلماء المعتبر اهلية الإرث لا إحرازه إذ هو لا يعلم الا بعد الموت فالمعسر إذا كان له خال و ابن عم يكون نفقته على خاله دون ابن عمه و لا يجب النفقة لهم مع اختلاف الدين لبطلان اهلية الإرث و هو العلة للوجوب-

و لا يجب النفقة على الفقير لانها يجب صلة و هو يستحقها على غيره فكيف يستحق عليه و أما ما قال ابو حنيفة انه يجب على الرجل ان ينفق على أبويه و أجداده و جداته إذا كانوا فقراء و ان كانوا كفارا و ان نفقتهم على الولد فقط لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد و ان نفقتهم على الذكور و الإناث على السوية في ظاهر الرواية لا على طريقة الإرث خلافا لاحمد فانه يقول على الذكر و الأنثى أثلاثا و هو رواية عن ابى حنيفة فمبنى قول ابى حنيفة هذا ليست هذه الاية بل قالوا ان نفقتهم لاجل الجزئية دون الإرث قال اللّه تعالى في الأبوين الكافرين وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً- و ليس من المعروف ان يموتا جوعا و هو غنى و قال عليه الصلاة و السلام أنت و مالك لابيك رواه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم جماعة من الصحابة و روى اصحاب السنن الاربعة عن عائشة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أطيب ما أكل الرجل من كسب ولده و ان ولده من كسبه و حسنه الترمذي و روى ابو داود و ابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قال ان لى مالا و ان والدي يحتاج الى مالى- قال عليه الصلاة و السلام أنت و مالك لوالدك ان أولادكم من أطيب كسبكم كلوا من كسب أولادكم و كان مقتضى هذه الأحاديث ثبوت الملك للاب في مال الابن لكنه مصروف عن الظاهر بالإجماع و بدلالة اية الميراث و نحو ذلك فمعناه يجوز الوالد التملك عند الحاجة فيجب نفقتهما على الولد لا يشاركهما غيره من الورثة و إذا لم يثبت النفقة بناء على الإرث لا يعتبر فيه طريقة الإرث و اما الجد و الجدة فلهما حكم الأب و الام قياسا و لهذا يحرزان ميراث الأب و الام و يتولى في النكاح-

و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال انى فقير ليس لى شى ء و لى يتيم قال كل من مال يتيمك غير مسرف و لا مبادر و لا متاثل رواه ابو داود و النسائي و ابن ماجة- و لمّا فسر الشافعي و مالك الوارث فبما ذكرنا قال مالك لا يجب الا للابوين الادنيين و الأولاد الصلبية دون الأجداد و الجدات و أولاد الابن و البنت و قال الشافعي يجب النفقة للاصول و الفروع مطلقا و لا يتعدى عمودى النسب و قال الشافعي النفقة على الذكور خاصة الجد و الابن و ابن الابن دون الإناث و قال مالك النفقة على أولاد الصلب الذكر و الأنثى بينهما سواء إذا كانا غنيين فان كان أحدهما غنيا و الاخر فقيرا فالنفقة على الغنى- و اللّه اعلم

فَإِنْ أَرادا يعنى الوالدين فِصالًا قبل الحولين لان الفصال بعد الحولين واجب لما مر ان غاية الإرضاع الى الحولين لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ-

فان قيل الفاء يقتضى ان يقدر الفصال بعد الحولين

قلنا الفاء للتعقيب عن مطلق الرّضاع لا عن الحولين و في المدارك اطلق الحكم و قال زادا على الحولين او نقصا و قال هذا توسعة بعد التحديد و انما قال ذلك ليوافق مذهب ابى حنيفة انه يجوز الإرضاع بعد الحولين الى نصف السنة قلت و لو كان هذا ناسخا للتحديد و يكون الحكم مطلقا او مقيدا ببعد الحولين لزم جواز الإرضاع بعد ثلاث سنين ايضا و هو خلاف الإجماع لم يقل به أحد فلا وجه للتحديد بالحولين و نصف و نحو ذلك و ما قالوا ان الحولين و نصف يثبت بقوله تعالى وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً- فليس بشى ء و سنذكر ذلك في موضعه في سورة النساء في تفسير قوله تعالى وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ان شاء اللّه تعالى-

فان قيل على تقدير حمل الفصال على ما قبل الحولين ايضا يلزم نسخ التحديد بالحولين

قلنا وجوب الإرضاع الى تمام الحولين مقيد بقوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ- و هذه الاية تدل على اباحة الفصال عند ارادتهما بالتراضي و التشاور فلا منافاة و لا نسخ- و اللّه اعلم

عَنْ تَراضٍ اى صادرا عن تراض مِنْهُما من الأبوين

وَ تَشاوُرٍ اى تشاور من اهل العلم به فيجيزوا ان الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد و المشاورة استخراج الراى

فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فى ذلك و انما اعتبر تراضيهما لئلا يقدم أحدهما على ما يتضرر به الطفل لغرض او غيره و هذا يدل على انه لا يجوز لاحد هما قبل الحولين الفصال من غير تراض بينهما و تشاور مع اهل الراى

وَ إِنْ أَرَدْتُمْ ايها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ مراضع غير أمهاتهم ان أبت أمهاتهم ان يرضعنهم لعلة بهن او انقطاع لبن او أردن نكاحا او طلبن اجرا زائدا على غيرهن و انما قيدنا بهذه القيود لما سبق من دفع الضرار عن الوالدين و حذف المفعول الاول للاستغناء عنه

فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ الى أمهاتهم اى مرضعاتهم

ما آتَيْتُمْ يعنى أعطيتم اى ما أردتم ايتاءه كقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ- او المراد بما أتيتم ما سميتم لهن من اجرة الرضاع بقدر ما أرضعن- او المعنى إذا سلمتم أجور المراضع إليهن و التسليم ندب لا شرط للجواز اجماعا- قرا ابن كثير ما أتيتم هاهنا و في الروم و ما أتيتم من ربا بقصر الالف و معناه ما فعلتم و التسليم حينئذ بمعنى الاطاعة و عدم الاعتراض يعنى إذا أطاع أحد الأبوين ما فعله الاخر من الاسترضاع

بِالْمَعْرُوفِ بالوجه المتعارف المستحسن شرعا متعلق بسلمتم و جواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله

وَ اتَّقُوا اللّه مبالغة في المحافظة على ما شرع في الأطفال و المراضع

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) حث و تهديد-.

٢٣٤

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ اى يموتون و التوفى أخذ الشي ء وافيا بتمامه يعنى يتوفون اجالهم حال كونهم

مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ اى ينتظرن الضمير عائد الى الأزواج يعنى تتربص أزواجهم او المضاف محذوف في المبتدأ يعنى ازواج الذين يتوفون يتربصن بعدهم

بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً انث العشر باعتبار الليالى لانها غرر الشهور و الأيام- و العرب إذا أبهمت العدد بين الليالى و الأيام غلبت عليها الليالى و لا يستعمل التذكير فى مثله قط حتى انهم يقولون صمت عشرا و قال اللّه تعالى إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ثم قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً و الاية تشتمل الحوامل و غيرهن ثم نسخ حكمها في الحوامل بقوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال ابن مسعود من شاء باهلته ان سورة النساء القصرى يعنى سورة الطلاق نزلت بعد سورة النساء الطولى يعنى سورة البقرة و عليه انعقد الإجماع- عن المسور بن مخرمة ان سبيعة الاسلمية نفست بضم الفاء اى ولدت بعد زوجها بليال فجاءت النبي صلى اللّه عليه و سلم فاستأذنته ان تنكح فاذن لها فنكحت- رواه البخاري و كذا في الصحيحين من حديث سبيعة- و من حديث أم سلمة- و رواه النسائي انها ولدت بعد وفات زوجها لنصف شهر و في رواية البخاري بأربعين ليلة و في رواية قريبا من عشر ليال- و رواه احمد من حديث ابن مسعود فقال بعده بخمس عشرة و روى عن على و ابن عباس انها تعتد الى ابعد الأجلين أخرجه ابو داود في ناسخه عن ابن عباس و روى عن عمرانه قال لو وضعت و زوجها على السرير حلت- رواه مالك و الشافعي و ابن ابى شيبة

( (مسئلة)) و عدة الامة المتوفى عنها زوجها شهران و خمسة ايام اجماعا

( (فصل)) يجب الإحداد في عدة الوفاة بالإجماع الا ما حكى عن الحسن و الشعبي انه لا يجب- و في عدة الطلاق الرجعى لا أحد أدبا بالإجماع- و اختلفوا في المعتدة للبائن فقال ابو حنيفة يجب و قال مالك لا يجب و عن الشافعي و احمد كالمذهبين- و لا احداد عندنا على الصغيرة فانها غير مكلفة- و لا على الذمية فانها غير مخاطبة بالشرائع- و عند مالك و الشافعي و احمد يجب عليهما و الإحداد ترك الطيب و الزينة من الكحل و الحنا و لبس ما صبغ لاجل الزينة كالمعصفر و المزعفر و نحوهما و الحرير و الديباج و الخضاب و تدهين الرأس و الجسد بالدهن المطيب و غير المطيب- و قال الشافعي لا بأس بتدهين غير الرأس من البدن بدهن لا طيب فيه فان اضطرت الى كحل فقد رخص فيه كثير من العلماء و قال الشافعي يكتحل ليلا و يمسحه بالنهار و كذا لا بأس في الخضاب و نحوه ان كان بعذر- و لا يجوز للمطلقة الرجعية و البائنة الخروج من بيتها ليلا و لا نهارا لقوله تعالى «١» لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ و المتوفى عنها زوجها يخرج نهارا او بعض الليل و لا تبيت في غير منزلها- و قال الشافعي يجوز للمتوفى عنها زوجها الخروج مطلقا- و للبائنة الخروج نهارا قال عطاء اية الميراث نسخت السكنى فتعتد حيث شاءت و وجوب الإحداد ثبت بحديث أم حبيبة و زينب بنت جحش عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يحل لامراة تؤمن باللّه و اليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث نيال الا على «٢» زوج اربعة أشهر و عشر متفق عليه عن أم عطية ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لاتحد امراة على ميت فوق ثلاث الا على زوج اربعة أشهر و عشرا و لا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب و لا تكتحل و لا تمس طيبا الا إذا طهرت نبذة من قسط او اظفار متفق عليه و زاد ابو داود و لا تختضب ما صبغ عزله قبل النسخ منه؟؟ رح و عن أم سلمة قالت جاءت امراة الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالت يا رسول اللّه ان ابنتي توفى عنها زوجها و قد اشتكت عينها أ فنكحلها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لامرتين او ثلثا كل ذلك يقول لاثم قال انما هى اربعة أشهر و عشر و قد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول متفق عليه و عن أم سلمة قالت دخل علىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين توفى ابو سلمة و قد جعلت علىّ صبرا فقال ما هذا يا أم سلمة قلت انما هو صبر ليس فيه طيب فقال انه يشب الوجه فلا تجعليه الا بالليل و تنزعيه بالنهار و لا تمتشطى بالطيب و لا بالحناء فانه خضاب قلت باى شى ء امتشط يا رسول اللّه قال بالسدر تغفلين به رأسك رواه ابو داود و النسائي و عنها عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب و لا الممشقة و لا الحلي و لا تختضب و لا تكتحل رواه ابو داود و النسائي و عن زينب بنت كعب ان الفريعة بنت مالك بن سنان و هى اخت ابى سعيد الخدري

(١) فى الأصل و لا تخرجوهنّ

(٢) فى الأصل الا زوج

أخبرتها انها جاءت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تسئله ان «١» ترجع الى أهلها في بنى خدرة فان زوجها خرج في طلب اعبد له فقتلوه قالت فسالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان ارجع الى أهلي فان زوجى لم يتركنى في منزل يملكه و لا نفقة فقالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تعم فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة او في المسجد دعانى فقال امكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب اجله قالت فاعتدت فيه اربعة أشهر و عشرا رواه مالك و ابن حبان في صحيحه و الترمذي و ابو داود و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و رواه الحاكم من وجهين و قال صحيح الاسناد من الوجهين جميعا و لم يخرجاه و قال الترمذي حديث صحيح و قال ابن عبد البر انه حديث مشهور و احتجوا بما رواه الدارقطني انه عليه السلام امر المتوفى عنها زوجها ان تعتد حيث شاءت فقال فيه لم يسنده غير ابى مالك الا شجعى و هو ضعيف و قال ابن القطان و محبوب بن محرر ايضا ضعيف و عطاء بن السائب مختلط و ابو بكر بن مالك أضعفهم و لذلك أعله الدارقطني- قال ابو حنيفة فان كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها و أخرجها «٢» الورثة من نصيبهم انتقلت لان هذا انتقال بعذر و العبادات تؤثر فيها الاعذار فصار كما إذا خافت سقوط المنزل او كانت فيها بأجر و لا تجد ما يؤديه و لا يخرج عما انتقلت اليه

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ اى انقضت عدتهن

فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الائمة و المسلمون

فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من الزينة و التزويج و الخروج

بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكره الشرع و مفهومه انهن لو فعلن ما ينكر الشرع فعليهم ان يمنعوهن فان النهى عن المنكر واجب فان قصروا فيه فعليهم الجناح

وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٢) فيجازيكم على حسب أعمالكم.

(١) فى الأصل و ان ترجع

(٢) فى الأصل أخرجه

٢٣٥

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الخطاب

فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ الخطبة الاستنكاح و التعريض من الكلام ما يفهم به السامع مراد المتكلم من غير ان يكون اللفظ موضوعا لمراده حقيقة و لا مجازا- و الكناية هى الدلالة على الشي ء- بذكر لوازمه كقولك طويل النجاد لطول القامة و كثير الرماد للضايف و من التعريض ما روى ان سكينة بنت حنظلة تايّمت من زوجها فدخل عليها ابو جعفر محمد بن على الباقر عليهم السلام في عدتها و قال يا بنت حنظلة انا من قد علمت قرابتى من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و حق جدى على و قدمه في الإسلام فقالت سكينة أ تخطبني و انا في العدة و أنت تؤخذ عنك فقال انما أخبرتك بقرابتي من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قد دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على أم سلمة و هى في عدة زوجها ابى سلمة فذكر لها منزلته من اللّه عز و جل و هو متحامل على يده حصيرا حتى اثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده

او أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ اى أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه صريحا او تعريضا

عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ بالقلوب و لا تصبرون على السكوت عنهن فاباح لكم التعريض و لا مؤاخذة على الإضمار- فيه نوع توبيخ على الخطبة

وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا- استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن فاذكروهن في القلوب و عرضوا بالخطبة و لكن لا تواعدوهنّ سرّا نكاحا صريحا او جماعا يعبر بالسر عن الوطي لانه يسر ثم عن العقد لانه سبب فيه

إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً و هو ان يعرضوا و لا يصرحوا و المستثنى منه محذوف اى لا تواعدوهن مواعدة الا مواعدة معروفة او الا مواعدة بقول معروف- اعلم ان المعتدة من فرقة الرضاع و نحوه و المباينة باللعان و المطلقة ثلاثا ممن لا يحل لزوجها الاول تزويجها فيجوز ايضا تعريضها للاجنبى بالخطبة و ان كانت بائنة فمن يحل لزوجها الاول تزويجها يجوز لزوجها خطبتها تعريضا و تصريحا- و هل يجوز للغير تعريضا أم لا قيل يجوز كالمطلقة ثلاثا لانقطاع حق زوجها الاول و قيل لا يجوز لان المعاودة جائزة له و اثر النكاح باق و الاول اظهر

وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ كناية عن النهى عن عقد النكاح في العدة فان العزم لازم للعقد و هذا ابلغ في النهى من قوله لا تعقدوا للنكاح- و ليس فيه دلالة على حرمة العزم فانه لا مؤاخذة على عزم القلب اجماعا و قد سبق اباحته بقوله تعالى- عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ الاية و هذا كمن قال زيد طويل النجاد و كثير الرماد فانه غير كاذب ان كان زيد طويلا مضيفا و ان لم يكن له نجاد و رماد أصلا و يمكن ان يكون على الحقيقة و يكون نهيا عن العزم على عقد النكاح في العدة و حينئذ يكون النهى للتنزيه نهى عن العزم بناء على انه من يحوم حول الحمى يوشك ان يقع فيه

حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ العدة سماها كتابا لكونها فرضا كقوله تعالى كتب عليكم اى فرض عليكم

أَجَلَهُ منتهاه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم هذا يدل على كراهة العزم

فَاحْذَرُوهُ فخافوه و لا تعزموا وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ لمن عزم و لم يفعل خشية من اللّه

حَلِيمٌ (٢٣٥) و لما كان الطلاق ابغض المباحات ذكر هاهنا بلفظ.

٢٣٦

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ

و قرا حمزة و الكسائي «١» لا تمسّوهنّ بالألف هاهنا و في الأحزاب على المفاعلة و المعنى واحد اى لم تجامعوهن

او تَفْرِضُوا يعنى الا ان تفرضوا او حتى تفرضوا او و تفرضوا اى تسموا

لَهُنَّ فَرِيضَةً فعلية بمعنى المفعول و التاء لنقل اللفظ من الوصفية الى الاسمية فهو منصوب على المفعولية و يحتمل ان يكون منصوبا على المصدرية- و المعنى انه لا يجب عليكم المهر إن طلقتم قبل المسيس الا ان تفرضوا فحينئذ يجب نصف المفروض كما سيجيئ حكمه فيما بعد و اما إذا كان الطلاق بعد المسيس فيجب المفروض كله بقوله تعالى آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و ان لم يفرض يجب مهر المثل اجماعا

وَ مَتِّعُوهُنَّ عطف على مقدر فطلقوهن و متعوهن اى أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به و هذه المتعة واجبة عند ابى حنيفة و الشافعي و احمد يعنى إذا طلق قبل المسيس و لم يفرض لها مهر و قال مالك- لا يجب بل هى مستحبة و الأمر للندب

قلنا كلمته حقا و كلمة على في قوله تعالى حقّا على المحسنين ينفى الاستحباب و الأصل فى الأمر الوجوب- و اختلفوا في مقدار الواجب فقال ابو حنيفة ثلاثة أثواب درع و خمار و ملحفة من كسوة مثلها يعتبر بحالها لقيامها مقام مهر المثل لا يجاوز نصف مهر المثل و لا ينقص من خمسة دراهم و هو قول الكرخي و الصحيح انه يعتبر حاله لقوله تعالى

عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ قال ابن همام و هذا التقدير مروى عن عائشة و ابن عباس و سعيد بن المسيب و عطاء و الشعبي و

قال البغوي روى عن ابن عباس أعلاها خادم و أوسطها ثلاثة أثواب درع و خمار و إزار و دون ذلك وقاية او شى ء من الورق و قال الشافعي فى أصح قوليه و احمد في رواية انه مفوض الى اجتهاد الحاكم و عن الشافعي انه مقدر بما يقع عليه اسم المال قل او جل و المستحب عنده ان لا ينقص عن ثلاثين درهما- و في رواية

عن احمد انها مقدرة بكسوة يجوز فيها صلاتها و ذلك ثوبان درع و خمار

قال البغوي- طلق عبد الرحمن بن عوف امراة و متعها جارية سوداء و متع الحسن بن على امراة بعشرة آلاف درهم

مَتاعاً نصب على المصدر بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي يستحسنه الشرع لا بإكراه

(١) فهو سبق قلم الصحيح لم تمسّوهنّ- ابو محمد عفا اللّه عنه.

من الحاكم حَقًّا اى حق حقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦).

٢٣٧

وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ اى الواجب نصف ما فرضتم لهن و لا يجب المتعة زائدا على نصف المهر في هذه الصورة عند الجمهور الا ما روى عن الحسن و سعيد بن جبير ان لكل مطلقة متعة سواء كان قبل الفرض و المسيس او بعد الفرض قبل المسيس لقوله تعالى وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ و لقوله تعالى في سورة الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا و هن يشتملن المفوضات و غير «١» المفروضات- و للجمهور ان يقولوا المتعة في هذه الصورة هو نصف المهر فان المهر في مقابلة البضع و البضع عادت إليها سالما فلم يجب نصف المهر الا على سبيل المتعة

إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ اى المطلقات اى يتركن النصف فيعود جميع الصداق الى الزوج

او يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ اى الزوج المالك لعقده و حله بترك ما يعود اليه بالتشطير فيسوق المهر إليها «٢» كاملا- و التفسير للّذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ بالزوج أخرجه الطبراني في الأوسط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا و أخرجه البيهقي في سننه عن على و ابن عباس و به قال سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و الشعبي و شريح و مجاهد و قتادة و هو مذهب ابى حنيفة و الجديد الراجح من مذهب الشافعي و تسميتها عفوا اما على المشاكلة و اما لانهم كانوا يسوقون المهر الى النساء عند التزوج فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فاذا لم يستردها فقد عفا عنها «٣»- و عن جبير بن مطعم انه تزوج امراة و طلقها قبل الدخول فاكمل لها الصداق و قال انا أحق بالعفو أخرجه البيهقي في سننه- و قيل المراد بالّذى بيده عقدة النّكاح هو الولي أخرجه

(١) في الأصل المفوضات و غير المفوضات.

(٢) فى الأصل اليه.

(٣) فى الأصل عنه.

البيهقي عن ابن عباس و هو مذهب مالك و القول القديم للشافعى و عن احمد روايتان كالقولين فمعنى الاية عندهم الا ان تعفو المرأة بترك نصف المهر الى الزوج ان كانت ثيبا من اهل العفو او يعفو وليها ان كانت المرأة بكرا او غير جائزة الأمر فيجوز عفو وليها و هو قوله علقمة و عطاء و الحسن و الزهري و ربيعة- لنا ان المهر خالص حقها فلا يجوز لغيرها التصرف فيها و من ثم لا يجوز للولى ان يهب شيئا من مال الصغير و لا يجوز له هبة مهرها قبل الطلاق اجماعا فلا يجوز تأويل الاية الا على ما

قلنا

وَ أَنْ تَعْفُوا موضع رفع بالابتداء يعنى عفو بعضكم عن بعض

أَقْرَبُ لِلتَّقْوى اى الى التقوى و الخطاب للرجال و النساء جميعا لان المذكر يغلب على المؤنث

وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ اى لا تنسوا ان يتفضل بعضكم على بعض فان المعطى أفضل من المعطى له

إِنَّ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) لما طال الكلام في احكام الأزواج و الأولاد نبّه اللّه سبحانه على ان الاشتغال بشأنهم لا يلهيهم عن ذكر اللّه و عن الصلاة التي هى عماد الدين و مكفرة الذنوب و صداء القلوب فقال.

٢٣٨

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ بالأداء لاوقاتها و المداومة عليها و إتمام أركانها و صفاتها- اجمع الامة على انها فريضة قطعية يكفر جاحدها- و اما تارك الصلاة عمدا فقال احمد يكفر و قال مالك و الشافعي و هو رواية عن احمد انه لا يكفر لكن يستتاب فان تاب و الا قتل و قال ابو حنيفة لا يقتل لكن يحبس ابدا حتى يموت او يتوب وجه رواية احمد حديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بين العبد و بين الكفر ترك الصلاة رواه مسلم و حديث بريدة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العهد الذي بيننا و بينهم ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و حديث عبد اللّه بن عمر و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة و من لم يحافظ عليها لم يكن له نورا و لا برهان و لا نجاة و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و أبيّ بن خلف رواه احمد- و الجمهور يؤولون هذه الأحاديث بناء على عطف اقامة الصلاة على الايمان- و حاصل هذه الأحاديث ان امر الصلاة أشد من سائر الاحكام و العبادات فمن تركها فكانه كفر او المعنى انه من تركها استخفافا فقد كفر و اللّه اعلم و في فضائل الصلاة أحاديث كثيرة جدا عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارايتم لو ان نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من درنه شى ء قالوا لا يبقى من درنه شى ء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهنّ الخطايا متفق عليه- و عن عبادة ابن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خمس صلوات افترضهن اللّه تعالى من احسن وضوئهن و صلاهن لوقتهن و أتم ركوعهن و خشوعهن كان له على اللّه عهدا ان يغفر له و من لم يفعل فليس على اللّه عهد ان شاء غفر له و ان شاء عذبه رواه احمد و ابو داود و روى مالك و النسائي نحوه و هذا الحديث حجة للجمهور على ان تارك الصلاة لا يكفر و اللّه اعلم

وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام- و الوسطى تأنيث الأوسط-

قال البغوي اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى- فقال قوم هى صلوة الفجر و هو قول عمر و ابن عمرو ابن عباس و معاذ بن جبل رضى اللّه عنهم- و به قال عطاء و عكرمة و مجاهد و اليه ذهب مالك و الشافعي- و ذهب قوم الى انها صلوة الظهر و هو قول زيد بن ثابت و ابى سعيد الخدري و أسامة لانها في وسط النهار و هى اوسط صلوات النهار و الحجة لهم ما رواه البخاري في تاريخه و احمد و ابو داود و البيهقي و ابن جرير عن زيد بن ثابت ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يصلى الظهر بالهاجرة و كانت أثقل الصلاة على أصحابه فنزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى

و اخرج احمد من وجه اخر عن زيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يصلى الظهر بالهاجرة فلا يكون وراءه الا الصف و الصفان و الناس في قائلتهم و تجارتهم فانزل اللّه تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ الاية فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لينتهينّ رجال او لاحرقن بيوتهم

قلنا هذين الحديثين لا يدلان ان صلوة الوسطى صلوة الظهر فان حافظوا على الصّلوت يشتمل الظهر- و قال الأكثرون و هو أرجح الأقوال انها صلوة العصر رواه جماعة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو قول على و ابن مسعود و ابى أيوب و ابى هريرة و عائشة رضى اللّه عنهم و به قال ابراهيم النخعي و قتادة و الحسن و هو مذهب ابى حنيفة و احمد لحديث على ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يوم الأحزاب ملا اللّه بيوتهم و قبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس متفق عليه و في رواية لمسلم شغلونا عن الصلاة الوسطى صلوة العصر ملا اللّه قلوبهم و بيوتهم نارا و حديث ابن مسعود قال حبس المشركون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن صلوة العصر حتى اصفارت الشمس او احمارت الشمس فقال شغلونا عن الصلاة الوسطى ملا اللّه أجوافهم و قبورهم نارا رواه مسلم و حديث ابى يونس مولى عائشة قال أمرتني عائشة ان اكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الاية فاذنّى فلما بلغتها أذنت فاملات حافظوا على الصّلوت و الصّلوة الوسطى و صلوة العصر و قالت سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رواه مسلم و حديث البراء بن عازب قال نزلت هذه الاية حافظوا على الصّلوات و الصلاة العصر فقراناها ما شاء اللّه عز و جل ثم نسخها فنزلت حافظوا على الصّلوت و الصّلوة الوسطى رواه مسلم

و اخرج مالك و غيره عن عمرو بن رافع قال كنت اكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم فاملات علىّ- حافظوا على الصّلوت و الصّلوة الوسطى و صلوة العصر

و اخرج ابو داود عن عبد بن رافع قال كتبت مصحفا لام سلمة فقالت اكتب حافظوا على الصّلوة و الصّلوة الوسطى و صلوة العصر

و اخرج ابو داود عن ابن عباس انه قرا كذلك

و اخرج ابو داود عن ابى رافع مولى حفصة قال كتبت مصحفا فقالت اكتب حافظوا على الصّلوت و الصّلوة الوسطى و صلوة العصر فلقيت أبيّ بن كعب فاخبرته فقال هو كما قالت او ليس اشغل ما يكون عند صلوة الظهر في غنمنا و نواضحنا و اصحاب الشافعي جعلوا أحاديث عائشة و حفصة و غيرهما حجة لهم قالوا عطف صلوة العصر على صلوة الوسطى دليل على المغائرة

قلنا بل هو عطف تفسيرى- و روى البغوي في تفسيره حديث عائشة بلفظ حافظوا على الصّلوت و الصلاة الوسطى صلوة العصر- بغير الواو و اللّه اعلم و قال اقبيصة ابن ذويب هى صلوة المغرب لانها وسط ليست بأقلها يعنى ثنائيا و لا باكثرها يعنى رباعيا و لم ينقل عن أحد من السلف انها صلوة العشاء و ذكر بعض المتأخرين انها صلوة العشاء لانها بين صلوتين لا تقصران- و قال بعضهم هى احدى الصلوات الخمس لا بعينها ابهمها اللّه تحريضا للعباد على المحافظة على أداء جميعها كما أخفى ليلة القدر و ساعة الجمعة و الاسم الأعظم و الظاهر من كلام الأكثر ان تخصيص صلوة الوسطى بعد التعميم لمزية لها على غيرها من الصلوات- و عندى ليس كذلك بل زيادة التأكيد و الاهتمام فيها لاجل ان وقت صلوة العصر وقت المشاغل بالسوق فروعى فيها زيادة التأكيد و الاهتمام كيلا يفوت تلك الصلاة او يتادى على وجه الكراهة بلا جماعة او في وقت مكروه فعلى هذا اى صلوة من الصلوات يكون فيها مانع عن إتيانها على وجه السنة لا بد فيها زيادة التعاهد و الاهتمام كصلوة الصبح و العشاء في الشتاء و الظهر في الصيف و العصر لاهل السوق ان كان رواج سوقهم فى ذلك الوقت و المغرب لاهل المواشي و نحو ذلك و اللّه اعلم-

وَ قُومُوا للّه قانِتِينَ (٢٣٨) المراد بالقنوت السكوت عن كلام الناس لحديث زيد بن أرقم قال كنا نتكلم خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الصلاة و يكلم الرجل منا صاحبه الى جنبه حتى نزلت و قوموا للّه قنتين فامرنا بالسكوت و نهينا عن الكلام رواه الائمة الخمسة و غيرهم

و اخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا يتكلمون في الصلاة و كان الرجل يأمر أخاه بالحاجة فانزل اللّه تعالى وَ قُومُوا للّه قانِتِينَ

و قال مجاهد المراد بالقنوت الخشوع قال و من القنوت طول الركوع و غض البصر و الركود و حفض الجناح كان العلماء إذا قام أحدهم يصلى يهاب الرحمن ان يلتفت او يقلب الحصا او يعبث بشى ء اى السكون منه ٢٧ او يحدث نفسه بشى ء من امر الدنيا الا ناسيا و قيل المراد بالقنوت طول القيام لما رواه الترمذي عن جابر قال قيل للنبى صلى اللّه عليه و سلم اى الصلاة أفضل قال طول القنوت و هذا القول ضعيف لان الأصل في الأمر الوجوب و طول القيام ليس بواجب و قال اصحاب الشافعي المراد بالقنوت دعاء القنوت لما روى عن ابن عباس قال قنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شهرا متتابعا يدعوا على احياء من سليم و رعل و ذكوان و عصية و هذا القول ضعيف ايضا فان سياق الاية يدل على عموم القنوت في الصلوات كلها لا يختص بشهر دون شهر و لا بصلوة دون صلوة- و قد صح ان قنوت الفجر بدعة عن ابى مالك الأشجعي قال قلت لابى يا أبت قد صليت خلف النبي صلى اللّه عليه و سلم و خلف ابى بكر و خلف عمر و عثمان و علىّ هاهنا بالكوفة قريبا من خمس سنين أ كانوا يقنتون فقال اى بنى بدعة رواه احمد- و فى لفظ صليت خلف النبي صلى اللّه عليه و سلم فلم يقنت و صليت خلف ابى بكر فلم يقنت و صليت خلف عمر فلم يقنت و صليت خلف عثمان فلم يقنت و صليت خلف على فلم يقنت ثم قال اى بنى بدعة و اسم ابى مالك سعد بن طارق بن الأسلم قال البخاري طارق بن الأسلم له صحبة و اسناد هذا الحديث صحيح و في نفى قنوت الفجر تسعة أحاديث- و ما رووه في قنوت الفجر اما ضعيف و اما محمول على قنوت النوازل و الكلام طويل لا يسعه المقام- و قال الشعبي و عطاء و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و طاءوس القنوت الطاعة قال اللّه تعالى امّة قانتا اى مطيعا قال الكلبي و مقاتل لكل اهل دين صلوة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم فى صلاتكم قانتين اى مطيعين-

و قيل معناه مصلين كقوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ اى مصل- و قيل القنوت الذكر اى ذاكرين له تعالى في القيام- و الأظهر هو المعنى الاول فان حديث زيد بن أرقم اصرح في المراد و أصح بخلاف غير ذلك فانها احتمالات لا يصادم المسموع.

٢٣٩

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا او رُكْباناً رجالا جمع راجل مثل صاحب و صحاب و قائم و قيام و نائم و نيام و ركبان جمع راكب و استدل الشافعي و احمد بهذه الاية على جواز الصلاة حال المسابقة و احتج ابن الجوزي بما رواه البخاري عن نافع ان ابن عمر كان إذا سئل عن صلوة الخوف وصفها ثم قال و ان كان الخوف أشد من ذلك صلوا رجالا و قياما على أقدامهم او ركبانا مستقبلى القبلة او غير مستقبليها قال نافع لا ارى ابن عمر ذكر ذلك الا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال ابو حنيفة لا يجوز الصلاة حال المشي و المسابقة و ليس في الاية دليل على جواز الصلاة حال المسابقة فانه ليس معنى الراجل الماشي بل الراجل القائم على الرجلين و كذا في الحديث رجالا و قياما عطف تفسيرى لا يدل على جواز الصلاة ماشيا على ان كونه مرفوعا زعم من نافع ليس في صريح الرفع-

فان قيل قد جوز في صلوة الخوف الذهاب و المجي ء اجماعا كما سنذكر في سورة النساء ان شاء اللّه تعالى فليجز الصلاة حالة المشي ء ايضا-

قلنا ما ثبت شرعا مما لا مدخل للراى فيها لا يتعداه على ان المشي في أثناء الصلاة كالمشى لاجل الوضوء للذى أحدث في الصلاة أهون من الصلاة ماشيا فلا يلحق الا على بالأدنى

(مسئلة) بناء على هذه الاية اجمعوا على انه ان اشتد الخوف صلوا ركبانا يؤمون بالركوع و السجود الى اى جهة كان إذا لم يقدروا على التوجه الى القبلة لكن قال ابو حنيفة لا يجوز الافرادى و عن محمد انهم يصلون بجماعة قال في الهداية و ليس بصحيح لانعدام الاتحاد في المكان

(مسئلة) لا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند الائمة الاربعة و الجمهور و روى مسلم عن مجاهد عن ابن عباس قال فرض اللّه تعالى الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا و في السفر ركعتين و في الخوف ركعة و هو قول عطاء و طاووس و الحسن و مجاهد و قتادة و سنذكر مسائل صلوة الخوف في سورة النساء ان شاء اللّه تعالى

فَإِذا أَمِنْتُمْ و زال خوفكم فَاذْكُرُوا اللّه صلوا الصلاة تامة بشرائطها و أركانها و آدابها

كَما ذكرا مثل ما عَلَّمَكُمْ على لسان نبيه صلى اللّه عليه و سلم و ما مصدرية او موصولة

ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) مفعول ثان لعلّم-.

٢٤٠

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يا معشر الرجال وَ يَذَرُونَ يتركون

أَزْواجاً اى زوجات وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرا ابو عمرو و ابن عامر و حمزة و حفص وصيّة بالنصب على معنى فليوصوا وصية

و قرا الباقون بالرفع اى كتب عليكم وصية و يؤيده قراءة كتب عليكم وصيّة لازواجكم او المعنى حكمهم وصية

مَتاعاً نصب على المصدر اى متعوهن متاعا او هو مفعول لمضمر اى ليوصوا متاعا- او لوصية اى ليوصوا وصية متاعا يعنى ما يتمتعن به من النفقة و الكسوة من موتهم

إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه او مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول او حال من أزواجهم اى غير مخرجات او منصوب بنزع الخافض اى من غير إخراج- و المعنى انه يجب على المحتضرين ان يوصوا لازواجهم بان يتمتعن من أموالهم بالنفقة و الكسوة الى تمام الحول فكان ذلك الوصية للزوجات واجبا على الأزواج بهذه الاية كما كانت الوصية للوالدين و الأقربين واجبا بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ثم نسخ هذا الحكم كما نسخ ذلك و الناسخ لهذا ما هو ناسخ لذلك اعنى اية الميراث و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا وصية لوارث اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس انه سقطت النفقة بتوريثها الربع و الثمن- و ما ذكرنا من البحث و التحقيق في تفسير قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الاية جار هاهنا ايضا فلم نعده- و كانت النساء يحدون في الجاهلية و كذا في بدء الإسلام بعد الوفاة حولا كاملا كما يدل عليه قوله صلى اللّه عليه و سلم في حديث أم سلمة قد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول متفق عليه قيل ثم نسخت المدة بقوله تعالى أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فذلك الاية و ان كانت مقدما على هذه الاية في التلاوة لكنها متاخرة عنها في النزول- اخرج الشيخان عن عثمان بن عفان انه نسخت المدة بقوله تعالى أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً-

قال البغوي نزلت الاية في رجل من الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر الى المدينة و له أولاد و معه أبواه و امرأته و مات فانزل اللّه تعالى هذه الاية فاعطى النبىّ صلى اللّه عليه و سلم والديه و أولاده من ميراثه و لم يعط امرأته شيئا و أمرهم ان ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا و كذا اخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حبان ان رجلا من اهل الطائف قدم المدينة الحديث قلت لكن سياق الاية ينافى هذا الحديث لان الاية تقتضى وجوب الوصية و الحديث يقتضى وجوب نفقتها من تركة زوجها من غير وصية و لعله مات بعد نزول الاية و اوصى بالإنفاق حولا على حسب تلك الاية فعمل النبي صلى اللّه عليه و سلم كذلك- و ايضا هذا الحديث يقتضى نزول هذه الاية بعد قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلادِكُمْ و قبل قوله تعالى وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ الاية و اللّه اعلم

فَإِنْ خَرَجْنَ يعنى الأزواج قبل الحول من غير إخراج الورثة

فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الائمة فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من ترك الحداد و التزيين و التزويج

مِنْ مَعْرُوفٍ مما لم ينكره الشرع فليس عليكم منعهن

قال البغوي الخطاب الى اولياء الميت و لدفع الجناح وجهان أحدهما ما ذكرت و ثانيهما لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول قلت هذا التأويل لا يصاعده عبارة النص لانه لو كان كذلك كان ينبغى ان يقال فيما فعلتم يعنى من ترك النفقة و لم يتبع فيما فعلن و اللّه اعلم- و هذه الاية تدل على ان الاعتداد و الإحداد الى تمام الحول لم يكن واجبا عليهن و انما يفعلن ذلك على رسم الجاهلية تأسفا على فراق الميت- فاوجب اللّه تعالى الوصية لهن بالنفقات على سبيل المروة ماد من يتاسفن على فراقه و لم يخرجن من منزله فما انزل اللّه تعالى في عدة الوفاة اربعة أشهر و عشرا حكم جديد ليس بناسخ لحكم اخر سابق عليه و اللّه اعلم

وَ اللّه عَزِيزٌ ينتقم من خالف حكمه حَكِيمٌ (٢٤٠) يحكم على حسب المروة و رعاية المصالح.

٢٤١

وَ يجب لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ يعنى على الموسع قدره و على المقتر قدره حق ذلك

حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) عن الشرك- قيل المراد بمتاع في هذه الاية نفقة ايام العدة كما هو المراد فيما سبق من قوله تعالى وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ- بجامع ان المرأة في كلا الصورتين الموت و الطلاق محبوسة لحقوق الزوج فيجب الانفاق في ماله و هذا الحكم و هو وجوب الانفاق في عدة الطلاق مجمع عليه ان كان الطلاق رجعيا-

و اما إذا كان الطلاق بائنا فكذلك الحكم عند ابى حنيفة رحمه اللّه تعالى لعموم اللفظ في هذه الاية و لقوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ- فانه في قراءة ابن مسعود بلفظ اسكنوهنّ من حيث سكنتم و أنفقوا عليهنّ من وجدكم و لحديث جابر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المطلقة ثلاثا لها السكنى و النفقة رواه الدارقطني

فان قيل قال ابن الجوزي فيه الحرث بن ابى العالية قال يحيى بن معين هو ضعيف

قلنا قال الذهبي حرث بن ابى العالية ابو معاذ شيخ لعبد اللّه القواريري ضعف بلا حجة و لجامع معنى الاحتباس لحقوق الزوج و هو ظهور براءة الرحم او المروة في معاملة الإحداد و التأسف على فراقه و لم ينسخ الانفاق على المتوفى عنها زوجها بالكلية بل وجب لها الميراث عوضا عن الانفاق فكانه لم ينسخ- و قال مالك و الشافعي لا يجب لها النفقة لكن يجب لها السكنى و هو رواية عن احمد- و عند احمد لا سكنى لها و لا نفقة احتجوا بحديث فاطمة بنت قيس ان أبا عمر و بن حفص طلقها البتة و هو غائب فارسل إليها وكيله الشعير فسخطته فقال و اللّه مالك علينا من شى ء فجاءت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال ليس لك نفقة فامرها ان تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امراة يغشاها أصحابي اعتدى عند ابن أم مكتوم رواه مسلم و في رواية ان زوجها طلقها ثلاثا فاتت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال لا نفقة لك الا ان تكونى حاملا و روى احمد عن ابن عباس قال حدثتنى فاطمة بنت قيس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يجعل لها سكنى و لا نفقة و في سند هذا الحديث حجاج بن ارطاة- و روى احمد عنها انها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما النفقة و السكنى للمرءة ما كانت له عليها رجعة فاذا لم تكن عليها رجعة فلا نفقة و لا سكنى فبهذا الحديث قال احمد لا سكنى لها- و اما الشافعي و من معه فاوجبوا السكنى بقوله تعالى «١» أَسْكِنُوهُنَّ فكانهم تركوا العمل بهذا الحديث من وجه و لنا في الجواب ان حديث فاطمة بنت قيس مخالف للكتاب فهو متروك و قد ترك العمل به عمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة روى الترمذي بسنده عن مغيرة عن الشعبي قال قالت فاطمة بنت قيس طلقنى زوجى ثلاثا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه

(١) فى الأصل و أسكنوهن.

صلى اللّه عليه و سلم لا سكنى لك و لا نفقة قال مغيرة فذكرته لابراهيم فقال قال عمر لا ندع كتاب اللّه و سنة تبينا صلى اللّه عليه و سلم بقول امراة لا ندرى احفظت أم نسيت و كان عمر يجعل لها السكنى قال ابن الجوزي ان ابراهيم لم يدرك عمر و قد رواه جماعة ان عمر قال لا نذر كتاب اللّه و لم يقل سنة نبيه و هو أصح ثم لا يقبل قول الصحابي إذا صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضده-

قلنا ان لم يدرك ابراهيم عمر فهو مرسل و المرسل عندنا حجة- و إذا ثبت قول عمر سنة نبينا فهو رواية رقعه- و لو سلمنا فما اعترف به ابن الجوزي من صحة قول عمر لا تذر كتاب اللّه يكفينا للمدعى فان قول عمر هذا يدل على صحة قراءة ابن مسعود أنفقوا عليهنّ «١» من وجدكم فثبت به المدعى- و قيل في تأويل الاية المراد بمتاع بالمعروف هو المتعة غير النفقة و هى ثلاثة أثواب كما في المطلقة غير الممسوسة-

و على هذا التأويل اللام في للمطلقات للعهد الخارجي عند ابى حنيفة رحمه اللّه يدل عليه ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال لما نزلت و متّعوهنّ على الموسع قدره و على المقتر قدره متاعا بالمعروف حقّا على المحسنين قال رجل ان أحسنت فعلت و ان لم ار ذلك لم افعل فانزل اللّه وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ- فعلى هذا انما يثبت المتعة الا للمطلقة قبل المسيس و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه

فان قيل لو كان التأويل هكذا فما وجه قول ابى حنيفة بان المتعة يستحب إعطاؤها للمطلقة بعد المسيس فرض المهر اولا-

قلنا استحباب المتعة للمطلقة بعد المسيس لا يثبت بهذه الاية بل بقوله تعالى في سورة الأحزاب فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا و اللّه اعلم-

و قال الشافعي اللام للاستغراق و من ثم يجب المتعة عنده لكل مطلقة الا التي طلقت قبل المسيس بعد فرض المهر-

قلت لو كان التأويل هكذا فلا وجه لاستثناء المطلقة التي طلقت قبل المسيس الا ان يقال وجهه الاستثناء ان يقال ان المتعة في هذه الصورة هو نصف المهر كما ذكرنا من قبل و حينئذ نقول ان ما ذكر الشافعي من التأويل هو أحد الاحتمالات المذكورة كما سمعت فوقع الشك فى وجوب المتعة لكل مطلقة و لا يثبت الوجوب بالشك فقلنا بالاستحباب عملا على أحد الاحتمالات و اللّه اعلم.

(١) فى الأصل هاهنا اتفقوا هن من وجد كم- ابو محمد عفا اللّه عنه.

٢٤٢

كَذلِكَ اشارة الى ما سبق من احكام الطلاق و العدة

يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ وعد بانه سيبين لعباده من الدلائل و الاحكام ما يحتاجون اليه معاشا و معادا

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) اى تفهمون و تستعملون العقل فيها-.

٢٤٣

أَ لَمْ تَرَ تعجيب و تشويق لاستماع ما بعده فصار مثلا في التعجيب و يخاطب به من لم ير و لم يسمع قبل- او هو تقرير لمن سمع قصتهم من اهل الكتاب و ارباب التواريخ او المعنى الم تعلم باعلامى إياك و فيه ايضا تعجيب و هكذا التأويل في كل ما ورد في القران لفظ الم تر و لم يره النبي صلى اللّه عليه و سلم

إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ قال عطاء الخراسانى ثلاثة آلاف و قال وهب اربعة آلاف كذا أخرجه الحاكم و صححه من ابن عباس و قيل ثمانية آلاف و قال السدىّ بضعة و ثلاثين الفا و قال ابن جريح أربعين الفا-

و اخرج ابن جرير من طريق منقطع عن ابن عباس أربعون الفا و ثمانية آلاف و قال عطاء «١» بن رباح سبعين الفا- و قيل المراد به و هم مؤتلفة قلوبهم من الالفة حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له

قال البغوي ان اهل داوردان قرية قبل واسط وقع بها طاعون فخرجت طائفة منها و بقيت طائفة فهلك اكثر من بقي في القرية و سلم الذين خرجوا- فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا أصحابنا كانوا احزم منالو صنعنا كما صنعوا لبقينا و لئن وقع الطاعون ثانيا لنخرجن الى ارض لا وباء بها فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها و خرجوا حتى نزلوا واديا افيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيها النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي و اخر من أعلاه ان موتوا فماتوا جميعا كذا اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس و روى احمد و البخاري و مسلم و النسائي عن اسامة بن زيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا سمعتم بالطاعون في ارض فلا تدخلوا عليه و إذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها و أنتم فرار منه و روى البغوي بسنده ان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه خرج الى الشام فلما جاء سرغ بلغه ان الوباء قد بلغ بالشام فاخبره عبد الرحمن بن عوف ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا سمعتم بأرض الحديث فرجع عمر من سرغ و قال الكلبي و مقاتل و الضحاك انما فروا من الجهاد و ذلك ان ملكا من ملوك بنى إسرائيل أمرهم ان يخرجوا الى قتال عدوهم فعسكروا ثم جبنوا و كرهوا الموت و اعتلوا و قالوا لملكهم ان الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منه الوباء فارسل اللّه عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت فلما راى الملك ذلك قال اللّهم رب يعقوب و اللّه موسى قد ترى معصية عبادك فارهم اية من أنفسهم حتى يعلموا انهم لا

(١) عطاء بن ابى رباح- ابو محمد عفا اللّه عنه.

يستطيعون الفرار منك

فَقالَ لَهُمُ اللّه عقوبة لهم مُوتُوا امر تحويل فماتوا جميعا و ماتت دوابهم كموت رجل واحد فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع و تركهم فيها فاتت على ذلك مدة قيل ثمانية ايام و قيل حتى بليت أجسادهم و عريت عظامهم

ثُمَّ أَحْياهُمْ اللّه تعالى عطف على محذوف يدل عليه قوله موتوا يعنى فماتوا اخرج ابن جرير من طريق السدىّ عن ابى مالك انه مر حزقيل عليه السلام على اهل داوردان و قد عريت عظامهم و تفرقت أوصالهم فتعجب من ذلك- فاوحى اللّه اليه ناد فيهم ان قوموا بإذن اللّه فنادى فقاموا و حزقيل بن يوزى كان ثالث خلفاء بنى إسرائيل بعد موسى عليه السلام قال الحسن و مقاتل هو ذو الكفل سمى به لانه تكفل بسبعين نبيا و أنجاهم من القتل و قال مقاتل و الكلبي هم كانوا قوم حزقيل «١» فلما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى و قال يا رب كنت في قوم يحمدونك و يسبحونك و يقدسونك و يكبرونك و يهللونك فبقيت وحيد الا قوم لى فاوحى اللّه اليه انى جعلت حياتهم إليك فقال أحيوا بإذن اللّه فعاشوا- قال مجاهد انهم قالوا حين أحيوا سبحانك «٢» ربنا و نحمدك لآله الّا أنت- فرجعوا الى قومهم و عاشوا دهرا؟؟ الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد و سما مثل الكفن حتى ماتوا لاجالهم التي كتبت لهم- قال ابن عباس فانها ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح قال قتادة مقتهم اللّه على فرارهم من الموت فاماتهم عقوبة ثم بعثهم ليستوفوا اجالهم و لو جاءت اجالهم ما بعثوا

إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أحياهم ليعتبروا و يفوزوا و قص عليكم حالهم لتستبصروا- و المراد به فضل اللّه على الناس كافة يعنى في الدنيا بقرينة قوله تعالى

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى الكفار لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) ذكر اللّه تعالى هذه القصة حثا للمؤمنين على التوكل و الاستسلام للقضاء و تشجيعا على الجهاد فكانه تمهيد لقوله تعالى.

(١) عن اشعث بن اسلم البصري قال بينما عمر يصلى و يهوديان خلفه قال أحدهما لصاحبه هو هو قالا انا نجده فى كتابنا قرنا من حديد يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن اللّه- فقال عمر ما نجد في كتاب اللّه حزقيل و لا أحيا الموتى بإذن اللّه الا عيسى قالا اما تجد في كتاب اللّه رسلا لم نقصصهم فقال عمر بلى قالا اما احياء الموتى فنحدثك ان بنى إسرائيل وقع عليهم الوباء فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على ميل أماتهم اللّه فبنوا عليهم حائطا حتى إذا بليت عظامهم بعث اللّه حزقيل فقام عليهم فقال ما شاء اللّه فبعثهم اللّه فانزل اللّه في ذلك أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ- منه رحمه اللّه.

(٢) فى الأصل سبحان ربنا.

٢٤٤

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه إذ الفرار عن الموت لا يفيد و المقدر واقع لا محالة فالاولى القتال في سبيل اللّه إذ لو جاء أجلهم ففى سبيل اللّه و الا فالنصر و الثواب

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف و السابق عَلِيمٌ (٢٤٤) بما يضمر انه و اللّه اعلم روى البخاري في صحيحه و ابن ابى حاتم و ابن مردوية عن ابن عمر انه قال لما نزلت قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ الاية- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رب زدامتى فانزل اللّه تعالى.

٢٤٥

مَنْ ذَا الَّذِي من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء و ذا خبره و الذي صفة ذا او بدله

يُقْرِضُ اللّه القرض في اللغة القطع سمى به ما يعطى من ماله شيئا لاخر ليرجع اليه مثله لان فيه قطع من ماله- و المراد هاهنا بالقرض اما حقيقته فيكون فى الكلام تجوز بتقدير المضاف اى يقرض عباد اللّه كما جاء في الحديث عن ابى هريرة مرفوعا ان اللّه يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى قال يا رب كيف أطعمك و أنت رب العالمين قال استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه اما علمت انك لو أطعمته لوجدتّ ذلك عندى الحديث رواه مسلم و في فضيلة القرض أحاديث منها حديث ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال كل قرض صدقة رواه الطبراني بسند حسن- و البيهقي و عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرة الا كان كصدقته مرتين رواه ابن ماجة و صححه ابن حبان و أخرجه البيهقي مرفوعا و موقوفا- و اما مجازه و هو تقديم عمل صالح يطلب به ثوابه و يدل عليه ما ذكرنا من حديث البخاري في سبب النزول

قَرْضاً حَسَناً منصوب على المفعولية اى مقرضا حلالا طيبا- او على المصدرية اى قرضا مقرونا بالإخلاص و طيب النفس

و اخرج ابن ابى حاتم عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه انه قال القرض الحسن المجاهدة و الانفاق في سبيل اللّه

فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعنى يضاعف اللّه جزاءه قرا ابن كثير و ابو جعفر و ابن عامر و يعقوب فيضعّفه و بابه بالتشديد حيث وقع و وافقهم ابو عمرو في سورة الأحزاب- و التشديد للتكثير

و قرا الباقون بالألف على المفاعلة للمبالغة-

و قرا ابن عامر و عاصم و يعقوب بالنصب و كذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام بإضمار أن و الباقون بالرفع عطفا على يقرض- فههنا اربع قراءات قرا ابن كثير و ابو جعفر فيضعّفه بالرفع و ابن عامر و يعقوب بالنصب و عاصم فيضعفه بالنصب و الباقون بالرفع

أَضْعافاً جمع ضعف و نصبه على الحال من الضمير المنصوب او على المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير او على المصدر على ان الضعف اسم المصدر و جمعه للتنويع

كَثِيرَةً قال السدىّ هذا التضعيف لا يعلمه الا اللّه و قيل الواحد بسبع مائة و الاول أصح لما ذكرنا من حديث البخاري في سبب النزول

وَ اللّه يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ قرا ابو عمرو و قنبل و حفص و هشام و حمزة بخلاف عن خلاد و يبسط هاهنا و بسطة في الأعراف بالسين و الباقون بالصاد- اى يقبض الرزق لمن يشاء و يبصط لمن يشاء فلا تبخلوا في التصدق كيلا يبدل حالكم عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما اللّهم أعط منفقا خلفا و يقول الاخر اللّهم أعط ممسكا تلفا متفق عليه و قيل هذا في القلوب لما أمرهم اللّه بالصدقة أخبرهم بانهم لا يمكنهم ذلك الا بتوفيقه يعنى يقبض بعض القلوب فلا ينشط للخير و يبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثل البخيل و المتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما الى ثديهما و تراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه و جعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت و أخذت كل حلقة بمكانها متفق عليه و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء و قيل يقبض الصدقات و يبسط في الجزاء و الثواب عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب و لا يقبل اللّه الا الطيب فان اللّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل متفق عليه و قيل اللّه يقبض الأرواح و الأنفس حين موتها و التّي لم تمت في منامها فيمسك الّتى قضى عليها الموت و يبسط «١» الاخرى الى أجل مسمّى

وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) بعد الموت فيجازيكم على ما قدمتم من أعمالكم- قال قتادة الهاء راجعة الى التراب كناية عن غير مذكور اى الى التراب ترجعون-.

(١) و في القران و يرسل الاخرى [.....].

٢٤٦

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ هى الجماعة من وجوه الناس و اشرافهم يجتمعون للتشاور لا واحد له من لفظه كالقوم و جمعه إملاء

مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ موت مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قال قتادة هو يوشع بن نون و قال السدى شمعون و الأكثر انه اشموئيل قال وهب و ابن ابى إسحاق و الكلبي و غيرهم انه لما مات موسى خلف في بنى إسرائيل يوشع فمات فخلف فيهم كالب فمات فخلف حزقيل فلما مات و عظمت فى بنى إسرائيل الأحداث و نسوا عهد اللّه حتى عبدوا الأوثان بعث اللّه تعالى الياس بتجديد ما نسوا من التورية ثم خلقه اليسع فمات و خلفت فيهم خلوف و عظمت الخطايا و ظهر عليهم عدوهم العمالقة فوم جالوت ساكنوا ساحل البحر بين مصر و فلسطين غلبوا على ارضهم و سبوا ذراريهم و أسروا من أبناء ملوكهم اربعمائة و أربعين غلاما و ضربوا عليهم الجزية و أخذوا توراتهم و لقى بنوا إسرائيل منهم شدة و لم يكن نبى يدبر أمرهم و كان سبط النبوة لم يبق منهم الا امراة حبلى فولدت غلاما فسمته اشموئيل فاسلمته لتعلم التورية في بيت المقدس و كفله شيخ من علمائهم فلما بلغ الغلام أتاه جبرئيل و هو نائم عند الشيخ فدعاه جبرئيل بلحن الشيخ يا اشموئيل فقام الغلام فزعا الى الشيخ فقال يا أبتاه دعوتنى فكره الشيخ ان يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بنى ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام دعوتنى قال ان دعوتك ثالثا فلا تجبنى فلما كانت الثالثة ظهر له جبرئيل و قال اذهب الى قومك فبلغهم رسالة ربك فان اللّه قد بعثك نبيا فكذبوه و قالوا ان كنت صادقا

ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه جزم على جواب الأمر و كان قوام أمرهم بالملوك و هم كانوا يطيعون الأنبياء

قالَ لهم اشموئيل هَلْ عَسَيْتُمْ قرا نافع هاهنا و في سورة القتال عسيتم بكسر السين في كل القران و الباقون بالفتح ادخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو متوقع عنده تقريرا و تثبيتا

إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ شرط وقع بين الجملة الجزائية

أَلَّا تُقاتِلُوا خبر عسى و المعنى ان كتب عليكم القتال أتوقع ان لا تقاتلوا مع ذلك الملك

قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه قال الأخفش ان هاهنا زائدة و معناه و مالنا لا تقاتل و قال الكسائي معناه ما يمنعنا ان نقاتل و الصحيح ان مالك لا تفعل و مالك ان لا تفعل لغتان صحيحتان

وَ قَدْ أُخْرِجْنا يعنى قد اخرج من اسرمنا

مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ و هم الذين جاوزوا النهر كما سيجيئ

وَ اللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وعيد على ترك الجهاد فسال اشموئيل ربه ان يبعث لهم ملكا فاتى بعصا و قرن فيه دهن القدس فمن كان طوله طول هذا العصا و؟؟ نش الدّهن الذي في القرن إذا دخل فدهّن به رأسه و ملّكه على بنى إسرائيل فبينا طالوت إذا ضل حمره و خرج في طلبه و كان دبّاغا او سقاء دخل بيت اشموئيل ليسئله عن الحمر إذ نش الدهن فقام اشموئيل فقاس طالوت بالعصا فكان على طولها فدهّن رأسه و ملّكه.

٢٤٧

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً و لما كان من بنى إسرائيل سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب و سبط المملكة سبط يهودا و كان طالوت من سبط بنيامين و كان رجلا فقيرا

قالُوا أَنَّى من اين يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ فانّا من سبط المملكة و الواو للحال

وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ و نحن اغنياء قالَ نبيهم

إِنَّ اللّه اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ قال الكلبي كان اعلم الناس بالحرب

وَ الْجِسْمِ و كان طالوت أجمل في بنى إسرائيل و أطولهم يمد رجل يده حتى يبلغ رأسه-

و قيل أتاه الوحى حين اوتى الملك-

قلت و لمّا احسن اللّه الثناء على طالوت بالاصطفاء و بسطة العلم و الظاهر ان المراد بالعلم علم الشرائع فان به يصلح امور الدين و الدنيا ظهر ان ما يذكرون في قصة طالوت انه حسد داود عليه السلام في اخر الأمر و أراد قتله فهرب داود و طعن علماء بنى إسرائيل طالوت فقتل طالوت كل عالم منهم الى اخر القصة باطل لا اصل له و لذا لم اذكره

وَ اللّه يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّه واسِعٌ اى واسع الفضل يوسع على الفقير و يغنيه

عَلِيمٌ (٢٤٧) بمن يليق بالملك- رد اللّه تعالى استبعادهم ملكه اولا بان السبب الحقيقي للتملك إيتاء اللّه و اصطفاؤه و ذالا يتوقف على سبق قابلية من جهة النسب او الحسب او غير ذلك- و ثانيا بان السبب الظاهري لصلاحية التملك و إصلاح امور الناس العلم و القدرة على العمل على وفق العلم بالقوة و الجسامة فى البدن دون كثرة المال فان المال غاد و رايح لا عبرة لوجوده و فقده- و ثالثا بانه لا يجوز الاستبعاد بعد ما قضى اللّه و رسوله فانه تعالى اعلم بالمصالح منكم.

٢٤٨

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لما طلبوا منه اية على اصطفائه

إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فعلوت من التوب اى الرجوع فانه لا يزال يرجع اليه ما يخرج منه- قيل أريد به الصندوق كان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة اذرع في ذراعين أخرجه ابن المنذر عن وهب ابن منبه فقيل ان اللّه تعالى انزل تابوتا على آدم فيه صور الأنبياء فكان عند آدم ثم كان عند شيث و توارثه الأنبياء حتى وصل الى موسى فكان موسى يضع فيه التورية و شيئا من متاعه فاذا مات موسى تداولته أنبياء بنى إسرائيل- و قيل كان صندوقا للتورية فكانوا إذا حضر القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم فاذا سار التابوت ساروا و إذا وقف وقفوا

فِيهِ اى في إتيانه سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى تسكن به قلوبكم فلا تشكوا في ملك طالوت او الضمير راجع الى التابوت يعنى مودع فيه ما تسكتون اليه و هو التورية- او المعنى ان فيه خاصية ان تسكن قلوبكم بحضوره اخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن وهب بن منبه انه كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بنى إسرائيل و لا يفرون قلت و لا شك ان يذكر اللّه تعالى و روية اثار الصالحين من الأنبياء و اتباعهم تطمئن القلوب و تذهب عنها وساوس الشيطان-

و اخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان السكينة هى صورة كانت في التابوت من زبرجد او ياقوت لها رأس و ذنب كرأس الهرة و ذنبه و له جناحان فتانّ فيزف التابوت نحو العدو و هم يتبعونه و إذا استقر ثبتوا و سكنوا و نزل النصر كذا ذكر البغوي عن مجاهد- و عن على عليه السلام انه ريح خجوج هفافة لها رأسان و وجهه كوجه الإنسان

و اخرج الطبراني عن على عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال السكينة ريح خجوج و اللّه اعلم و عن ابن عباس هى طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء

وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ يعنى أنفسهما و لفظ الال مقحم لتفخيم شأنهما او المراد من ال هما أنبياء بنى إسرائيل لانهم أبناء عمهما- قيل كان فيه لوحان من التورية و رصاص الألواح التي تكسرت و عصاء موسى و نعلاه و عمامة هارون و عصاه و قفيز من «١» المنّ الذي كان ينزل على بنى إسرائيل و كان ذلك التابوت قد فقده بنوا إسرائيل حين عصوا اللّه و أحدثوا في القربان و خبثوا في القدس فقيل رفعه اللّه الى السماء و قيل غلب عليه العدو و ذلك انه كان مشوطا لقربان الذي كانوا يشوطونه به كلابين فماجاءه كان للكاهن الذي يشوطه فلما صار عيلى الذي ربّى اشموئيل صاحب قربانهم جعل ابناه كلاليب- و كان النساء يصلين في القدس فكانا يتشبثان بهن- فقال اللّه تعالى لعيلى على لسان اشموئيل منعك حب الولد من ان تزجر ابنيك ان يحدثا في قرباتى و قدسى لانزعن منك الكهانة و من ولدك و لاهلكنّكم فسار إليهم عدو فخرج ابناؤه

و اخرج معهما التابوت فقتلا و ذهب العدو بالتابوت فلما سمع عيلى شهق فمات- فلما بعث اللّه طالوت ملكا انزل

(١) فى الأصل و قفيز منّ الذي-.

اللّه التابوت من السماء

تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ هذا على القول الاول- و اما على قول الثاني فلما ذهب العمالقة بالتابوت وضعوه في بيت الأصنام تحت صنم لهم أعظم فاصبح الصنم ملقى تحت التابوت و أصبحت الأصنام منكسرة فوضعوه في ناحية فهلك اكثر اهل الناحية فاخرجوه الى قرية اخرى فبعث اللّه على اهل تلك القرية فادّا يبيت الرجل فيصبح و قد أكل الفارة ما في جوفه- فقالت امراة من سبى بنى إسرائيل لا تزالون ترون ما تكرهون مادام هذا التابوت فيكم فاخرجوه عنكم فاتوا بعجله و حملوه عليه ثم علقوها على ثورين و ضربوا جنوبهما فوكل اللّه اربعة من الملائكة يسوقونها فجاءوا به الى بنى إسرائيل- و قيل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقى هناك الى زمن طالوت فجاءت به تحمله الملائكة حتى وضعته فى دار طالوت

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) يحتمل ان يكون تمام كلام النبي اشموئيل و يحتمل ان يكون ابتداء خطاب من اللّه تعالى- قال ابن عباس ان تابوت و عصاء موسى في البحيرة الطبرية و انهما يخرجان قبل يوم القيامة-.

٢٤٩

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ اى خرج و الفصل في الأصل القطع و هو فعل متعد يعنى فصل نفسه عن بلده فلما كثر استعماله حذف مفعوله فصار كاللازم بمعنى انفصل عن بلده شاخصا الى العدو

بِالْجُنُودِ هو في موضع الحال من فاعل فصل اى مختلطا بالجنود و ذلك انهم لما راوا التابوت و استيقنوا النصر تسارعوا الى الجهاد كلهم فقال طالوت لا يخرج معى إلا شاب نشيط فارغ فخرج على هذا سبعون الفا على قول مقاتل و قيل ثمانون الفا و كانوا فى حر شديد فسالوا ان يجرى اللّه لهم نهرا

قالَ طالوت اما بوحي اللّه ان كان نبيا و اما بإرشاد نبيهم

إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قال ابن عباس و السدىّ هو نهر فلسطين و قال قتادة نهر بين الأردن و فلسطين- و الابتلاء الاختبار- يعنى يعاملكم معاملة المختبر ليظهر المطيع من العاصي

فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي اى من اتباعى او ليس بمتحد معى

وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ اى لم يذقه من طعم لشى ء إذا اذاقه ماكولا او مشروبا

فَإِنَّهُ مِنِّي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بالإسكان

إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من قوله فمن شرب و انما قدمت الجملة الثانية للعناية بها و المعنى الرخصة في القليل دون الكثير- و لعل الحكمة في ذلك ان شرب الماء الكثير في شدة الحر و العطش يضربا لناس يهلك او يضعف عن القتال- و يحتمل ان يكون ذلك التحريم عقابا لهم لما اقترحوا بجريان النهر- قرا اهل الحجاز و البصرة غرفة بفتح الغين و الباقون بالضم قال الكسائي بالضم ما يحصل في الكف من الماء عند الاغتراف و بالفتح الاغتراف فهو منصوب على المفعولية او المصدرية على اختلاف القراءتين

فَشَرِبُوا مِنْهُ اى كرعوا فيه إذ المعنى الحقيقي لمن الابتدائية ان لا يكون بوسط و اما الاول فعلى عموم المجاز بقرينة الاستثناء- او المعنى افرطوا في الشرب

إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ منصوب على الاستثناء قال السدىّ كانوا اربعة آلاف و الصحيح ما رواه البخاري عن البراء بن عازب قال كنا اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم نتحدث ان عدة اصحاب يدر على عدة اصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر و لم يجاوز معه الا مؤمن بضعة عشر و ثلاثمائة- و يروى ثلاثمائة و ثلاثة عشر- فكان من اغترف غرفة قوى قلبه و ذهب عطشه- و من شرب و خالف امر اللّه تعالى جبنوا و لم يرووا و اسودت شفاههم و بقوا على شط النهر فلم تجاوزوا النهر مع طالوت و قيل جاوزوا النهر كلهم و الظاهر انهم لم يجاوزوا حيث قال اللّه تعالى

فَلَمَّا جاوَزَهُ اى طالوت النهر هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ اى أطاعوه في الشرب

قالُوا يعنى من وراء النهر الذين جبنوا و بقوا عليه للذين جاوزوا اعتذارا للتخلف و تحذيرا لهم

لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ لغلبة العطش و الضعف او لقلة العدد

بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ لكثرتهم و قوتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ اى يستيقنون

أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللّه و توقعوا ثوابه و هم الذين اكتفوا على الغرفة و جاوزوا النهر- و يحتمل ان يكون ضمير قالوا راجعا الى الذين جاوزوا النهر و المعنى انه قال بعضهم لبعض اولا لا طاقة لنا ثم قال خلصهم

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ كم خبرية موضعها الرفع بالابتداء- او استفهامية استفهام تقرير و من زائدة- و الفئة الفرقة من الناس من فاوتّ رأسه إذا شققته او من فاء إذا رجع على وزن فعة او فلة- و قيل هى جمع لا واحد له بمعنى الجماعة

غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه بقضائه و إرادته

وَ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) بالنّصر و الاثابة- و قالت الصوفية بالمعية التي لا كيف لها-.

٢٥٠

وَ لَمَّا بَرَزُوا طالوت و جنوده لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ اى تراء الفئتان و التقيا

قالُوا يعنى طالوت و من معه

رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) هذا سنة الأنبياء و الصالحين انهم إذا استصعبوا امرا التجئوا الى اللّه تعالى بالدعاء.

٢٥١

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّه اى بنصره او مصاحبين بنصره- و كان داود عليه السلام مع أبيه في ثلاث عشر ابنا له في جند طالوت و عبر معه النهر و كان أصغر اخوته يرعى الغنم فاوحى اللّه تعالى الى نبيهم انه يقتل جالوت و قد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار و قالت انك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته و أعطاه طالوت فرسا و درعا و سلاحا فقال ان لم ينصرنى اللّه لم يغن عنى هذا السلاح شيئا- فلزك داود كل ذلك و أخذ مخلاته و مضى نحو العدو و كان داود رجلا قصيرا مسقاما مصغارا فلما راه جالوت و كان رجلا من أشد الناس و أقواهم يهزم الجيوش وحده القى اللّه في قلبه من داود رعبا فقال أتيتني بالمقلاع و الحجر كما يؤتى الكلب قال نعم أنت شر من الكلب فوضع داود الأحجار الثلاثة في مقلاعه و قال باسم اله ابراهيم و إسحاق و يعقوب و رمى به فاصاب دماغه و خرج من قفاه

وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ و زوجه طالوت ابنته

وَ آتاهُ يعنى داود اللّه الْمُلْكَ بعد ما مات طالوت و قيل لم يجتمع بنو إسرائيل قبل داود على ملك

وَ الْحِكْمَةَ النبوة جمع اللّه تعالى له الامرين و لم يجتمعا قبل ذلك بل كان الملك في سبط و النبوة في سبط

وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ أتاه اللّه الزبور و علمه صنعة الدروع و ألان له الحديد فكان لا يأكل الا من عمل يده عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما أكل أحد طعاما خيرا من ان يأكل من عمل؟؟؟ ان نبى اللّه داود كان يأكل من عمل يديه رواه البخاري و علمه منطق الطير و كلام النمل و غيرها و أعطاه صوتا حسنا قيل كان إذا قرا الزبور يدنو منه الوحوش حتى تؤخذ بأعناقها و تظله الطير و يركد الماء الجاري و تسكن الريح- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لابى موسى الأشعري يا أبا موسى لقد أعطيت مزمارا من مزامير ال داود متفق عليه

وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّه قرا نافع و يعقوب دفع اللّه بالألف و كسر الدال هاهنا و في الحج و فيه مبالغة

و قرا الباقون بفتح الدال و سكون الفاء بلا الف

النَّاسَ بَعْضَهُمْ يعنى الكفار بدل بعض من الناس بِبَعْضٍ يعنى بالمؤمنين

لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ يعنى لغلب المشركون الأرض- فافسدوا فيها فخربوا البلاد و قتلوا العباد و ظلموهم و هدمت صوامع و بيع «١» و مسجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا و صدوا الناس عن الايمان باللّه و عبادته كذا قال ابن عباس و مجاهد فيه دليل على ان العلة لافتراض الجهاد دفع الفساد كما سنذكر في قوله تعالى لا اكراه في الدّين و قال بعض المفسرين لو لا دفع بالمؤمنين و الأبرار عن الكفار و الفجار العذاب لهلكت الأرض بمن

(١) و في القران صوامع و بيع و صلوات و مسجد إلخ.

فيها روى البغوي بسنده من طريق عبد اللّه بن احمد عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يدفع بالمسلم الصالح عن مائة اهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرا وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ الاية و ايضا في الحديث و لو لا رجال ركع و صبيان رضع و بهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا

وَ لكِنَّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)

٢٥٢

تِلْكَ مبتدأ خبره ما بعده اشارة الى ما ذكر من قصة ألوف و تمليك طالوت او إتيان تابوت و انهزاما لجبائرة و قتل داود جالوت و ايتائه الملك و الحكمة و تعليمه ممّا يشاء

آياتُ اللّه دلائل على قدرته و على نبوتك

نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ بالوجه المطابق للواقع الذي لا؟؟ فيه اهل الكتاب

و إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) و تلك الآيات اعجاز لك شواهد على رسالتك حيث لم يكن بها علم لمن لم يقرا الكتاب أكد بأنّ و غيرها ردا لقول الكفار لست مرسلا-.

٢٥٣

تِلْكَ الرُّسُلُ اشارة الى جماعة المرسلين التي علمت بقوله و انّك لمن المرسلين و اللام للاستغراق و الموصوف مع الصفة مبتدأ خبره

فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ الفضل هو زيادة أحد الشيئين على اخر في وصف مشترك بينهما و في العرف و الاصطلاح يختص ذلك بوصف الكمال و هو ما يقتضى مدحا في الدنيا و ثوابا في الاخرة- فان كان أحدهما مختصا بوصف كمال و الاخر بوصف كمال اخر فلكل واحد منهما فضل جزئى على الاخر في مطلق الكمال اعنى في استحقاق المدح و الثواب و الفضل الكلى لمن له زيادة الثواب و مزية القرب عند اللّه تعالى فالرسل و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام شركاء في درجة الرسالة او النبوة و موجبات الاجر و الثواب و فيما بينهم تفاضل عند اللّه تعالى بناء على كثرة الثواب و مزيد القرب لا يعلمه كما هو الا اللّه تعالى و قد يدرك بعض ذلك بتعليمه تعالى كقوله

مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه قال اهل التفسير هو موسى عليه السلام لقوله تعالى وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ، و هذه الاية لا يقتضى تخصيصه بذلك الفضيلة فقيل انه موسى و محمد عليهما الصلاة و السلام كلم اللّه موسى على الطور و محمدا ليلة المعراج حين كان قاب قوسين او ادنى فاوحى الى عبده ما اوحى و شتان ما بينهما

وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ على بعضهم او على كلهم- اما رفع درجات بعضهم على بعضهم ففى كثير من الأنبياء و الرسل حيث فضل الرسل على الأنبياء و اولى العزم من الرسل على غيرهم و نحو ذلك و اما رفع درجات بعضهم على كلهم فذلك مختص بنبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم ثابت ذلك بوحي غير متلو و انعقد عليه الإجماع عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و بيدي لواء الحمد و لا فخر و ما من بنى آدم فمن سواه الا تحت لواثى و انا أول من تنشق الأرض و لا فخر و انا أول شافع و أول مشفع و لا فخر رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة و عن ابن عباس قال جلس ناس من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون قال بعضهم ان اللّه اتخذ ابراهيم خليلا و قال اخر موسى كلمه اللّه تكليما و قال اخر عيسى كلمة اللّه و روحه و قال اخر آدم اصطفاه اللّه فخرج عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال قد سمعت كلامكم و عجبكم ان ابراهيم خليل اللّه و هو كذلك و موسى نجى اللّه و هو كذلك و عيسى روحه و كلمته و هو كذلك و آدم اصطفاه اللّه و هو كذلك الا و انا حبيب اللّه و لا فخر و انا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه و لا فخر و انا أول شافع و أول مشفع يوم القيامة و لا فخر و انا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح اللّه لى فيدخلنى و معى فقراء المؤمنين و لا فخروانا أكرم الأولين و الآخرين على اللّه و لا فخر رواه الترمذي و الدارمي و عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا قائد المرسلين و لا فخر و انا خاتم النبيّين و لا فخر و انا أول شافع و مشفع و لا فخر رواه الدارمي- و عن أبيّ بن كعب قال النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا كان يوم القيامة كنت امام النبيّين و خطيبهم و صاحب شفاعتهم غير فخر رواه الترمذي- و عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انا أول من ينشق عنه الأرض فاكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيرى رواه الترمذي- و عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال سلوا اللّه الوسيلة قالوا يا رسول اللّه ما الوسيلة قال أعلى درجة الجنة لا ينالها الا رجل واحد أرجو أن أكون انا هو رواه الترمذي و هذه الأحاديث و ان كانت من الآحاد لكنها متواترة من حيث المعنى و تلقته الامة بالقبول- قال الامام محى السنة البغوي رضى اللّه عنه ما اوتى نبى اية الا اوتى نبينا صلى اللّه عليه و سلم مثل تلك الاية و فضل على غيره بايات مثل انشقاق القمر بإشارته- و حنين الجذع على مفارقته- و تسليم الحجر و الشجر عليه- و كلام البهائم و الشهادة برسالته- و نبع الماء من بين أصابعه و غير ذلك من المعجزات و الآيات التي لا تحصى و أظهرها القران الذي عجز اهل السماء و الأرض عن الإتيان بمثله ثم روى بسنده عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما من نبى الا و قد اعطى من الآيات ما أمن على مثله البشر و انما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه الى فارجوان أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة متفق عليه و بسنده عن جابران النبي صلى اللّه عليه و سلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى نصرت بالرعب مسيرة شهر و جعلت لى الأرض مسجدا و طهورا فايما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل- و أحلت لى الغنائم و لم يحل لاحد قبلى- و أعطيت الشفاعة- و كان النبي يبعث الى قومه خاصة و بعثت الى الناس عامة متفق عليه و بسنده عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال فضلت على الأنبياء بست أوتيت بجوامع الكلم- و نصرت بالرعب- و أحلت لى الغنائم- و جعلت لى الأرض مسجدا و طهورا- و أرسلت الى الخلق كافة- و ختم بي النبيون- رواه مسلم- و هذا الباب طويل جدا لا يسعه المقام و قد صنف فيه مجلدات

وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ تكلم الناس في المهد و كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحى الموتى و انزل عليه مائدة من السماء

وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ و قد مر تفسيره فيما قبل خص اللّه سبحانه عيسى بالتعيين لافراط اليهود و النصارى في تحقيره و تعظيمه

وَ لَوْ شاءَ اللّه هداية الناس جميعا مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ اى من بعد الرسل

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ المعجزات الواضحات

وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا بارادة اللّه سبحانه اظهار صفاته الجلالية و الجمالية و أسمائه من الهادي و المضل و الغفار و القهار و المنتقم و العفو و غيرها

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ تفضلا بهدايته و توفيقه التزام دين الأنبياء و هم الذين كان دينهم صفة الهداية

وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بخذلانه عدلا و هم الذين كان دينهم صفة الإضلال- عن ابى موسى قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقول ان اللّه خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم نوره فمن أصاب ذلك النور اهتدى و من أخطأ ضل فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه رواه احمد و الترمذي

وَ لَوْ شاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا كرره للتأكيد

وَ لكِنَّ اللّه يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) لا يجوز عليه الاعتراض و لا يبلغ الى كنه حكمته غيره

قال البغوي سال رجل على بن ابى طالب فقال يا امير المؤمنين أخبرني عن القدر قال طريق مظلم فلا تسلكه فاعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه فاعاد فقال سر خفى فلا تفشه- يعنى هو امر لا يمكن دركه بالعقل و تفتيشه يوجب الهلاك كما يوجب الهلاك الولوج في البحر العميق و السلوك في الطريق المظلم- عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من تكلم في شى ء من القدر سئل عنه يوم القيامة و من لم يتكلم فيه لم يسئل عنه رواه ابن ماجة و قال ابى بن كعب لو ان اللّه عذب اهل سمواته و ارضه عذبهم و هو غير ظالم لهم و لو رحمهم كان رحمته خير الهم من أعمالهم و لو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل اللّه ما قبله اللّه منك حتى تؤمن بالقدر و تعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطيك و ما أخطأك لم يكن ليصيبك و لو مت على غير هذا لدخلت النار و قال ابن مسعود و حذيفة بن اليمان مثل ذلك- و حدث زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مثل ذلك رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة-

فان قيل هذه الاية تدل على كون بعض الرسل أفضل من بعض فما معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم لا تفضلوا بين أنبياء اللّه و في رواية لا تخيروا بين الأنبياء متفق عليه من حديث ابى سعيد و ابى هريرة و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا تخيرونى على موسى و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا أقول ان أحدا أفضل من يونس بن متى متفق عليه من حديث ابى هريرة-

قلنا معناه انه لا يجوز الحكم بتفضيل بعضهم على بعض بالراى من غير دليل و توقيف من اللّه سبحانه لان الفضل عبارة عن كثرة الثواب و زيادة القرب الى اللّه تعالى و ذا لا يدرك بالراى فاما إذا ثبت بالكتاب او السنة فان كان الدليل ظنى المتن او السند فلا بأس بالقول به مع تجويز نقيضه و ان كان قطعيا يجب الاعتقاد به و كذا الحال في تفضيل غير الأنبياء بعضهم على بعض- و اما قوله عليه السلام لا تخيرونى على موسى و لا أقول ان أحدا أفضل من يونس بن متى فمحمول على انه كان قبل علمه بافضليته صلى اللّه عليه و سلم على جميع الأنبياء و اللّه اعلم (

(مسئلة)) و هذه الاية حجة لاهل السنة على المعتزلة في ان الحوادث كلها بيد اللّه تعالى تابعة لمشيته خيرا كان او شرا إيمانا كان او كفرا- و ليس الأصلح و لا شى ء من الأشياء واجبا عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم و روى عنه احمد و الترمذي نحوه و الترمذي و ابن ماجة عن انس و احمد عن ابى موسى نحوه.

٢٥٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا ما أوجبت عليكم إنفاقه

مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم و الخلاص من عذاب اللّه إذ

لا بَيْعٌ فِيهِ فتحصلون الأموال و تنفقونها في سبيل اللّه او تفتدون بها من العذاب فتشترون به أنفسكم

وَ لا خُلَّةٌ حتى يعينكم عليه اخلاءكم او يسامحونكم به

وَ لا شَفاعَةٌ الا بإذن اللّه قرا ابن كثير و ابو عمر و كلها مبنيا على الفتح من غير تنوين على الأصل و كذلك في سورة ابراهيم لا بيع فيه و لا خلل و في سورة الطور لا لغو فيها و لا تأثيم

و قرا الآخرون كلها بالرفع لانها فى تقدير جواب هل فيه بيع او خلة او شفاعة

وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) حيث يضعون العبادة في غير موضعها و يضعون الأموال في غير موضعها و يصرفونها على غير وجهها- و ايضا هم يظلمون أنفسهم بترك ما أمرهم اللّه و تعريض أنفسهم للعذاب فلا تكونوا ايها الذين أمنوا على هيئتهم- او المعنى و الكافرون الذين ينكرون فريضة الزكوة هم الظالمون- و

قال البيضاوي أراد بالكافرين التاركين للزكوة وضع الكافرون موضعه تغليظا كقوله من كفر مكان من لم يحج و كقوله تعالى ويل للمشركين الّذين لا يؤتون الزّكوة إيذانا بان ترك الزكوة من صفات الكفار عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه- قال لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارتدت العرب و قالوا لا نؤدى زكوة فقال ابو بكر لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول اللّه تالف الناس و ارفق بهم فقال لى أ جبّار في الجاهلية و خوّار في الإسلام انه قد انقطع الوحى و تم الدين أ ينقص و انا حى رواه رزين-.

٢٥٥

اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر و المعنى انه تعالى هو المستحق للعبادة لا غير

الْحَيُّ هو الذي يصح ان يعلم و يسمع و يبصر و يقدر و يريد و كل ما يصح له فهو واجب له ما زال و لا يزال ثابت له ازلا و ابدا لامتناعه عن القوة و الإمكان فالحيوة صفة للّه تعالى سبد الجميع صفات الكمال

الْقَيُّومُ قرا عمرو ابن مسعود القيّام

و قرا علقمة القيّم-

قال البغوي كلها لغات بمعنى واحد قال ابن مجاهد القيوم القائم على كل شى ء قال الكلبي القائم على كل نفس بما كسبت و قيل هو القائم بالأمور و قال ابو عبيدة الذي لا يزول و

قال البيضاوي الدائم القيام بتدبير الخلق و حفظه فيقول من قام بالأمر إذا حفظه و قال السيوطي الدائم البقاء قلت مرجع الأقوال انه دائم الوجود القائم بنفسه و قيم الأشياء كلها لا يتصور قيام شى ء و بقاؤه إلا به فمقتضى هذا الاسم ان ما سواه يحتاج اليه في بقائه كما يحتاج اليه في وجوده كالظل بالنسبة الى الأصل بل أشد منه احتياجا و للّه المثل الأعلى

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ السنة فتور يتقدم النوم في الوجود و لذا قدم ذكره مع ان قياس المبالغة يقتضى العكس- و النوم حالة تعرض الحيوان من استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة بحيث يعطل الحواس الظاهرة عن الاحساس رأسا- و هذه الجملة صفة سلبية ينفى التشبيه فهى تأكيد لكونه حيا قيوما فانه من اخذه نعاس او نوم كان ما دون الحيوة فان النوم أخ الموت قاصرا في حفظ الأشياء و قيوميتها و لذاك ترك العاطف عن ابى موسى رضى اللّه عنه قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخمس كلمات فقال ان اللّه لا ينام و لا ينبغى له ان ينام- يخفض «١» القسط و يرفعه- يرفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار و عمل النهار قبل عمل الليل- «٢» حجابه النور لو كشفت لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه رواه مسلم

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ تقرير لقيوميته و احتجاج على تفرده في الالوهية و المراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما او خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو ابلغ من قولنا له السموات و الأرض و ما فيهن

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بيان لكبرياء شأنه و انه لا أحد يساويه او يدانيه يستقل بان يدفع ما يريده شفاعة فضلا من ان يعاوقه مناصبة

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ اى ما قبلهم و ما بعدهم- او ما يدركونه و ما لا يدركونه- او ما يأخذونه و ما يتركونه- فان ما تركوه كانهم نبذوه خلف ظهورهم- و الضمير لما في السموات و الأرض تغليبا للعقلاء على غيرهم او لمدلول ذا من الملائكة و الأنبياء

وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ اى من معلوماته انما قيد بقوله من علمه مع ان كل شى ء معلومه تنبيها على ان المراد

(١)

قال البغوي و لكنه يخفض القسط و يرفعه اليه عمل الليل ١٢ منه.

(٢)

قال البغوي و رواه المسعودي عن عمرو بن مرة و قال حجاب الدار ١٢ منه.

بالاحاطة الإحاطة العلمية- و لم يقل و لا يعلمون شيئا تنبيها على ان العلم التام المحيط بكنه الأشياء كلها مختص به تعالى و لا يوجد احاطة علم غيره بكنه شى ء الا نادرا- او المراد بعلمه العلم المختص به و هو علم الغيب فهم لا يحيطون بشى ء من علم الغيب

إِلَّا بِما شاءَ احاطته و ذلك قليل قال اللّه تعالى وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا و الواو في و لا يحيطون اما للحال من فاعل يعلم ما بين أيديهم او للعطف و انما ذكر بالعطف لان مجموع الجملتين يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام المحيط بأحوال خلقه الدال على وحدانيته

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ

قال البيضاوي تصوير لعظمته و تمثيل مجرد و لا كرسى في الحقيقة و لا قاعد و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أراد بالكرسي علمه و هو قول مجاهد و منه قيل لصحيفة العلم كراسة و قيل كرسيه ملكه و سلطانه و العرب تسمى الملك القديم كرسا-

قلت و لو كان الكرسي بمعنى العلم او الملك كان هذه الجملة بعد قوله له ما في السّموت و ما في الأرض يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم مستدركا و المشهور عند المحدثين ان الكرسي جسم

قال البغوي اختلفوا في الكرسي قال الحسن هو العرش نفسه و قال ابو هريرة الكرسي موضوع امام العرش و معنى قوله وسع كرسيّه السّموت و الأرض اى سعته مثل سعة السموات و الأرض- و روى ابن مردوية من حديث ابى ذر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما السموات السبع و الأرضون السبع مع الكرسي الا كحلقة في فلاة- و فضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة و يروى عن ابن عباس ان السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس و قال على و مقاتل كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع و الأرضين السبع و هو بين يدى العرش و يحمد الكرسي اربعة املاك لكل ملك اربعة وجوه و أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام و هو يسئل للادميين الرزق من السّنة الى السّنة و ملك على صورة سيد الانعام و هو الثور و هو يسئل للانعام الرزق من السنة الى السنة و على وجهه عضاضة منذ عبد العجل و ملك على صورة سيد السباع و هو الأسد يسئل للسباع الرزق من السنة الى السنة و ملك على صورة سيد الطير و هو النسر يسئل للطير الرزق من السنة الى السنة و في بعض الاخبار ان بين حملة العرش و حملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة و سبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة سنة لو لا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش و الكرسي في الأصل اسم لما يقعد عليه و لا يفضل عن مقعد القاعد كانه منسوب الى الكرسي و هو «١» ضم الشي ء بعضه الى بعض- و نسبة الكرسي الى اللّه تعالى كنسبة العرش اليه و كذا نسبت بيت اللّه اليه لنوع من التجلي مختص به و قد ذكرنا فى تفسير قوله تعالى فسوهنّ سبع سموات ان المستنبط من الحديث ان العرش كروى محيط بالسماوات و ما ذكرنا هاهنا من حديث ابى ذر يستفاد منه ان الكرسي محيط بالسماوات و العرش

(١) فى الأصل و هم-.

محيط به و احاطة بعضها بعضا يقتضى كون كل منها كرويا و من هاهنا قال من قال ان الكرسي هو الفلك الثامن و العرش الفلك التاسع- و لعل العرش و الكرسي متبائتان من السموات في الماهية و ممتازان بانواع التجليات و من ثم لم يعد «اللّه من السموات و لم يزد عدد السموات على سبع و اللّه اعلم

وَ لا يَؤُدُهُ اى لا يثقله مأخوذ من الأود و هو الاعوجاج

حِفْظُهُما اى السموات و الأرض او الكرسي و ما وسعه فهذه الجملة مع ما عطف عليه بيان لسعة علمه و تعلقه بالمعلومات كلها او لجلاله و عظمة قدره و عموم قيوميته للاشياء فهاتين الجملتين كان كحكم جملة واحدة و لمّا كان كل جملة منها تأكيدا و بيانا لما سبق لم يذكر العاطف بين تلك الجمل

وَ هُوَ الْعَلِيُّ المتعالي عن الانداد و الأشباه ليس كمثله شى ء في الذات و لا في شى ء من الصفات بوجه من الوجوه فهو متعال من ان يحمده الحامدون و يصفه الواصفون كما يليق به

الْعَظِيمُ (٢٥٥) المستحقى بالاضافة اليه كل ما سواه- و لما كانت هذه الاية خالصة في مباحث الذات و الصفات دالة على كونه تعالى هو المتوحد بالوجود المتأصل المتصف بصفات الكمال من الحيوة و ما يستتبعه من العلم و القدرة و الارادة و السمع و البصر و الكلام المفيض للوجود و التقوم لكل ما سواه بحيث يكون قيام كل ما سواه به تعالى لا كقيام العرض بالعين كما يتوهم من كلام بعض الأكابر حيث قال العالم اعراض مجتمعة في عين واحد بل على نحو لا يسعه مجال الخيال و اقرب العبارات التي يعبر بها ذلك القيام انه تعالى اقرب إلينا من حبل الوريد المنزه عن التحيز و الحلول و المبرا عن التغير و الفتور مالك الملك و الملكوت ذو البطش الشديد الذي لا يطاق انتقامه الا بشفاعة من اذن له عالم بالأشياء علما محيطا بالاحاطة التامة بكنه كل جلى و خفى متوحدا بعلومه لا يعلم أحد شيئا منها الا بتعليمه واسع الملك و القدرة يتجلى على بعض مخلوقاته تجليا لا ينافى علو تنزيهه لا يؤده شاق و لا يغنيه شأن عن شأن متعال عما لا يليق به بل متعال من ان يصفه الواصفون عجز عن حمده من بيده لواء الحمد يوم القيامة حيث قال أنت كما أثنيت على نفسك عظيم يستحقر بإضافته كل شى ء و لا يحيط به علم عالم و لا تناسب عظمته عبادة عابد معترف بالقصور في عبادته اسبق السابقين حيث قال ما عبدناك حق عبادتك فلذلك لما قيل يا رسول اللّه اى اية أعظم قال اية الكرسي اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ- و لما قيل اى سورة أعظم قال قل هو اللّه أحد رواه الدارمي من حديث اسقع بن عبد الكلاعى-

و اخرج الحارث بن اسامة عن الحسن مرسلا أعظم اية اية الكرسي

و اخرج مسلم من حديث ابى بن كعب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «١» يا أبا المنذر اى اية من كتاب اللّه أعظم قلت اللّه لا اللّه الّا هو الحىّ القيّوم قال فضرب في صدرى و قال ليهنئك العلم ثم قال و الذي نفسى بيده ان لهذه الاية لسانا و شفتين يقدس الملك عند ساق العرش قلت لعل معنى هذا الحديث ان حملة العرش يقدسون اللّه بهذه الاية- و الظاهر ان يقال لكل شى ء صورة في المثال حتى القران و آياته و رمضان و غير ذلك

و اخرج ابن مردوية من حديث ابن مسعود- و ابن راهويه في مسنده من حديث عوف بن مالك- و احمد و مالك من حديث ابى ذر نحوه

و اخرج الترمذي و الحاكم من حديث ابى هريرة مرفوعا سيد اى القران اية الكرسي اخرج احمد من حديث انس اية الكرسي ربع القران و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قرا حين يصبح اية الكرسي و ايتين من حم تنزيل الكتب من اللّه العزيز العليم حفظ من يومه ذلك حتى يمسى فان قراها حين يمسى حفظ من ليلته تلك حتى يصبح رواه الترمذي و الدارمي و قال الترمذي هذا حديث غريب و عن ابى هريرة قال و كلنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بحفظ زكوة رمضان فاتى ات فجعل بحثوا من الطعام فاخذته و قلت لا رفعنك الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال انى محتاج و علىّ عيال ولى حاجة شديدة فخليت عنه فاصبحت فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول اللّه شكا حاجة شديدة و عيالا

(١) فى الأصل بغير النداء.

فرحمته فخليت سبيله قال اما انه قد كذبك و سيعود فعرفت انه سيعود لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه سيعود فرصدته فجاء يحثوا من الطعام فاخذته فقلت لا رفعنك الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال دعنى إلخ كما قال اولا و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما قال اولا ثم قال ابو هريرة في المرة الثالثة هذا اخر ثلاث مرات انك تزعم لا تعود ثم تعود قال دعنى أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها إذا أويت الى فراشك فاقرأ اية الكرسي اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الاية فانك لن تزال عليك من اللّه حافظا و لا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله- فاصبحت فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما فعل أسيرك البارحة قلت زعم انه يعلمنى كلمات ينفعنى اللّه بها قال اما انه صدقك و هو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال قلت لا قال ذاك شيطان رواه البخاري-

و اخرج النسائي و ابن حبان و الدارقطني من حديث ابى امامة و البيهقي في شعب الايمان من حديث الصلصال الديهمى و من حديث على بن ابى طالب عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من قرا اية الكرسي دبر كل صلوة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت و في رواية من قراها حين يأخذ مضجعه امنه اللّه على داره و دار جارّه و اهل دويرات حوله

و اخرج البيهقي في شعب الايمان من حديث انس مرفوعا من قرا اية الكرسي في دبر كل صلوة مكتوبة حفظه اللّه الى الصلاة الاخرى و لا يحافظ الا نبى او صديق او شهيد و اللّه اعلم «١»- روى ابو داود و النسائي و ابن حبان عن ابن عباس قال كانت المرأة تكون مقلّاة فتجعل في نفسها ان عاش لها ولدان تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فانزل اللّه تعالى.

(١)

و اخرج الدينوري في المجالس عن الحسن ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان جبرئيل أتاني فقال ان عفر يتامن الجن يكيدك فاذا أويت الى فراشك فاقرأ اية الكرسي و في الفردوس من حديث ابى قتادة من قرا اية الكرسي عند الكرب أعانه اللّه عن ابن عمران عمر بن الخطاب خرج ذات يوم الى الناس فقال أيكم يخبر لى بأعظم اية في القران- و أعدلها- و اخوفها- و ارجاعا فسكت القوم فقال ابن مسعود سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول أعظم اية في القران اللّه لا اللّه الّا هو الحىّ القيّوم- و اعدل اية في القران انّ اللّه يأمر بالعدل و الإحسان الاية- و أخوف اية فى القران فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره و ارجا اية في القران قل يعبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم الاية- منه برد اللّه مضجعه.

٢٥٦

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد خير أصحابكم فان اختاروكم فمنكم و ان اختاروهم فاجلوهم معهم-

و قال مجاهد كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فقال «٢» الذين كانوا المسترضعين فيهم لنذهبن معهم او ليدينن بدينهم فمنعهم أهلهم فنزلت-

و اخرج ابن جرير من طريق سعيد او عكرمة عن ابن عباس قال نزلت في رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان و كان هو مسلما فقال للنبى صلى اللّه عليه و سلم الا استكرههما فانهما قد أبيا الا النصرانية فانزل اللّه تعالى لا اكراه في الدّين يعنى لا يتصور الإكراه في ان يؤمن أحد إذ الإكراه الزام الغير فعلا لا يرضى به الفاعل و ذالا يتصور الا فى افعال الجوارح و اما الايمان فهو عقد القلب و انقياده لا يوجد بالإكراه- او المعنى لا تكرهوا في الدين فهو اخبار بمعنى النهى- و وجه المنع اما ما ذكرنا انه لا يوجد الايمان بالإكراه فلا فائدة فيه

(٢) فى الأصل فقال المسترضعين-.

و اما لان إيجاب الايمان و سائر العبادات انما هو للابتلاء قال اللّه تعالى ليبلوكم ايّكم احسن عملا و المعتبر فيها الإخلاص قال اللّه تعالى و اعبدوا اللّه مخلصين له الدّين و الإكراه ينافى الابتلاء و الإخلاص- فقيل هذا الحكم بعدم الإكراه خاص باهل الكتاب لنزوله فيما ذكرنا من شأن الأنصار كان أبناؤهم هودا او نصارى-

قلت خصوص المورد لا يقتضى تخصيص النص و هو عام-

و قيل هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى قاتلوا المشركين كافّة- و جاهد الكفّار و المنفقين

قال البغوي هو قول ابن مسعود قلت لا يتصور النسخ الا بعد التعارض و لا تعارض فان الأمر بالقتال و الجهاد ليس لاجل الإكراه على الدين بل لدفع الفساد من الأرض فان الكفار يفسدون في الأرض و يصدون عباد اللّه عن الهدى و العبادة فكان قتلهم كقتل الحية و العقرب و الكلب العقور بل أهم من ذلك و من ثم جعل اللّه تعالى غاية قتلهم إعطاء الجزية حيث قال حتّى يعطوا الجزية عن يدوّهم صغرون- و لاجل هذا نهى النبي صلى اللّه عليه و سلم عن قتل الولدان و النساء و المشائخ و الرهبان و العميان و الزمنا الذين لا يتصور منهم الفساد في الأرض و كيف يقال بالنسخ مع ان الإكراه في الدين لا يتصور و لا يفيد كما ذكرنا

قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يعنى و ضح الأمر و دلت الدلائل العقلية و المعجزات النبوية على ان الايمان رشد يوصل الى السعادة الابديّة و الكفر غىّ يؤدى الى الشقاوة السرمدية فتم حجة اللّه على الخلق و زال عذرهم و صح ابتلاؤهم و لا حاجة الى إكراههم-

و

قال البيضاوي في تفسير الاية ان الإكراه الزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا فلا اكراه في الدين- إذ قد تبيّن الرّشد من الغىّ و العاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه الى الايمان طلبا للفوز بالنجاة و السعادة و لم يحتج الى الإكراه و الإلجاء و هذا التقدير لو تم لزم ان يكون كل عاقل مؤمنا طوعا و لو أريد بالعاقل من له عقل سليم و تم معرفته فذا لا ينفى الإكراه من الكفار فان عقلهم غير سليم و لذلك لم يبادروا

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فعلوت من الطغيان قلب عينه و لامه او فاعول منه حذف لامه و زيدت التاء بدلا من اللام و المراد به كل ما عبد من دون اللّه او ما صد عن عبادة اللّه من شياطين الجن و الانس

وَ يُؤْمِنْ بِاللّه كما ارشد به الرسول فان الايمان باللّه تعالى كما ينبغى لا يتاتى الا بعد تصديق الرسول و الاهتداء به

فَقَدِ اسْتَمْسَكَ اى طلب الإمساك من نفسه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى من الحبل الوثيق و هى مستعارة لمتمسك الحق

لَا انْفِصامَ لَها اى لا «١» انقطاع

وَ اللّه سَمِيعٌ لدعائك إياهم و لا قوالك و أقوالهم

عَلِيمٌ (٢٥٦) بحرصك إياهم و بنيات كل حثّ على تصحيح الأعمال و النيات و تهديد على الكفر و النفاق.

(١) عن ابى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقتدوا بالذين من بعدي ابى بكر و عمر فانهما حبل اللّه الممدود فمن تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها- منه رحمه اللّه.

٢٥٧

اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا محبهم و متولى أمرهم و المراد به من أراد إيمانه

يُخْرِجُهُمْ بهدايته و توفيقه مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الجهل و اتباع الهوى و قبول الوساوس و الشبه المؤدية الى الكفر

إِلَى النُّورِ الى الهدى الموصل الى الايمان- قال الواقدي كل ما في القران من الظلمة و النور فالمراد به الكفر و الايمان غير ما في الانعام جعل الظّلمت و النّور فانه الليل و النهار- و هذه الاية تدل على ان الايمان امر وهبى و الجملة خبر بعد خبرا و حال من المستكن في الخبر او من الموصول او منهما او استيناف مبيّن او مقرد للولاية

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يعنى شياطين الجن و الانس منهم كعب بن الأشرف و حيى بن اخطب و غيرهما- او المضلات من الهوى و الشياطين و غيرهم فهؤلاء متولى أمورهم و محبيهم فى زعمهم و إلا ففي الحقيقة هم أعداؤهم

يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ الذي هو في اصل الفطرة كما في حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه متفق عليه

و اخرج ابن جرير عن عبدة بن ابى لبابة قال هم الذين كانوا أمنوا بعيسى فلما جاءهم محمد صلى اللّه عليه و سلم كفروا به

إِلَى الظُّلُماتِ اى الشكوك و الشبهات و الانهماك في الشهوات و فساد الاستعداد الموجب الى الكفر- و اسناد الإخراج الى الطاغوت باعتبار السبب و الكسب لا يأبى تعلق قدرته تعالى و إرادته به- و الطاغوت يكون مذكرا و مؤنثا و واحدا و جمعا قال اللّه تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ- و قال و الّذين اجتنبوا الطاغوت ان يعبدوها- اخرج ابن جرير عن مجاهد قال كان قوم آمنوا بعيسى و قوم كفروا به فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و سلم أمن به الذين كفروا بعيسى و كفر به الذين آمنوا بعيسى فانزل اللّه تعالى هذه الاية

و اخرج ابن المنذر و الطبراني في الكبير عن ابن عباس انها نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما بعث محمد كفروا به و اللّه اعلم

أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) وعيد و تحذير- قيل عدم مقابلته بوعد المؤمنين لتعظيم شأنهم- و الاولى ان يقال ان قوله تعالى اللّه ولىّ الّذين أمنوا تضمن كل ما يتصور من الوعد-.

٢٥٨

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ تعجيب من محاجة نمرود و حماقته

قال البغوي هو أول من وضع التاج على رأسه و تجبر في الأرض و ادّعى الربوبية

أَنْ اى لان آتاهُ اللّه الْمُلْكَ فطغى اى كان محاجته لاجل بطر الملك و طغيانه- او أسند المحاجة الى إيتاء الملك على طريقة العكس يعنى كان الواجب عليه الشكر فعكس كما يقال عاديتنى لانى أحسنت إليك- او المعنى وقت ان أتى اللّه الملك و هو حجة على منع إيتاء الملك الكافر من المعتزلة

قال البغوي ملك الأرض اربعة مؤمنان و كافران سليمان و ذو القرنين و نمرود و بخت نصر قيل لما كسر ابراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه فقال من ربك الذي تدعونا اليه- و قيل كان هذا بعد القائه في النار قحط الناس فكانوا يمتارون من عند نمرود فكان نمرود إذا أتاه رجل ساله من ربك فان قال أنت باع منه الطعام فاتاه ابراهيم فقال من ربك قال ربّى الّذى يحيى و يميت فحاجه و لم يعطه شيئا فرجع ابراهيم فمر على كثيب من رمل فاخذ منه تطيبا لقلوب اهله فلما اتى اهله و وضع متاعه نام- فقامت امرأته الى متاعه ففتحته فاذا هو أجود طعام فصنعت له منه فقرّبت اليه فقال من اين هذا؟ قالت «١» من الطعام الذي جئت به فحمد اللّه تعالى

إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف لقال انا احيى و أميت- و هو بيان لحاج- او هو استيناف في جواب سوال مقدر كانه قيل كيف حاج او الظرف متعلق لحاجّ و قال بيان له او استيناف- او الظرف بدل من ان آتاه اللّه الملك ان كان المصدر مقدرا بالوقت

رَبِّيَ قرا حمزة بإسكان الياء وصلا و وقفا و كذا في رَبِّيَ الْفَواحِشَ- و عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ- و قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ و آتانِيَ الْكِتابَ- و مَسَّنِيَ الضُّرُّ- و عِبادِيَ الصَّالِحُونَ- و عِبادِيَ الشَّكُورُ- و مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ- و إِنْ أَرادَنِيَ «٢» اللّه و إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّه- و وافقه ابن عامر و

(١) فى الأصل قال- ٢ ابو محمد.

(٢) فى الأصل إرادتي-.

الكسائي في لعبادى الّذين أمنوا- و ابن عامر في آياتي الّذين و و فتح الآخرون كلها

الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ جواب لقول نمرود من ربك الذي تدعونا اليه استدل ابراهيم عليه السلام على وجود الصانع الواجب الوجود بالآثار الدالة عليه من الاحياء

و الاماتة المشهودتين في عالم الإمكان- و نمرود لعله كان دهريا غبيا يزعم الحوادث بالاتفاق كما يزعمه الدهريون- و يزعم ان ذوى العقول من الممكنات خالقة لافعالها كما يزعمه المعتزلة و الروافض- فدعا برجلين فقتل أحدهما و استحيى الاخر

و قالَ نمرود أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قرا اهل المدينة انا بإثبات الالف و المد في الوصل إذا تلقتها همزة متحركة- و الباقون بحذف الالف و وقفوا جميعا بالألف فلما راى ابراهيم غباوته عن الاستدلال بالحوادث المعتادة

قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ يعنى و هو قادر على ان يأتيها من المغرب او كيف يشاء

فَأْتِ بِها أنت مِنَ الْمَغْرِبِ ان كنت تزعم انك قادر على ما تفعل و تنكر الواجب فان الممكنات كلها سواء في الخلق

فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ اى تحير و دهش و انقطعت حجته- لما راى انه لو سال ابراهيم ربه فربه يأتى بالشمس من المغرب كما جعل النار عليه بردا و سلاما

وَ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) و ان يروا كلّ اية حتّى يروا العذاب الأليم.

٢٥٩

او كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ يعنى بيت المقدس او دير هرقل كما سنذكر القصة و الكاف زائدة و الموصول معطوف على الذي حاج- و الذي مر هو آدميا و هو الخضر عليه السلام على ما رواه محمد بن إسحاق-

و اخرج الحاكم عن علىّ و إسحاق بن بشير عن عبد اللّه بن سلام و ابن عباس انه عزيز-

و قال مجاهد هو كافر شك في البعث نظرا الى نظمه مع نمرود و هذا ليس بشى ء فان الكافر لا يستحق تلك الكرامة و لو قيل انه أمن حين راى الاحياء بعد الاماتة

قلنا هذا ليس إيمانا بالغيب فلا يعتد به و نظم القصتين معا انما هو لاشتراكهما في التعجيب بلا دعاء الربوبية فمن يرى عجزه في كل حين و زمان اعجب من الحيوة بعد الممات بإذن اللّه تعالى فان ذلك شائع كما ترى تصير النطفة رجلا و البذر شجرا و نحو ذلك

وَ هِيَ خاوِيَةٌ خالية ساقطة حيطانها عَلى عُرُوشِها يعنى سقطت سقوفها ثم وقعت حيطانها عليها

قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ القرية اللّه بَعْدَ مَوْتِها قال ذلك على الطلب و التمني في إحيائها مع استبعادها عادة و هضما لنفسه عن مرتبة الاستجابة- و كان القصة على ما روى محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه ان اللّه تعالى بعث ارميا الى ناشية بن اموص ملك بنى إسرائيل ليسدد امره و كان ملكا صالحا يأتيه ارميا باحكام اللّه تعالى فعظمت المعاصي في بنى إسرائيل فاوحى اللّه تعالى الى ارميا لا قبضن عليهم فتنة و لا سلطنّ عليهم جبارا و لاهلكن أكثرهم فصاح ارميا و بكى فاوحى اللّه تعالى اليه ان لا اهلكنهم ما لم تأذن فاستبشر فلبثوا ثلاث سنين و ما زادوا لا معصية و طغيانا فلما بلغ الاجل و قلّ الوحى دعاهم الملك الى التوبة فلم يفعلوا فسار بخت نصر من بابل الى بيت المقدس في جنود لا قبل لها ففزع ملك بنى إسرائيل فقال ارميا انى واثق بما وعدني اللّه فبعث اللّه تعالى الى ارميا ملكا في صورة رجل من بنى إسرائيل فقال يا نبى اللّه استفتيك في أهلي لم ات إليهم الا حسنا و لا يزيدون بي الا اسخاطا قال احسن و صلهم و البشر بخير ثم بعد ايام جاء اليه الملك في صورة ذلك الرجل فقال مثل مقاله و أجيب مثل ما أجيب اولا ثم بعد زمان لما حاصر بخت نصر بيت المقدس و ارميا قاعد على جداره و ملك بنى إسرائيل يقول اين ما وعدك اللّه و ارميا واثق مستبشر بالوعد إذ جاءه الملك في صورة ذلك الرجل و شكى اهله اليه فقال ارميا الم يأن ان ينزجروا من الذي هم فيه فقال له الملك يا نبى اللّه كل شى ء كان يصيبنى قبل ذلك اليوم صبرت عليه و هم اليوم على عمل عظيم من سخط اللّه فغضبت للّه و أسئلك باللّه الذي بعثك بالحق ان تدعو اللّه عليهم ليهلكنهم فقال ارميا يا ملك السموات و الأرض ان كانوا على عمل لا ترضاه فاهلكهم فارسل اللّه صاعقة فالتهب مكان القربان و خسف سبعة أبواب فقال ارميا يا رب اين ميعادك فنودى انه ما أصابهم الا بدعائك فعلم ان ذلك السائل كان رسول ربه فلحق ارميا بالوحوش و خرب بخت نصر بيت المقدس و وطى الشام و قتل بنى إسرائيل و سباهم- فكانت هذه الوقعة الاولى التي أنزلها اللّه ببني اسراءيل بظلمهم فلما ولى بخت نصر عنهم راجعا الى بابل اقبل ارميا على حمار له معه عصير عنب في ركود و سلة تين حتى جاء ايليا فلما وقف عليها و راى خرابها قال انّى يحى هذه اللّه بعد موتها و انى في موضع النصب على الظرف بمعنى متى- او على الحال بمعنى كيف- ثم ربط ارميا حماره بحبل و القى اللّه عليه النوم

فَأَماتَهُ اللّه ضحى أخرجه سعيد بن منصور عن الحسن و ابن ابى حاتم عن قتادة فلبث ميتا

مِائَةَ عامٍ و حماره و مصيره و تينه عنده و أعمى اللّه عنه العيون فلم يره أحد فلما مضى من موته سبعين سنة أرسل اللّه ملكا الى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال ان اللّه يأمرك ان تعمر بيت المقدس و ايليا حتى يعودا عمر ما كان فجعل يعمرها- و أهلك اللّه بخت نصر ببعوضة دخل دماغه و نجى اللّه من بقي من بنى إسرائيل و لم يمت ببابل و ردهم جميعا الى بيت المقدس و نواحيه و عمروها ثلاثين سنة حتى عادوا على احسن ما كانوا عليه فاحيا اللّه ارميا

ثُمَّ بَعَثَهُ و كان بعثه قبل غيبوبة الشمس فبعث اللّه اليه ملكا

قالَ الملك لا رميا

كَمْ لَبِثْتَ فلما زعم ارميا ان الشمس غربت من ذلك اليوم الذي نام فيه

قالَ لَبِثْتُ يَوْماً ثم التفت فراى بقية من الشمس فقال او

بَعْضَ يَوْمٍ قالَ له الملك بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعنى التين

وَ شَرابِكَ يعنى العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ اى لم يتغير فكان التين كانّه قطف من ساعته و العصير كانّه عصر من ساعته قال الكسائي كانّه لم يأت عليه السنون قرا حمزة و الكسائي و يعقوب لم يتسنّ بحذف الهاء في الوصل و إثباته في الوقف و كذلك فبهديهم اقتد و قر الآخرون بالهاء و صلا و وقفا فمن أسقط الهاء في الوصل جعلها صلة زائدة و من أثبتها جعلها اصلية «١» قالوا اشتقاقه من السنة و الهاء اصلية ان قدر لام السنة هاء أصله سنهة بدليل سنيهة و الفعل منه مسانهة- و هاء سكت ان قدر لامه واوا فابدلت الفا لتحركها و انفتاح ما قبلها فحذف الالف للجزم و زيدت الهاء في الوقف- و قيل أصله لم يتسنّن من الحماء المسنون فابدلت النون الثالثة حرف علة كما فى قوله تعالى دسّها- و أفرد الضمير لان الطعام و الشراب كالجنس الواحد

وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ فنظر قيل فراه قائما واقفا كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم و لم يشرب مائة عام و نظر الى حبله في عنقه جديدة لم يتغير- و قيل راى حماره قد هلك و بليت عظامه فبعث اللّه ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل و جبل ذهبت بها الطيور و السباع فاجتمعت-

قلت و الظاهر هو القول الثاني يدل عليه تكرار كلمة انظر و لو كان الحمار باقيا على حاله كالطعام و الشراب لكان المناسب ان يقال فانظر الى طعامك و شرابك و حمارك

وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ على البعث بعد الموت قيل الواو مقحمة و قال الفراء دخلت الواو فيه دلالة على انها متعلق بفعل مقدر اى و فعلنا ذلك لنجعلك اية

وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ اى عظام الحمار على تقدير كونه هالكا و به قال اكثر المفسرين- و قال قوم أراد به عظام نفسه أحيا اللّه عينه و رأسه و سائر جسده ميت صار عظاما بيضاء متفرقا و يردّ

(١) اما عند القراء فهى زائدة اجماعا زيدت لاظهار فتحة النون- ابو محمد عفا اللّه عنه.

هذا القول قوله صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه حرم على الأرض أجساد الأنبياء

كَيْفَ نُنْشِزُها قرا اهل الحجاز و البصرة ننشرها بالراء المهملة معناه نحييها قال اللّه تعالى

ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ- و اليه النّشور-

و قرا الآخرون بالزاء المعجمة اى نرفعها من الأرض و نركب بعضها على بعض- و كيف منصوب بنشز و الجملة حال من العظام

ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فلما كسى العظام لحما و دما فصار الرجل حيا او صار الحمار حمارا لا روح فيه فنفخ فيه الملك فقام الحمار و نهق بإذن اللّه تعالى- و في الاية تقديم و تأخير و تقديره قال بل لبثت مائة عام امتناك ثم أحيينا فانظر الى طعامك و شرابك لم يتسنّه و انظر الى حمارك و انظر الى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما و فعلنا ذلك لنجعلك اية للنّاس

فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ما فعل به قالَ الرجل

أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) قرا الجمهور على صيغة المضارع للمتكلم

و قرا حمزة و الكسائي على صيغة الأمر و حينئذ يكون القائل الملك او اللّه سبحانه او الرجل خاطب به نفسه و قيل ان بخت نصر لمّا خرّب بيت المقدس و قدم بابل بسبى بنى إسرائيل كان فيهم عزيز و دانيال و جماعة من ال داود فلما نجا عزيز من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير أحدا و عامة شجرها حامل فاكل من الفاكهة و اعتصر من العنب فشرب منه و جعل فضل الفاكهة في سلّة و فضل العصير في زق فلما راى خراب القرية و هلاك أهلها قال انّى يحى هذه اللّه بعد موتها الى اخر الحديث قال قتادة عن كعب و الضحاك عن ابن عباس و السدّى عن مجاهد عن ابن عباس و ابن عساكر عنه لما أحيا اللّه عزيرا بعد ما أماته مائة عام ركب حماره و اتى محلته فانكر الناس و منازلهم و أنكره الناس فاتى منزله على وهم فاذا بعجوز عمياء مقعدة أتت عليها مائة و عشرون سنة كانت امة لعزيز خرج عزير عنهم و هى بنت عشرين سنة فقال لها عزيز هذا منزل عزيز قالت نعم و قالت ما رايت أحدا منذ كذا يذكر عزيرا قال فانى عزيز أماتني اللّه مائة عام ثم بعثني قالت فان عزيزا كان رجلا مستجابا فان كنت عزيزا فادع اللّه ان يردّ عليّ بصرى فدعا ربه و مسح يده على عينيها فصحتا و أخذ بيدها فقال قومى بإذن اللّه فقامت صحيحة فنظرته فعرفته فقالت اشهد انك عزيز فانطلقت الى بنى إسرائيل و هم في مجالسهم و ابن لعزيز شيخ ابن مائة سنة و أولاد بنيه شيوخ و عجائز و هو اسود الرأس و اللحية فنادت هذا عزير فكذبوها فقالت انا فلانة مولاتكم دعالى ربه فردّ على بصرى و اطلق رجلى و زعم ان اللّه أماته مائة عام ثم بعثه فنهض الناس فقال ابنه كان لابى شأمة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فاذا هو عزيز و قال السدى و الكلبي لما رجع عزيز الى قومه و قد احرق بخت نصر التورية بكى عزيز على التورية فاتاه ملك باناء فيه ماء فسقاه فمثلت التورية في صدره فرجع الى بنى إسرائيل و قد علمه اللّه التورية و بعثه نبيا فقال انا عزيز فلم يصدقوه فاملا عليهم التورية من ظهر قلبه قالوا ما جعل اللّه التورية فى قلب رجل بعد ما ذهبت الا انه ابنه فقالوا عزيز ابن اللّه و سيأتى القصة في سورة التوبة ان شاء اللّه تعالى.

٢٦٠

وَ اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قال الحسن و قتادة و عطاء الخراسانى و ابن جريج كان سبب هذا السؤال انه كانت جيفة حمار بالساحل فكان إذا مدّ البحر أكلت منها دواب البحر و إذا جزر أكلت السباع و الطيور فراها ابراهيم و تعجب و قال يا رب قد علمت انك تجمعها من البحر و البر فارنى كيف تحييها لاعاين فازداد يقينا- و قيل لما قال نمرود انا أحيي و أميت و قتل أحد الرجلين و اطلق الاخر قال ابراهيم ان اللّه يحيى بعد ما يميت فقال له نمرود أنت عاينته فلم يقدر ان يقول نعم فحينئذ سال ربه ان يريد احياء الموتى حتى إذا قيل له بعد ذلك أنت عاينته يقول نعم و قال سعيد بن جبير لما اتخذ اللّه ابراهيم خليلا جاء ملك الموت بإذن اللّه الى ابراهيم ليبشره بذلك فبشره فقال ابراهيم ما علامة ذلك قال ان اللّه يجيب دعاءك و يحيى الموتى بسوالك فحينئذ سال ابراهيم ذلك

قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ بانى قادر على الاحياء باعادة التركيب بعد الاماتة و انما قال ذلك و قد علم انه أقوى الناس في الايمان ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون

قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و يزيد بصيرتى و سكون قلبى بضم العيان الى الوحى و الاستدلال او ليطمئن قلبى انك اتخذتني خليلا و تجيبنى إذا دعوتك عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحن أحق بالشك من ابراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى الاية و رحم اللّه لوطا لقد كان يأوي الى ركن شديد و لو لبثت السجن طول ما لبث يوسف لاجبت الداعي متفق عليه و للعلماء في هذا المقام مقال فقال إسماعيل بن يحيى المزني لم يشك النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا ابراهيم في ان اللّه يحيى الموتى و انما شكافى انه هل يجيبهما اللّه تعالى الى ما سالاه و هذا القول لا يصاعده قوله تعالى أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-

و قال الامام ابو سليمان الخطانى ليس في الحديث اعتراف بالشك على نفسه و لا على ابراهيم بل فيه نفى الشك عنهما يعنى إذا لم أشك انا فابراهيم اولى بان لا يشك و انما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ذلك تواضعا و هضما لنفسه و كذلك قوله لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لاجبت الداعي و فيه اعلام بان المسألة من ابراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن لاجل طلب زيادة العلم بالعيان فان العيان يفيد من المعرفة و الطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس الخبر كالمعائنة ان اللّه اخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا القى الألواح فانكسرت رواه احمد و الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس و روى الطبراني عن انس و الخطيب عن ابى هريرة بسند حسن و ليس فيه ذكر موسى- و قيل لما نزلت هذه الاية قال قوم شك ابراهيم و لم يشك نبينا صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تواضعا و تقديما لابراهيم على نفسه-

قلت هذا القول و هذا التأويل في الحديث ضعيف لان نفى الشك عن ابراهيم ثبت بنفس كلام اللّه تعالى حيث قال بلى و لكن ليطمئن قلبى فكيف يقال شك ابراهيم و ايّ حاجة الى دفع ذلك التوهم- و التحقيق عندى ما قالت الصوفية العلية ان لاهل اللّه تعالى في السلوك مقامان الاول مقام العروج و هو الانخلاع عن الصفات البشرية و التلبس بالصفات الملكية و الصفات القدسية و يحكى عن هذا المقام قوله صلى اللّه عليه و سلم حين نهى عن صوم الوصال لست كهيئتكم أبيت عند ربى يطعمنى و يسقينى و يقال فى اصطلاحهم بهذا السير السير الى اللّه و السير في اللّه- و الثاني مقام النزول و هو التلبس بالصفات البشرية ثانيا بعد الانخلاع التام و هذا المقام مقام التكميل و دعوة الخلق الى اللّه تعالى و يقال لهذا السير السير من اللّه باللّه و الحكمة في النزول انه لا بد بين المفيض و المستفيض من المناسبة حتى يتيسر به الاستفاضة على طريقة الصبغ و الانصباغ و لاجل هذا أرسل الرسل من البشر لدعوة البشر و لم يتصور للعوام أخذ الفيض من اللّه تعالى لفقد المناسبة و هو تعالى غنى عن العالمين و لا من الملائكة قال اللّه تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا و قال وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ و كلّما كان لرجل نزوله أتم كان دعوته أشمل و أكمل كما ان الرامي إذا كان في أعلى مكان من المرمى اليه ما أصاب رميته غالبا قال الشيخ الأكبر محى الدين ابن العربي قدس سره أنكروا دعوة نوح لما كان من الفرقان و أجابوا دعوة محمد صلى اللّه عليه و سلم لما كان من القران يعنى لما كانت استعدادات العوام في غاية الانخفاض و نوح عليه السلام كان في مقام العروج لم يتأثر العوام منه لاجل الفراق بينهما و لما نزل محمد صلى اللّه عليه و سلم غاية النزول أجابوا دعوته لحصول مقارنة- إذ سمعت هذا فاعلم ان العارف تام المعرفة قد يظهر عليه اثار النزول فحينئذ يكون على هيئة العوام متشبثا بالأسباب- و يحكى عن هذا المقام انه صلى اللّه عليه و سلم لبس في الحرب درعا من حديد فوق درع و حفر الخندق حول المدينة و في هذا المقام يتشبث العارف لطلب زيادة اليقين و اطمينان القلب بتحتم الاستدلال و نحو ذلك و عن هذا المقام قصة ابراهيم عليه السلام هذه و قصة لوط حين قال لو انّ لى قوّة «١» او أوى الى ركن شديد- و عبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلب زيادة اليقين بالشك مجازا للمشابهة الصورية و اخبر عن مقام نزوله بقوله نحن أحق بالشك من ابراهيم بمعنى ان نزولنا أتم من نزول ابراهيم فنحن اولى بطلب زيادة اليقين منه و لا شك ان نزوله عليه السلام كان أتم من نزول ابراهيم يدل عليه كونه مبعوثا الى كافة الأنام كما ان عروجه صلى اللّه عليه و سلم كان فوق كل عروج فكان قاب قوسين او ادنى فهو المحدد لجهات الكمال عليه و على اللّه الصلاة و السلام و معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم رحم اللّه لوطا لقد كان يأوى الى ركن شديد انه كان في مقام النزول فهذا مدح له عليه السلام و قوله صلى اللّه عليه و سلم لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لا جبت الداعي ايضا يدل على ان نزول محمد صلى اللّه عليه و سلم كان أتم من نزول يوسف عليه السلام و لو كان نزول يوسف مثل نزوله عليه السلام لاجاب الداعي و اللّه اعلم-

قال اللّه تعالى فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الطير مصدر اسمى

(١) فى القران بكم قوّة- ابو محمد عفا اللّه عنه.

به او جمع طائر كصحب و صاحب قال مجاهد و عطاء بن «٢» رباح و ابن جريج أخذ طاء و ساوديكا و حمامة و غرابا و حكى عن ابن عباس تسر بدل الحمامة و قال عطاء الخراسانى اوحى اللّه اليه انّ خذ بطة خضراء و غرابا اسود و حمامة بيضاء و ديكا احمر قلت لعله امر بأخذ اربعة من الطير لان الإنسان و كذا سائر الحيوانات مركب من الاخلاط الاربعة المتولدة من العناصر الاربعة فالديك الأحمر يحكى عن الدم و الحمامة البيضاء عن البلغم و الغراب الأسود عن السوداء و البط الخضراء عن الصفراء-

(٢) الصحيح ابن ابى رباح- ابو محمد عفا اللّه عنه [.....].

فاحياؤها بعد الاماتة دليل على احياء اجزاء الإنسان بعد الاماتة-

قال البيضاوي فيه ايماء الى ان احياء النفس بالحياة الابدية انما يتاتى باماتة حب الشهوات و الزخارف الذي هو صفة الطاووس و الصولة المشهور بها الديك و خسة النفس و بعد الأمل المتصف بها الغراب و الترفع و المسارعة الى الهوى الموسوم بها الحمام-

قلت لما كان ابراهيم عليه السلام في مقام النزول و الدعوة علمه اللّه تعالى طريق الإرشاد من إعطاء المريد الفناء و البقاء فاخذها و قطعها ينبى ء عن السلوك و الفناء و دعاؤها بإذن اللّه تعالى ينبى ء عن الجذب الى اللّه و البقاء و هذه كلمات من اهل الاعتبار لا مدخل لها في التفسير و اللّه اعلم

فَصُرْهُنَّ قرا ابو جعفر و حمزة بكسر الصاد اى قطعهن و مزقهن من صار يصير صيرا إذا قطع قال الفراء هو مقلوب من صرى يصرى صريا

و قرا الآخرون بضم الصاد و معناه املهن يقال صرت اصتورا إذا أملته و قال عطاء معناه اجمعهن يقال صار يصور إذا جمع

إِلَيْكَ متعلق بصرهنّ على قراءة الجمهور و متعلق بمحذوف حال من المفعول على قراءة حمزة اى منضما إليك

ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً قرا عاصم برواية ابى بكر بضم الزاء و الهمز حيث وقع

و قرا ابو جعفر بتشديد الزاء بلا همز و الآخرون بإسكان الزاء و الهمزة- اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس امر اللّه تعالى ابراهيم ان يذبح تلك الطيور و ينتف ريشها و يخلطها و دماءها و لحومها بعضها ببعض ثم امره ان يجعل اجزاءها على الجبال فجزاها سبعة اجزاء على سبعة اجبل و امسك رءوسهن عنده و كذا اخرج ابن جريح و السدى و روى ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس و قتادة انه جعل كل طائر اربعة اجزاء على كل جبل ربعا من كل طائر

ثُمَّ ادْعُهُنَّ قل لهم تعالين بإذن اللّه يَأْتِينَكَ سَعْياً ساعيات مسرعات طيرانا او مشيا فدعاهن فجعل كل قطرة من دم طائر يصير الى قطرة اخرى و كل ريشة يصير الى الريشة الاخرى و كل عظم و بضعة الى اخرى و ابراهيم ينظر حتى تمت كل جثة بغير رأس ثم اقبلن الى رءوسهن فصرن كما كن بإذن اللّه تعالى

وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ لا يعجزه شي ء عما يريد حَكِيمٌ (٢٦٠) ذو حكمة بالغة في كل ما يفعل و يذر- ذكر اللّه سبحانه في القصة السابقة أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و ذكره هاهنا اعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ يدل على انه قوله أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها كان على سبيل التعجب و الاستبعاد من حيث كونه على خلاف العادة و قول ابراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى كان مبنيا على حال لطيف يقتضيه الحكمة و اللّه اعلم-

قال البيضاوي كفى لك شاهدا على فضل ابراهيم و يمن الضراعة في الدعاء و حسن الأدب في السؤال انه تعالى أراه ما أراد في الحال على أيسر الوجوه و ارى عزيزا بعد ما أماته مائة عام.

٢٦١

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه الجهاد او غير ذلك من أبواب الخير كَمَثَلِ حَبَّةٍ فيه تقدير المضاف اما في المبتدأ او في الخبر يعنى مثل نفقة الّذين ينفقون كمثل حبّة او مثلهم كمثل باذر حبّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أسند الإنبات الى الحبة مجازا لما كانت من الأسباب عادة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما يكون في الدخن و غير ذلك وَ اللّه يُضاعِفُ ما يشاء من الأضعاف لِمَنْ يَشاءُ من عباده في الدنيا و الاخرة وَ اللّه واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة عَلِيمٌ (٢٦١) بنيات المنفقين يجزى على حسب نياتهم

٢٦٢

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه

قال البغوي قال الكلبي جاء عبد الرحمن بن عوف باربعة آلاف درهم صدقة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال كانت عندى ثمانية آلاف فامسكت منها لنفسى و عيالى اربعة آلاف و اربعة آلاف اقرضتها ربى فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بارك اللّه فيما أمسكت و فيما أعطيت- و عثمان جهّز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها و أحلاسها فنزلت هذه الاية و قال قال عبد الرحمن ابن سمرة جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبي صلى اللّه عليه و سلم فرايت النبي صلى اللّه عليه و سلم يدخل فيها يده و يقلبها و يقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم فانزل اللّه تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه و روى احمد عن عبد الرحمن بن سمرة و ليس فيه ذكر نزول الاية

ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً ذكر كلمة ثم للتفاوت بين الانفاق و ترك المن و الأذى- و المن ان يعتد بإحسانه على من احسن اليه و الأذى ان يتطاول عليه او يقول الى كم تسئل و كم تؤذيني او يذكر إنفاقه عليه عند من لا يجب وقوفه

قال البغوي قال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم كان ابى يقول إذا أعطيت رجلا شيئا و رايت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) لعله لم يدخل الفاء فيه و قد تضمين المبتدأ معنى الشرط إيهاما بانهم اهل لذلك و ان لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا.

٢٦٣

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ كلام حسن و رد جميل على السائل قال الكلبي دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب و قال الضحاك نزل في إصلاح ذات البين وَ مَغْفِرَةٌ اى تجاوز عن السائل الملح بالرد الجميل و

قال البغوي اى يستر على السائل خلته و لا يهتك عنه ستره و قيل المراد به نيل مغفرة من اللّه بالرد الجميل- و قيل المراد مغفرة السائل المسئول عنه بان يعذره و يغتفر رده و قال الكلبي و الضحاك و المراد بالمغفرة التجاوز عن من ظلمه خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً خبر عنهما و انما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة وَ اللّه غَنِيٌّ عن انفاق بمن و إيذاء حَلِيمٌ (٢٦٣) عن معاجلة من يمن و يؤذى بالعقوبة-.

٢٦٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا أجور صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ على السائل و قال ابن عباس بالمن على اللّه وَ الْأَذى اى بكل واحد منهما عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يدخل الجنة منان و لا عاق- رواه النسائي و الدارمي كَالَّذِي الكاف في محل النصب على المصدر او الحال اى ابطالا كابطال الذي او مماثلين الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ منصوب على السببية او الحال او المصدرية اى لان يرى الناس او مرائيا او إنفاقا رياء وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ليس هذا قيدا لابطال الصدقة فان الصدقة يبطل بالرياء و ان كان المنفق مؤمنا باللّه و اليوم الاخر لكن ذكر هذا تنبيها على ان الانفاق رياء ليس من شأن المؤمن بل هو من سيرة المنافق فَمَثَلُهُ اى المرائى كَمَثَلِ صَفْوانٍ حجرا ملس قيل هو واحد جمعه صفى و صفى و قيل جمع واحده صفواته عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس نقيّا من التراب لا يَقْدِرُونَ الضمير راجع الى الموصول باعتبار المعنى فان المراد به الجنس او الجمع عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا اى لا يقدرون في الاخرة على الانتفاع بشي ء ممّا كسبوا في الدنيا وَ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) فيه تعريض بان الرياء و المن و الأذى من صفات الكفار لا ينبغى لمؤمن ارتكابه او المعنى انه من فعل من هذه الأمور شيئا فهو كافر لنعمة المنعم الحقيقي غير شاكر- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته و شركه- و في رواية فانا منه بري ء هو للذى عمله رواه مسلم- و عن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سمع سمع اللّه به و من يرائى يرائى اللّه به متفق عليه- و عن ابى سعيد بن ابى فضالة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا جمع اللّه الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله للّه أحدا فليطلب ثوابه من عند غير اللّه فان اللّه اغنى الشركاء عن الشرك رواه احمد- و عن معاذ بن جبل قال سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان يسار الرياء شرك الحديث رواه ابن ماجة- و عن شداد بن أوس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من صلى يرائى فقد أشرك و من صام يرائى فقد أشرك و من تصدق يرائى فقد أشرك رواه احمد- و عن محمود بن لبيد ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال انّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول اللّه و ما الشرك الأصغر قال الرياء رواه احمد و زاد البيهقي في شعب الايمان يقول اللّه لهم يوم يجازى العباد بأعمالهم اذهبوا الى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء او خيرا و عن شداد بن أوس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول اتخوّف على أمتي الشرك و الشهوة الخفية- قال قلت أ تشرك أمتك من بعدك قال نعم اما انهم لا يعبدون شمسا و لا قمرا و لا حجرا و لا وثنا و لكن يراءون بأعمالهم و الشهوة الخفية ان يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه رواه احمد و البيهقي و عن ابى هريرة ان أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد- فاتى به فعرّفه نعمته فعرفها فقال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت و لكنك قاتلت لان يقال جرى ء فقد

قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى القى في النار و رجل تعلم العلم و علمه

و قرا القران فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم و علمته و قرات فيك القرآن قال كذبت و لكنك تعلمت العلم ليقال انك عالم و قرات القران ليقال هو قارئ فقد قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى القى في النار و رجل وسّع اللّه عليه و أعطاه من اصناف المال كله فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب ان ينفق في سبيل اللّه الا أنفقت فيها لك قال كذبت و لكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل به ثم امر به فسحب على وجهه ثم القى في النار رواه مسلم و روى البغوي نحوه و في آخره ثم ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ركبتى فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق اللّه تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة-.

٢٦٥

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه اى لطلب رضائه وَ تَثْبِيتاً للاسلام و تصديقا بما وعده اللّه من الجزاء و احتسابا- و يحتمل ان يكون معناه تثبيتا للمال فان الباقي من المال ما ينفعه في الاخرة و ما سوى ذلك هالك عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ايّكم مال وارثه أحب اليه من ماله- قالوا يا رسول اللّه ما منا أحد الا ماله أحب اليه من مال وارثه قال فان ماله ما قدم و مال وارثه ما اخر- رواه البخاري و عن عائشة قالت انهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما بقي منها قالت ما بقي منها الا كتفها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقي كلها غير كتفها رواه الترمذي و صححه مِنْ أَنْفُسِهِمْ من للابتداء متعلق بالتثبيت يعنى تثبيت الايمان و التصديق او المال يبتدى من نفسه- او للتبعيض و يكون ظرفا مستقرا صفة لمفعول محذوف اى تثبيتا شيئا من أنفسهم على الايمان فان للنفس قوى بعضها مبدأ لبذل المال و بعضها مبدأ لبذل الروح و المال شقيق الروح فمن بذل المال لوجه اللّه فقد ثبّت بعض نفسه على الايمان و من بذل المال و الروح جميعا فقد ثبت كل نفسه عليه

قال البيضاوي فيه تنبيه على ان حكمة الانفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل و حب المال قلت و من ثم قال ابو حنيفة لا يجب الزكوة في مال الصبى حتى يؤديها الولي لان الحكمة فيها ابتلاء المكلف ببذل ما هو شقيق الروح ابتغاء مرضات اللّه تعالى و ذا لا يحصل بأداء الولي كَمَثَلِ جَنَّةٍ اى بستان بِرَبْوَةٍ قرا ابن عامر و عاصم هاهنا و الى ربوة في سورة المؤمنين بفتح الراء و الباقون بالضم و هما لغتان و هى المكان المرتفع المستوي الذي تجرى فيه الأنهار فلا يعلوه الماء و لا يعلوا عن الماء و انما قيد الجنة بهذه لان شجرها يكون احسن و ازكى أَصابَها وابِلٌ مطر عظيم القطر فَآتَتْ اعطت أُكُلَها قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بإسكان الكاف للتخفيف و الباقون بالضم يعنى ثمرتها ضِعْفَيْنِ نصبه على الحال اى مضاعفا و مثلى ما كانت تثمر بلا وابل فالمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج فى قوله تعالى زوجين اثنين و قيل اربعة أمثاله اى مضاعفا بتضعيفين فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أصابها او فاصابها طل أتت أكلها على قدر و على كلا التقديرين إصابة الوابل و عدمه لا تضيع تلك الجنة او المعنى فطل يكفيها لكرم منبتها و برودة هوائها- و الطل هو المطر صغير القطر- و معنى الاية اما بتقدير المضاف يعنى مثل نفقات الذين ينفقون كمثل جنة فكما ان تلك الجنة لا يضيع كذلك نفقات المؤمن لا يبطل بل اما ان ينضم اليه امور توجب تضاعف الاجر فحينئذ تضاعفت الأجود الى ما شاء اللّه تعالى او لا فحينئذ لا يبطل اصل العمل و يوجب الاجر- و اما بغير تقدير يعنى مثل المؤمن الذي ينفق كمثل جنة يعنى كما ان الجنة تثمر على حسب الوابل كذلك المؤمن المنفق يؤجر على حسب النفقة قل او كثر لا يضيع منها شي ء وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) هذه الجملة يتعلق بكلا الفريقين الذين يبطلون صدقاتهم بالمن و الأذى او ينفقون أموالهم رئاء الناس و الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللّه ففيه تحذير و ترغيب.

٢٦٦

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ الهمزة للانكار و هذه الاية مرتبطة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جعل النخيل و الأعناب بيانا للجنة مع ما فيها من سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما و كثرة منافعهما ثم ذكر ان فيها من كل الثمرات ليدل على عدم اقتصار الجنة عليهما وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ بحيث لا يقدر على الكسب و الواو للحال بمعنى و قد أصابه الكبر او للعطف حملا على المعنى بمعنى أ يود أحدكم لو كانت له جنة و أصابه الكبر وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ صغار او نساء لا يقدرون على الكسب و الواو للعطف على أصابه او للحال من ضمير المفعول لاصابه فَأَصابَها إِعْصارٌ ريح عاصفة ترتفع الى السماء كانها عمود عطف على أصابه او على تكون باعتبار المعنى فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ و المعنى انه لا يود أحدكم ان يكون له مال جيد كما ذكر فيحترق في حال كمال حاجته الى ذلك المال فيخيب و يتحسر ما دام حيّا في عالم الفناء فكيف يود أحدكم ان يبطل حسناته يوم القيامة في حال كمال حاجته إليها فيخيب و يتحسر ابدا في عالم البقاء قال عبيد بن عمير قال عمر رضى اللّه عنه لاصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم فيم ترون هذه الاية نزلت أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ الاية قالوا اللّه اعلم فغضب عمر و قال قولوا نعلم اولا نعلم فقال ابن عباس في نفسى منها شي ء قال عمر يا ابن أخي قل و لا تحقر نفسك قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل قال عمر لرجل يعمل بطاعة اللّه بعث اللّه له شيطانا فعمل بالمعاصي حتى أغرق اعماله

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) فيها فتعتبرون بها-.

٢٦٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ جياد و قال ابن مسعود و مجاهد من حلالات ما كَسَبْتُمْ عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يكسب عبد مال حرام فيتصدق منه فيقبل منه و لا ينفق منه فيبارك له فيه و لا يترك خلف ظهره الا كان زاده الى النار لا يمحو السّي ء بالسّيئ لكن يمحو السّيّ ء بالحسن ان الخبيث لا يمحو الخبيث رواه احمد- و هذه الاية سند للاجماع و حجة للجمهور على داود حيث قال لا يجب الزكوة الا فى الانعام او النقود و عند الجمهور يجب في العروض و العقار ايضا إذا كان للتجارة و انما شرطوا بنية التجارة لان النمو شرط لوجوب الزكوة بالإجماع و لا نمو في العروض الا بنية التجارة- عن ابن عمر ليس في العروض زكوة الا ما كان للتجارة رواه الدارقطني و عن سمرة بن جندب كان يأمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان نخرج الزكوة مما نعد للبيع رواه ابو داود و الدارقطني و البزار- و عن سليمان بن سمرة عن أبيه عند البزار و في اسناده جهالة- و مما يدل على وجوب الزكوة في العروض ما روى عن حماس قال مررت على عمر بن الخطاب و على عنقى ادمة احملها فقال الا تودى زكاتك يا حماس فقال مالى غير هذا اوهب في القرط قال تلك مال ضعها فوضعها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت الزكوة فيها فاخذ منها الزكوة رواه الشافعي و احمد و ان ابى شيبة و عبد الرزاق و سعيد بن منصور و الدارقطني- و عن ابى ذر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال في الإبل صدقتها و في البقر صدقتها و في البز صدقته قالها بالزاء المعجمة رواه الدارقطني بثلاثة طرق ضعاف مدار الطريقين على موسى بن عبيدة الزيدي قال احمد لا يحل الرواية عنه و في الطريق الثالث عبد اللّه بن معاوية بن عاصم ضعفه النسائي و أنكره البخاري و فيه اب حديث معاذ و رواه ابو داود و الواقعة فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فان ابتدا بهذه التاءات خففن لا غير- و ان كان قبلهن حرف مد كما في هذه الاية زيد في تمكينه و الباقون بتخفيف في التاءات كلهن في الحالين الْخَبِيثَ مِنْهُ يعنى الردى تُنْفِقُونَ حال مقدرة من فاعل تيمّموا و يجوز ان يتعلق به منه و يكون الضمير للخبيث و الجملة حالا منه- روى الحاكم و الترمذي و ابن ماجة و غيرهم عن البراء قال نزلت هذه الاية فينا معشر الأنصار كنا اصحب نخل فكان الرجل يأتى في نخله على قدر كثرته و قلته و كان من لا يرغب في الخير يأتى بالقنو فيه الشيص «١» و الحشف «٢» و القنو قد انكسر فتعلفه فنزلت- و روى ابو داود و النسائي و الحاكم عن سهيل بن حنيف قال كان الناس يتممون ش؟؟ مارهم يخوجونها في الصدقة فنزلت- و روى الحاكم عن جابر قال امر النبي صلى اللّه عليه و سلم بزكوة الفطر بصاع من نمر فجاء بتمر روى فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و روى ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يشترون الطعام الرخيص و يتصدقون فانزل اللّه تعالى هذه الاية وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ اى و حالكم انكم لا تأخذون الخبيث الردى في حقوقكم لرداءته إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ الإغماض غضّ البصر المراد هاهنا المسامحة مجازا- يعنى لو كان لاحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه الا و هو يرى انه قد ترك حقه- قال الحسن و قتادة لو وجدتموه يباع فى السوق ما أخذتموه بسعر الجيد- و روى عن البراء انه قال لو كان اهدى ذلك لكم ما أخذتموه

(١) التمر الذي لا يشتد نواه و تقوى و قد لا يكون له نوى أصلا نهايه منه رح.

(٢) اليابس الفاسد من التمر و قيل الضعيف الذي لا قوى له أصلا نهايه منه نور اللّه مرقده.

الا استحياء من صاحبه و غيظا فكيف ترضون للّه ما لا ترضون لانفسكم- هذا إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الردى- و ان كان كل ماله رديا فلا بأس بإعطاء الردى و لو كان بعضه جيدا و بعضه رديا فليعط من كل جنس بحصته وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَنِيٌّ عن صدقاتكم انما يعود منفعتها إليكم حَمِيدٌ (٢٦٧) محمود في أفعاله.

٢٦٨

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ و الوعد يستعمل في الخير و الشر لكن إذا لم يكن هناك قرينة يقال في الخير و عدته و في الشر أوعدته- و الفقر سوء الحال و قلة ذات اليد أصله من كسر الفقار- يعنى الشيطان يخوفكم بالفقر إذا تصدقتم وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ اى المعصية و هى منع الزكوة او ما يعم ذلك قال الكلبي كل فحشاء في القران فهو الزنى الا هذا وَ اللّه يَعِدُكُمْ فى الانفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم وَ فَضْلًا خلفا أفضل مما أنفقتم في الدارين او في الاخرة وَ اللّه واسِعٌ الفضل لمن أنفق عَلِيمٌ (٢٦٨) عن ابى هريرة مرفوعا ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللّهم أعط منفقا خلفا و يقول الاخر اللّهم أعط ممسكا تلفا- متفق عليه و عن اسماء قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انفقى و لا تحصى فيحصى اللّه عليك و لا توعى فيوعى اللّه عليك ارضحى ما استطعت- متفق عليه- و عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هم الأخسرون و رب الكعبة قلت و من هم قال هم الأكثرون أموالا الا من قال هكذا و هكذا و هكذا من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و قليل ما هم- متفق عليه- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السخي قريب من اللّه قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار و البخيل بعيد من اللّه بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار و جاهل سخى أحب الى اللّه من عابد بخيل- رواه الترمذي- و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السخا شجرة في الجنة فمن كان سخيا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله الجنة و الشح شجرة في النار فمن كان شحيحا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله النار ... رواه البيهقي و عن عليّ مرفوعا بادروا بالصدقة فان البلاء لا يتخطاها- رواه رزين.

٢٦٩

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ اى العلم النافع على ما هو في نفس الأمر الموصل الى رضاء اللّه تعالى و العمل به و ذلك لا يتصور الا بالوحى فهو للانبياء أصالة و لغيرهم وراثة- اخرج ابن مردوية من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا قال الحكمة القران قال ابن عباس يعنى تفسيره فانه قد قراه البر و الفاجر مَنْ يَشاءُ مفعول أول اخّر للاهتمام بالمفعول الثاني و لذلك بنى الفعل للمفعول لانه هو المقصود في قوله تعالى وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فى قراءة الجمهور

و قرا يعقوب بالكسر اى من يؤتيه اللّه الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً التنكير للتعظيم اى خيرا كثيرا يجمع خير الدارين- عن معاوية قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدين و انما انا قاسم و اللّه يعطى- متفق عليه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلاثة صدقة جارية- او علم ينتفع به- او ولد صالح يدعوله- رواه مسلم و عن ابى مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من دل على خير فله اجر مثل اجر فاعله- رواه مسلم و عن ابى الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب و ان العلماء ورثة الأنبياء و ان الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و انما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بحظ وافر رواه احمد و الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و الدارمي- و عن ابى امامة الباهلي قال ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رجلان أحدهما عابد و الاخر عالم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم- ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه و ملائكته و اهل السموات و الأرض حتى النملة في حجرها و حتى الحوت في الماء ليصلّون على معلم النّاس الخير- رواه

الترمذي وَ ما يَذَّكَّرُ اى يتعظ بما قص اللّه عليه من الآيات في الانفاق و غيره و يتفكر فيما أودع اللّه تعالى في قلبه من العلوم بالفعل او بالقوة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) اى ذووا العقول السليمة عن معارضة الوهم و خطرات الشيطان-

قلت و ذلك بعد الفناء الأتم للنفس-.

٢٧٠

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة او كثيرة في سر او علانية في حق او باطل او نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ اى ما أوجبتم للّه تعالى على أنفسكم من الطاعات بشرط او غير شرط فَإِنَّ اللّه يَعْلَمُهُ فيجازيكم عليه- الضمير عائد الى ما وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين لا ينفقون في سبيل اللّه و لا يوفون بالنذور او ينفقون رياء او في معصية مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) ينصرونهم و يدفعون عذاب اللّه عنهم.

٢٧١

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ اى تظهروها «١» لا على قصد الرياء فَنِعِمَّا هِيَ اى فنعم شيئا ابداؤها- قرا ابن كثير و ورش و حفص هنا و في النساء بكسر النون و العين- و قالون و ابو بكر و ابو عمرو بكسر النون و إخفاء حركة العين و يجوز إسكانها و الباقون بفتح النون و كسر العين و كلها لغات صحيحة وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ مع الإخفاء فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و أفضل من الصدقة العلانية عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صدقة السّر تطفئ غضب الرب و صلة الرحم تزيد في العمر- رواه الطبراني بسند حسن- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل الا ظله امام عادل- و شاب نشأ في عبادة اللّه- و رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود اليه- و رجلان تحابا في اللّه عز و جل اجتمعا على ذلك و تفرقا- و رجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه- و رجل دعته امراة ذات حسب و جمال فقال انى أخاف اللّه تعالى- و رجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه- متفق عليه و عن ابن مسعود يرفعه قال ثلاثة يحبهم اللّه رجل قام من الليل يتلو كتاب اللّه- و رجل تصدق بصدقة بيمينه يخفيها (أراه قال) من شماله و رجل كان في سرية فانهزم أصحابه فاستقبل العدو- رواه الترمذي- و عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثة يحبهم اللّه و ثلاثة يبغضهم «٢» اللّه فاما الذين يحبهم اللّه فرجل اتى قوما فسالهم باللّه لم يسئلهم لقرابة بينه و بينهم فمنعوه فتخلف رجل بأعيانهم فاعطاه سرا لا يعلم عطيته الا اللّه و الذي أعطاه و قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤسهم فقام يتملقنى و يتلوا آياتي و رجل كان في سرية فلقى العدو فهزموا فاقبل بصدر حتى يقتل او يفتح له- و الثلاثة الذي يبغضهم الشيخ الزاني و الفقير المختال و الغنى الظلوم- رواه

(١) عن الشعبي قال نزلت هذه الاية ان تبدوا الصّدقت فنعمّا هى الاية في ابى بكر الصديق و عمر جاء عمر بنصف ماله يحمله الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على رءوس الناس و جاء ابو بكر بماله اجمع يكاد ان يخفيه من نفسه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- ما تركت لاهلك- قال عدة اللّه و عدة رسوله فقال عمر لابى بكر ما استبقنا الى باب خير قط الا سبقتنا اليه منه رحمه اللّه.

(٢) فى الأصل يبغضهم.

الترمذي و النسائي وَ يُكَفِّرُ قرا ابن كثير و ابو عمرو و ابو بكر بالنون على صيغة المتكلم المعلوم و الرفع

و قرا حفص و ابن عامر بالياء على صيغة الغائب و الرفع على انه جملة فعلية مبتدئة او اسمية معطوفة على ما بعد الفاء اى و نحن نكفر او اللّه يكفر او يكفر اللّه-

و قرا نافع و حمزة و الكسائي بالنون و الجزم على انه معطوف على محل الفاء لان موضعها موضع الجزم بالجزاء عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قيل من زائدة و قيل هو للتبعيض اى يكفر الصغائر من الذنوب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صدقة السر تطفى الذنب- رواه الطبراني في الصغير من حديث ابى سعيد وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) ترغيب في الاسرار روى النسائي و الطبراني و البزار و الحاكم و غيرهم عن ابن عباس قال كانوا يكرهون ان يرضحوا لانسابهم من المشركين فسالوا فرخص لهم فنزلت ليس عليك هدهم- و كذا روى ابن ابى شيبة عن محمد بن حنفية مرسلا

و اخرج ابن ابى حاتم عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يأمر ان لا يتصدق الا على اهل الإسلام فنزلت-.

٢٧٢

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فامر بالصدقة على كل انسان من كل دين- و كذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير و روى ابن ابى شيبة مرسلا عن سعيد بن جبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تصدقوا الأعلى اهل دينكم فانزل اللّه تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الاية فقال عليه الصلاة و السلام تصدقوا على اهل الأديان كلها- يعنى لا يجب عليك ان تجعل الناس مهديين حيث تمنعهم من الصدقة ليدخلوا في الإسلام لحاجة منهم إليهم- و ذكر البغوي قول الكلبي في سبب نزوله ان ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة و اصهار في اليهود و كانوا ينفقونهم قبل ان يسلموا فلما اسلموا كرهوا ان ينفقوهم و ارادوهم على ان يسلموا وَ لكِنَّ اللّه يَهْدِي اى يجعل مهديا مَنْ يَشاءُ فان الهداية من اللّه تعالى و بمشيته وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ من نفقة معروفة او المراد بالخير المال فَلِأَنْفُسِكُمْ يعنى يعود نفعها الى أنفسكم فلا تمنوا به على الفقير و لا تنفقوا الخبيث وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّه الواو للحال من فاعل تنفقوا يعنى ما تنفقوا من خير غير منفقين الا ابتغاء وجه اللّه فهو لا نفسكم- او هو عطف على ما قبله يعنى ليس نفقتكم ايها المؤمنون الا ابتغاء وجه اللّه فما لكم تمتون بها على الفقير او تنفقون الخبيث فهو اخبار عن حال للمؤمنين يقتضى ذلك الحال ترك المن و نحو ذلك او هو نفى لفظا و نهى معنى يعنى لا تنفقوا الا ابتغاء وجه اللّه- و هذا يقتضى تحريم الانفاق إذا لم يكن فيه ابتغاء وجه اللّه فانه اضافة المال و ذلك حرام وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يوفر لكم ثواب أضعافا مضاعفة و لما كان فيه معنى الأداء عدى بالى- او المعنى ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ خلفه استجابة لقول الملك اللّهم أعط منفقا خلفا كما مر- ذكر بين الجمل الثلاث حرف العطف مع ان الظاهر ان هذه الشرطية تأكيد للشرطية السابقة فينبغى ان لا يعطف- لانه ليس المقصود به التأكيد فقط بل أريد به إيراد دليل بعد دليل على قبح المن و الأذى فان الجملة الاولى تدل على ان المنة على الغير بما فيه منفعة لكم قبيح- و الثانية على ان المنة على الفقير بالذي يبتغون به وجه اللّه طلب عوض من غير من هو له و الثالثة بانه منة على الغير بما تأخذون العوض منه أضعافا مضاعفا و لا مفة فيما يؤخذ منه العوض مرة كالبيع وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) اى لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا- و هذا في صدقة التطوع يجوز ان يعطى الذمي منها- و اما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها الا في المسلمين- و اختلفوا في صدقة الفطر و الكفارات و النذور فقال ابو حنيفة يجوز دفعها الى الذمي لعموم قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ و انما لم يجز دفع الزكوة اليه لحديث بعث معاذ الى اليمن و فيه قد فرض اللّه عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم- متفق عليه من حديث ابن عباس قال صاحب الهداية هو حديث مشهور جازبه الزيادة على اطلاق الكتاب و قال ابن همام الاية عام خص منه الحربي بالإجماع مستندين الى قوله تعالى إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّه عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ- الاية فجاز تخصيصه بعد بخبر الواحد.

٢٧٣

لِلْفُقَراءِ الظرف اما لغو متعلق بقوله ما تُنْفِقُوا يعنى ما تنفقوا من خير للفقراء فهو لانفسكم يؤف إليكم او هو متعلق بفعل محذوف دل عليه ما سبق يعنى اعمدوا للفقراء او اجعلوا ما تنفقونه للفقراء- او هو ظرف مستقر خبر مبتدأ مقدر قبله يعنى صدقاتكم للفقراء او مقدر بعده يعنى للفقراء الذين أحصروا حق عليكم الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه فى تحصيل العلوم الظاهرة و الباطنة و الجهاد لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم بالعلم و الجهاد ضَرْباً ذهابا فِي الْأَرْضِ للكسب و التجارة يَحْسَبُهُمُ قرا ابو جعفر و ابن عامر و عاصم و حمزة بفتح السين في المضارع على وزن يسمع

و قرا الآخرون بالكسر و هو شاذ في غير المثال الْجاهِلُ بحالهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ اى من أجل تعففهم من السؤال- و التعفف تفعل من العفة و هو ترك السؤال تكلفا لقناعتهم تَعْرِفُهُمْ يعنى تعرف ايها النبي حاجتهم و فقرهم بِسِيماهُمْ لا بقولهم و السيماء العلامة التي يعرف بها الشي ء- يعنى بصفرة ألوانهم من الجوع و الضرّ و رثاثة ثيابهم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إلحاحا و هو ان يلازم المسئول منه حتى يعطيه- و المعنى انهم لا يسئلون غالبا و لاجل هذا يحسبهم الجاهل بحالهم اغنياء و تعرف حاجتهم بسيماهم و ان سالوا عن ضرورة أحيانا لم يلحفوا و قيل هو نفى لمطلق السؤال يعنى لا يسئلون أصلا «١» فيقع فيه الالحاف- منصوب على المصدر فانه كنوع من السؤال- او على الحال اى ملحفين- اخرج ابن المنذر عن ابن عباس هم اهل الصّفة كانوا نحوا من اربعمائة رجل من فقراء المهاجرين لم يكن لهم مساكن في المدينة و لا عشائر يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم و العبادة و كانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- فحث اللّه تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا امسى- عن عطاء بن يسهار عن رجل من بنى اسد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سال منكم و له وقية او عدلها فقد سال إلحافا- رواه مالك و ابو داود و النسائي و عن الزبير بن العوام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لان يأخذ أحدكم حبله فيأتى بحزمة حطب على ظهره فيكف اللّه بها وجهه خير له من ان يسئل الناس أعطوه او منعوه- رواه البخاري- و عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال و هو على المنبر و هو يذكر الصدقة و التعفف عن المسألة اليد العليا خير من اليد السفلى- متفق عليه و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سال الناس و له ما يغنيه جاء يوم القيامة و مسئلته في وجهه خموش «٢» او خدوش او كدوح- قيل يا رسول اللّه و ما يغنيه قال خمسون درهما او قيمتها من الذهب- رواه ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و عن سهل بن حنظلة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سال و عنده

(١) اخرج احمد عن ابن ابى مليكة قال- ربما سقط الحطام من يد ابى بكر الصديق فضرب بذراع ناقته فينحها فيأخذه فقالوا له فلا امرتنا نتناولكه فقال ان حبيبى صلى اللّه عليه و سلم امرني ان لا اسئل الناس شيئا- منه رحمه اللّه تعالى.

(٢) خموش الخدوش نهاية خدوش جمع خدش و خدش الجلد قشره بعود او نحوه نهاية الكدوح الخدش و كل اثر من خدش او عض فهو كدح- نهاية منه رحمه اللّه.

ما يغنيه فانما يستكثر من النار «١»- قال النفيلى و هو أحد رواته و ما الغنى الذي لا ينبغى معه المسألة قال قدر ما يغديه و يغشيه و قال في موضع اخر ان يكون له شبع يوم او ليلة و يوم- رواه ابو داود قلت و الجمع بين هذه الأحاديث الواردة في نصاب حرمة السؤال الحمل على اختلاف احوال الرجال فمن كان عنده شبع يوم و ليلة و كان يرجو تيسر شبع الغد في الغد لا يحل له المسألة و من كان لا يرجو ذلك يجوز له السؤال حتى يحصل عنده ما يكفى لمدة يتيسر له ما يحتاج اليه غالبا و من كان له شبع و لا يكون عنده ما يستر به عورته او ما يسد به خلته يجوز له سوال ما يحتاج اليه و أربعون درهما نصاب لحرمة السؤال مطلقا و اللّه اعلم وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) و عليه مجاز ترغيب في الانفاق خصوصا على مثل هؤلاء.

(١) اخرج احمد و ابو يعلى عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اما و اللّه ان أحدكم ليخرج بمسئلته من عندى تبا بطنها نارا قال عمر يا رسول اللّه لم تعطها إياهم قال فما اصنع يأبون الا مسئلتى و يأبى اللّه لى البخل و في الصحيحين عن ابن عمر ان عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعطنى العطاء فاقول أعطه من هو أفقر اليه منى فقال خذه إذ جاءك من هذا المال شي ء و أنت غير مشرف و لا سائل فخذه فتقبله ان شئت كله و ان شئت تصدق به و ما لا فلا تتبعه نفسك قال سالم بن عبد اللّه فلا جل ذلك كان عبد اللّه لا يسئل أحدا شيئا و لا يرد شيئا أعطيه- منه.

٢٧٤

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يعنى في جميع الأوقات و الأحوال كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا في قضائها و لم يؤخروه و لم يعللوا بوقت و لا حال- اخرج ابن المنذر عن ابن المسيب انها نزلت في عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة-

و اخرج عبد الرزاق و ابن جرير و ابن ابى حاتم و الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال نزلت في على بن ابى طالب كانت معه اربعة دراهم فانفق باليل درهما و بالنهار درهما و سرا درهما و علانية درهما- و ذكر البغوي عن الضحاك عن ابن عباس قال لما نزلت لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا الاية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة الى اصحاب الصفة و بعث على بن ابى طالب في جوف الليل بوسق من تمر فانزل اللّه تعالى فيهما عنى بالنهار علانية صدقة عبد الرحمن و بالليل سرا صدقة على- و ذكر البغوي انه قال ابو امامة و ابو الدرداء و مكحول و الأوزاعي انها نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فانها تعتلف ليلا و نهارا سرا و علانية و كذا اخرج الطبراني و ابن ابى حاتم عن يزيد بن عبد اللّه بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و يزيد و أبوه مجهولان- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا باللّه و تصديقا بوعده فان شبعه و ريه و روثه و بوله في ميزانه يوم القيامة- رواه البخاري فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ خبر لقوله تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ و حينئذ الفاء للسببية و قيل قوله تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الى آخره مبتدأ خبره محذوف اى منهم الّذين ينفقون و حينئذ الفاء لعطف الجملة على الجملة وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤).

٢٧٥

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة و زيدت الالف بعدها تشبيها بواو الجمع لا يَقُومُونَ من قبورهم كذا اخرج عبد الرزاق في تفسيره عن عبد اللّه بن سلام إِلَّا كَما يَقُومُ اى قياما كقيام الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ يعنى الجن و الخبط الضرب الشديد و الإفساد- فى القاموس خبط الشيطان فلانا مسّه بأذى كتخبطه او يتخبطه يفسده مِنَ الْمَسِّ اى الجنون او اللمس متعلق بيقوم او بيتخبط اى لا يقومون الا كما يقوم من الجنون الذي مسّه الشيطان بأذى و أفسد عقله او الا كقيام الذي يفسده الشيطان من اللمس يعنى عرضه الجنون و فساد العقل بمس الشيطان و خبطه و المرض و الصرع و الجنون قد يحصل بمس الشيطان فلا يحتاج ذلك الى ما قيل انه وارد على ما يزعمون ان الشيطان يخبط الإنسان فان حدوث المرض بمس الشيطان ثابت بالكتاب و السنة قال اللّه تعالى في قصة أيوب عليه السلام ربّ انّى مسّنى الشّيطن بنصب و عذاب و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في المستحاضة ركضة من ركضات الشيطان و قيام أكلة الربوا هكذا لاجل ان اللّه تعالى يربى ما في بطونهم ما أكلوه من الربوا فيكون بطونهم كالبيوت فيها حيات فاثقلهم- عن ابى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في قصة الاسراء قال فانطلق بي جبرئيل الى رجال كثيرة كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على ساهلة ال فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا قال فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة و الشجر لا يسمعون و لا يعقلون فاذا أحس بهم اصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون ان يبرحوا حتى يغشاهم الى فرعون فيترددونهم مقبلين و مدبرين فذالك عذابهم في البرزخ بين الدنيا و الاخرة قال و ال فرعون يقولون اللّهم لا تقم الساعة ابدا قال و يوم القيامة يقول ادخلوا ال فرعون أشدّ العذاب-

قلت يا جبرئيل من هؤلاء قال هؤلاء الّذين يأكلون الرّبوا لا يقومون الّا كما يقوم الّذى يتخبّطه الشّيطن من المسّ- رواه البغوي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتيت ليلة اسرى بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء أكلة الربوا- رواه احمد و ابن ماجة-

و اخرج ابو يعلى عن ابن عباس في هذه الاية قال يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام الا كما يقوم المتخبط المخفق-

و اخرج ابن ابى حاتم بسند صحيح عنه قال أكل الربوا يبعث يوم القيامة مجنونا يخفق- و الطبراني عن عوف بن مالك عنه صلى اللّه عليه و سلم نحوه- بلفظ مجنونا يتخبط- و يحتمل ان يقال في تأويل الاية انهم لا يقومون من مجلس يأكلون فيه مال الربوا الا كما يقوم المجنون بمعنى ان أكل الربوا يسود به قلبه بمجرد الاكل فلا يميز بعد ذلك بين الحق و الباطل و الحلال و الحرام كما لا يميز المجنون بين الخير و الشر فان لقمة الحرام يصير جزء من بدنه فيتغير به حقيقته بخلاف غير ذلك من المعاصي فانها كالاعراض الزائدة على الحقيقة و من ثم لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أكل الربوا و جعله أشد من الزنى عن جابر و ابن مسعود عند مسلم- و عن ابى جحيفة عند البخاري قال- لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أكل الربوا و مؤكله- و زاد ابو داود و الترمذي عن ابن مسعود و مسلم عن جابر- و كاتبه و شاهديه و قال هم سواء- و عن عليّ نحوه رواه النسائي و فيه مانع الصدقة مكان شاهديه- و عن عبد اللّه بن حنظلة غسيل الملائكة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم درهم ربوا يأكله الرجل و هو يعلم أشد من ستة و ثلاثين زنية- رواه احمد و الدارقطني و عن انس نحوه رواه ابن ابى الدنيا- و عن ابن عباس نحوه و زاد من نبت لحمه بالسحت فالنار اولى به- رواه البيهقي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الربوا سبعون حوبا أيسرها ان ينكح الرجل امه- رواه ابن ماجة و البيهقي و الحوب الإثم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا اى ذلك العقاب بسبب كفرهم و استحلالهم الحرام و هذا يدل على ان هذا العقاب مخصوص بالكفار دون من ارتكبه من المؤمنين معترفا بتقصيره- او يكون ذلك اشارة الى تأبيد هذا العذاب المستفاد من قوله تعالى لا يَقُومُونَ إِلَّا كذلك فانه نفى داخل على مصدر منكر في زمان منكر من الازمنة المستقبلة و النكرة في حيز النفي تفيد العموم- فمعناه ان تأبيد هذا العذاب مخصوص بالكفار و اما من ارتكبه من المؤمنين فقد يلحقه ذلك العذاب الى ان يتداركه شفاعة من نبيه او رحمة من ربه و كلمة لا اللّه الا اللّه محمد رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- و كان الأصل- انما الربوا مثل البيع لكن عكس للمبالغة في نفى تحريم الربوا كانهم جعلوا أصلا في الحل وَ أَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ قال فخر الإسلام البيع لغة مبادلة المال بالمال و كذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي- و الصحيح ان التراضي مأخوذ في المعنى اللغوي ايضا فانه ما لا يكون بالتراضي يطلق عليه في اللغة اسم الغصب دون البيع- و المبادلة بالاختيار و التراضي لا بد فيه من التميز و من ثم انعقد الإجماع على انه لا يصح بيع المجنون و الصبى الذي لا يعقل- و اختلفوا في بيع الصبى العاقل فقال مالك و الشافعي لا يصح لقصور عقله- و قال ابو حنيفة و احمد يصح لكن يشترط انضمام راى الولي لدفع ضرر عنه متوقع من قصور عقله و هذا الاشتراط ثابت بالشرع قال اللّه تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ و قال اللّه تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ- و ذلك المبادلة إنشاء امر يحصل بالإيجاب و القبول بلفظي ماض نحو بعت و اشتريت فان الشرع وضع تلك الألفاظ لذلك الإنشاء- و يقوم المعاطاة مقام الإيجاب و القبول عند ابى حنيفة و مالك رحمهما اللّه تعالى و هو رواية عن الشافعي و احمد- و قال الكرخي انما ينعقد بالتعاطى في الخسيس دون النفيس و به قال احمد و الراجح من مذهب الشافعي انه لا ينعقد بالتعاطى-

قلنا التعاطي يدل على التراضي كالقول و هو المقصود قال اللّه تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ- و يشترط في المباشر من ولاية شرعية كائنة من ملك او وكالة او وصية او قرابة او غير ذلك

(مسئلة) و اختلفوا في بيع الفضولي فقال ابو حنيفة و مالك الاجازة اللاحقة كالوكالة السابقة فيصح بيعه و يتوقف على اجازة المالك- و كذلك شراء الفضولي عندهما يتوقف على اجازة المشترى له إذا أضاف الفضولي العقد الى المشترى له بان قال بع عبدك لزيد فقال بعت فقال الفضولي اشتريت لزيد- و اما إذا لم يضف ينفذ على العاقد و به قال الشافعي فى القديم و الراجح من مذهب الشافعي انه لا يصح- و عن احمد كالروايتين- احتج الشافعي بقوله صلى اللّه عليه و سلم لحكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك و ما رواه ابن الجوزي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يحل بيع ما ليس عندك و لا ربح ما لم يضمن-

قلنا المراد به البيع الذي تجرى فيه المطالبة من الجانبين و هو النافذ فالمنهى عنه بيع شي ء معدوم عنده وقت البيع ثم يشتريه فيسلمه المشترى- يفيد هذا المراد سياق قصة حديث حكيم حيث قال حكيم يا رسول اللّه ان الرجل يأتينى فيطلب منى سعة ليست عندى فابيعها منه ثم ادخل السوق فاشتريها فاسلمها قال - لا تبع ما ليس عندك- رواه احمد و اصحاب السنن و ابن حبان فى صحيحه من حديث يوسف بن ماهك عن حكيم و وقع التصريح عن يوسف انه حدثه حكيم و ادخل فى بعض الطرق عبد اللّه بن عصمة بين يوسف و حكيم و زعم عبد الحق ان عبد اللّه ضعيف جدا و نقل عن ابن حزم انه مجهول- قال ابن حجر هذا جرح مردود و قد روى عنه الثلاثة و احتج به النسائي- و قال الترمذي حسن صحيح و لنا حديث عروة البارقي ان النبي صلى اللّه عليه و سلم دفع دينار اليه ليشترى به شاة فاشترى شاتين و باع أحدهما بدينار و جاء بشاة و دينار فقال بارك اللّه لك في صفقة يمينك فكان لو اشترى ترابا ربح فيه- رواه ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و الدارقطني و في اسناده سعيد بن زيد ضعفه القطان و الدارقطني و وثقه ابن معين-

و اخرج عنه مسلم في صحيحه و فيه ابو لبيد لمازة بن زياد قيل انه مجهول لكن وثقه ابن سعد و اثنى عليه احمد و قال المنذرى و النووي اسناده حسن صحيح و رواه الشافعي و الكرخي بسند اخر عن ابن عيينة عن شبيب بن عرفدة سمعه من قومه عن عروة البارقي- و قال الشافعي ان صح قلت به قال البيهقي انما ضعفه الشافعي لان قومه غير معروف فهو مرسل كذا قال الخطابي- و روى الكرخي بسند اخر عن شبيب بن عرفدة أخبرنا الحسن عن عروة البارقي فذهب الإرسال و اتصل و ايضا المرسل عندنا حجة و قد اعتضد بمسند ذكرنا قبله عن ابى لبيد عن عروة- و روى الترمذي من طريق حبيب بن ابى ثابت عن حكيم ابن حزام ان النبي صلى اللّه عليه و سلم دفع اليه دينارا ليشتري أضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار فجاء بالشاة و الدينار الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبره بذلك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم بارك اللّه في صفقتك فاما الشاة فضحى بها و اما الدينار فتصدق- قال الترمذي لا يعرف هذا الحديث الا من هذا الوجه و حبيب لم يسمع عندى من حكيم و روى ابو داود من طريق شيخ من اهل المدينة عن حكيم قال البيهقي ضعيف من أجل هذا الشيخ و اللّه اعلم و إذا ظهر لك ان البيع هو مبادلة مال بمال و المال ينقسم الى قسمين ما هو مقصود بذاته فيقصد به صورته و ماليته و هو العين- و ما هو غير مقصود بذاته بل هو وسيلة لتحصيل غيره خلقه و هو النقدين- فالبيع ينقسم الى اربعة اقسام بيع العين بالنقد و هو البيع المطلق حيث ينصرف الذهن عند الإطلاق اليه فالعين هو المبيع و النقد هو الثمن و يشترط فيه وجود المبيع و تعيينه عند العقد اجماعا لانه هو المقصود بذاته و يقصد صورته و ماليته و يدل على اشتراط كونه موجودا «١» حديث حكيم بن حزام و عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المذكورين و حديث ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم تهى عن بيع الكالى بالكالئ- رواه الدارقطني- و لا يشترط فيه وجود الثمن و لا تعيينه بل يثبت في الذمة لانه غير مقصود بذاته و لا يقصد صورته- و كان القياس ان يشترط وجوده لان المعدوم ليس بمال لكن الشرع أبطل هذا الشرط دفعا للحرج و اعتبر وجوده في الذمة لكن يشترط ان يكون الثمن معروفة الجنس و القدر و الصفة و الاجل ان كان مؤجلا كيلا يفضى الى المنازعة و هى يمنع الجواز- عن عائشة رضى اللّه عنها قالت اشترى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من يهودى طعاما الى أجل و رهنه درعا له من حديد- متفق عليه و عنها قالت توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و درعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير- رواه البخاري و كذا روى احمد و الترمذي عن ابن عباس و قال الترمذي هذا حديث صحيح و انعقد الإجماع على اشتراط تعيين المبيع دون الثمن و كون الثمن معروفا- و القسم الثاني بيع العين بالعين و يسمى مقائضة فكل واحد من البدلين هاهنا مبيع يشترط فيه ما يشترط في المبيع اجماعا ان كان البدلان «٢» من ذوات القيم

(١) فى الأصل موجود.

(٢) فى الأصل البدلين.

و ان كان أحدهما من ذوات الأمثال و الاخر من ذوات القيم تعين هذا المبيع و ذلك للثمن لان الثمن لا يشترط وجوده فيكون في الذمة و لا يتصور الوجود في الذمة الا ما يحيط الذهن بقدره و وصفه- و ان كانا من ذوات الأمثال فعلى قول علماء الحنفية يجب وجود أحدهما و تعيينه فيكون ذلك مبيعا و ما كان فى الذمة يكون ثمنا- و على ما ارى يجب وجودهما و تعيينهما معا لعدم ترجيح أحدهما على الاخر فى كونه مبيعا و لقوله عليه السلام إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد- و في رواية عينا بعين- و عليه يحمل رواية يدا بيد- و القسم الثالث بيع النقد بالنقد و يسمى صرفا- و لما انتفى فيه المبيع و لا وجه لجعل أحدهما مبيعا و الاخر ثمنا اعطى هاهنا ايضا كلا البدلين حكم المبيع و يجب وجودهما و تعيينهما في المجلس بل يجب قبضهما ايضا في المجلس لان النقدين لا يتعينان بالتعيين بل بالقبض- و القسم الرابع السلم و هو ضد البيع المطلق و هو ان يكون المبيع معدوما و الثمن موجودا- و كان القياس ان لا يجوز هذا العقد لما ذكرنا لكن الشرع اباحه لدفع حاجة المساكين و اعطى للثمن حكم المبيع و اشترط في جانب المبيع شرائط و سنذكر هذه المسألة في تفسير اية المداينة ان شاء اللّه تعالى- و إذا تقرر ان البيع لا يكون الا مبادلة مال بمال ظهر ان بيع الميتة و الدم و الخمر و الخنزير و كذا أكل ما ليس بمال او أبطل الشرع ماليته باطل لفقد ان معنى البيع- و كذا بيع ثوب و نحوه بتلك الأشياء خلافا لابى حنيفة فى بيع الثوب بالخمر و الخنزير فانه قال فاسد حيث يملك المشترى عنده الثوب بالقبض و يجب عليه القيمة و لكل واحد منهما حق الفسخ دفعا للاثم وَ حَرَّمَ الرِّبا الربوا في اللغة الزيادة قال اللّه تعالى و يربى الصّدقت و المعنى ان اللّه تعالى حرم الزيادة في القرض على القدر المدفوع و الزيادة في البيع لاحد البدلين على الاخر- قال جمهور العلماء هذا مجمل طلب الزيادة بطريق التجارة غير محرم في الجملة قال اللّه تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فالمحرم انما هو زيادة على صفة مخصوصة لا تدرك الا من قبل الشارع فهو مجمل و ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بحرمة الربوا في الأشياء الستة التحقه بيانا عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذهب بالذهب و الفضة بالفضة و البر بالبر و الشعير بالشعير و التمر بالتمر و الملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فاذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد- رواه مسلم و في رواية لا تبيعوا الذهب بالذهب و لا الورق بالورق الى اخر الستة الأسواء بسواء عينا بعين يدا بيد لكن تبيعوا الذهب بالورق و الورق بالذهب و البر بالشعير و الشعير بالبر و التمر بالملح و الملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم نقص أحدهما الملح او التمر او زاد أحدهما من زاد او ازداد فقد اربى- رواه الشافعي- و روى مسلم عن ابى سعيد الخدري كما روى عن عبادة و زاد في آخره فمن زاد او استزاد فقد اربى الاخذ و المعطى فيه سواء- و في رواية عنه- لا تبيعوا الذهب بالذهب الا مثلا بمثل و لا تشفّوا بعضها على بعض و لا تبيعوا الورق بالورق الا مثلا بمثل و لا تشفّوا بعضها على بعض و لا تبيعوا غائبا منها بناجز- متفق عليه- و في رواية- لا تبيعوا الذهب بالذهب و لا الورق بالورق الا وزنا بوزن- و في الباب عن عمر في الستة و عن على في المستدرك و عن ابى هريرة في مسلم- و عن انس في الدارقطني و عن ابى بكر في الصحيحين و عن بلال في البزار و عن ابن عمر في البيهقي فقال اصحاب الظواهر و ابن عقيل من الحنابلة ان حرمة الربوا مقتصرة في هذه الأشياء الستة و هو المروي عن قتادة و طاءوس و عند الجمهور حكم الحرمة معلول وصف في هذه الأشياء يتعدى منها الى غيرها فذهب قوم الى ان العلة في الجميع امر واحد و هو المالية فاثبتوا الربوا في جميع الأموال- و ذهب الأكثرون الى ان الربوا نثبت في النقدين بوصف و في الاربعة بوصف اخر- اما النقدين فقال الشافعي و مالك العلة فيهما الثمنية فلا يتعدى الحكم عنهما الى غيرهما- و قال ابو حنيفة و احمد العلة فيهما الوزن فيتعدى منهما الى الحديد و الرصاص و الزعفران و كل موزون و اما الاربعة فقال ابو حنيفة العلة فيها الكيل مع الجنس فيثبت الربوا في كل مكيل يباع بجنسه مطعوم و غير مطعوم- و به قال احمد و في رواية عنه الطعم مع الجنس و قال مالك- الاقتيات مع الجنس- و قال الشافعي في القديم الطعم مع الكيل او الوزن فكل مطعوم مكيل او موزون يثبت فيه لا فيما ليس بمكيل و لا موزون كالبيض و في الجديد علة الربوا عنده الطعم مع الجنس فيثبت الربوا في جميع المطعومات من الثمار و الفواكه و البقول و الادوية- وجه قول مالك و الشافعي في كون العلة هو الثمنية و الطعم او الاقتيات ان اشتراط التقابض و التماثل في هذه الأموال يشعر بالعزة و الخطر كاشتراط الشهادة فى النكاح لاظهار خطر البضع فوجب تعليلها بعلة يوجب العزو في الطعم بل في الاقتيات ذلك لتعلق بقاء النفوس به و في الثمنية التي بها يتوصل الى جميع المقاصد اولى ان يعتبر العز و الخطر و لا اثر للجنسية و الكيل و الوزن في ذلك فجعلناه شرطا و الحكم قد يدور مع الشرط كالرجم مع الإحصان و ايضا يدل على كون الطعم علة حديث معمر بن عبد اللّه مرفوعا الطعام بالطعام مثلا بمثل- رواه مسلم فان ترتب الحكم على المشتق يدل على علية ماخذ الاشتقاق- و الجواب انه لا بد في التعليل من كون العلة مناسبا- و الترتيب على المشتق ايضا انما يدل على علية المأخذ بشرط المناسبة- و المناسبة هاهنا مفقودة لان ما به بقاء النفوس يشتد به الحاجة و ما يشتد به «١» الحاجة يجرى فيه من اللّه تعالى التوسعة كالماء و الكلاء و لا يناسب به التضيق- و ايضا كون الطعام اسما مشتقا ممنوع بل هو اسم لبعض الأعيان كالبر و الشعير لا يعرف به المخاطبون غيره من المطعومات كالقمر مع انه غالب مأكولاتهم و وجه قول ابى حنيفة في كون العلة الكيل او الوزن ان الحكمة في تحريم الربوا صيانة اموال الناس عن التوى و لاجل ذلك الصيانة وضع الكيل و الوزن و امر اللّه تعالى بالعدل فيهما و قال وزنوا بالقسطاس المستقيم و قال وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ او وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ و قد حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الزيادة و أوجب المماثلة و الزيادة و المماثلة لا يعرف الا بالكيل او الوزن فالمناسب ان يجعل ذلك علة و قد اعتبره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حيث قال ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا و ماكيل فمثل ذلك و إذا اختلف النوعان فلا بأس به- رواه الدارقطني من حديث عبادة و انس و في حديث ابى سعيد و ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث سواد بن عرية و امّره على خيبر فقدم عليه بتمر جنيب يعنى طيب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أكل تمر خيبر هكذا قال لا و اللّه يا رسول اللّه انا نشترى الصاع بالصاعين و الصاعين بثلاثة اصع من الجمع فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- لا تفعل و لكن بع هذا بثمنه و اشتر بثمنه من هذا و كذلك الميزان- يعنى ما يدخل في الميزان-

(١) و في الأصل و ما به يشتد الحاجة-.

رواه الدارقطني- قال العبد الضعيف عفا اللّه تعالى عنه و الذي سخ لى ان اية الربوا ليست بمجلة فان المجمل ما لا يدرك معناه بالطلب و التأمل بل من جهة الشرع فقط و هاهنا ليس كذلك لكن فيه نوع إشكال يظهر بالتأمل و بيانه ان الربوا في اللغة الزيادة و الزيادة عبارة عن فضل يعلو على المماثلة و المساوات و هى ضد الجنس و التنقيص فهذه الاية نظير قوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاللّه سبحانه كما أوجب ضمان العدوان بالمثل و المساوى كذلك أوجب في المبايعة و المقارضة المماثلة و المساوات و الواجب في ضمان العدوان في ذوات الأمثال اعنى المكيلات و الموزونات المثل صورتا و معنى برعاية اتحاد الجنس و القدر و في ذوات القيم حيث لا يتصور المماثلة صورة و معنى يكتفى بالمماثلة معنى و يقال الواجب هناك القيمة عملا بقدر الإمكان و القيمة عبارة عما يعتبره اهل البصارة مثلا له في المالية و ذلك يختلف باختلاف الازمنة بكثرة الراغبين و قلتهم هذا في ضمان العدوان و اما في المبادلات فالمعتبر في المماثلة المماثلة بالاجزاء كيلا او وزنا ان اتحد جنس البدلين و كانا من ذوات الأمثال كما في ضمان العدوان و ان اختلف جنسهما سواء كانا من ذوات الأمثال او لم يكن أحدهما او كلاهما من ذوات الأمثال فحينئذ لا يتصور المماثلة صورة و معنى لاختلافهما في الصورة فيكتفى حينئذ على المماثلة المعنوية في القيمة لما ذكرنا في ضمان العدوان- غير انه فى ضمان العدوان لم يسبق من المالك جعل شي ء مثلا لماله فاعتبر هناك تحكيم اهل البصارة و في المبادلات لما رضى مالكا البدلين بالمبادلة فقد حكم كل واحد منهما بالمماثلة بين البدلين فحكهما على أنفسهما اولى من حكم غيرهما عليهما- فصار مجموع كل من البدلين مثلا لمجموع البدل الاخر باصطلاحهما و لم يظهر الفضل و لذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم- و إذا تقرر هذا ثبت ان المكيلات و الموزونات إذا بيع شي ء منها بجنسه يحرم التفاضل بالاجزاء قطعا لقوله تعالى وَ حَرَّمَ الرِّبا و يحرم النساء ايضا لان للنقد مزية على النسية فبعد تحقق المساوات في الكيل او الوزن يبقى ذلك المزية زيادة ربوا و لا جائز ان يجعل بعض الاجزاء مقابلا للاجل كما إذا بيع عشرة دراهم حالا بأحد عشر نسية لان الدرهم ذات و الاجل وصف لا يعقل بينهما المساوات عقلا و لم يثبت شرعا بل الشرع أبطله و نهى عنه- فبقى بيع عشرة بأحد عشر و هو ربوا و كما لا يجوز ان يجعل بعض الاجزاء مقابلا لاجل كذلك لا يجوز ان يجعل بعض الاجزاء مقابلا لوصف الجودة لان الجودة ايضا وصف لا يعقل المساوات بينه و بين الذات عقلا و لا شرعا بل ثبت عن الشرع نفيه و النهى عنه كما ذكرنا حديث ابى سعيد و ابى هريرة في قصة سواد بن عرية و اللّه اعلم- و هل يحرم التفاضل بوصف الجودة مع المساوات في الكيل او الوزن فالجمهور على انه لا يحرم ذلك بل الوصف ملغاة شرعا قال صاحب الهداية لقوله صلى اللّه عليه و سلم جيدها و رديئها سواء فان صح هذا الحديث فهو حجة و الا فنقول الأوصاف لا يمكن ضبطها و اعتبارها قال ابن همام فينسد باب البيعات قلت باب البيعات لا ينسد إذ يمكن ان يبيع الردى بالثمن ثم يشترى به الجيد كما امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لكن ينسد باب القرض و قد قال اللّه تعالى وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يعنى لستم بآخذى الردى في مقابلة الجيد ان كان لاحدكم على اخر حق من قرض او غير ذلك الا ان تغمضوا فيه فالاستثناء يدل على ان مراعاة الوصف في القرض ليس بلازم لكن يدل على ان صاحب الحق لو لم يأخذ الردى مكان الجيد كان له ذلك و اللّه اعلم

(مسئلة) و إذا بيع الرطب بالتمر او الذبيب بالعنب فالظاهر انه لا يجوز ذلك أصلا لا متساويا فى الكيل و لا متفاضلا و به قال الجمهور و كذا الحال في الحنطة الرطبة و اليابسة و المقلية- و قال ابو حنيفة يجوز بيع الرطب بالتمر و في الذبيب و العنب عنه روايتان- لنا حديث سعد بن ابى وقاص قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يسئل عن الرطب بالتمر فقال أ ينقص إذا يبس قالوا نعم قال فلا اذن و في رواية- فنهى عن ذلك- رواه مالك و الشافعي و احمد و اصحاب السنن و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و الدارقطني و البزار و البيهقي كلهم من حديث زيد ابى عياش قال في الهداية ضعفه اصحاب النقل قلت لم يثبت تضعيفه عن أحد- و قال ابن الجوزي قال ابو حنيفة زيد ابو عياش مجهول فان كان لا يعرفه ابو حنيفة فقد عرفه اهل النقل انتهى و قال ابن حجر و ذكر روايته الترمذي و صححها و ذكره مسلم في كتاب الكنى و قال سمع من سعد و روى عن عبد اللّه بن يزيد و ذكره ابن خزيمة في رواية العدول عن العدول و قال الدارقطني هو ثقة قلت فصح الحديث و هذا الحديث يدل على ان الرطوبة ليست من اجزاء الاصلية الرطب و المعتبر المساوات في الاجزاء و ذا لا يدرك فلا يجوز بيعه متفاضلا و لا متساويا- و قال الحنفية الرطب ان كان من جنس التمر جاز البيع لقوله صلى اللّه عليه و سلم بيعوا مثلا بمثل- و ان كان من غير جنسه جاز لقوله صلى اللّه عليه و سلم فبيعوا كيف شئتم-

قلنا انه من جنسه لكن لاجل رطوبته و تخلخل اجزائه لا يدرك المماثلة بالكيل فصار كالمجاز؟؟ فة- و العددى المتقارب كالجوز و البيض ايضا من المثليات فالظاهر ان لا يجوز بيع الجوز بالجوز و كذا البيض بالبيض إذا كانا من حيوان واحد لاحتمال التفاضل في الاجزاء الا بالوزن فان الوزن معتبر للتسوية شرعا و يحصل في هذا النوع به التسوية و ان لم يعهد و ان كان البيض من حيوانين فحكمهما حكم مختلف الجنسين

(مسئلة) و إذا بيع البر مثلا بالشعير فجميع ما قوبل من كل من البدلين صار مثلا لجميع الاخر باصطلاحهما فجاز الفضل بينهما و لم يجز النسية لان نقدية أحد البدلين زائد على المثل المصطلح فكان ربوا و لا يجوز جعلها مقابلا لبعض الاجزاء لما ذكرنا في المثلين الحقيقيين-

(مسئلة) و إذا بيع البر بالحديد مثلا فقياس قولنا هذا يقتضى ان لا يجوز هناك النسية ايضا و يجوز التفاضل و به يحكم لعموم قوله صلى اللّه عليه و سلم إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد

(مسئلة) و إذا بيع الحيوان بالبر او نحوه او بالحديد او نحوه فحينئذ كان الحيوان مبيعا و المكيل او الموزون ثمنا و لا يشترط وجود الثمن بل يصح البيع بالثمن المؤجل اجماعا و كان القياس عدم جواز هذا البيع لكن ترك القياس بالنصوص و الإجماع

(مسئلة) و إذا بيع الحيوان بالحيوان من جنس واحد او من جنسين جاز التفاضل اجماعا و هل يجوز فيه النسية فقال ابو حنيفة لا يجوز مطلقا و قال الشافعي و احمد يجوز مطلقا و قال مالك ان كان من جنس واحد لا يجوز النسية مع التفاضل و يجوز من غير التفاضل و ان كانا من جنسين يجوز مطلقا- احتج القائلون بالجواز مطلقا بحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جهر جيشا فقال عبد اللّه بن عمرو ليس عندى ظهر قال فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يبتاع ظهرا الى خروج المصدق فابتاع عبد اللّه بن عمرو البعير بالبعيرين الى أجل و سنذكر هذا الحديث في مسئلة السلم في اية المداينة ان شاء اللّه تعالى- وجه قول ابى حنيفة ان الحيوان لا يكون ثمنا في الذمة لكونه غير معلوم قدرا و وصفا و لا ينضبط بذكر الجنس و النوع و الوصف و لذلك لا يجوز السلم فيه لعدم انضباطه و من المنقول ما رواه احمد و الترمذي و النسائي و الدارمي و ابن ماجة و ابو داود عن سمرة ابن جندب ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسية و روى الدارقطني عن ابن عباس نحوه- و روى الترمذي و احمد عن الحجاج بن ارطاة عن ابى الزبير عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحيوان اثنين بواحد لا يصح نساء و لا بأس به يدا بيد قال الترمذي حديث حسن

و اخرج الطبراني عن ابن عمر نحوه و روى ابن الجوزي حديث سمرة و ابن عباس و جابر و لم يذكر الطعن- و إذا تعارض هذه الأحاديث بحديث عبد اللّه بن عمرو في بيع البعير بالبعيرين الى أجل يترجح هذه الأحاديث بوجهين- أحدهما ان الاخذ بالمحرم اولى من المبيح احتياطا و لئلا يلزم تكرار النسخ- ثانيهما ان هذه الأحاديث موافق للقياس دون ذلك-

(مسئلة) و الشروط التي لا يقتضيها العقد في البيع و فيه منفعة لاحد العاقدين فهو من باب الربوا يفسد به البيع عند ابى حنيفة و الشافعي و قال ابن ابى ليلى و النخعي و الحسن البيع جائز و الشرط فاسد- و قال ابن شبرمة و احمد البيع و الشرط جائزان و قال مالك الشرط بمنفعة يسيرة للبائع من المبيع يصح و الباقي لا يصح- لنا ان قوله تعالى وَ حَرَّمَ الرِّبا يشتمله لانه زيادة فى أحد البدلين بعد التماثل بالاجزاء في متحد الجنس من المثليات و بالقيمة المصطلحة من العاقدين في غير ذلك و لا يمكن جعل الشرط مقابلا لبعض الاجزاء كالاجل و الجودة- و كذا قول ابى حنيفة في كل شرط لا يقتضيه العقد و فيه نفع للمبيع و هو من اهل النفع كما إذا باع عبدا او امة على ان يعتقه او يكاتبه او يستولدها- روى ابن حزم في المحلى و الطبراني في الأوسط و الحاكم في علوم الحديث و الخطابي من طريق محمد بن سليمان الذهلي عن عبد الوارث ابن سعيد قال قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة و ابن ابى ليلى و ابن شبرمة فسالت أبا حنيفة عن رجل باع بيعا و شرط شرطا قال البيع باطل و الشرط باطل- ثم أتيت ابن ابى ليلى فسالته فقال- البيع جائز و الشرط باطل- ثم أتيته ابن شبرمة فسالته فقال- البيع جائز و الشرط جائز- فقلت سبحان اللّه ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسئلة واحدة فاتيت أبا حنيفة فاخبرته فقال ما أدرى ما قالا حدثنى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه نهى عن بيع و شرط البيع باطل و الشرط باطل- ثم أتيت ابن ابى ليلى فاخبرته فقال ما أدرى ما قالا حدثنى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أمرني النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اشترى بريرة فاعتقها البيع جائز و الشرط باطل- ثم أتيت ابن شبرمة فاخبرته فقال ما أدرى ما قالا حدثنى مسعر عن محارب بن دثار عن جابر قال بعت من النبي صلى اللّه عليه و سلم ناقة و شرط لى حملانها الى المدينة البيع جائز و الشرط جائز انتهى

فان قيل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرسل عند كثير من اهل العلم- أجيب بان هذا إذا لم يصرح بمرجع الضمير من جده و قد ورد هاهنا التصريح فيما أخرجه ابو داود و الترمذي و النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يحل سلف و لا بيع و لا شرطان في بيع و لا ربح ما لم يضمن و لا بيع ما ليس عندك- قال الترمذي حديث حسن صحيح- و يؤيده حديث حكيم بن حزام في مؤطا مالك بلاغا- و أخرجه الطبراني من حديث محمد بن سيرين عن حكيم قال نهانى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن اربع خصال فى البيع عن سلف و بيع و شرطين في بيع و بيع ما ليس عندك و ربح ما لم يضمن- و معنى السلف فى البيع البيع بشرط ان يقرضه دراهم و هو فرد من البيع الذي شرط فيه منفعة لاحد المتعاقدين هذا تحقيق ما احتج به ابو حنيفة من حديث عمرو بن شعيب- و اما ما احتج به ابن ابى ليلى من حديث عائشة فقد رواه الشيخان في الصحيحين من حديثها انها قالت جاءت بريرة فقالت انى كاتبت على تسع أواق في كل عام وقية فاعينينى فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة و اعتقك فعلت و يكون ولائك لى فذهبت الى أهلها فابوا الا ان الولاء لهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خذيها فاعتقيها ثم قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الناس فحمد اللّه و اثنى عليه ثم قال اما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب اللّه ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل و ان كان مائة شرط فقضاء اللّه أحق و شرط اللّه أوثق انما الولاء لمن أعتق- و في رواية ان عائشة أخبرت النبي صلى اللّه عليه و سلم ان مواليها لا يبيعونها الا بشرط ان يكون لهم الولاء فقال لها اشترى و اشترطى لهم الولاء انما الولاء لمن أعتق- متفق عليه ايضا بهذا اللفظ قال الرافعي قالوا ان هشاما تفرد بقوله اشترطى لهم الولاء و لم يتابعه سائر الروات- قال ابن حجر و قد قيل ان عبد الرحمن بن ايمن تابع هشاما على هذا فرواه عن الزهري عن عروة نحوه- و اما حديث جابر فقد رواه الشيخان عنه قال غزوت و مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و انا على ناضح قد أعيى فلا يكاد يسير فتلا حق بي النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ما لبعيرك قلت قد أعيى فتخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فزجره فدعاله فما زال بين يدى الإبل قدامها تسير فقال لى كيف ترى بعيرك قلت بخير قد أصابته بركتك قال افتبيعنيه بوقية- فبعته على ان لى فقار ظهره الى المدينة فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة غدوت عليه بالبعير فاعطانى ثمنه و ردده علىّ- و في رواية قال بعنيه بوقية- قال فبعته و استثنيت حملانه الى أهلي- متفق عليه و في رواية للبخارى قال للبلال اقضه دينه و زده و زاد قيراطا- و احتج ابن الجوزي على جواز البيع و الشرط بحديث جابر هذا- و بما روى بسنده عن عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق- و عن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المسلمون على شروطهم ما وافق الحق من ذلك- فلا بد هاهنا من البحث و التأمل حتى يندفع تعارض الأحاديث و يظهر المراد فنقول قوله عليه الصلاة و السلام ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل و ان كان مائة شرط- لا يعارض قوله صلى اللّه عليه و سلم المسلمون على شروطهم ما وافق الحق من ذلك فان كلا الحديثين يدلان على ان من الشروط ما هو باطل و منها ما هو صحيح و عليه انعقد الإجماع حيث يجوز في البيع شرط الخيار اجماعا و يبطل شرط ان يكون الولاء للبائع اجماعا فظهر ان حديث سمرة نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن بيع و شرط ليس على عمومه بل المراد منه بعض انواع الشرط فحينئذ لا بد ان يبحث عن الشروط ايها يبطل في نفسها و لا يفسد به البيع و يكون ذلك محملا لقصة بريرة- و ايها يبطل بحيث يفسد به البيع فيكون موردا للنهى في حديث سمرة- و ايها لا يبطل فيكون محملا لحديث انس و عائشة فنقول اما الذي يبطل في نفسه و لا يفسد به البيع فمنها شرط لا يمكن للمشروط عليه إتيانه مثل شرط ان لا يقع العتق بإعتاق المشترى او ان يكون الولاء للبايع فمثل هذا الشرط باطل لغو و ان كان مائة شرط و يعتبر كانه لم يكن فلا يفسد البيع و قصة بريرة من هذا الباب قال الشيخ ابن حجر ليس فيه التصريح بانهم اشترطوا العتق بل انما اشترطوا الولاء لهم- و منها شرط ليس على مقتضى العقد حتى يصح و ليس فيه منفعة لاحد حتى يكون في معنى الربوا كبيع ثوب على ان يلبسه المشترى في الأعياد او دابة على ان يكثر لها العلف فهو لغو لا يفسد البيع به- و اما الذي لا يبطل من الشروط و يجب الإتيان بها و يكون محملا لحديث انس و عائشة فمنها ما كان على مقتضى العقد كشرط ان يحبس البائع المبيع الى ان يقبض الثمن فيجوز لانه مؤكد لموجب العقد- و منها ما ثبت تصحيحه شرعا بما لا مرد له كشرط الاجل في الثمن في البيع المطلق- و في المثمن في السلم فيجوز ايضا للنص و ان كان على خلاف القياس و الحق ابو حنيفة بهذا ما كان متعارفا في الصدر الاول كشراء نعل على ان يحذوها البائع او يشركها- و منها ما يتضمن التوثق بالثمن كالبيع بشرط الكفيل او الرهن فيجوز ايضا لانه مقرر لمقتضى العقد و هو تسليم الثمن- فان كان الكفيل حاضرا وقت البيع و قبل الكفالة و كان المرهون معلوما و قبضه البائع بإذن المشترى تم البيع و الكفالة و الرهن- و الا فان اتى المشترى بما شرط عليه فبها و الا يؤمر بدفع الثمن فان لم يدفع الثمن خير البائع في الفسخ- و اما الذي يبطل العقد فشرط ليس مما ذكرنا و فيه منفعة لاحد العاقدين او للاجنبى او للمبيع و هو من اهل الاستحقاق كبيع الحنطة بشرط ان يطحنها البائع او يتركها في داره شهرا او يوما- او ثوب على ان يخيطه البائع او جمل على ان يركبه البائع الى مراحل او على ان يبيعه المشترى من فلان- فهذه الشروط يفسد العقد لانه زيادة عارية عن العوض فهو ربوا- و من هذا الكلام اندفع التعارض و ثبت العمل باية الربوا و بالأحاديث كلها غير حديث جابر انه شرط الركوب الى المدينة- فقيل الشرط في حديث جابر و هو استثناء حملانه لم يقع في صلب العقد قال ابن همام كذا قال الشافعي-

قلت و لفظ الصحيحين يأبى عن ذلك و قال مالك لا بأس بشرط يكون فيه منفعة يسيرة لاحد المتعاقدين عملا بهذا الحديث قلت العمل بهذا الحديث ليس اولى من العمل باية الربوا فالاولى ان يقال حديث جابر منسوخ لان اية الربوا من اخر آيات القران نزولا قال الشعبي عن ابن عباس اخر اية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اية الربوا و ايضا تقرر في الأصول ان المحرم و المبيح إذا تعارضا قدم المحرم على المبيح احتياطا وكيلا يلزم تكرار النسخ و امر الربوا أشد و اغلظ فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره قد ذكر اللّه تعالى الوعيد على الربوا بخمسة أوجه اولا بالتخبط حيث قال لا يقومون الّا كما يقوم الّذى يتخبّطه الشّيطن و ثانيا بالخلود في النار حيث قال و من عاد فاولئك اصحاب النّار هم فيها خلدون و ثالثا بالحق حيث قال يمحق اللّه الرّبوا و رابعا بالكفر حيث قال و ذروا ما بقي من الرّبوا ان كنتم مؤمنين و خامسا بالحرب حيث قال فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من اللّه و رسوله- و عن عمر بن الخطاب ان اخر ما نزلت اية الربوا و ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبض و لم يفسره لنا فدعوا الربوا و الريبة- فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى بلغه بتبليغ الرسول صلى اللّه عليه و سلم حرمة الربوا و نهيه عنه فَانْتَهى اى اتبع النهى فَلَهُ ما سَلَفَ اى ما تقدم اخذه قبل التحريم لا يسترد منه و ما مضى من أخذ الربوا غفر له- و ما في موضع الرفع بالظرف ان جعل من موصولة و بالابتداء ان جعلت شرطية على راى سيبويه إذا الظرف غير معتمد على ما قبله وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّه فيما يستقبل من المعاصي ان شاء عذبه عليها و ان شاء غفر له- و قيل معناه ان اللّه يجازيه ان كان قد انتهى بصدق النية- و قيل معناه و امره بعد النهى الى اللّه ان شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء و ان شاء خذله حتى يعود فيه وَ مَنْ عادَ الى أكل الربوا او الى القول بانما البيع مثل الربوا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) على التأويل الثاني ظاهر فان استحلال الحرام كفر موجب للخلود في النار و اما على التأويل الاول فالخلود مجاز عن المكث البعيد كما في قوله تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها-.

٢٧٦

يَمْحَقُ اللّه الرِّبا اى يذهب بركته و يهلك المال الذي يدخل فيه- عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما أحد اكثر من الربوا الا كان عاقبة امره الى قلة رواه ابن ماجة و صححه الحاكم و في رواية له الربوا و ان كثر فان عاقبته الى قل وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ اى يضاعف ثوابها و يبارك فيما أخرجت منه- قد مر حديث ابى هريرة مرفوعا ان اللّه يقبل الصدقة فيربيها كما يربى أحدكم فلوه الحديث- متفق عليه و عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما نقصت صدقة من مال و مازاد اللّه بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد للّه الا رفعه- رواه مسلم و الترمذي و روى احمد من حديث عبد الرحمن بن عوف بلفظ- ما نقص مال من صدقة- و قد تقدم حديث الملكين النازلين كل يوم يقول أحدهما- اللّهم أعط منفقا خلفا الحديث وَ اللّه لا يُحِبُّ اى يبغض فان مقتضى القيومية المحبة و لا ينتفى المحبة الا بعارض يوجب البغض و هو الكفر و من ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- الخلق عيال اللّه فاحب الخلق الى اللّه من احسن الى عياله- رواه البيهقي في الشعب عن عبد اللّه كُلَّ كَفَّارٍ مصر على تحليل المحرمات أَثِيمٍ (٢٧٦) منهمك في الآثام.

٢٧٧

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و بما جاءوا به منه وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ- أتوا بما أمرهم اللّه على لسان رسله و انتهوا عما نهى عنه و منه الربوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ خصهما بعد التعميم لاظهار شرفهما فانهما رأس العبادات البدنية و المالية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من ات وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) على ما فات عنهم بعد ما أدركوا أعظم نعم اللّه تعالى و هو الايمان مع الأعمال الصالحة- اخرج ابو يعلى في مسنده و ابن مندة من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال بلغنا ان بنى عمرو بن عوف الثقفي كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبد اللّه بن عمير بن مخزوم و كانوا يربون فلما اظهر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه و سلم على مكة و وضع يومئذ الربوا كله فاتوا بنو عمر و بنو المغيرة الى عتاب بن أسيد و هو على مكة فقال بنو المغيرة ما جعلنا اللّه أشقى الناس بالربا و وضع عن الناس غيرنا فقال بنوا عمرو و صولحنا على ان لنا ربوانا فكتب عتاب في ذلك الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت الآيتين.

٢٧٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا اى اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) بقلوبكم فامتثلوا بما أمركم اللّه به فان امتثال الا و امر و النواهي دليل صدق الايمان-

و اخرج ابن جرير عن عكرمة انها نزلت في ثقيف اربعة اخوة منهم مسعود و عبدياليل و حبيب و ربيعة بنوا عمرو بن عمير كذا قال مقاتل و

قال البغوي قال السدى نزلت في العباس و خالد بن الوليد و كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربوا الى بنى عمرو بن عمير ناس في ثقيف فجاء الإسلام و لهما اموال عظيم في الربوا فانزل اللّه هذه الاية فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة- الا كل شي ء من امر الجاهلية تحت قدمى موضوع و دماء الجاهلية موضوعة و ان أول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بنى سعد فقتله هزيل و ربوا الجاهلية موضوعة و أول ربوا أضعها ربوا عباس بن عبد المطلب فانها موضوعة كلها و روى مسلم في حديث جابر في قصة حجة الوداع في خطبة يوم عرفة هذه العبارة و لم يذكر ذكر نزول الاية فيه- و

قال البغوي قال عطاء و عكرمة ان العباس بن عبد المطلب و عثمان بن عفان رضى اللّه عنهما اسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر ان أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لى ما يكفى عيالى فهل لكما ان تأخذ النصف و تؤخر النصف و أضعف لكما ففعلا فلما حل الاجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنهاهما و انزل اللّه تعالى هذه الاية فسمعا و أطاعا و أخذا رءوس أموالهما.

٢٧٩

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا اى لم تذروا ما بقي من الربوا فَأْذَنُوا قرا حمزة و ابو بكر فاذنوا بالمد على وزن أمنوا و كسر الذال اى فاعلموا غيركم انكم حرب اللّه و رسوله- واصله من الاذن اى أوقعوا في الاذان

و قرا الآخرون فاذنوا بهمزة ساكنة على وزن المجرد بفتح الذال اى اعلموا أنتم و أيقنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه تنكير الحرب للتعظيم- قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يقال لا كل الربوا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب و عن ابن عباس قال- نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يشترى التمرة حتى يطعم و قال إذا ظهر الربوا في قرية فقد أحلوا بانفسهم عذاب اللّه رواه الحاكم و قال صحيح الاسناد و عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ما من قوم يظهر فيهم الربوا الا أخذوا بالسّنة و ما من قوم يظهر فيهم الرشا الا أخذوا بالرّعب رواه احمد وَ رَسُولِهِ قال اهل المعاني حرب اللّه النار و حرب الرسول السيف- و من ثم

قال البيضاوي ذلك يقتضى ان يقاتل المربى بعد الاستتابة حتى يفى ء الى امر اللّه كالباغى-

قلت و الظاهر انه ان لم يكن له منعه يجب على الامام ان يحبسه حتى يتوب و ان كان له منعه لا يقدر الامام على حبسه فهو الباغي يقاتل معه حتى يفى ء الى امر اللّه و هذا هو الحكم فيمن ترك فريضة من الفرائض كالصلوة و الزكوة و نحوهما او ارتكب كبيرة من الكبائر و أصر عليها بالإعلان روى رزين عن عمر بن الخطاب في مناقب ابى بكر- انه لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارتدت العرب و قالوا لا نؤدى زكوة فقال ابو بكر لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول اللّه تالف الناس و ارفق بهم فقال لى أ جبّار في الجاهلية و خوار في الإسلام انه قد انقطع الوحى و تم الدين أ ينقص و أنا حي- و في الصحيحين من حديث ابى هريرة قال ابو بكر- و اللّه لا قاتلن من فرق بين الصلاة و الزكوة فان الزكوة حق المال و اللّه لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لقاتلتهم على منعها قال فعرفت انه الحق وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ بأخذ الزيادة عليها وَ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) بالمطل و النقصان عن رأس المال- عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال مطلق الغنى ظلم و إذا اتبع على ملئى فليتبع- متفق عليه

قال البيضاوي يفهم منه انهم ان لم يتوبوا فليس لهم ما لهم إذا المصر على التحليل مرتد و ماله في ء و هو سديد على ما

قلنا يعنى على قول الشافعي فان مال المرتد كله في ء عنده- و اما عند ابى حنيفة رحمه اللّه فما اكتسبه في حال الإسلام ينتقل بعد قتله او لحوقه بدار الحرب الى ورثته المسلمين و ما اكتسبه في حالة الردة كان فيا و المفهوم ليس بحجة عند ابى حنيفة على انه إذا كان لورثته لم يكن له و اللّه اعلم

قال البغوي لما نزلت هذه الاية قالت بنو عمر و المربون بل نتوب الى اللّه تعالى لا يدلنا بحرب اللّه و رسوله- فرضوا برأس المال- هذا تتمة حديث ذكره ابو يعلى

قال البغوي فشكا بنوا مغيرة العسرة و قالوا أخرونا الى ان تدرك الغلات فابوا ان يؤخروا فانزل اللّه تعالى.

٢٨٠

وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ كان هاهنا تامة لا يقتضى الخبر يعنى ان وقع غريم ذو عسرة- و

قال البغوي لم يأت لها بخبر و ذلك جائز في النكرة يقول ان كان رجل صالح فاكرمه-

قلت يعنى ان كان ذو عسرة غريما- قرا ابو جعفر عسرة بضم السين و الباقون بالإسكان فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ اى فالحكم نظرة او فعليكم نظرة- او فليكن نظرة و هى الامهال قرا نافع بضم السين و الباقون بفتحها عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من يسر على معسر «١» يسر اللّه عليه في الدنيا و الاخرة- رواه مسلم في حديث و ابن حبان هكذا مختصرا وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ اكثر ثوابا من الانظار- و يحتمل ان يراد بالتصدق هو الانظار لحديث عمران ابن حصين مرفوعا لا يحل دين امر مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة- رواه احمد يعنى الانظار خير لكم مما تأخذون- و الظاهر ان المراد بالتصدق الإبراء و هو خير و اكثر ثوابا من الانظار عن ابى هريرة قال اشهد على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لسمعته يقول ان أول الناس يستنظل في ظل اللّه يوم القيامة لرجل انظر معسرا حتى يجد شيئا او تصدق عليه مما يطلبه يقول مالى عليك صدقة ابتغاء وجه اللّه و يحرق صحيفته- رواه الطبراني و روى البغوي في شرح السنة بلفظ من نفّس عن غريم او محى عنه كان في ظل العرش يوم القيامة- و عن عثمان بن عفان نحوه- و روى البغوي عن ابى اليسر نحوه و روى الطبراني في الكبير من حديث اسعد بن

(١) عن ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أحب ان يسمع اللّه دعوته و يفرج كربته في الدنيا و الاخرة فلينظر معسرا و ليدع له و من سره ان يظله اللّه من قعر جهنم يوم القيامة و يجعله فى ظله فلا يكونن على المؤمنين غليظا و ليكن بهم رحيما منه رحمه اللّه.

زرارة- و في الأوسط من حديثه شداد بن أوس نحوه و عن ابى قتادة- انه كان يطلب رجلا بحق فاختبى منه فقال ما حملك على ذلك قال العسرة فاستخلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فاعطاه إياه و قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من انظر معسرا و وضع عنه أنجاه اللّه من كرب يوم القيامة- و روى مسلم المرفوع منه- و عن ابى مسعود قال ان الملائكة تسلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له هل عملت خيرا قط قال لا قالوا تذكّر قال لا الا انى رجل كنت اداين الناس فكنت امر فتياتى ان تنظروا الموسر و تتجاوزوا عن المعسر قال اللّه تعالى تجاوزوا عنه- رواه مسلم- و روى مسلم عن عقبة بن عامر نحوه- و في الصحيحين عن حذيفة نحوه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) فضل الانظار و التصدق ما شق ذلك عليكم.

٢٨١

وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه اى يوم القيامة او يوم الموت فتاهبوا لمصيركم اليه- قرا ابو عمرو و يعقوب بفتح التاء اى تصيرون و الآخرون بضم التاء و فتح الجيم على البناء للمفعول اى تردون ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ اى جزاء ما كسبت من خير او شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) بتنقيص ثواب او تضعيف عقاب قال ابن عباس هذه اخر اية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال له جبرئيل ضعها على رأس مأتى اية و ثمانين اية من سورة البقرة كذا

قال البغوي و أخرجه الثعلبي من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عنه و عاش رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد نزولها أحد و عشرين يوما كذا

قال البغوي و قيل أحد و ثمانين يوما أخرجه الفرياني عن ابن عباس و قيل سبع ليال و مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الاول حين زاغت الشمس سنة أحد عشر من الهجرة كذا أخرجه ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير و اللّه اعلم و ان اللّه قد ختم الوحى باية التهديد-.

٢٨٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ اى تعاملتم معاملة يجب فيه دين في ذمة أحد المتعاقدين- و انما قيدنا بقولنا في ذمة أحد المتعاقدين- لانه لا يجوز بيع الكالى بالكالئ بالإجماع مستندا بحديث ابن عمر- نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عنه- رواه الدارقطني و هذه الاية يشتمل البيع و السلم و الاجارة و القرض بل النكاح و الخلع و الصلح ايضا بِدَيْنٍ انما ذكره لئلا يتوهم من التداين المجازات و ليكون مرجعا لضمير فاكتبوه- و هو نكرة وقع في حيز الشرط فيعم كل دين ثمنا كان او مثمنا مكيلا او موزونا او غيرهما مؤجلا كان او حالا- و بقوله إِلى أَجَلٍ خرج منه ما كان حالا فانه لا حاجة الى كتابته غالبا مُسَمًّى اى سمى مدته بالأيام او الأشهر او السنين حتى يكون معلوما- و انما قيد به لان البيع بثمن مؤجل و السلم لا يجوز ما لم يكن الاجل معلوما فان جهالته يفضى الى المنازعة و الاجل يلزم في الثمن في البيع و في المبيع فى السلم و في النكاح و غير ذلك الا في القرض فلا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محله و لا لمن عليه الحق المطل بعد محله- و اما في القرض فلا يلزم الاجل بالتأجيل لان الشرع اعتبره عارية كانّ المؤدّى عين المدفوع كيلا يلزم ربوا النساء- فهذه الاية بعبارته يشتمل البيع بثمن مؤجل و السلم و هو المعنى من قول ابن عباس اشهد ان السلف المضمون الى أجل مسمّى قد أحله اللّه في الكتاب و اذن فيه قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ الاية- أخرجه الحاكم في المستدرك و صححه على شرطهما عن قتادة عن ابى حسان الأعرج عنه و رواه الشافعي في مسنده و الطبراني و ابن ابى شيبة و علقه البخاري و القياس يقتضى عدم جواز السلم لانه بيع المعدوم إذا المقصود من البيع هو المبيع و الثمن انما يكون وسيلة اليه فيكفى فى الثمن وجوده الاعتباري وصفا ثابتا في الذمة و اما المبيع فهو محل لورود البيع فانعدامه يوجب انعدام البيع و لهذا نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن بيع ما ليس عندك- لكن ترك هذا القياس لورود النصوص بإباحته و انعقاد الإجماع عليه- عن ابن عباس قال قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هم يسلفون في التمر السنة و السنتين و ربما قال و الثلاث فقال من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم و وزن معلوم الى أجل معلوم- متفق عليه- و عن عبد اللّه بن ابى اوفى قال كنا نستسلف على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ابى بكر و عمر في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب- رواه البخاري- و روى ابن الجوزي من طريق احمد سالت ابن ابى اوفى هل كنتم تسلفون في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في البر و الشعير و الزيت قال نعم كنا نصيب غنائم في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنسلفها في البر و الشعير و التمر و الزيت فقلت عند من كان له زرع او عند من لم يكن له ذرع قال ما كنا نسئلهم عن ذلك- ثم انطلق الراوي الى ابن ابى أبزى فقال مثل ما قال ابن ابى اوفى- و لما كان جواز السلم على خلاف القياس اقتصر على مورد النص و هو المؤجل فلا يجوز السلم حالا عند ابى حنيفة و مالك و احمد و قال الشافعي يجوز حالا بالطريق الاولى او المساواة

قلنا انما أبيح على خلاف القياس لرفع حاجة الفقير العاجز حالا عن نفقة عياله القادر على المسلم فيه مالا و حاجة المشترى الى الاسترباح لعياله و هو بالسلم أسهل إذ يكون المبيع في السلم نازلا عن قيمته فى البيع غالبا و ذا لا يكون الا بالتأجيل فليس الحال في معنى المؤجل-

(مسئلة) اجمعوا على انه لا يجوز السلم الا فيما ينضبط في الذهن بذكر جنسه و نوعه و صفته و قدره- و على انه لا يجوز الا بذكر هذه الاربعة و ذكر قدر الاجل حتى يتعين المبيع بقدر الإمكان و لا يقضى الى المنازعة و ايضا يشترط عند الجمهور معرفة قدر رأس المال خلافا لابى يوسف و محمد فيما إذا عين رأس المال بالاشارة-

قلنا ربما يوجد بعضها زيوفا و لا يستبدل فى المجلس فلو لم يعلم قدره لا يدرى في كم بقي السلم و ربما لا يقدر على المسلم فيه فيحتاج الى رد رأس المال و الموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع المنافى- و زاد ابو حنيفة شرطا سابعا و هو تسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤنة- و قال باقى الائمة مكان التسليم متعين و هو مكان العقد- و ايضا زاد ابو حنيفة شرطا ثامنا و هو ان يكون المبيع موجودا من وقت العقد الى محله- و قال الجمهور لا يشترط ذلك بل يكفى وجوده عند محله- وجه قول الجمهور انه لم يرد هذا الشرط من الشرع و الأصل العدم و العمومات كافية للاباحة- و وجه قول ابى حنيفة ما رواه ابو داود و ابن ماجة و اللفظ له عن ابن إسحاق عن رجل نجرانى قلت لعبد اللّه بن عمر اسلم في نخل قبل ان تطلع قال لا قلت لم قال لان رجلا اسلم في حديقة نخل فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل ان يطلع النخل فلم يطلع النخل شيئا ذلك العام فقال المشترى أؤخرك حتى تطلع و قال البائع انما النخل هذه السنة فاختصما الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال للبائع أخذ من نخلك شيئا قال لا قال بم تستحل ماله اردد اليه ما أخذت منه و لا تسلموا في نخل حتى تبدأ صلاحها

و اخرج البخاري عن ابى البختري- سالت ابن عمر عن السلم في النخل قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن بيع النخل حتى يصلح و عن بيع الورق نسأ بناجز- و سالت ابن عباس عن السلم في النخل قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن بيع النخل حتى يؤكل-

قلت و ذلك الحديث فيه رجل نجرانى مجهول و ابن إسحاق مختلف فيه و الآثار لا يصلح حجة لكن قول ابى حنيفة أحوط في عقد شرع مع المنافى

(مسئلة) اتفقوا على جواز السلم في المكيلات و الموزونات و المزروعات التي تنضبط فيجوز السّلم في هذه الديار في ثوب غليظ يكون في عرضه ثلاثمائة او اربعمائة او خمسمائة خيطا فانه قلما يتفاوت تلك الثوب و لا يجوز في غير مثل ذلك من الأثواب- و في المعدودات التي لا يتفاوت احادها كالجوز و البيض الا في رواية عن احمد- و اختلفوا في المعدودات المتفاوتة كالرمان و البطيخ فقال ابو حنيفة لا يجوز فيه السلم لا وزنا و لا عددا و هذا في ديار يباع فيها البطيخ عددا و اما في ديارنا فيباع وزنا فيجوز و قال مالك يجوز مطلقا- و قال الشافعي- يجوز وزنا- و هو رواية عن احمد-

(مسئلة) لا يجوز السلم في الحيوان عند ابى حنيفة و يجوز عند الثلاثة احتجوا بحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امره ان يجهّز جيشا فنفدت الإبل فامره ان يأخذ على قلائص الصدقة و كان يأخذ البعير بالبعيرين الى ابل الصدقة- رواه ابو داود عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن ابى حبيب عن مسلم بن جبير عن ابى سفيان عن عمرو بن حريش عنه- و رواه الحاكم و قال صحيح على شرط مسلم و قال ابن القطان هذا حديث ضعيف مضطرب الاسناد فرواه حماد بن سلمة هكذا و رواه جرير بن حازم عن ابن إسحاق فاسقط يزيد ابن ابى حبيب و قدم أبا سفيان على مسلم بن جبير-

قلت كذا ذكر ابن الجوزي في التحقيق و رواه عفان عن حماد بن سلمة فقال فيه عن ابن إسحاق عن يزيد بن ابى حبيب عن ابى حبيب عن مسلم عن ابى سفيان عن عمرو بن حريش- و رواه ابو بكر بن ابى شيبة عن عبد الأعلى فاسقط يزيد بن ابى حبيب و قدم أبا سفيان كما فعل جرير بن حازم و قال مكان مسلم بن جبير مسلم بن كثير و مع هذا الاضطراب فعمرو بن حريش مجهول الحال و مسلم بن جبير لم أجد له ذكرا و ابو سفيان فيه نظر- و قال الشيخ ابن حجر ابن إسحاق قد اختلف فيه لكن أورده البيهقي في السنن و في الخلافيات من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده و صححه قلت و رواه ابن الجوزي-

قلت هذا الحديث معارض بما ذكرنا من قبل من حديث سمرة و ابن عباس و جابر انه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسية فيقدم المحرم على المبيح كما ذكرنا ثمه- و احتج ابو حنيفة على عدم جواز السلم في الحيوان بما أخرجه الحاكم و الدارقطني عن إسحاق بن ابراهيم بن حوتا حدثنا عبد الملك الذمارى حدثنا سفيان الثوري عن معمر عن يحيى بن ابى كثير عن عكرمة عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن السلف في الحيوان و قال الحاكم صحيح الاسناد و لم يخرجاه- قال ابن الجوزي قال ابو ذرعة عبد الملك الذمارى منكر الحديث- و قال الرازي ليس بالقوى و وثقه العلاس و اما إسحاق بن ابراهيم فمجهول-

قلت لعل الحاكم عرف إسحاق حتى حكم بصحة الحديث و الظاهر ان الحديث حسن قال ابن همام تضعيف ابن معين ابن حوتا فيه نظر بعد تعدد ما ذكر من الطرق الصحيحة و الحسان مما هو بمعناه يرفعه الى الحجية بمعناه- و في الباب اثر ابن مسعود رواه ابو حنيفة عن حماد بن ابى سليمان عن ابراهيم قال دفع عبد اللّه بن مسعود الى زيد بن خويلة البكري مالا مضاربة فاسلم زيد الى عريس بن عرقوب الشيباني فى قلائص فلما حلت أخذ بعضها و بقي بعض فاعسر عريس و بلغه ان المال لعبد اللّه فاتاه يسترفقه فقال عبد اللّه افعل زيد فقال نعم فارسل اليه يسئله فقال عبد اللّه اردد ما أخذت و خذ رأس مالك و لا تسلمن ما لنا في شي ء من الحيوان- قال صاحب التنقيح فيه انقطاع يعنى بين ابراهيم و عبد اللّه فانه انما يروى بواسطة علقمة او الأسود- قال ابن همام هذا غير قادح عندنا خصوصا فى إرسال ابراهيم النخعي-

قلت لو صح هذا الحديث انه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن السلف في الحيوان لكان سندا لابى حنيفة في خلافية اخرى و هو انه لا يجوز قرض الحيوان عنده خلافا لمالك و الشافعي و احمد احتجوا على جواز فرض الحيوان بحديث ابى رافع ان النبي صلى اللّه عليه و سلم استسلف من رجل بكرا فاتاه ابل من ابل الصدقة فقال أعطوه فقالوا لا نجد الا رباعيا خيارا قال أعطوه فان خير الناس أحسنهم قضاء رواه مسلم و حديث ابى هريرة- كان لرجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حقّا فاغلظ له فهم له أصحابه فقال دعوه فان لصاحب الحق مقالا فقال لهم اشتروا سنّا فاعطوه إياه فقالوا انا لا نجد سنّا الا خيرا من سنه قال اشتروه و أعطوه فان خيركم أحسنكم قضاء- متفق عليه وجه قول ابى حنيفة في عدم جواز القرض فى الحيوان انه لا ينضبط فلا يجوز قرضه كما لا يجوز جعله ثمنا في البيع نسية و السلم فيه- و هذا التعليل في مقابلة الحديثين الصحيحين غير مقبول ما لم يصح حديث النهى عن السلف في الحيوان فان السلف يعم السلم و القرض فان صح حديث ابن عباس يجب تقديم المحرم على المبيح و الا فما ثبت عن رسول اللّه من استقراض البكر يقتصر على مورده و لا يقاس عليه غيره من الحيوانات لانه معدول عن سنن القياس

فان قيل ان كان الحيوان غير منضبط و لا يجوز ثبوته في الذمة فلم جوزتم النكاح و الخلع على عبد او امة او فرس و أوجبتم فيه الوسط-

قلنا هاهنا قياسين قياس على البيع حيث نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن البيع نسية و قياس على الدية حيث أوجب فيها الإبل فقلنا ما كان فيه مبادلة مال بمال لا بد فيه كمال الانضباط و ذلك كالبيع و الاجارة و الصلح عن الإقرار بمال- و ما كان فيه مبادلة مال بغير مال كالنكاح و الخلع و الصلح عن دم عمد و الصلح عن انكار لا يشترط فيه كمال الانضباط فيجوز فيه ذلك قياسا على الدية- و من ثم اجمع المسلمون على ان غرة جنين الحرة عبد او امة و ليس ذلك في غرة جنين الامة بل فيه دراهم او دنانير عشر قيمة الجنين او نصفه عند ابى حنيفة- و نصف عشر قيمة أم الجنين عند غيره و في غرة البهائم ما نقص أم الجنين- و وجه الفرق ان في مبادلة المال بالمال يجرى المشاجرة و المماكسة عادة غالبا دون في مبادلة ما ليس بمال بمال فان المال فيه بمنزلة الصلة- و لعل الإبل في تلك البلاد بعد رعاية السن و غيره من الأوصاف تكون قليل التفاوت و التفاوت القليل مفتقر ضرورة و اللّه اعلم- و اعلم ان القياس يقتضى عدم جواز القرض مطلقا لانه ان كان في الدراهم او الدنانير يلزم النسية في الصرف و ان كان في غيرهما يلزم بيع المعدوم و يلزم ربوا النسية ايضا في بعض المواد و لما ثبت بالنصوص و الإجماع جواز الاقراض لاجل الضرورة قال العلماء في توجيه تصحيحه ان الشرع اعتبر القرض عارية كانّ المستقرض استعار مال الغير للانتفاع به و لمّا كان من الأموال ما لا يمكن الانتفاع به الا بالاستهلاك كالدراهم و الدنانير و الطعام و كان دفعه بعد الانتفاع به غير ممكن اعطى الشرع لمثله حكم عينه فمن ادى القرض بمثله كان كمن دفع المأخوذ بعينه و لاجل ذلك لا يلزم الاجل في القرض كما لا يلزم في العادية فان للمعير استرداد ماله من المستعير متى شاء فكلما يمكن فيه ذلك التوجيه

قلنا بجواز الاقراض فيه و مالا فلا- و إذا تمهد هذا فنقول لا يتصور الاقراض الا في الدراهم و الدنانير و ما كان مثليا ينتفع به بالاستهلاك كالطعام و اما ما كان باقيا بعد الانتفاع به كالثوب و الدابة و العبد و الامة و الدار و نحو ذلك فلا يتصور ذلك التوجيه فيه إذ مع بقاء عين المدفوع الى المستقرض عنده لا يمكن اعتبار مثله عينه بل حينئذ ان اعطى المالك ماله لغيره للانتفاع به يجب على المعطى له رد عين المأخوذ الى المعطى فيكون ذلك عارية حقيقة و من ثم قال ابو حنيفة لا يجوز قرض الحيوان و الثياب و الإماء و العبيد و غير ذلك و اختلف في بعضها- و اجمعوا على عدم جواز اقراض الامة للوطى-

(مسئلة) ان اهدى المستقرض الى المقرض شيئا او حمله على دابته او اسكنه في داره و لم يكن ذلك عادة بينهما او اعطى اكثر مما أخذ منه او أجود هل يحل ذلك للمقرض أم لا- فقال ابو حنيفة و مالك و احمد لا يحل له ذلك بل يكره و ان لم يشترط- و قال الشافعي ان كان بغير شرط جاز و ان كان بشرط لم يجز- احتج الجمهور بحديث انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا اقرض أحدكم قرضا فاهدى اليه طبقا فلا يقبله او حمله على دابة فلا يركبها الا ان يكون بينه و بينه قبل ذلك- رواه ابن ماجة و البيهقي و رواه البخاري في التاريخ بلفظ فلا يأخذ هدية و عن سالم بن ابى الجعد قال جاء رجل الى ابن عباس فقال انى اقترضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما فاهدى الىّ سمكة قومتها ثلاثة عشر درهما فقال خذ منه سبعة دراهم رواه ابن الجوزي- و عن عبد اللّه بن سلام إذا كان لك على رجل حق فاهدى إليك حمل تين او حمل شعيرا و حمل قت فلا تأخذه فانه ربوا- رواه البخاري و عن على رضى اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن قرض جر منفعة رواه الحارث بن اسامة في مسنده و في اسناده سوار بن مصعب متروك و رواه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربوا- و رواه البيهقي فى السنن الكبير عن ابن مسعود و ابى بن كعب و عبد اللّه بن سلام و ابن عباس موقوفا عليهم و احتج الشافعي بما مر من حديث ابى رافع و ابى هريرة- قالوا انا لا نجد الا سنا هو خير من سنة قال أعطوه فان خيركم أحسنكم قضاء- و يؤيد قول الشافعي حديث عائشة انها قالت- سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الخمير و الخبز يقرضه الجيران فيردون اكثر او اقل فقال- ليس بذلك بأس انما هو امر يترافق بين الجيران و ليس يراد به الفضل- و عن معاذ بن جبل انه سئل عن استقراض الخمير و الخبز فقال سبحان اللّه هذا مكارم الأخلاق فخذ الصغير و أعط الكبير و خذ الكبير و اعط الصغير خيركم أحسنكم قضاء سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ذلك- رواهما ابن الجوزي لكن يمكن ان يقال المساهلة و المهاداة جارية بين الجيران و الخلاف فيما لم يجر بينه و بينه ذلك- و هذين الحديثين حجة للجمهور في جواز اقراض الخبز و الخمير فقيل يجوز اقراضها عددا و قيل وزنا و قال ابو حنيفة- لا يجوز و اللّه اعلم فَاكْتُبُوهُ اى اكتبوا الذي تداينتم به لانه أوثق و ادفع للنزاع- و الجمهور على انه امر استحباب فان تركت فلا بأس به كقوله تعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا- و قال بعضهم هى واجبة- و قال الشعبي- كانت كتابة الدين و الاشهاد او الرهن فرضا ثم نسخ الكل بقوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ-

قلت الناسخ ما يكون متراخيا في النزول و هذا ليس كذلك بل الآيتين نزلتا معا فهو قرينة دالة على كون الأمر بالكتابة و نحوها للاستحباب وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ يكتب برعاية حقوق الطرفين لا يزيد و لا ينقص امر للكاتب بالعدل و ذلك امر وجوب و يتضمن ذلك امرا للمتداينين باختيار كاتب فقيه متدين وَ لا يَأْبَ اى لا يمتنع كاتِبٌ من يعلم الكتابة أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّه مثل ما علّمه من كتبة الوثائق-

او لا يأب ان ينفع غيره بكتابته كما نفعه اللّه بتعليمها كقوله تعالى أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّه إِلَيْكَ- فَلْيَكْتُبْ تلك الكتابة المعلمة- امر بها بعد النهى عن الإباء بها تأكيدا- و يجوز ان يكون كما علّمه متعلقا به فيكون الأمر بالكتابة مطلقا في ضمن النهى عن الإباء عنها ثم الأمر بها مقيدة- و اختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب و تحمل الشهادة على الشاهد- فقال مجاهد بوجوبها إذا طولب- و قال الحسن بوجوبها إذا تعين نهما يعنى واجب على الكفاية و قال الضحاك- كانت واجبة على الكاتب و الشاهد فنسخها قوله تعالى وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ و فيه ما ذكرنا فيما قبل وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ- و الإملال و الاملاء لغتان فصيحتان بمعنى واحد- يعنى ليكن الممل «١» على الكاتب المديون لان إقراره حجة عليه بخلاف الدائن فان قوله لا يعتد به ما لم يقربه المديون او يحكم به الحاكم بعد ثبوت شرعى وَ لْيَتَّقِ المملل او الكاتب اللّه رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ اى لا ينقص من الحق الذي عليه او مما املى عليه المديون شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ناقص العقل مبذرا و يدخل فيه المجنون و المعتوه او ضَعِيفاً اى صغيرا او شيخا كبيرا اختل عقله و قيل هو ضعيف العقل «٢» لصغر او عته او جنون او لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس اوعى او جهل باللغة او حبس او مرض

(١) فى الأصل المملى.

(٢) فى الأصل ضعيف عقل-.

او غيبة لا يمكنه حضور الكاتب او كانت امراة مخدرة لا تستطيع حضور الكاتب فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ اى الذي يليى امره من ولى الصبى او الذي اختل عقله او الوكيل او المترجم-

قال البغوي قال ابن عباس و مقاتل أراد بالولى صاحب الحق يعنى ان عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولى الحق و صاحب الدين بِالْعَدْلِ لا يزيد على حقه لانه اعلم بالحق و اولى من غيرهما للاملال

فان قيل ايّ فائدة في املال الدائن مع ان قوله ليس ملزما على غيره

قلنا فائدة الكتابة ان لا ينسى العاقد ان قدر الثمن او قدر رأس المال او المسلم فيه او الاجل او نحو ذلك لا ان يكون حجة فان الحجة انما هو الشهود- وَ اسْتَشْهِدُوا اى اطلبوا ان يشهد المداينة شَهِيدَيْنِ اثنين مِنْ رِجالِكُمْ اى من المسلمين الأحرار فانهم هم المخاطبون بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ و المداينة غالبا لا يكون إلا بين الأحرار فلا يجوز عندنا شهادة الصبى لانه ليس برجل و به قال مالك و الشافعي و احمد و عامة العلماء- و في رواية عن مالك يقبل في الجراح إذا كانوا مجتمعين لامر مباح قبل ان يتفرقوا- و يروى ذلك عن ابن الزبير و الوجه لعدم قبول شهادتهم نقصان العقل و التميز فلا يجوز شهادة المجنون و المعتوه ايضا و عليه انعقد الإجماع لانه في معنى الصبى بل اولى لعدم القبول- و لا يجوز شهادة العبد عندنا و به قال مالك و الشافعي- و قال احمد تقبل شهادة العبد على الأحرار و العبيد- و هو قول انس بن مالك و به قال إسحاق و داود- قال البخاري في صحيحه قال انس شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا و اجازه شريح و زرارة بن ابى اوفى- و قال ابن سيرين شهادته جائزة الا العبد لسيده- و اجازه الحسن و ابراهيم و قال شريح كلكم بنوا عبيد و إماء- الى هاهنا لفظ البخاري و لا يجوز شهادة كافر على مسلم اجماعا- و كذا لا يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض عند مالك و الشافعي و احمد لانه فاسق

قال اللّه تعالى وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ- و عند ابى حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض و ان اختلف ملتهم لان الذمي من اهل الولاية بخلاف العبد بدليل ولاية الذمي على أولاده الصغار و قال اللّه تعالى بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ و بدليل مالكيته و كفره فسق في نفس الأمر و اما في زعمه فديانة و الكذب حرام في الأديان كلها- و قال ابن ابى ليلى و ابو عبيدة مع اختلاف الملة لا تقبل شهادتهم كشهادة اليهودي على النصراني-

قال البيضاوي قوله تعالى مِنْ رِجالِكُمْ دليل على اشتراط الإسلام قلت الخطاب مع المؤمنين فالاية لا تدل على اشتراط سلام الشهود الا إذا كان المشهود عليه مؤمنا- و احتج ابن الجوزي بحديث ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يرث ملة ملة و لا يجوز شهادة اهل ملة على ملة الا أمتي فانه يجوز شهادتهم على من سواهم رواه الدارقطني و ابن عدى- و هذا الحديث لو صح لكان حجة لابن ابى ليلى و لا يكون حجة لاحمد- و قال ابو حنيفة الكفر ملة واحد قال اللّه تعالى فَمِنْهُمْ «١» مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ و حينئذ يكون حجة لابى حنيفة ايضا- لكن الحديث ضعيف في سنده عمر بن راشد قال الدارقطني ضعيف و احتج ابو حنيفة بحديث جابر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أجاز شهادة اهل الكتاب بعضهم على بعض رواه ابن ماجة- و عنه قال- جاءت اليهود برجل و امراة منهم زنيا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال لليهود ما يمنعكم ان تقيموا عليهما الحد فقالوا كنا نفعل إذا كان الملك لنا فلما ان ذهب ملكنا فلا نجترئ على الفعل فقال لهم ايتوني بأعلم رجلين منكم- فاتوه بابني صوريا فقال لهما أنتما اعلم من ورائكما قالا يقولون قال انشد كما باللّه الذي انزل التورية على موسى كيف تجدون حدهما في التورية فقالا إذا شهد اربعة انهم راوا يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رجم- فقال ايتوني بالشهود فشهد اربعة فرجمهما النبي صلى اللّه عليه و سلم- رواه ابو داود و إسحاق بن راهويه و ابو يعلى الموصلي و البزار و الدارقطني- و رواه الطحاوي بلفظ قال عليه الصلاة و السلام تأتونى باربعة منكم يشهدون و هذان «٢» الحديثان لجابر كلاهما ضعيفان تفرد به مجالد بن سعيد قال احمد- هو ليس بشي ء- و قال يحيى- لا يحتج بحديثه- فَإِنْ لَمْ يَكُونا اى الشهود رَجُلَيْنِ اى لم؟؟ تشهادهما فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ اى

(١) فى الأصل منهم- [.....].

(٢) فى الأصل و هذين الحديثين.

فليستشهد رجل و امرأتان- و اشتراط عدم تيسر رجلين للاستشهاد بالمرأتين مع الرجل يشعر كونهما بدلا من الرجل و ان الأصل عدم الاستشهاد بهن فلشبهة البدلية لا يجوز شهادة النساء فيما يندرى ء بالشبهات من الحدود و القصاص اجماعا- و يؤيده ما روى ابن ابى شيبة حدثنا حفص عن حجاج عن الزهري قال مضت السنة من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الخليفتين بعده انه لا يجوز شهادة النساء في الحدود و الدماء انتهى- و هذا مرسل و المرسل عندنا حجة و تخصيص الخليفتين يعنى أبا بكر و عمر لانهما اللذان كان معظم تقرير الشرع و انعقاد الإجماعات في زمانهما و بعدهما ما كان من غيرهما الا الاتباع و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقتدوا بالذين من بعدي ابى بكر و عمر رواه الترمذي عن حذيفة- قال الشيخ ابن حجر روى عن مالك عن عقيل عن الزهري كما رواه ابن ابى شيبة و زاد و لا في النكاح و لا في الطلاق- و لا يصح هذا عن مالك و قال الشافعي و مالك لا يجوز شهادة النساء الا في الأموال خاصة و توابعها كالاذن و شرط الخيار و الشفعة و الاجارة و قتل الخطاء و كل جرح لا يوجب الا المال لا في النكاح و الطلاق و الوكالة و الوصية و العتق و الرجعة و النسب و نحو ذلك- و قال ابو حنيفة يجوز شهادة رجل و امرأتين في الحقوق كلها سوى الحدود و القصاص- وجه قولهم ان قبول شهادة رجلين او رجل و امرأتين امر تعبدى على خلاف القياس لانه من باب خبر الآحاد لا يفيد اليقين بصدق المدعى و كذب الاخر فكيف يرجب الزام المدعى عليه دعوى المدعى مع احتمال صدقه و كذب الشهود فيقتصر على مورد النص و هو الأموال كيف و قد قال اللّه تعالى في الرجعة و اشهدوا ذوى عدل منكم- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا نكاح الا بولي «١» و شاهدى عدل رواه الدارقطني عن عائشة و ابن مسعود و ابن عمر و ابن عباس نحوه- بخلاف رواية الحديث فانه ليس هناك الزام بل المسلمون ملتزمون احكام اللّه تعالى طالبون العلم به يلتمسون طرقه- فاذا وصل إليهم حكم بطريق قطعى اعتقدوه و عملوا به و ان وصل إليهم بطريق ظنى بحيث لم يترتب عليه العلم اليقيني عملوا به رجاء للثواب او خوفا عن العذاب ما لم يعارضه حكم اخر بطريق أقوى منه و هذا امر يقتضيه العقل و ايضا ثبت وجوب العمل بأحاديث الآحاد بالنصوص القطعية و الإجماع و لهذا لا يشترط في الرواية

(١) (فائدة) اجمع العلماء على اشتراط الإعلان في النكاح لكن قال أكثرهم يحصل الإعلان بشهادة رجلين- و قال مالك لا يحصل- فلما ثبت اشتراط الإعلان بالإجماع جاز به الزيادة على الكتاب و هو قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم- و قوله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ- منه قدس سره فائدة- قال احمد- لم يثبت في الشهادة في النكاح شي ء و كذا قال ابن المنذر

فان قيل إذا لم يثبت في اشتراط الشهادة في النكاح شي ء فما وجه القول بكون الشهادة شرطا في النكاح قلت قد صح قوله صلى اللّه عليه و سلم أعلنوا النكاح- رواه احمد و ابن حبان و الحاكم في المستدرك و الطبراني و ابو نعيم في الحلية من حديث ابن الزبير و الترمذي من حديث عائشة و حسنه فقال ابو حنيفة و من معه في اشتراط الشهود في النكاح ان الا علان لما كان شرطا في النكاح يعتبر فيه ما هو طريق الظهور شرعا و ذلك بشهادة شاهدين فان مع شهادتهما لا يبقى سرا و ذلك ادنى مراتب الإعلان إذ لاحد لاقصاه قال الكرخي نكاح السر ما لم يحضره شهود فاذا حضروا فقد علن- و قال مالك الا علان قد يحصل بالدف و بالأخبار بعد النكاح و يفوت الإعلان إذا اشهد رجلين على النكاح ثم قيل لهما لا تخبرا بهذا النكاح أحدا-

قلت بعد النكاح انما هى حالة البقاء و لا يشترط الإعلان في حالة البقاء اجماعا و لا ينفسخ النكاح بعد الانعقاد بالكتمان و الإنكار- و الضرب بالدف انما يوجب الإعلان بعد الانعقاد- و لذا شرطنا حضور الشاهدين و سما عهما سعا الإيجاب و القبول عن العاقدين حتى يثبت الإعلان في حال الانعقاد- منه رحمه اللّه.

ما يشترط في الشهادة من الحرية و الذكورة و العدد- و وجه قول ابى حنيفة- ان قبول الشهادة و ان كان امرا تعبديا على خلاف القياس لكنه جار في جميع الحقوق اجماعا ماليا كان او لا- و هذه الاية لما اثبت جواز قبول شهادة النساء في الأموال بالعبارة أثبتت في غير ذلك من الحقوق بالدلالة بالطريق الاولى او المساوى- لان قبول الشهادة مطلقا انما شرع صيانة لحقوق الناس من الأموال و الاعراض و الإيضاع و صيانة الابضاع و الاعراض اولى من صيانة الأموال او مثله قال عليه الصلاة و السلام في خطبته يوم عرفة و يوم النحر في حجة الوداع ان دماءكم و أموالكم و اعراضكم حرام- الحديث في الصحيحين و غيرهما و قال حرمة مالكم كحرمة دمكم- و قال عليه الصلاة و السلام من قتل دون ماله فهو شهيد و من قتل دون دمه فهو شهيد و من قتل دون دينه فهو شهيد و من قتل دون اهله فهو شهيد- رواه احمد و ابن حبان عن سعيد بن زيد و انما

قلنا بعدم جواز شهادة النساء في الحدود و نحوها لوجوب اندرائها بالشبهات و لا كذلك النكاح و غير ذلك- و قوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ- لا يدل على عدم قبول شهادة النساء و الزيادة على النص بدلالة نص اخر جائز اجماعا- و اما حديث لا نكاح الا بولي و شاهدى عدل- فليس بصحيح اما حديث عائشة ففيه محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه قال احمد و على ضعيف و قال يحيى ليس بثقة و قال النسائي متروك الحديث و قال الدارقطني هو و أبوه ضعيفان و في طريقة الاخر نافع بن ميسر ابو خطيب مجهول- و اما حديث ابن عباس فقيه النهاش قال يحيى ضعيف و قال ابن عدى لا يساوى شيئا- و اما حديث ابن مسعود ففيه بكر بن بكار قال يحيى ليس بشي ء و ايضا فيه عبد اللّه بن محرز قال الدارقطني متروك و اما حديث ابن عمر فيه ثابت بن زهير منكر الحديث أحاديثه يخالف الثقات خرج عن جملة من يحتج به كذا قال ابو حاتم و ابن عدى و ابن حبان-

(مسئلة) بهذه الاية يحتج ابو حنيفة على انه لا يجوز الحكم بشاهد واحد مع يمين المدعى في الأموال كما لا يجوز فى غيرها بالإجماع- و الجمهور يجوزون في الأموال دون غيرها محتجين بما روى عن رسول صلى اللّه عليه و سلم انه قضى باليمين مع الشاهد- رواه ابن الجوزي من حديث جابر و عليّ و قال و قد روى هذا الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عمر بن الخطاب و ابن عباس و ابو هريرة و ابن عمر و زيد بن ثابت و ابو سعيد الخدري و سعد بن عبادة و عامر ابن ربيعة و سهل بن سعد و عمارة و عمرو ابني حزم و المغيرة بن شعبة و بلال بن الحارث و سلمة بن قيس و انس بن مالك و تميم الداري و زينب بنت ثعلبة و بيرق-

قلت الحديث جابر فرواه احمد و الترمذي و ابن ماجة و البيهقي و الطحاوي من حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه قال الترمذي و رواه الثوري و غيره يعنى مالكا «١» عن جعفر عن أبيه مرسلا و هو أصح و رواه الدارقطني عن أبيه عن على عليهم السلام بلفظ ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قضى بشاهد واحد و يمين صاحب الحق- و هو منقطع قال الدارقطني في العلل كان جعفر ربما أرسله و ربما وصله و قال الشافعي و البيهقي عبد الوهاب وصله و هو ثقة قلت قال الذهبي اختلط في اخر عمره- و اما حديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قضى باليمين مع الشاهد- أخرجه ابو داود و الطحاوي و حسنه الترمذي و قال الطحاوي حديث منكر لانه من رواية قيس بن سعد عن عمرو بن دينار و لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشى ء- و اما حديث ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قضى بالشاهد و اليمين- رواه الشافعي و اصحاب السنن و ابن حبان و قال ابن ابى حاتم عن أبيه هو صحيح و هذا الحديث رواه سهيل بن ابى صالح عن أبيه و سمعه منه ربيعة ابن ابى عبد الرحمن ثم اختلط حفظه بشيخه فكان يقول أخبرني ربيعة انى أخبرته عن ابى عن ابى هريرة- ذكر هذه القصة الشافعي و الطحاوي عن الدراوردي- و روى هذا الحديث البيهقي من حديث مغيرة بن عبد الرحمن بن الزياد عن الأعرج

(١) فى الأصل مالك-.

عن ابى هريرة و نقل عن احمد أن حديث الأعرج ليس في الباب أصح منه و روى الطحاوي عن سهيل بن ابى صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت نحوه- و قال الطحاوي- منكر لان أبا صالح لا يعرف و له رواية عن زيد و فيه عثمان بن الحكم شيخ عبد اللّه بن وهب ليس بالذي يثبت مثل هذا بروايته-

قلت قال الذهبي عثمان بن الحكم الجرامى شيخ لابن وهب قال ابو حاتم ليس بالمتين- قال ابو حنيفة- هذا الحديث لو صح فهو حديث احاد لا يجوز به الزيادة على الكتاب مع انه معارض بما هو أقوى منه روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لو ان الناس اعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس و أموالهم و لكن اليمين على المدعى عليه- و رواه البيهقي بلفظ و لكن البيّنة على المدعى و اليمين على من أنكر- و حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البينة على المدعى و اليمين على المدعى عليه- رواه الدارقطني و الترمذي- و حديث وائل بن حجر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال للمدعى بينتك فقال ليس لى بينة قال يمينه قال إذا يذهب بها يعنى بالأرض قال ليس الا ذلك- رواه الطحاوي بطرق- وجه التعارض ان النبي صلى اللّه عليه و سلم جعل جنس اليمين على المدعى عليه و ليس سوى الجنس شى ء يرد على المدعى- و ايضا القسمة بين المدعى و المدعى عليه بالبينة و اليمين ينافى الشركة قال الطحاوي و ما رويتم انه صلى اللّه عليه و سلم قضى بالشاهد و اليمين يحتمل ان يكون مراده كما ذكرتم من يمين المدعى مع شاهد واحد ليحكم له و يجوز ان أريد به يمين المدعى عليه يعنى لما يقم المدعى على دعواه الا شاهدا واحدا فلم يعتد به النبي صلى اللّه عليه و سلم و استحلف المدعى عليه ليحكم له فروى ذلك ليعلم الناس ان المدعى يجب له اليمين بمجرد الدعوى لا كما قيل لانه لا يجب له اليمين ما لم يقم بينة انه كانت بينه و بين المدعى عليه خلط و لبس- و يحتمل ان يكون الشاهد الذي شهد وحده خزيمة الذي جعله النبي صلى اللّه عليه و سلم ذا الشهادتين-

قلت و هذا التأويل الثاني بعيد جدا-

قلت و عندى تأويل اخر و هوان اللام في الشاهد و اليمين للعهد اى بالشاهد المعهود في الشرع و هو رجلين او رجل و امرأتين من المدعى و باليمين المعهود على المنكر- او للجنس كما في حديث البينة للمدعى و اليمين على من أنكر يعنى قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالشاهد و اليمين لا بشى ء اخر من الوحى و غير ذلك- و تأويل آخر أن اللام للجنس و المراد باليمين يمين الشاهد يعنى قضى بالشاهد مع يمينه و المراد باليمين قوله اشهد فان لفظة اشهد من صيغ اليمين و يشترط لقبول الشهادة لفظة اشهد و هذه التأويلات و ان كانت بعيدة لكن يرتكب مثلها لدفع تعارض النصوص و اللّه اعلم و التحقيق ان المسألة مبنية على خلافية اصولية انه يجوز الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد عندهم لا عنده و اللّه اعلم- ( (مسئلة)) اجمعوا على انه يجوز شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة و البكارة و عيوب النساء ثم اختلفوا فقال ابو حنيفة يكفى هناك شهادة امراة واحدة حرة مسلمة عادلة و الثنتان أحوط- و قال مالك لا بد من ثنتين- و قال الشافعي لا بد من اربع لانه أقيمت شهادة امرأتين مقام رجل واحد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ ليس شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل- و وجه قول مالك ان المعتبر في الشهادة العدد و الذكورة لكن الذكورة سقطت للضرورة فبقى العدد لنا ما رواه محمد بن الحسن عن ابى يوسف عن غالب بن عبد اللّه عن مجاهد عن سعيد بن المسيب و عطاء بن رياح «١» و طاؤس قالوا قال رسول اللّه صلى اللّه

(١) ابى رباح-.

عليه و سلم شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر اليه- و هذا مرسل يجب العمل به وجه الاحتجاج ان اللام للجنس لعدم العهد فيصح بواحدة و الأكثر احسن- و روى عبد الرزاق عن ابن جريح عن الزهري قال مضت السنة انه يجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال من ولادات النساء و عيوبهن- و رواه ابن ابى شيبة- و روى عبد الرزاق عن ابن عمر قال لا يجوز شهادة النساء وحدهن الا ما لا يطلع عليه الا هن من عورات النساء- و له مخارج اخرى- و عن حذيفة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أجاز شهادة قابلة- رواه الدارقطني من حديث محمد بن عبد الملك عن الأعمش قال الدارقطني هو لم يسمع من الأعمش بينهما رجل مجهول- مِمَّنْ تَرْضَوْنَ- يعنى من كان غير متهم في شهادته بالفسق او قلة المروة او العداوة الدنيوية بينه و بين المشهود عليه او القرابة بينه و بين المشهود له- فلا يقبل شهادة الفاسق اجماعا لان العدالة شرط في الرواية حيث قال اللّه تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا- ففى الشهادة بالطريق الاولى و العدالة هو إتيان الواجبات و الاجتناب عن الكبائر و ترك الإصرار على الصغائر- و في تفسير الكبائر كلام و قد روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الكبائر الشرك باللّه- و السحر- و قتل النفس- و أكل الربوا- و أكل مال اليتيم- و التولي يوم الزحف- و قذف المؤمنات المحصنات في المتفق عليه عن ابى هريرة و عقوق الوالدين- و اليمين الغموس عند البخاري عن عبد اللّه بن عمر و شهادة الزور في المتفق عليه عن انس و ابى بكرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا أنبئكم بأكبر الكبائر قال الشرك و عقوق الوالدين و كان متكئا فجلس و قال الا و قول الزور الا و شهادة الزور فما زال يكررها حتى

قلنا ليته سكت و قال عليه السلام لا يزنى الزاني حين يزنى و هو مؤمن الحديث فذكر نحوه- السرقة- و شرب الخمر و النهبة- و الغلول رواه البخاري عن ابى هريرة و قال عليه الصلاة و السلام اربع من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر متفق عليه عن عبد اللّه بن عمرو و في المتفق عليه عن ابى هريرة ثلاث فذكر إذا وعدا خلف بدل الأخيرين و قيل الكبيرة ما فيه حد و قيل ما ثبت حرمته بنص القران- و قيل ما كان حراما بعينه كاللواطة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يجوز شهادة خائن و لا خائنة و لا ذى غمر على أخيه و لا يجوز شهادة القانع لاهل البيت و يجوز شهادته لغيرهم- و القانع الذي ينفق عليه اهل البيت رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة و ابن دقيق العبد و البيهقي و زاد ابو داود بعد

قوله و لا خائنة و لا زان و لا زانية- قال ابن الجوزي فيه محمد بن راشد ضعيف- و قال في التنقيح- وثقه احمد بن حنبل- و عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يجوز شهادة خائن و لا خائنة و لا مجلود حدا و لا ذى غمر لاخيه يعنى ذى عداوة و لا قانع لاهل البيت لهم و لا ظنين في ولاد و لا قرابة رواه الترمذي و الدارقطني و البيهقي من حديث يزيد بن زياد الدمشقي و هو ضعيف و عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال لا يجوز شهادة الوالد لولده و لا الوالدة و لا المرأة لزوجها و لا الزوج لامراته و لا العبد لسيده و لا السيد لعبده و لا الشريك لشريكه في الشي ء بينهما و لكن في غيره و لا الأجير لمن استأجر- رواه الخصاف بسنده-

(مسئلة) قال ابو حنيفة يقتصر الحاكم في العدالة على ظاهر صلاحه و لا يسئل عن حاله الا إذا طعن فيه الخصم- و قال ابو يوسف و محمد لا بدان يسئل عنهم سرا و علانية طعن الخصم او لا- و به قال الشافعي و احمد و قال مالك من كان مشهورا بالعدالة لا يسئل عنه و من عرف جرحه ردت شهادته و يسئل إذا شك- احتج ابو حنيفة بقوله صلى اللّه عليه و سلم- المسلمون عدول بعضهم على بعض الا محدودا في قذف- رواه ابن ابى شيبة- و عن عمر بن الخطاب انه كتب لابى موسى الأشعري و فيه المسلمون عدول بعضهم على بعض الا مجلودا في قذف او مجربا في شهادة زورا و ظنينك في ولاء او قرابة- رواه الدارقطني من طريق فيه عبد اللّه ابو حميد و هو ضعيف و من طريق اخر حسنه

و اخرج البيهقي من طريق غير الطريقين قال العلماء الحنفية و الفتوى على قول ابى يوسف و محمد قالوا و الخلاف انما هو خلاف زمان لا خلاف حجة و برهان لان الغالب في زمان ابى حنيفة كان الصلاح ثم فسد الزمان في وقت صاحبيه و الحق كذلك قلت و الفتوى في زماننا هذا على قول ابى حنيفة لان في زماننا لا يوجد رجل عدل على ما شرط في الكتب فلو ضيقنا الأمر يتوى حقوق الناس و ينسد باب القضاء بل في زماننا هذا الفاسق إذا كان وجيها ذا مروة يغلب على الظن انه لا يكذب في الشهادة او دلت القرائن على صدقه يقبل شهادته- و اختار المتأخرون تحليف الشهود مقام التزكية-

فان قيل هذا تعليل فى مقابلة النص فلا يقبل-

قلنا بل هو مقتضى النص فان قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ...-

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ يقتضى كون الشهداء من رجال كل قرن مرضيين منهم و كيف يمكن في قرتنا هذا ان تستشهد مثل ابى حنيفة إذ لا يوجد عادل في هذا القرن و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاصحابه انكم في زمان من ترك منكم عشر ما امر به هلك ثم يأتى زمان من عمل منهم عشر ما امر به نجا- رواه الترمذي عن ابى هريرة- و تأويل هذا الحديث ان اللّه سبحانه يغفر ذنوب رجال يريدون اللّه و الدار الاخرة في الازمنة الفاسدة اكثر مما يغفر ذنوب رجال صالحين من القرون الصالحة و ان كان ذنوبهم اكثر من ذنوب أولئك لان المعاصي صارت مباحة في هذه القرون و مثل الفريقين كمثل العسكرين عسكر يجاهدون كلهم كمال المجاهدة و عسكر في أكثرهم و صبر بعضهم نوع صبر و لم يفروا فالسلطان يعطى هؤلاء الصابرين اكثر مما يعطى أولئك المجاهدين و الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء و يغفر لمن يشاء الكبائر و يعذب من يشاء على الصغائر مِنَ الشُّهَداءِ كلمة من للتبعيض فهو يدل على ان الفاسق ايضا اهل للشهادة فان قبل القاضي شهادته جار لكنه يأثم إذا لم يبالغ في طلب الحق غاية وسعه أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما قرأ حمزة ان بكسر الهمزة فحينئذ تضل مجزوم بناء على الشرط لم يظهر جزمه بالتشديد و معناه ينسى فَتُذَكِّرَ بالرفع على انه خبر مبتدأ و الجملة الاسمية جزاءاى فهى تذكرها إِحْداهُمَا الْأُخْرى

و قرا العامة ان بالفتح و نصب تضل بان فتذكّر منصوبا معطوفا على ما سبق قرا ابن كثير و ابو عمرو فتذكر مخففا من الافعال و الباقون مشددا من التفعيل و معناهما واحد من الذكر ضد النسيان- و فيه اشعار على نقصان عقلهن و قلة ضبطهن.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رايت من ناقصات عقل و دين اذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلن يا رسول اللّه ما نقصان عقلنا قال أ ليس شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل قلن بلى قال فذلك من نقصان عقلها قلن فما نقصان ديننا يا رسول اللّه قال أ ليس إذا حاضت لم تصل و لم تصم قال فذلك من نقصان دينها وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا قيل أراد به إذا دعو التحمل لشهادة و اسم الشهداء حينئذ مجاز فيمن سيتصف بالشهادة و هو امر إيجاب عند بعضهم و قال قوم يجب الاجابة إذا لم يكن غيرهم فان وجد غيرهم فهم مخيرون و هو قول الحسن- و قال قوم هو امر ندب- و قيل معناه إذا دعوا لاداء شهادة تحملوها من قبل و هو قول مجاهد و عكرمة و سعيد بن جبير و ذلك واجب البتة بدليل قوله تعالى وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ و عن ابى موسى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من كتم شهادة إذا دعى إليها كان كمن شهد بالزور رواه الطبراني في الكبير و الأوسط و في سنده عبد اللّه بن صالح كاتب ليث احتج به البخاري ( (مسئلة)) إذا دعى الشاهد الى مجلس الحاكم كى يؤدى شهادته قيل يلزم ذلك إذا كان مجلس القاضي قريبا فان كان بعيدا فلا لقوله تعالى وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ- و عن نصر ان كان بحال يمكنه الرجوع الى اهله فى يومه يجب لانه لا ضرر عليه ( (مسئلة)) لو كان الشاهد شيخا فاركبه الطالب على دابته فلا بأس به- و عن سليمان فيمن اخرج الشهود الى ضيعه فاستأجر لهم حميرا فركبوها لا يقبل شهادتهم- و فصّل في النوازل بين كون الشاهد شيخا لا يقدر على المشي و لا يجد ما يستاجر به دابة فيقبل و ما ليس كذلك فلا يقبل- قال ابن همام و فيه نظر لان إكرام الشهود مأموربه ( (مسئلة)) و لو وضع للشهود طعاما فاكلوا ان كان مهيا من قبل ذلك يقبل شهادتهم و ان صنعه لاجلهم لا يقبل هذا قول ابى حنيفة و عن محمد لا يقبل فيهما و عن ابى يوسف يقبل فيهما- قال ابن همام و هو الاوجه للعادة الجارية بالطعام من حل محله ممن يعز عليه شاهدا كان اولا هذا فيما لا يشترط و اما إذا اشترط فهو اجرة و رشوة حرام على الشاهد اخذه و على المشهود له إعطاؤه و ان أخذ الشاهد لا يقبل شهادته سواء تعين هو للشهادة بان لا يكون غيره شاهدا او لم يتعين لانه إذا اشترط صارا جيرا عاملا لنفسه بالاجرة- و قال الشافعي ان تعين عليه لا يجوز له أخذ الاجرة و ان لم يتعين عليه جاز لانه ليس بفريضة عليه-

قلنا ان تعين فهو فرض عين و الا ففرض كفاية و لو سلمنا فهو مندوب و لا يجوز أخذ الاجرة على العبادة عندنا و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الراشي و المرتشي في النار رواه الطبراني في الصغير عن ابن عمر بإسناد حسن- وَ لا تَسْئَمُوا اى لا تملوا من كثرة مدايناتكم أَنْ تَكْتُبُوهُ اى الدين او الحق او الكتاب صَغِيراً كان الحق او كَبِيراً مضافا إِلى أَجَلِهِ اى وقت حلوله ذلِكُمْ اشارة الى ان تكتبوه أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه اى اكثر عدلا وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ اى اثبت لاداء الشهادة وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا اى اقرب ان لا تشكوا عند الشهادة في جنس الدين او قدره او اجله او نحو ذلك و هما مبيّنان لاقسط- او يكون المعنى ذلك اى الكتابة اقسط عند اللّه في حق من له و من عليه الحق فلا ينسى ما له و ما عليه فلا يدعى المدعى الزيادة و يقربه المدعى عليه و أقوم في حق الشاهد للشهادة فلا يزيد و لا ينقص فى الشهادة وقت الأداء و أدنى ان لا ترتابوا ايها الخصماء و الشهداء- قيل فائدة الكتابة في الشاهد ليس الا ان يتذكر الوقعة التي شهدها و لا يجوز للشاهدان راى خطه ان يشهد الا ان يتذكر شهادته كذا ذكر في القدورى و غيره و قال صاحب الهداية هذا قول ابى حنيفة و عندهما يحل له الشهادة إذا راى خطه و ان لم يتذكر و قيل هذا يعنى عدم جواز الشهادة بالاتفاق- و انما الخلاف فيما إذا وجد القاضي شهادته في ديوانه و هو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة و النقصان هل يجوز للقاضى العمل عليه- و لا كذلك الشهادة فى الصك إذا كان في يد المدعى لانه لا يؤمن من التغير و الخط يشبه الخط و هذا يدل على انه ان كان المكتوب عند الشاهد بحيث لا يحتمل التغير يجوز للشاهد ان يشهد عليه و ان لم يتذكر عند ابى يوسف و محمد و قال ابو حنيفة لا يجوز وجه قول الصاحبين ان المكتوب إذا كان مامونا من التغير فهو كالمتذكر الا ترى ان الصحابة و التابعين كانوا يعملون على كتب النبي صلى اللّه عليه و سلم و خلفائه كما كانوا يعملون على خطاباته- و قد مرقصة عبد اللّه بن جحش و كتابه في تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ- و وجه قول ابى حنيفة ان الشهادة مبنىّ على المشاهدة و من ثم يشترط لفظ الشهادة و قد قال عليه الصلاة و السلام- إذا رايت مثل الشمس فاشهد إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً قراهما عاصم بالنصب على خبر كان و الاسم مضمر اى الا ان تكون التجارة تجارة حاضرة و رفعها «١» الآخرون على انه اسم كان تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ليس فيها أجل- و هذه الجملة صفة لتجارة على قراءة عاصم و كذا على قراءة الجمهور ان كان تامة و الا فهو خبرها- و الاستثناء منصرف الى الأمر بالكتابة- و التجارة الحاضرة يعم المبايعة بدين حال او عين فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها اى التجارة- وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ قال الضحاك و داود الأمر للوجوب فالاشهاد واجب سواء كان بالنقد او النسية- و قال ابو سعيد الخدري كان واجبا فنسخ بقوله تعالى- فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً- و عند الجمهور الأمر للندب- و كثيرا ما لم يشهد النبي صلى اللّه عليه و سلم عند المبايعة روى احمد من حديث عمارة بن خزيمة عن عمه و هو من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم ان النبي صلى اللّه عليه و سلم ابتاع فرسا من أعرابي فاسرع النبي صلى اللّه عليه و سلم في المشي ليؤتى ثمن فرسه و ابطا الاعرابى فطفق «٢» رجال يعرضون للاعرابى فيساومون بالفرس لا يشعرون ان النبي صلى اللّه عليه و سلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الاعرابى في السوم على ثمن الفرس فنادى الاعرابى النبي صلى اللّه عليه و سلم ان كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه و إلا بعته فقام النبي صلى اللّه عليه و سلم حين سمع نداء الاعرابى فقال او ليس قد ابتعته منك- فقال لا و اللّه ما بعتك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم بلى قد ابتعته فطفق

(١) فى الأصل رفعها.

(٢) فى الأصل فطق.

الاعرابى يقول هلم شهيدا يشهدانى قد بايعتك- فطفق الناس يقولون للاعرابى ويلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن ليقول الا حقا حتى جاء خزيمة فاستمع مراجعة النبي صلى اللّه عليه و سلم و مراجعة الاعرابى و طفق الاعرابى يقول هلم شهيدا يشهد انى بعتك فقال خزيمة انا اشهد انك قد بايعته- فاقبل النبي صلى اللّه عليه و سلم على خزيمة فقال بم تشهد قال بتصديقك يا رسول اللّه فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين-

قلت و عندى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم انما حكم كذلك لعلمه بانه قد بايع و ان الاعرابى كاذب في إنكاره لا بشهادة خزيمة وحده و انما جعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين لما راى قوة إيمانه و لمال عقله و درايته- و يستنبط من هذا الحديث ان القاضي لو كان عالما بالحق يسعه الحكم على وفق علمه لان علمه فوق ما يحصل من الظن بشهادة رجلين- كما ان أبا بكر حكم على فاطمة بمنع الإرث بحديث سمعه من النبي صلى اللّه عليه و سلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث- و ان السلطان او القاضي او غيرهما لو ابتاع من غيره شيئا او كان له حقّ «٣» على الغير و هو يعلم ذلك يقينا وسعه ان يأخذ من ذلك الغير حقه جبرا و ان كان ذلك الغير

(٣) فى الأصل حقا.

منكرا لحقه و لا تبيعة عليه في ذلك عند اللّه تعالى- لكن لو رفع هذا الأمر الى قاضى غيره لا يجوز لذلك الغير الحكم بعلم السلطان و القاضي المدعى ما لم يقم عليه بينة و اللّه اعلم وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ يحتمل ان يكون لا يضار مبنيا للفاعل يعنى لا يضر كاتب و لا شهيد أحدا من المتبايعين من ترك الاجابة إذا كان متعينا للشهادة و الكتابة و التحريف و التغيير في الكتابة او الشهادة و هذا قول طاؤس و الحسن و قتادة- و يحتمل ان يكون مبنيا للمفعول اى لا يضر المتبايعان الكاتب فلا يعطيان جعله و لا الشاهد ان يدعوه الى الشهادة و هو على شغل او مريض او ضعيف و هو غير معين للشهادة بل كان على تلك الوقعة شهود «١» غيره ايضا وَ إِنْ تَفْعَلُوا سانهيتكم من الضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ اى خروج عن طاعة اللّه تعالى و معصيته لاحق بكم فيها وَ اتَّقُوا اللّه فى مخالفة امره وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّه مصالح دينكم و دنياكم وَ اللّه بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) كرر لفظ اللّه في الجمل الثلاث لاستقلالها فان الاولى حث على التقوى و الثانية وعد بانعامه و الثالثة تعظيم لشأنه-.

(١) فى الأصل شهودا.

٢٨٣

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ اى مسافرين وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ قرأ ابن كثير و ابو عمرو بضم الراء و الهاء و الباقون فرهان بكسر الراء و الف بعد الهاء- و رهن جمع رهن بفتح الراء و سكون الهاء مثل بغل و بغال- و رهن بالضمتين جمع رهان جمع الجمع كذا قال الفراء و الكسائي و قال ابو عبيد و غيره رهن بالضمتين جمع رهن بالفتح و السكون ايضا على وزن يسقف و سقف- و الرهن لغة حبس الشي ء قال اللّه تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ- و في الشرع جعل اسما لما يحبس بحق يمكن استيفاؤه منه- و لما كان الحبس هو معناه اللغوي و المعنى اللغوي يكون معتبرا في المعنى الشرعي فهو عقد لازم لا يجوز للراهن استرداده من المرتهن ما بقي عليه درهم- و قوله تعالى فرهن خبر مبتدأ محذوف او فاعل فعل محذوف مبنى للمفعول اى فالذى يستوثق به رهن او فليؤخذ رهن او فعليكم رهان- و الأمر ليس للايجاب اجماعا بل للارشاد و الشرط خرج مخرج العادة على الأعم الا غلب فليس مفهوم معتبرا عند القائلين بالمفهوم ايضا حيث يجوز الرهن في الحضر و مع وجود الكاتب اجماعا

و قال مجاهد و داود لا يجوز الا في السفر عند عدم الكاتب- لنا حديث عائشة رواه الائمة الستة و حديث انس رواه البخاري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم رهن درعه بالمدينة من يهودى بعشرين صاعا من شعير اخذه لاهله و مات عليه السلام و كان درعه مرهونا عنده مَقْبُوضَةٌ لاجل هذا القيد قال ابو حنيفة و الشافعي و احمد لا يجوز الرهن اى لا يلزم بدون القبض- و قال مالك يلزم بنفس العقد و يجبر الراهن على التسليم لنا ان مشروعيته و لزومه ثبت بنص القران مقبوضة و كان القياس يقتضى كونه تبرعا غير لازم لان الراهن لا يستوجب بمقابلته على المرتهن شيئا فيقتصر على مورد النص- و لاجل اشتراط القبض في الرهن قال ابو حنيفة لا يجوز رهن المشاع سواء كان قابلا للقسمة اولا لان الشيوع ينافى دوام القبض بل يقتضى المهاباة فصار كما إذا قال رهنتك يوما دون يوم و الرهن بمعنى الحبس يقتضى دوام الحبس لان المطلق ينصرف الى الكامل- بخلاف الهية فان المانع هناك من الهبة في المشاع غرامة القسمة على الواهب و هو فيما يحتمل القسمة لا فيما لا يحتمله و قال مالك و الشافعي و احمد يجوز رهن المشاع مطلقا سواء كان قابلا للقسمة اولا-

(مسئلة) و إذا تم الرهن بالقبض خرج المرهون من ملك الراهن يدا و بقي في ملكه رقبة و ملكه المرتهن يد الا رقبة فلا يجوز للراهن الانتفاع بالمرهون من ركوب الدابة المرهونة و السكون في الدار و لبس الثوب و نحو ذلك الا برضاء المرتهن لانه ينافى مالكية المرتهن يدا و لزوم حبسه دائما هذا عند ابى حنيفة رحمه اللّه و قال الشافعي يجوز للراهن الانتفاع به لقوله صلى اللّه عليه و سلم الرهن مركوب محلوب- رواه الدارقطني و الحاكم عن حديث الأعمش عن ابى صالح عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و اعل هذا الحديث ابن ابى حاتم فقال قال ابى رفعه مرة ثم ترك الرفع بعده- و رجح الدارقطني ثم البيهقي رواية من وقفه عن من رفعه-

قلنا هذا الحديث مجمل يحتمل ان يكون مركوبا للراهن و يحتمل ان يكون مركوبا للمرتهن فلا يجوز الاستدلال به

(مسئلة) و لا يجوز للراهن شى ء من التصرفات الشرعية في المرهون- فان فعل فما كان منها يحتمل الفسخ كالبيع و الهبة و نحو ذلك ينعقد بناء على ملك الرقبة و يتوقف على اجازة المرتهن او فك الرهن- و اما ما لا يحتمل الفسخ كالعتق فينفذ بناء على ملك الرقبة و عدم احتمال الفسخ- و يجب عليه قيمة العبد رهنا عند المرتهن ان كان موسرا و على العبد السعى في قيمته ان كان معسرا هذا عند ابى حنيفة و احمد- و عند مالك يتوقف عتقه كالبيع- و عند الشافعي ينفذ ان كان موسرا و لا ينفذ ان كان معسرا-

(مسئلة) يجب على الراهن نفقة المرهون بناء على ملك الرقبة- و زوائد المرهون من الولد و الصوف و اللبن و الثمر و نحوه كلها ملك الراهن اجماعا قال عليه الصلاة و السلام له غنمه و عليه غرمه و قيل ملك للمرتهن عند احمد لكن عبارة ابن الجوزي في التحقيق يقتضى انه ملك الراهن عنده حيث قال للمرتهن استيفاء النفقة من دره و ظهره

(مسئلة) زوائد المرهون يكون مرهونا عند ابى حنيفة رحمه اللّه لان لها حكم الأصل فيكون مملوكة للراهن رقبة و للمرتهن يدا- و بناء على عدم مالكيته رقبة لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون بل يكون ذلك ربوا و لا يجوز للمرتهن في المرهون شى ء من التصرفات المبنية على الملك

(مسئلة) ما أنفق المرتهن على المرهون ان كان بإذن الراهن يكون دينا عليه و ان كان بغير اذنه يكون متطوعا- و قال احمد يكون دينا عليه مطلقا و يجوز للمرتهن استيفاؤه من ظهره و دره- و استدل على ذلك ابن الجوزي بحديث الرهن مركوب محلوب و بما رواه البخاري عن الشعبي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرهن بما فيه يركب بنفقته إذا كان مرهونا و لبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا و على الذي يركب و يشرب النفقة- و رواه ابو داؤد بلفظ يحلب مكان يشرب و رواه الطحاوي بلفظ الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا و لبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا-

قلنا هذا الحديث يدل على ان نفقة الرهن واجب على من يركب و الإجماع انعقد على ان نفقة الرهن على الراهن فلعل هذا الحكم كان قبل تحريم الربوا حين لم يكن القرض الذي يجر منفعة منهيا عنه- و حين لم يكن أخذ الشي ء بالشي ء و ان كانا غير متساويين بالمعيار الشرعي من غير عقد جرى بين المالكين منهيا عنه فهذا الحكم منسوخ على ما يقتضيه الإجماع باية الربوا- و بقوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ- و بقوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ و اما قوله الرهن بما فيه فغير منسوخ و معناه الرهن مضمون بما رهن فيه من الدين يعنى ان كان الدين مثل الرهن او اقل منه فالدين يسقط بهلاك الرهن و الفضل من الرهن امانة-

(مسئلة) إذا مات الراهن يباع المرهون في دين المرتهن فقط و لا يتعلق به حق سائر غرماء الراهن لانه كان مالكا يدا من الابتداء و مستحقا لملك الرقبة و كان يده يد استيفاء

(مسئلة) و ان هلك الرهن في يد المرتهن من غير تعد كان مضمونا عند ابى حنيفة و مالك لانه كان مالكا يدا و يده كان يد استيفاء و بالهلاك تقرر الاستيفاء فلو وجب على الراهن أداء الدين ثانيا لزم الربوا- فقال مالك- يضمن بالقيمة لوقوع الاستيفاء به و قال ابو حنيفة- بالأقل من الدين و القيمة و الفضل امانة- كذا روى الطحاوي عن عمر رضى اللّه عنه- و عند شريح و الحسن و الشعبي مضمون بالدين و قال الشافعي و احمد أمانته فى يد المرتهن لا يضمن الا بالتعدي لقوله صلى اللّه عليه و سلم لا يعلق الرهن من صاحبه الذي رهنه الرهن لمن رهن له غنمه و عليه غرمه- رواه ابن حبان في صحيحه و الدارقطني و الحاكم من طريق زياد ابن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابى هريرة مرفوعا لا يعلق الرهن له غنمه و عليه غرمه قال الدارقطني زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات و هذا حديث حسن متصل- و أخرجه ابن ماجة من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري- و أخرجه الحاكم من طرق عن ابى هريرة موصولا ايضا- و رواه الأوزاعي و يونس و ابن ابى ذئب عن الزهري- عن سعيد مرسلا- و رواه الشافعي عن ابن ابى فديك و ابن ابى شيبة عن وكيع- و عبد الرزاق عن الثوري كلهم عن ابن ابى ذئب كذلك و لفظه لا يعلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه و عليه غرمه- و صحح ابو داود و البزار و الدارقطني إرساله و له طرق عند الدارقطني و البيهقي كلها ضعيفة و روى ابن حزم و الدارقطني من طريق شبابة عن ورقاء عن ابن ابى ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب و ابى سلمة بن عبد الرحمن عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يعلق الرهن الرهن لمن رهنه له غنمه و عليه غرمه- قال ابن حزم- هذا حديث حسن و صحح ابن عبد البر و عبد الحق وصله قال الحافظ ابن حجر فيه عبد بن نصر له أحاديث منكرة- و قوله له غنمه و عليه غرمه قيل انها مدرجة من قول ابن المسيب- كذا قال ابو داود في المراسيل- قال ابن عبد البر هذه اللفظة اختلف في رفعها و وقفها فرفعها ابن ابى ذئب و معمر و غيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن ابى ذئب و وقفها غيرهم وجه احتجاج الشافعي بهذا الحديث ان الحديث يدل على ان الرهن لا يخرج من ملك الراهن و هو معنى قوله لا يعلق الرهن- و معنى قوله- لصاحبه غنمه يعنى سلامته و عليه غرمه يعنى هلاكه-

قلنا تأويل الحديث ليس هكذا بل تأويله على ما ذكره ابن الجوزي عن ابراهيم النخعي انهم كانوا يرهنون و يقولون ان جئتك بالمال الى وقت كذا و الا فهو لك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا يعلق الرهن- و روى الطحاوي بسنده عن ابراهيم نحوه و روى عن مالك بن انس و سفيان بن سعيد انهما يفسران هكذا- و معنى قوله له غنمه يعنى زوائد المرهون له و عليه غرمه يعنى عليه نفقته و هذا المعنى مجمع عليه و لنا في وجوب الضمان ما رواه الطحاوي ثنا محمد بن خزيمة ثنا عبيد اللّه بن محمد التيمي قال انا عبد اللّه بن مبارك قال ثنا مصعب بن ثابت عن عطاء بن ابى رباح ان رجلا ارتهن فرسا فمات الفرس في يد المرتهن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذهب حقك هذا مرسل و المرسل عندنا حجة و يؤيده ما رواه البخاري عن ابى هريرة الرهن بما فيه و قد مر و كذا عن انس عند الدارقطني رواه ابن الجوزي بطريقين ضعيفين و هذا يدل على ان ما فضل من القيمة فهو امانة و هو القياس إذا الاستيفاء لا يتحقق الا بقدر الواجب-

فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً اى بعض الدائنين بعض المديونين و استغنى بامانته عن الرهن و الكتابة- و في قراءة أبيّ فان ائتمن و المعنى واحد فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ اى دينه سماه امانة لايتمانه بترك الكتابة و الرهن عن انس قال فلما خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا قال لا ايمان لمن لا امانة له و لا دين لمن لا عهد له- رواه البيهقي في الشعب وَ لْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ فى الخيانة و الإنكار من الحق و فيه مبالغات- و قد مر في الحديث اية المنافق ثلث و ذكر فيه إذا اؤتمن خان وَ لا تَكْتُمُوا ايها الشهداء الشَّهادَةَ على المديونين إذا ما خانوا و لم يؤدوا ما أمن بعضكم بعضا و أنكروا الحق الذي عليهم- و يحتمل ان يكون المراد لا تكتموا ايها المديونين الشهادة بالحقوق الذي عليكم اى أقروا على أنفسكم وَ مَنْ يَكْتُمْها اى الشهادة بالحق فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ مرفوع بالفاعلية او الابتداء اى يأثم قلبه او قلبه اثم- و الجملة خبران و أسند الإثم الى القلب لان الكتمان فعل القلب ففى الاسناد اليه تأكيد و مبالغة كما يقال رايته بعيني و سمعته بأذنى و حفظته بقلبي او لانه رئيس الأعضاء و أفعاله أعظم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان في جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله الا و هى القلب- متفق عليه عن النعمان بن بشير قيل أراد به مسخ القلب نعوذ باللّه منها وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ من الشهادة و الكتمان عَلِيمٌ (٢٨٣) تهديد و هذه الاية دليل على ان كتمان الشهادة حرام و أداؤها فريضة و ان لم يسئله المشهود له- و إذا كان المشهود له لا يعلم بشهادة الشاهد يجب على الشاهد ان يعلّمه بانه شاهد- و قال قوم الشهادة من قبل ان يستشهد مذموم لحديث عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خير أمتي قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم ان بعدهم قوما يشهدون و لا يستشهدون و يخونون و لا يؤتمنون و ينذرون و لا يوفون و يظهر فيهم السمن- و في رواية و يحلفون و لا يستحلفون- متفق عليه- و عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- أكرموا أصحابي فانهم خياركم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى ان الرجل ليحلف و لا يستحلف و يشهد و لا يستشهد رواه النسائي و اسناده صحيح و في الباب حديث ابى هريرة نحوه و حديث ابن مسعود بلفظ يسبق شهادتهم ايمانهم و ايمانهم شهادتهم- روى الطحاوي الحديثين بطرق-

قلنا المراد بهذه الشهادة المذمومة الشهادة على الكذب بقرينة قوله ثم يفشوا الكذب و قوله و يخونون و لا يؤتمنون و ينذرون و لا يوفون- و قد روى الطحاوي بسنده من طريق مالك عن زيد بن خالد الجهني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال- الا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتى بشهادته قبل ان يسئل عنها- او يخبر بشهادته قبل ان يسئلها-.

٢٨٤

للّه ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا و ملكا قيل فيه دليل على ان كل ما سواه تعالى متحيز و لا شى ء من الممكنات مجردا و الا لكان بيان خالقيته و مالكيته قاصرا لان الأهم اثبات مالكية المجردات و هذا ليس بشى ء بل التحقيق ان من الممكنات مجردات و هى أرواح البشر و الملائكة و غيرهم و قد انكشف على ارباب القلوب من المجردات القلب و الروح و السر و الخفي و الأخفى و اللّه تعالى اعلم بخلقه ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ و انما اقتصر هاهنا على ذكر ما في السموات و ما في الأرض بناء على قصر نظر العوام عليها و ذكرها كاف للاستدلال على الصانع جلت قدرته- و لان الاستدلال لا يتصور الا بامور مشهودة معلومة للعوام لا بامور مختفية على الخواص و من ثم لم يذكر هاهنا العرش و الكرسي مع انهما ليسا في السموات و الأرض و اللّه اعلم- وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ او تُخْفُوهُ من الرذائل كالنفاق و الرياء و العصبية «١» و حب الدنيا و الغضب و الكبر و العجب و الأمل و الحرص و ترك التوكل و الصبر و الحسد و الحقد و نحو ذلك مما هو من افعال القلوب و النفوس- عن جبير بن مطعم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس منا من دعا على عصبيته و ليس منا من مات على عصبيته رواه ابو داؤد و عن حارثة بن وهب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا أخبركم باهل الجنة كل ضعيف متضعّف لو اقسم على اللّه لابره الا أخبركم باهل النار كل عتلّ «٢» جوّاظ «٣» مستكبر- متفق عليه- و في رواية لمسلم كل جواظ زنيم «٤» متكبر- و عن الحسن مرسلا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- حب الدنيا رأس كل خطيئة- رواه البيهقي في شعب الايمان عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حب ابى بكر و عمر ايمان و بغضهما نفاق- رواه ابن عدى- و عن جابر مرفوعا حب ابى بكر و عمر من الايمان و بغضهما كفر و حب الأنصار من الايمان و

(١) العصبية و التعصب المحامات- نهاية يعنى حمية الجاهلية- منه.

(٢) عتل الشديد الجافي الفظ الغليظ من الناس- منه رح.

(٣) الجواظ الجموع المنوع و قيل الكثير اللحم المختال- منه رح.

(٤) الزنيم الملحق بالقوم ليس منهم- منه رح.

بغضهم كفر و حب العرب من الايمان و بغضهم «٥» كفر و من سب أصحابي فعليه لعنة اللّه و من حفظنى فيهم فانا احفظه يوم القيامة- رواه ابن عساكر و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال- حب علىّ عبادة «٦» و عن علىّ قال و الذي فلق الحبة و برى ء النسمة لعهد النبي الأمي صلى اللّه عليه و سلم الى ان لا يحبنى الا مؤمن و لا يبغضنى الا منافق رواه مسلم و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيك مثل من عيسى «٧» أبغضته اليهود حتى بهتوا امه و أحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له- ثم قال يهلك فيّ رجلان محب مفرط يفرطنى بما ليس في و مبغض يحمله شتانى على ان يبهتنى- رواه احمد و عن ابى هريرة مرفوعا

(٥) فى الأصل و بعضهم.

(٦) هكذا بياض في الأصل- ابو محمد [.....].

(٧) و في الأصل مثل عيسى.

قال اللّه تعالى الكبرياء ردائى و العظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته النار- رواه مسلم و عن عطية السعدي مرفوعا ان الغضب من الشيطان- رواه ابو داؤد و عن بهزين حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ان الغضب يفسد الايمان كما يفسد الصير العسل- رواه البيهقي في الشعب و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا أول صلاح هذه الامة اليقين و الزهد و أول فسادها البخل و الأمل- رواه البيهقي و عن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سعادة ابن آدم رضاؤه بما قضى اللّه و من شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى اللّه- رواه احمد و الترمذي- و عن معاذ بن جبل مرفوعا قال يطلع اللّه الى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه الا المشرك او مشاحن- رواه الدارقطني و صححه ابن حبان- و في رذائل النفس و محامدها أحاديث لا تكاد تحصى- و قيل معناه إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ او تُخْفُوهُ- من كتمان الشهادة- كذا قال الشعبي و عكرمة- او من ولاية الكفار فهو نظير ما في ال عمران لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الى ان قال قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ الاية- كذا قال مقاتل- و التحقيق ان كتمان الشهادة و ولاية الكفار داخلان فيما استقر في أنفسكم و لا وجه للتخصيص بعد ثبوت المؤاخذة على الجميع بالنصوص و الإجماع- و قيل المراد به العزم المصمم على المعاصي من افعال الجوارح قال عبد اللّه بن المبارك قلت لسفيان أ يؤاخذ اللّه العبد بالهمّ قال إذا كان عزما أخذ بها-

قلت لو ثبت المؤاخذة على العزم فالعزم ايضا داخل في المعاصي القلبية- لكن الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه قال من هم بسيئة فلم يعمل بها لم يكتب عليه و إذا عمل بها كتب بمثلها- الحديث يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه يوم القيامة اما حساب عرض حسابا يسيرا فَيَغْفِرُ و ذلك لِمَنْ يَشاءُ مغفرته و اما حساب مناقشة فيأخذ به وَ يُعَذِّبُ مَنْ

يَشاءُ تعذيبه- قرا ابو جعفر و ابن عامر و عاصم و يعقوب برفع الفعلين على الاستيناف و الباقون بالجزم عطفا على جواب الشرط وَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من العذاب و المغفرة و غير ذلك قَدِيرٌ (٢٨٤) لا يمكن لاحد الاعتراض عليه ان شاء عذب على الصغيرة و ان شاء غفر الكبيرة من غير توبة اجمع اهل السنة و الجماعة على ان الحساب على المعاصي القلبية و النفسانية و القالبية حق و التعذيب على الذنوب صغائرها و كبائرها حق لكنه ليس بواجب بل في مشية اللّه تعالى- روى طاؤس عن ابن عباس قال فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم يعنى سواء تاب عنه المذنب او لم يتب و يعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسئل عما يفعل- و أنكر المعتزلة و الروافض و غيرهم الحساب و قالت المعتزلة و غيرهم بوجوب العذاب على العصاة و هذه الاية و غيرها من الآيات و الأحاديث حجة لنا عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليس أحد يحاسب يوم القيامة الا هلك قلت او ليس يقول اللّه تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا فقال انما ذلك العرض و لكن من نوقش في الحساب يهلك متفق عليه و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه و يستر فيقول أ تعرف ذنب كذا أ تعرف ذنب كذا فيقول نعم اى رب حتى قرره بذنوبه و راى في نفسه انه قد هلك قال سترتها عليك في الدنيا و انا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته فاما الكفار و المنافقون فينادى بهم على رؤس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ- متفق عليه- و عن عائشة قالت جاء رجل فقعد بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه ان لى مملوكين يكذبوننى و يخونوننى و يعصوننى و اشتمهم و اضربهم فكيف انا منهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك و عصوك و كذبوك و عقابك إياهم فان كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك و لا عليك و ان كان عقابك إياهم دون ذنبهم كان فضلا لك و ان كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الحديث- رواه الترمذي و في كلى بابى الحساب و المغفرة أحاديث كثيرة لا تحصى (فصل) و من الناس من يدخلون الجنة بغير حساب عن ابى امامة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول و عدنى ربى ان يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا لا حساب عليهم و لا عذاب مع كل الف سبعون الفا و ثلاث حثيات «١» من حثيات ربى- رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة- و عن اسماء بنت يزيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يحشر الناس في صعيد واحد يوم القيامة فينادى مناد فيقول اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون و هم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يؤمر سائر الناس الى الحساب- رواه البيهقي- و عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخل الجنة من أمتي سبعون الفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون و لا يتطيرون و على ربهم يتوكّلون- متفق عليه و عنه كذلك في حديث طويل قلت و الذي يظهر من سياق الكتاب و السنة ان هؤلاء الذين لا يحاسبون هم الصوفية العلية المتعشقة فان اللّه سبحانه علق الحساب برذائل النفس حيث قال وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ او تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه- و ذكر ابدائها و اخفائها للتسوية كما في قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ او لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ- و انما علقه برذائل النفس دون اعمال الجوارح مع ان الحساب ليس مختصا بها لانها أشد و اغلظ من اعمال الجوارح و لانه منشأ للمعاصى القالبية غالبا و بعد تزكية النفس

(١) حثية واحدة اى غرفة بيديه و حثيات جمع كناية عن المبالغة في الكثرة و الا فلا حثية ثم- نهاية- و حتى خاك انداختن بر شى ء- صراح منه رح.

و تصفية القلب لا يصدر المعاصي الا نادرا- كما يدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله- و لإن صدرت المعاصي نادرا فالنفس المطمئنة بالخيرات و القلب المصفى عن الزيغ و الكدورات يندم فورا و يتوب الى اللّه متابا بحيث يجعل اللّه سيئاتهم حسنات و كان اللّه غفورا رحيما- عن ابن مسعود مرفوعا- التائب من الذنب كمن لا ذنب له- رواه ابن ماجة و البيهقي و عنه في شرح السنة موقوفا الندم توبة- و هؤلاء القوم هم المسميون بفقراء المؤمنين في قوله صلى اللّه عليه و سلم انا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح اللّه لى فيدخلنى و معى فقراء المؤمنين و لا فخر- و قد مر في تفسير قوله تعالى وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ اعلم ان الفقير من لا شى ء له و هؤلاء القوم لا شى ء لهم من الوجود و توابعه- اما الرذائل و صفات النفس الا مادة بالسوء فقد انسلبت منهم بأسرها- و اما الوجود و صفات الكمال فوجدوها مستعارة مستودعة من اللّه ذى الجلال و الإكرام فلما أدوا الامانة الى أهلها و نسبوها اليه تعالى لم يبق منهم اسم و لا رسم و لذلك لا ترى منهم عجبا و لا كبرياء و لا شيئا من مقتضيات الالوهية الباطلة نعوذ باللّه منها- و كلمة مع فى قوله صلى اللّه عليه و سلم سبعون الفا مع كل الف سبعون الفا- تدل على ان سبعين الفا تابع لكل الف فلعل المراد به (و اللّه اعلم بمراده) انهم سبعون الفا من المكملين مع كل الف منهم سبعون الفا من الكاملين من العلماء الراسخين و الصديقين و الأولياء الصالحين- و قوله صلى اللّه عليه و سلم و ثلاث حثيات من حثيات ربى الظاهر انه ليس المراد به كثرتهم لانه لو أريد الكثرة فحثية واحدة من حثيانه تعالى يتسعه الأولون و الآخرون فانّ الأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ- بل المراد به التنويع- فلعل المراد بالحثيات الثلاث الذين بذلوا أنفسهم في سبيل اللّه و هم الشهداء- و الذين بذلوا عمرهم في طاعة اللّه (ما عدا المذكورين السابقين) من العلماء المريدين المتشبثين بالأولياء- و الذين بذلوا أموالهم ابتغاء مرضات اللّه هؤلاء هم الذين أحبوهم و سلكوا سبيلهم و ان لم يبلغوا درجة الأولين- و قوله عليه الصلاة و السلام و على ربهم يتوكلون صفتهم من حيث الباطن و تتجافى جنوبهم سيماهم من حيث الظاهر- جعلنى اللّه سبحانه منهم بفضله و منّه- روى البخاري و مسلم و احمد و غيرهم عن ابى هريرة و روى مسلم و غيره فحوه عن ابن عباس انه لمّا نزلت وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ او تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه الاية- اشتد ذلك على اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فجثوا على الركب و قالوا- يا رسول اللّه كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة و الصيام و الجهاد و الصدقة و قد أنزلت إليك هذه الاية و لا نطيقها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ تريدون ان تقولوا كما قال اهل الكتابين من قبلكم سمعنا و عصينا بل قولوا سمعنا و اطعنا غفرانك ربّنا و إليك المصير- فلما اقتراها القوم و ذلت بها ألسنتهم انزل اللّه تعالى في اثرها-.

٢٨٥

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ قلت لعل الصحابة حين نزلت وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الاية فهموا منه ان اللّه يحاسب على خطرات الأنفس- او انهم بناء على هضم أنفسهم اتهموا أنفسهم بالرذائل فاشتد ذلك عليهم فعلمهم النبي صلى اللّه عليه و سلم طريقة التسليم و الرضاء و التوكل التي هى صفات النفوس المطمئنة الكريمات- و انزل اللّه تعالى لرفع ظنهم عن محاسبة الخطرات و تسلّيتهم بالشهادة على صدق ايمانهم و صحة نياتهم و تزكية نفوسهم و تصفية قلوبهم فان زوال رذائل النفس مقتضى الايمان- و الايمان الحقيقي الكامل لا يكون الا بعد فناء النفس و زوال رذائلها و المطلق ينصرف الى الكامل- و المراد بالمؤمنين المؤمنون الموجودون في ذلك الزمان و هم الصحابة رضى اللّه عنهم كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّه وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و التحق بهم من كان ايمانهم كايمانهم من اهل السنة و الجماعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين و سبعين ملة و تفترق أمتي على ثلاث و سبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة- قالوا من هى يا رسول اللّه قال ما انا عليه و أصحابي رواه الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو كُلٌّ التنوين فيه عوض عن المضاف اليه اى كل واحد منهم-

قال البيضاوي لا يخلو من ان يعطف المؤمنون على الرسول فيكون الضمير الذي ينوب عنه التنوين راجعا الى الرسول و المؤمنين او يجعل المؤمنون مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين و باعتباره يصح وقوع كل مع خبره خبر مبتدأ- و يكون افراد الرسول بالحكم اما لتعظيمه او لأن إيمانه عن مشاهدة و عيان و ايمانهم عن نظر و استدلال آمَنَ بِاللّه وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ قرأ حمزة و الكسائي و كتابه على الافراد يعنى القران و الايمان به يتضمن الايمان بجميع الكتب او المراد بالكتاب الجنس و الفرق بينه و بين الجمع انه شائع في وحدان الجنس و الجمع في جموعه و لذلك قيل الكتاب اكثر من الكتب وَ رُسُلِهِ و قالوا او قائلين لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ اى في الايمان بهم كما فرق اليهود فقالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض- و أحد نكرة فى سياق النفي فعمت كلهم و لذلك دخل عليه بين-

و قرا يعقوب لا يفرّق على الغيبة و الضمير راجع الى كل نظرا الى لفظه كضمير أمن راجع اليه وَ قالُوا الضمير راجع الى الرسول و المؤمنين جميعا او الى لفظة كل من حيث المعنى سَمِعْنا قولك وَ أَطَعْنا أمرك و أجبناك-

قال البغوي روى عن حكيم بن جابر رضى اللّه عنه ان جبرئيل عليه السلام قال للنبى صلى اللّه عليه و سلم حين نزلت هذه الاية- ان اللّه قد أثني عليك و على أمتك فسل تعطه فسال بتلقين اللّه عز و جل فقال غُفْرانَكَ اى اغفر غفرانك او نسئلك غفرانك رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) المرجع بعد الموت و هو اقرار منهم بالبعث فهو داخل فى الايمان- و ما ذكرنا من حديث الصحيحين يدل على «١» ان قولهم سمعنا إلخ كان قبل نزول هذه الاية فذكر اللّه تعالى حكاية عنهم و ثناء عليهم و هو الأرجح-.

(١) فى الأصل يدل ان لو لهم ١٢.

٢٨٦

لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اى ما يسعه قدرتها و ذلك فيما يبتنى من الاحكام على القدرة الممكّنة- او ما دون مدى قدرتها و ذلك فيما يبتنى من الاحكام على القدرة الميسرة كالزكوة على نمو المال و حولان الحول و غير ذلك- و هذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال و لا يدل على امتناعه- و المراد بالقدرة هاهنا هى القدرة الموهومة الموجودة قبل الفعل من سلامة الأسباب و الآلات بعد اقامة الدلائل و البراهين على الأوامر و الاحكام من الاعتقادات و الأعمال الظاهرة و الباطنة- لا القدرة الحقيقية التي لا توجد الا مع الفعل- و لهذا يتوجه الخطاب و العذاب الى قوم نوح و فرعون و ابى جهل و أشباههم الذين ختم اللّه على قلوبهم و على سمعهم و جعل على أبصارهم غشاوة و اخبر عنهم بانهم لا يؤمنون قال اللّه تعالى لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه رَبُّ الْعالَمِينَ- و مشية اللّه تعالى غير مقدور للبشر فكذا مشيته التي علقت بمشيت اللّه تعالى- و هذا سر من اسرار اللّه تعالى يجب الايمان به و السكوت عنه و ترك البحث فيه فانه مزلة الاقدام قال ابو هريرة فيما روى عنه الشيخان و غيرهما ان الصحابة لما اشتد عليهم نزول قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الاية و قالوا يعنى بتعليم النبي صلى اللّه عليه و سلم سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ انزل اللّه تعالى هذه الاية فنسخ بهذا ذلك قلت و قول ابى هريرة فنسخ بهذا ذلك مبنى على التجوز فان حقيقة النسخ هو رفع حكم شرعى بعد ثبوته و ذا لا يتصور الا في الاحكام دون الاخبار- و ذلك اخبار بالمؤاخذة على افعال القلوب- و هذا اخبار بعدم وقوع التكليف فوق الطاقة فلا يحتمل النسخ غير ان هذه الاية لما كان مزيلا لظنهم بالمؤاخذة على حديث النفس و موجبا لتسليتهم عبر ابو هريرة بالنسخ مجازا الا ان يقال ان قوله تعالى وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الاية و ان كان اخبارا لكنه يدل على تحريم رذائل النفس كما يدل قوله تعالى كتب عليكم الصّيام على الإيجاب و كان بصيغته شاملا لحديث النفس و قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللّه الاية على عدم التكليف على حديث النفس فانه ليس في وسعنا و التحريم تكليف فهو يدل على عدم التحريم فكان ناسخا للتحريم في بعض ما اشتملت عليه الاية الاولى و اللّه اعلم- عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به او تتكلم- متفق عليه

قال البغوي- ذهب ابن عباس و عطاء و اكثر المفسرين الى انه تعالى أراد بهذه الاية حديث النفس الذي ذكره في قوله وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الاية-

قلت معناه ان حديث النفس داخل في حكم الآيتين بالمؤاخذة و عدم التكليف فلزم النسخ كما ذكرنا لا ان حكم الآيتين منحصر في حديث النفس بل عموم الآيتين ظاهر و اللّه اعلم- (فائدة) بعد ما ثبت ان المؤاخذة على رذائل النفس أشد من المؤاخذة على اعمال الجوارح و ان التكليف فوق الطاقة غير واقع أرجو أن المؤمن إذا بذل جهده و صرف همته مهما أمكن على دفع رذائل النفس بالمجاهدة و لم يقتف هواها و لو بالتكلف و تشبث بأذيال الفقراء مريد إزالتها لعل اللّه تعالى يغفر له رذائلها و لم يؤاخذه عليها لانه قد بذل جهده و وسعه في الانتهاء عما نهى اللّه عنه و ان اللّه تعالى وعد العفو عما ليس في وسعه- و اما من لم يرفع رأسه لملاحظة عيوبها و لم يقصد دفع رذائلها فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَ يَصْلى سَعِيراً- و بهذا يظهر فرضية أخذ طريقة الصوفية و التشبث بأذيال الفقراء كفرضية قراءة كتاب اللّه تعالى و تعلم أحكامه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتى- رواه «١» فلا بد من أخذ كتاب اللّه تعالى لاستنباط أحكامه و العمل و التذكر و الاتعاظ به و صعود مدارج القرب بتلاوته و أخذ أذيال آل رسوله و عترته لتهذيب النفوس و القلوب على حسب مرضات اللّه تعالى و هدايته لَها اى للنفس اجر ما كَسَبَتْ من خير بواسطة الجوارح او بغير واسطتها وَ عَلَيْها وزر مَا اكْتَسَبَتْ من شر كذلك يعنى لا ينتفع بطاعتها و لا يتضرر بمعصيتها الا هى و تخصيص الخير بالكسب و الشر بالاكتساب لان الاكتساب فيه اعتمال و الشر يشتهيه النفس و يجتذب اليه فكانت اجدّ في تحصيله و اعمل بخلاف الخير- رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا تقديره قولوا ربّنا لا تؤاخذنا اى لا تعاقبنا إِنْ نَسِينا اى تركنا

(١) هكذا بياض في الأصل-.

شيئا مما وجب علينا بالنسيان و هو ضد الذكر أَوْ أَخْطَأْنا فى إصابة العمل من قلة مبالاة- و هذه الاية تدل على ان المؤاخذة على الخطاء و النسيان لم يكن ممتنعا عقلا فان الذنوب كالسموم فكما ان تناول السموم يؤدى الى الهلاك و ان كان خطأ كذلك تعاطى الذنوب يفضى الى العقاب لو لم يغفره اللّه و ان كان بغير عزم او يوجب ضيق الصدر و غين القلب- كان حضرت الشيخ الشهيد رضى اللّه عنه يروى عن شيخه السيد السند نور محمد البداونى رضى اللّه عنه انه كان إذا اهدى اليه طعام او شى ء يتوجه اليه بنظر البصيرة فان لم يرفيه ظلمة أكله و استعمله او اعطى غيره و ربما دفن بعض الاطعمة التي أهديت اليه فقال له من لا بصيرة له ما ذا تفعل ايها الشيخ هلّا تطعم به غيرك فيقول سبحان اللّه هل يجوز لمسلم راى في طعام سمّا و لا يأكله فيعطى غيره ليأكل- و هؤلاء الرجال هم المخاطبون بقوله صلى اللّه عليه و سلم استفت قلبك و ان أفتاك المفتون- «١» لكن ثبت بالسنة و انعقد عليه الإجماع ان اللّه سبحانه بفضله و رحمته تجاوز لهذه الامة عن الخطاء و النسيان فورود هذا الدعاء لاجل الاستدامة و اعتداد النعمة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- رفع عن أمتي الخطاء و النسيان و ما استكرهوا عليه- أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر و قد مر فيما قبل- و معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم رفع عن أمتي الخطاء و النسيان الحديث- انه رفع إثمهما فلا يؤاخذ بها اللّه تعالى في الاخرة و لا اثر لهذا الرفع في الدنيا فان الخطاء و النسيان و الإكراه واقع محسوس غير مرفوع و الدنيا دار العمل فاذا وقع شى ء منها لا بد للمكلف تداركها مهما أمكن و من ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من نام عن صلاته او نسيها فليصلها إذا ذكرها فلا يسقط قضاء الصلاة و الصوم و نحو ذلك بعلة الخطاء و النسيان اجماعا و يجب سجدتا السهو بالسهو في الصلاة اجماعا و القتل خطأ يوجب الكفارة و الحرمان عن الإرث

(١) هكذا بياض في الأصل-.

اجماعا و الشافعي رحمه اللّه قد يعتبر الخطأ و النسيان في احكام الدنيا ايضا-

(مسئلة) الكلام في الصلاة ناسيا يفسد الصلاة عند ابى حنيفة لما

قلنا و قال الشافعي لا يفسد لحديث ابى هريرة قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم احدى صلوة العشى اما المظهر و اما العصر فسلم في ركعتين ثم اتى جذعا في قبلة المسجد فاستند اليه مغضبا و في القوم ابو بكر و عمر فهابا ان يكلماه و خرج سرعان الناس فقالوا قصرت فقام ذو اليدين فقال يا رسول اللّه أ نسيت أم قصرت الصلاة فنظر يمينا و شمالا فقال ما يقول ذو اليدين فقالوا صدق لم تصل الا ركعتين فصلى ركعتين و سلم ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر فسجد ثم كبر و رفع- متفق عليه

قلنا هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى قُومُوا للّه قانِتِينَ و حديث زيد بن أرقم و قد مر في تفسير تلك الاية- ( (مسئلة)) الحج يفسد بالجماع ناسيا عند الجمهور خلافا للشافعى و طلاق المكره و المخطى يقع عندنا خلافا للشافعى- و مبنى الخلاف الخلاف في تفسير قوله عليه السلام رفع عن أمتي ( (مسئلة)) و الصوم يفسد بالأكل خطاء عند ابى حنيفة و صاحبيه و مالك- و قال احمد و الشافعي لا يفسد- و يفسد الصوم بالأكل ناسيا عند مالك و هو القياس و عند الجمهور لا يفسد و انما قال ابو حنيفة بعدم فساد الصوم بالنسيان لحديث ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا نسى أحدكم فاكل و شرب فليتم صومه فانما أطعمه اللّه و سقاه- متفق عليه

(مسئلة) الذبيحة يحرم بترك التسمية ناسيا عند مالك و اما عندنا فلا يحرم بالحديث على خلاف القياس- و سنذكر هذه المسألة في سورة الانعام ان شاء اللّه تعالى (فائدة) قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به او أخطئوا عجلت لهم العقوبة فحرم عليهم شى ء من مطعوم او مشروب على حسب ذلك الذنب- رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً- عباء ثقيلا يأصر صاحبه اى يحبسه- و المراد به التكاليف الشاقة التي لا يستطيع القيام بها كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا يعنى اليهود و ذلك بان اللّه تعالى فرض عليهم خمسين صلوة- و أمرهم بأداء ربع المال في الزكوة- و من أصاب ثوبه نجاسة قطعها- و من أصاب ذنبا أصبح و ذنبه مكتوب على بابه- و لما عبدوا العجل قيل لهم فَتُوبُوا «١» إِلى بارِئِكُمْ

(١) فى الأصل توبوا-.

فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ و قيل المراد بالإصر ذنب لا توبة له معناه اعصمنا من مثله- او المعنى لا تجعل في شريعتنا ذنبا لا يكون له توبة رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ

من البلاء و العقوبة او من التكاليف الشاقة و هذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق و قد ثبت بالشرع عدم وقوعه فضلا- و التشديد هاهنا لتعدية الفعل الى المفعول الثاني وَ اعْفُ عَنَّا اى تجاوز عن المعاقبة على ذنوبنا وَ اغْفِرْ لَنا اى امح ذنوبنا و استرها علينا- وَ ارْحَمْنا فانا لا نأتى بالحسنات و لا نترك السيئات الا برحمتك لا حول و لا قوة الا بك أَنْتَ مَوْلانا سيدنا و ناصرنا و حافظنا و ولينا فَانْصُرْنا تفريع على الولاية فان من حق المولى ان ينصر عبيده و مواليه عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٧) المراد بهم عامة الكفرة من الجن و الانس حتى النفس الامارة بالسوء

قال البغوي كان معاذ رضى اللّه عنه إذا ختم سورة البقرة قال أمين- ورد في الصحيحين في حديث ابى هريرة الذي ذكرناه سابقا ان اللّه سبحانه قال نعم يعنى بعد ما قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا و كذا بعد الجملة الثانية الى قوله من قبلنا و الثالثة الى قوله ما لا طاقة لنا به و الرابعة الى اخر السورة كل ذلك قال نعم- و في رواية ابن عباس عند مسلم و الترمذي قال كل ذلك قد فعلت بدل نعم و في رواية عنه قال بعد غفرانك قد غفرت لكم و عبد قوله او أخطأنا لا اؤاخذكم و بعد لا تحمل علينا لا احمل عليكم و بعد لا تحمّلنا لا أحملكم و اعف عنّا الى آخره قد عفوت عنكم و غفرت لكم و رحمتكم و نصرتكم على القوم الكفرين- هذا الحديث تدل على اجابة الدعاء من اللّه تعالى- فاما عدم المؤاخذة على النسيان و الخطاء فثابت في حق جميع الامة اجماعا و كذا عدم حمل الإصرار و تحميل ما لا طاقة لنا به كما يدل عليه قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لان الشرع واحد مؤبد فما سقط عن الأوائل سقط عن الأواخر و لا نسخ و لا تبديل بعد النبي صلى اللّه عليه و سلم خاتم النبيين و اما العفو و المغفرة لجميع الذنوب و الرحمة العامة و النصرة على القوم الكفرين فالظاهر ان الاجابة في هذه الأمور مختصة بالنبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه الذين كانوا معه يدل عليه صيغة قد عفوت و غفرت و رحمت و نصرت و الا لزم مذهب المرجئة بل الذنوب كلها في مشية اللّه تعالى ان شاء غفر و ان شاء عذب و من ثم ترى في كثير من الأوقات عدم النصر على الكفار و الخذلان- كيف و النصر متفرع على الولاية كما يدل عليه كلمة الفاء فانى يكون النصر عند ارتكاب المعاصي اللّهم اغفر امة محمد اللّهم ارحم امة محمد اللّهم أصلح امة محمد صلى اللّه عليه و سلم-

( (فصل)) قد مر في فضائل سورة الفاتحة قول ملك نزل من السماء ابشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما الا أعطيته يعنى تعليم اللّه سبحانه الدعاء بقوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الى اخر السورة و بقوله رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا الى اخر السورة مختص بنبينا صلى اللّه عليه و سلم و لهذا لا يضل أمته بعد الى يوم القيامة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يجتمع أمتي على الضلالة رواه ( «١») و قال لا يزال من أمتي امة قائمة بامر اللّه لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم حتى يأتى امر اللّه و هم على ذلك رواه الشيخان في الصحيحين من حديث معاوية- عن عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه قال لما اسرى برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انتهى به الى السدرة المنتهى و هو في السماء السادسة إليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض منها و إليها ينتهى ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى فراش من ذهب قال فاعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثا اعطى الصلوات الخمس و اعطى خواتيم سورة البقرة و غفر لمن لا يشرك باللّه من أمته شيئا المقحمات- رواه مسلم يعنى وعد بمغفرة المقحمات اما بالتوبة او برحمة من اللّه تعالى لمن شاء من

(١) هكذا بياض في الأصل-.

غير تعذيب و لو لم يتب او برحمة من اللّه تعالى بعد العقاب- و الحاصل ان المؤمن لا يخلد في النار لاجل الكبائر كما زعمه المعتزلة و الروافض و الخوارج خذلهم اللّه تعالى- و عن ابن مسعود الأنصاري قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم الآيتان من اخر سورة البقرة من قرا بهما في ليلة كفتاه- رواه الائمة الستة و عن النعمان بن بشير ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه تبارك و تعالى كتب كتابا قبل ان يخلق السموات و الأرض بألفي عام انزل منه ايتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقران في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان رواه البغوي- و عن ابى مسعود الأنصاري مرفوعا انزل اللّه ايتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل ان يخلق الخلق بألفي سنة من قراهما بعد العشاء الاخرة اجزتاه من قيام الليل- أخرجه ابن عدى في الكامل- و عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السورة التي يذكر فيها البقرة قسطاس القران فتعلّموها فان تعلّمها بركة و تركها حسرة و لن يستطيعها البطلة- قيل و ما البطلة قال السحرة «١» أخرجه الديلمي في مسند الفردوس-

(١) روى البيهقي في الشعب من حديث الصلصال بسند ضعيف مرفوعا من قرا سورة البقرة توج بتاج في الجنة اخرج الديلمي من حديث ابى هريرة مرفوعا آيتان هما قران و هما يشفعان و هما مما يحبهما اللّه الآيتان من اخر سورة البقرة- اخرج ابو عبيد من حديث- ان الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه و في الباب عن ابن مسعود و ابى هريرة و عبد اللّه بن مغفل-

و اخرج احمد من حديث بريدة تعلموا سورة البقرة فان أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة- تعلموا سورة البقرة و ال عمران فانهما الزهرا و ان تظلان صاحبهما كانهما عمامتان او غيابتان او فرقان من طير صواف-

و اخرج ابن حبان و غيره من حديث سهل بن سعد ان لكل شى ء سنام و سنام القران سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة ايام و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال-

و اخرج ابو عبيدة عن عمر بن الخطاب موقوفا من قرا البقرة و ال عمران في ليلة كتب من القانتين- اخرج الدارمي عن المغيرة بن شفيع و كان من اصحاب عبد اللّه قال من قرا عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القران اربع من أولها و اية الكرسي و آيتان بعدها و ثلث من آخرها- منه نور اللّه مرقده.

﴿ ٠